ما يزال القانون، بمختلف أشكاله، أحدَ أهم الأسس التي تُبنى عليها المجتمعات الإنسانية على اختلاف حجمها وأشكالها (عشيرة، قبيلة، دولة). ففكرة القانون قديمة قدم الإنسان ذاته، فقد لازمته منذ نشأة المجتمعات البشرية، واستمرت معه بأشكال مختلفة، فكانت من أذكى الطرق التي استخدمها الإنسان لحمل المجتمع على التزام أنماط سلوكية محددة لحماية القيم والمصالح السائدة، وخاصة عندما اتخذت طابعًا دينيًا غيبيًا -حقبة طويلة من الزمن- يضمن احترامها من المكلفين. ومع ازدياد العلاقات الاجتماعية وتشابكها وظهور الدولة، ازدادت أهمية القانون وأصبح أداة مهمة، لفضّ الاشتباك والصراع بين المصالح الاجتماعية، ولإدارة هذا الصراع بطرق جديدة بعيدة عن العنف الذي كان يمارس في المجتمعات القديمة وسيلة في حل أغلب الصراعات والخلافات داخل المجتمع.
وعلى النقيض من الصورة السابقة التي ظهر من خلالها القانون، فقد استخدم في سياقات تاريخية أداةً لتكريس الهيمنة الطبقية والقمع والتسلط والاستبداد، وهي الصورة التي طغت على فكرة النشأة واستمرت حتى عصرنا الراهن، وخاصة في المنطقة العربية. وربما هذا ما دفع مفكرين عظامًا -من أمثال أرسطو وماركس وفيلبو غرامتيكا- إلى رفض القانون، أو على الأقل -بالنسبة إلى غرامتيكا- أن يكون القانون في أضيق الحدود، لأن القانون في مجمله قيود ترد على الحرية، وبالتالي فهو مناقض لفطرة الإنسان وطبيعته التي تطمح إلى أقصى درجات الحرية.
على أن الاستخدام الأمثل للقانون يتوقف على بضعة عوامل، أهمّها النضج والوعي الاجتماعي والسياسي، وهذا ما يفسر تخلف الفكر القانوني في المنطقة العربية. فبالرغم من مظاهر الحضارة والتطور العمراني والتكنولوجي الذي تعيشه المجتمعات العربية، فإنها على المستوى الاجتماعي ما تزال في مرحلة أوليّة بدائية، وهذا ما يبدو واضحًا من خلال البنى والتراكيب الاجتماعية، وما أنتجته من تحالفات وصيغ وأشكال سياسية وإدارية، تمارس الحكم والإدارة بوسائل ونظم لا تختلف عن تلك التي كانت سائدة في مجتمع العشيرة أو القبيلة. أي أن المجتمعات العربية لم تبلغ مرحلة الدولة بعد، وذلك لأسباب متعددة، ترجع إلى الموروث الذي شكل العقل العربي على مدار سنين عديدة، ذلك الموروث المؤلف من مزيج من الفكر الديني والفكر المتطرف الذي لعب دورًا مهمًا في تجهيل العقل العربي وحرفه عن التفكير العلمي، وتسويق وتبرير التسلط والقمع والسياسات الخاطئة لأنظمة الحكم على مدى قرون عديدة، إضافة إلى الممارسات والتقاليد السياسية التي نشأت خلال هذه الفترة، والقائمة على الاستبداد والتسلط والاستئثار بالسلطة.
وبالطبع، إن التأثير المتبادل بين القانون والمجتمع حقيقةٌ لا يمكن تجاهلها. وهكذا فإن الاستخدام السيئ للقانون، على مدار قرون عديدة، أفرز مخرجات اجتماعية سلبية للغاية من أنماط السلوك الاجتماعي المتخلف الذي ظهر بأشكال عديدة، منها السلبية وعدم المبادرة واليأس والانكفاء على الذات والابتعاد عن التفكير العلمي، والعيش ضمن بوتقة ضيقة ومغلقة تتغذى على أمجاد وملاحم الماضي. وبالمقابل، فإن الوعي الاجتماعي الذي كافحت بعض المجتمعات طويلًا حتى وصلت إليه، قد أسهم بوضوح في تطوير الفكر القانوني وإنتاج تشريعات رشيدة تستخدم القانون استخدامًا أمثلَ، له أثر كبير في التنمية البشرية بوجوهها كافة.
إن الحديث عن تطوير قانوني بمعزل عن تشخيص الواقع الاجتماعي وتحليله، سيكون عديم الجدوى ومضيعة للوقت. من هنا تكتسب فكرة إنشاء مركز عربي للدراسات القانونية الاجتماعية أهمية بالغة، لما لهذا المركز من خصوصية تميّزه عن سواه. تكمن هذه الخصوصية بتفرّده في دراسة الواقع الاجتماعي والعمل على تطويره لتأمين البيئة الاجتماعية المