اللقاء الحواري الأول – برلين 13 و14 آب/ أغسطس 2016
لا بدّ من الاعتراف -قبل كل شيء- أن الكرد يشكلون القومية الثانية في سورية، وأن أعدادهم تتجاوز أربعة ملايين نسمة، ومنهم من يسكن في المناطق الكردية الثلاث: الجزيرة- كوباني- عفرين. ومنهم من يسكن المدينتين الكبريين: دمشق- حلب، إلى جانب عدد من المدن السورية الأخرى، سواء أكانت في الداخل، أم في الساحل السوري، وهم موجودون في مناطقهم أبًا عن جدّ قبل تأسيس سورية. بل قبل أن يصل حزب البعث العربي الاشتراكي إلى سدة الحكم، ويسعى إلى محاولة صهر الكرد -على نحو خاص- إضافةً إلى غيرهم من الإثنيات الأخرى في بوتقة القومية.
عندما رسمت حدود سورية بعد اتفاق سايكس بيكو؛ جيء بـ فيصل الأول بن الشريف حسين، ونصب ملكًا على مملكة سورية في 8 مارس/آذار 1920، وفي 22 يونيو 1922 عُيّن السيد صبحي بك بركات الخالدي رئيسًا للاتحاد الفدرالي السوري (1) بعد إلغاء الفرنسيين الملكية، واستبدال الاتحاد بها، بعد رحيل الجنرال غورو وتعيين ماكسيم فيغان مفوّضًا فرنسيًا. أما إعلان قيام “الدولة السورية” المكوّنة من دولتي دمشق وحلب، فكان في 24 ديسمبر 1924 وبرئاسة صبحي الخالدي نفسه. ومن ضمن الرؤساء الذين حكموا دولة سورية وكذلك رئاسة حكومتها في أثناء الانتداب الفرنسي وبعد الاستقلال، وساهموا في تأسيس هذا البلد، عدد من الشخصيات الكردية، أولهم الرئيس محمد علي العابد في 13 حزيران/يونيو 1932 والذي انتخب كأول رئيس للجمهورية السورية.
ولعله قد كان معروفًا أن الجمهورية السورية، لم تتأسس على مبدأ قومي عرقي، كجزء مما تم الاصطلاح عليه لاحقًا: الوطن العربي الذي راح غلاة القوميين السوريين من أمثال: زكي الأرسوزي، وميشيل عفلق، وآخرون يدعون إليه، كي يتم تلقف توجهاتهم، مع وصول القوميين العرب إلى سدة الحكم، ويتم تحول اسم البلد إلى الجمهورية العربية السورية، كي يسعى هؤلاء القوميون إلى تعريب الشجر والحجر، إلى جانب محاولة تعريب البشر، من غير المنتمين إلى القومية التي شيء لها أن تكون القومية الكبرى، أو الأولى.
وقد نجحت هذه السياسات -وإلى حد كبير- في تنفيذ سياسات محو الوجود القومي الكبرى، في العاصمة وعدد من أرياف ومدن الداخل أو الساحل، غير أنّ المخطّطين لها لم يفلحوا في ذلك في المراكز ذات الوجود الكردي الأكبر، وذلك بفضل الوعي القومي الكردي الذي نشأ على أيدي الجيل الشاب، منذ خويبون 1928(3) وحتى انطلاقة الحزب الكردي الجامع “الحزب الديمقراطي الكردستاني- البارتي” الذي تأسس في العام 1957، والأحزاب التي انشقت فيما بعد عنه (4).
طبيعي، أن بذور الوعي القومي الكردي في حالتها الطبيعية، والتي ازدادت بُعَيد ثورة الشيخ سعيد بيران “5/2/1925” بثلاث سنوات، في ردّ فعل على مخططات سايكس بيكو 1916، واقتسام تركة “الرجل المريض”. والتي أدّت إلى تقسيم -خريطة كردستان- بين أربع دول: إيران- تركيا- العراق-سورية، غير أن هذا الوعي طالما اصطدم بالرباط الديني، الذي كان يجمع الأغلبية الكردية بشركاء خرائطهم المستحدثة، في إطار هاتيك الدول الناشئة على أنقاض خريطة الكرد، وهي توسع حدودها الطبيعية على حساب الشعب الكردي، الذي كان شريك شعوب الدول المذكورة من فرس وترك وعرب.
في بِنية الهوة بين الكردي وشركائه
خلال قرون من انضواء الكرد تحت لواء الإسلام، فقد أبدوا، من جهتهم اندماجًا كبيرًا مع الدين الجديد، ضمن ثنائية الإخلاص لهذا الدين والمحافظة على الخصوصية القومية. ولعل الدليل الأكبر على هذا الحديث هو أن الكرد عرفوا بوفائهم للفضاء الديني، ولطالما عُدّوا في خط الدفاع الأول عن حظيرة الإسلام. وما القائد صلاح الدين الأيوبي، إلا الرمز الذي يعتد به المسلم العربي قبل المسلم الكردي في حمايته الدولة الإسلامية، ولغة القرآن، بل ما يمكن وسمه بالخصوصية العربية، وإن كان ذلك بدافع حماية الدين، لا من خلال المنظور القومي، مادام أنه الكردي، وأن قوميته كانت في المقام الأول، لو أن الفكرة المحركة له كانت قومية. ولكم أخطأ بعض الشباب الكردي المتحمس أثناء تقييمهم لهذا البطل الإنساني، من خلال الحكم عليه انطلاقًا من شروط الوعي في لحظته الراهنة، لا من خلال منظومة الوعي الذي كان وراء تبلور شخصيته ورؤاه ومفاهيمه.
ماذا يمكن للكردي أن يسجله على شركائه في الدين، الذين شكلوا معًا إمبراطورية مترامية الأطراف، على امتداد عدد من قارات العالم، هو أنهم راحوا يشتغلون على مشروعاتهم القومية بعد فك الارتباط مع الرباط التقليدي الرئيس والجامع، من دون أن يضعوا مصلحته، كشريك رئيس، فاعل، نصب أعينهم، بل إنهم استمرؤوا ابتلاع خريطة وجوده، التي طالما تحدث عنها المؤرخون القدامى، قبل أن تتم محاولات الإجهاز على الوجود الكردي عبر محو ثقافته، ووثائق وجوده، بعد حدوث القطيعة التاريخية بينهما، كترجمة للنزعات القوموية لدى الدول المتقاسمة لخريطته.
صحيح، أن أيّ عودة إلى كلاسيكيات الوعي القومي الكردي، ضمن حظيرة الدين الجديد الذي أبهر الكردي وأخذ بألبابه -بالرغم من وجود نوى أولى لدى الأنتلجنسيا الكردية تاريخيًا كما حالة الشاعر ملا أحمدي خاني “1650- 1708م” رائد الفكر القومي- تؤكد أمرين مهمين، أولهما أن الكردي كان أكثر تماهيًا مع منظومة وعيه الجديد، وثانيهما أنه لم يبادر إلى القطيعة مع شريكه إلا بعد محاولات هذا الأخير لاجتثاثه. وأن الهوة التي ارتسمت بينهما على حين غرة، جاءت نتيجة تراكمات نظرة الآخر الاستعلائية إليه: تارة على أنه جزء من الشعوبية، وتارة أخرى على أنه جزء من مشروع الخروج عليه، ناهيك عن السبب المباشر الذي أدى إلى بواكير محاولات الخروج بعد نوستالجيا الآخر إلى ماضيه، وخصوصيته، والتنكر للكردي من دون أن يشهد التاريخ أيّ محاولات استباقية من هذا النوع، دون الانطلاق من سلوكية الآخر. ويمكن العودة إلى تاريخ الثورات والانتفاضات الكردية منذ ثورة البدرخانيين الأولى في سنة (1842-1843م) ضد الدولتين التركية والإيرانية، وحتى الآن لنتأكد أنها كانت -ومازالت- قد اندلعت نتيجة استئثار الآخر بالسلطة، واستبداده، واحتلال مكانه، واستعباد كائنه، ومحاولات تهميشه، ضمن إطار تهشيم خريطته بل تهميشه، ومحوه!.
على هذا النحو توالد الشرخ بين الكردي وشركائه الآخرين، نتيجة تضخم عقدة الأنا القوموية لديهم، وسعيهم الدؤوب لاستهداف خصوصيته القومية، وعدّها ملحقًا بهذه القومية أو تلك، بحسب الراية التي ارتفعت فوق ترابه، ما جعل استحضاره لمقومات وجوده نتاج حالة انفعال لا نتاج حالة ابتكار أو استباق. وهنا -تحديدًا- ميسم خصوصيته، وعلامته الفارقة التي تسجل له، وليس عليه!.
الغرب والكرد
العقدة المزدوجة
يمكن للكردي، وهو يستعرض دور الغرب في تهميشه التاريخي والذي تجلى في اتفاق لوزان 1923 كترجمة أولى لاتفاق سايكس بيكو 1916، من دون أن يكون قد قدم أسباب ذلك، جازمًا أن هذا الموقف، لم يتأسس إلا كنتاج لحظة انفعالية، رعناء، من قبل الغربي، كي يتم -صلب- خريطته على نطع فضائه، ويغدو هو ضحية مركبة. الضالعون فيها الغربي إضافة إلى شركائه في الفضاء المكاني. إذ غدا وكأن الاتفاق عليه هو أسُّ دعامات أي اتفاق بين هؤلاء جميعًا، وقد كان هذا الاتفاق منطلق اقتسام وطنه، واغترابه عنه، وعيشه بين ظهراني هذا الفضاء مغتربًا، من دون هوية. اتفاق عليه، لا له، بعكس سابقه سيفر 1920 الذي نصّ على بعض من حقوقه.
يستذكر الكرد، هذا العام 2016 مئوية سايكس بيكو التي أرخها لحالة اللا دولة، واللا وطن، واللا وجود، وهو عرضة الضياع الحقيقي بعد دخول مشروع إبادته، واستلاب مكانه الذي دعا إليه ضابط الأمن السياسي في مطلع ستينيات القرن الماضي محمد طلب هلال، وهم لمّا يزالوا يواصلون طرح أسئلتهم على ضمير الغربي، الذي لا يزال ينظر إليه كمجرد أداة، بعيدًا عن محاولة التكفير عن خطيئته التاريخية، تجاه شعب كامل يستعدي عليه الأقربون والأبعدون، على حد سواء، من دون أن يتم فك ذلك اللغز المحير لسلوك الغربي، تجاهه، مادام أن في شلّ الكردي، وإخراجه عن معادلة مكانه ما يتناقض مع ثقافة حقوق الإنسان، التي طالما دعا إلى مبادئها الأولى، وصار يعمق مفاهيمها الأولى، فضلًا عن أمر آخر، وهو أن في وجوده، في إطار خريطته، وكشخصية مستقلة، ما كان سيخدم حالة التنوع والوعي الحضاريين!.
ثمة عقدة -إذًا- يعيشها الكردي، نتيجة سياسات الغربي تجاهه، وقد جعلته يدفع ثمن ذلك غاليًا. فضلًا عن وجود عقدة مماثلة -في المقابل- لدى الغربي تجاهه. إنهما تتكاملان، ولما يزل هذا الأخير غير قادر على مواجهة ذلك، في محاولة منه لاستعادة جزء من حق ضحيته إليه، ولن تكون من بين ذلك أيّ مقاربة تجاهه، إلا وتقرأ ضمن إطار تكتيكاته من أجل تنفيذ خططه، مادام الاعتذار إلى الكردي لم يتم، ومادام أن ذلك لا يأتي في إهاب المراجعة والتكفير عن إثم الجريمة المفتوحة على امتدا قرن كامل!.
الوطني والقومي بين التكاملية والتضاد
لما يزل بعضهم يرى أن الوطني ليس إلا مجرد استنساخ “بروكوستي” للقومي، أو العكس، بل إنهما في نظر هؤلاء مجرد مصطلح واحد، عبر دمج المصطلحين مع بعضهما بعضًا، ملغين بذلك الخصوصية القومية ضمن الفضاء الوطني. كما لم يتم توقف هؤلاء عند هذا الحد، وإنما راحوا ينفون الوطنية عمّن يتخلى عن “الثيمة” القومية المستنسخة ضمن فضاء زمني، على الرغم من أن القومي لا يستنسخ بدوره عمّا هو عرقي. إذ عالم القومية -المركبة- الأحادية يتشكل من مجموعة شعوب، فيما لو اتّبعنا التحليل العلمي في هذا المنحى، لأن لا قومية، البتة، مبنية على أساس الدم. ولعلنا وجدنا في راهنية هذه القومية، ما تكوَّن على نحو غير حرّ تاريخيًا، بسبب هيمنة الدين الإسلامي وما نتج عنه.
نتيجة هذا التناقض، الذي انبنى على أساس أيديولوجي طارئ، كخيانة لمفهوم عقد الشراكة الروحية، التي جمعت قوميات وأممًا وشعوبًا شتى ضمن فضاء الدين، فإن النخب الأكثر نكوصية إلى ذاتويتها تنصلت من الرباط العام بينها والآخر، وراحت تمضي نحو خصوصيتها، لتجعل مفردات الدين في خدمتها. بمعنى حرف مهمة العام إلى الخصوصي، بينما كان مفهوم الشراكة مبنيًا على النقيض. من هنا بدأت أزمة الموقف ممّن تمت تسميتهم بـ”الأقليات” على الرغم من أن الكرد لا ينطبق عليهم هذا المصطلح البتة، ليس بوصفهم القومية الثانية في إطار الدول الأربع، إنما لأنهم القومية الأكبر في إطار كردستانهم المجزأة.
التباس الهوية
لقد شهدت الدولة الحديثة التي انشطرت عن دولة الخلافة العثمانية، محاولة الكردي الاندماج مع الفضاء الوطني العام، وهو يعول على اللحظة المقبلة التي يعاد فيها النظر إلى خصوصيته القومية ضمن الفضاء الوطني الملفق، أو المزور، بوصفه لا يمثل طبيعة ثلاثية: الوجود/ التاريخ/ الجغرافيا. هذا الإحساس دفع به، إلى وقت غير قصير، إلى تصديق الأطروحات التي كانت تقدم من قبل النخبة السياسية في الانفتاح على الآخر، بيد أن هذه الوعود المبداة، لم تكن إلا مجرد تصريحات معسولة، لم تكتب لها الترجمة الواقعية. هذا التناقض بين القول والفعل، وقبل أن يتم الانقلاب على القول نفسه، وجعله ترجمة للفعل المضاد، انعكس على واقع الكردي في كردستانه، وبات عليه؛ إما الإذعان والقبول بأكذوبة السياسي، الذي راح يكرس إلغاء هويته الخاصة، بل وجوده. أو التمرد عليه، وهو ما لم يكن متاحًا في ظل الدكتاتوريات في أجزاء كردستان كلها والتي لم تتردد عن قمعه، وإرهابه، بكل ما هو متاح من الأساليب من: سجن، ونفي، وقتل، بل وحتى تصفية معنوية. وقد بات عليه أن يؤسّس لدعامة إرهابه بحق الكردي من خلال الاشتغال على مسألة تشويه صورته، وتقديمه في هيئة معاد، انفصالي، يريد إلحاق جزء من الوطن بدولة أجنبية. هذه المقولة التي ترد في معجم ذهنية أكثر من دولة مقتسمة لكردستان.
وإذا كان الكردي قد انخرط في تأسيس الدولة الجديدة، التي بنيت صروحها على أجزاء من ترابه؛ فلأن ذلك كان ناتجًا عن محاولة فهم وطنية رفيعة لديه، ضمن ظرف الأمر الواقع -ماعدا حالات بعض الذين فعلوا ذلك على أساس التجرد من هويتهم الأولى الخاصة- وعدم القبول بهم إلا منسلخين عنها. وهو أمر آخر، يسجل في خانة تقييمية أخرى، لمن يعمل على مبدأ الخلاص الفردي. إن حالة علاقة الكردي بالآخر في فضاء الدولة الرسمية، التي ضُمَّ إليها على نحو قسريّ، كشفت عن ظهور روح الهيمنة لدى الآخر، ما حدا بالكردي ليعلن عن حالة رفضه بما هو متاح من أشكال المواجهة من خلال العمل السلمي، بُعَيد تأسيس الحركة السياسية، وإن كانت شراسة آلة القمع ستؤدي إلى ولادة الانتفاضة العارمة كما حدث في أكثر من مرة. إذ إن الكرد كانوا أول من قاموا بالمظاهرات السلمية في دمشق “مظاهرة كأنموذج”. بل إن منع أجهزة أمن النظام المواطنين الكرد في دمشق للاحتفال بعيد نوروز في أحضان الطبيعة خارج العاصمة في العام 1986، دفعهم لقيادة مظاهرة سلمية إلى القصر الجمهوري في دمشق تمت مواجهتها بالنار. واستشهد فيها الشاب سليمان آدي الذي يسمى شهيد نوروز*، كما إن حزب الاتحاد الشعبي قاد مظاهرة إلى القصر الجمهوري في العام 1990، احتجاجًا على سلخ الجنسية من آلاف الأسر الكردية، رافعين كذلك شعار ضرورة إنهاء حالة الطوارئ في البلاد.
ولا ينسى أحد البتة -من ضمن النضال السلمي للكرد- انتفاضة الثاني عشر من آذار2004، ردًا على ترجمة محافظ الحسكة سليم كبول، الأوامر التي وردته من القيادة السورية، بإطلاق النار على جمهور ملعب نادي الجهاد الرياضي، واستشهاد عدد من الشباب وجرح آخرين، وتحوّلها إلى انتفاضة عارمة عمت المناطق الكردية ومدن الوجود الكردي، ما أدى بالنظام إلى قمعها بالنار والحديد، حيث بلغ عدد الشهداء أكثر من أربعين شخصًا، فضلًا عن مئات الجرحى، واعتقال الآلاف من الشباب الكردي، وعلى مبدأ “الهوية” كما يقال.
هذه النضالات التي تمت الإشارة إليها -سريعًا- وهي غيض من فيض، جعلت الكرد في سورية في طليعة المعارضة السورية للأنظمة الدكتاتورية المتنكرة لحقهم. وحقًا، فإننا نكاد لا نجد مفصلًا نضاليًا حقيقيًا في مواجهة آلة الاستبداد، وإلا كان للكردي حضوره. بل إن المعارضة السورية كانت تتقبل الكردي، مدركة خصاله في الاستبسال من أجل موقفه، إضافة إلى أن هذا منبنٍ في الأصل على معاناة عظمى، هي معاناة شعب مضطهد!.
غير أن هذه المعارضة ذاتها، تكاد، وبشكل كامل، ألا تتفهم ثنائية الكردي، التي قد يلجأ إلى جانبها غير السوري، على نحو أكبر كلما تم استلاب حضوره الوطني، وذلك، في الوقت الذي تنصرف برامجه -هوالآخ- إلى ثنائية انتمائه الوطني والقومي. ولعل المفارقة تبدو على نحو أعظم عندما يصادر عليه شريكه نزوعه العاطفي إلى أخوته، الذين انقسموا خارج خريطته التاريخية من دون إرادتهم، ويعدّ في ذلك شططًا، وخيانة، وقد يصل الأمر إلى حد الخرافة الكاريكاتيرية عندما تكون علاقة شريكه معه متأسسة على ثقافة الريبة تجاهه، والتي أرسى لها النظام كي يستمر في المحافظة على كرسيّه، من خلال خلق الجدران العالية بين المكونات السورية، في الوقت الذي يدعو فيه إلى الوحدة الوطنية، التي تعد مجرد ذكر مصطلح الكردي في أدبياتها خيانة!.
سيكولوجيا الكردي وثقافة اللا عنف
لطالما عرف الكردي في فضائه المكاني، بعيدًا عن ثقافة العنف، ولاسيما في حل المعضلات التي تواجهه، وليس أدل على هذا من أن برامج أحزاب الحركة الكردية كانت في مجملها تدعو إلى حل القضية الكردية عبر الحوار، كإحدى مفردات الوسائل السلمية، بالرغم من أن آلة النظام الحاكم ألغت هذه المفردة من قاموسها، عبر الاحتكام إلى أقصى ما يمكن من أدوات القمع الذي طالما مارسه حتى مع بطانته، أنى خرجت عن المسارات التي تهدد ديمومة الدكتاتورية.
مع بدء الثورة السورية، ومحاولة استهداف مناطق وجود الكرد، دفعت ببعض النوى السياسية من بينه لإيجاد قوة عسكرية، في كل منطقة كردية على حدة، هدفها الدفاع عن الذات. وعلى الرغم من تعدد مثل هذه النوى، إلّا أن مجرد طرف حزبي استطاع أن يستفرد بهذا الجانب بموجب ما بدا -في ما بعد- أنه اتفاق بين جهات عديدة، في أن يستقدم قسمًا من قوته المتمركزة خارج المكان، مزيحًا نظراءه الذين سبقوه في هذا الجانب الحمائي، إلى أن غدا إحدى القوى ذات الحضور الفعلي في سورية، ومن ثم في معادلة الحرب الدائرة، ولاسيما بعد أن تم الاعتماد عليها، من جانب قوى ذات ثقل كبير، للانخراط في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي.
لقد تم تفويت فرصة كبيرة على الكردي، في أن تكون له قوة عسكرية شاملة ذات حضور أكبر، فيما لو كانت هناك قوة عسكرية غير حزبية تمثل الكرد جميعًا، لا مجرد جهة واحدة، كما هو الواقع. ولايزال حتى الآن مئات البيشمركة السوريين الذين انشقوا عن الجيش السوري، ولم يقبلوا أن يتحولوا إلى-أداة- بيد النظام السوري لضرب السوريين في المدن الأخرى، وهو ما يسجل لهم، غير أنه لم يتم السماح لهم بالعودة لحماية أهلهم، على الرغم من استشراس حالة الإرهاب ضد المدنيين. وما المجزرة الأخيرة التي ارتكبت في مدينة قامشلي أواخر تموز الماضي 2016 إلا نتيجة وجود خلل أمني في حماية المدنيين العزل، وقد راح ضحية ذلك المئات ما بين شهيد وجريح، فضلًا عن تدمير عشرات المحال والمباني!.
صورة الكردي
لقد غدت مفردة -الكردي- وكل ما يتعلق بوجوده، وثقافته، من عداد القاموس الممنوع لدى الإعلام السوري، وهو ما جعله غريبًا عن شريكه في المكان. وقد اعترف كثيرون من المنتمين إلى الأجيال الجديدة، ولاسيما في بداية الثورة السورية، أن ما كانوا يعرفونه عن الكردي كان جدّ ضئيل لا يتعدى ما يرد على ألسنة أجهزة النظام التي تستعدي الكردي. وقد بلغ هذا التشويه ذروته بُعيد انتفاضة آذار حيث تم حتى استعداء طالبات وطلاب الجامعات على زملائهم وزميلاتهم الكرد، إلى ان هدمت الثورة ذلك الجدار، قبل أن يتم رفع جدران أعلى بين الكرد وسواهم، في إطار جعل كل منتم إلى المكان مطلوبًا من جهة أطراف كثيرة تكاد لا تحصى!.
وعلى الرغم من أننا نعيش عصر الثورة المعلوماتية، غير إن الكردي في سورية لا يملك إعلامًا متكاملًا خاصًا به، وإن كنا نجد هيمنة الإعلام الحزبي المستقل، ما جعل صوته مغيّبًا، بل صورته مشوشة، ويكاد حواره مع صنوه لا يدور إلا في إطار بعض واجهات المعارضة، ضمن دارة ناقصة -في الأصل- وإنه -للأسف- لا نجد، حتى الآن، ذلك الطرف الذي يتفهم هذا الكردي، ويؤازره في إيجاد شبكة إعلامية، فاعلة، ترتقي إلى مستوى المرحلة!.
ثمة وسائل إعلام هائلة، لما تزل تواصل -وحتى الآن- في تشويه صورة الكردي، وحصار كوادره الإعلامية، بل والنشطاء الكرد، إلى الدرجة التي يراد فرض آراء محددة عليهم، أو تجاهلهم، إن خرجوا عما هو مرسوم لهم. من هنا، فإن شبكة التواصل الاجتماعي غدت منذ بدايات الثورة السورية أحد أهم الوسائل الإعلامية لديه، على الرغم من أن هذا الفضاء معرض للتشويش، والتشويه، من جانب الكثيرين من المسيئين.
الهوامش والمراجع
(1) الاتحاد الفيدرالي السوري تألف من دولة انطاكية-العلويين، ودولة حلب، ودولة دمشق.
(2) استبدلت تسمية “دولة سورية” بـ “الجمهورية السورية” في العام 1932، ولأول مرة ينتخب الرئيس محمد علي العابد بشكل ديمقراطي. بقيت تسمية الجمهورية السورية إلى 22/2/1958 واستبدلت بالجمهورية العربية المتحدة كأول تعريب لها من جانب الرئيس جمال عبدالناصر، أما التعريب النهائي باسم الجمهورية العربية السورية فكان في 8/3/1963 عندما استولى البعث على الحكم في سورية.
(3) جمعية خويبون تعدّ بمكانة أول تنظيم، بل وحزب كوردي جامع لكرد شمالي وغربي كردستان، وتأسست في 12 آب/أغسطس 1928 في بيروت.
(4) حزب آزادي الكردي هو الحزب الوحيد الذي تشكل بالتوازي مع حزب البارتي في العام 1957، ولكنه حل نفسه بعد مفاوضات مع البارتي، وانضم أغلبية أعضائه إلى البارتي.
إبراهيم اليوسف: شاعر وناقد وإعلامي كردي من سورية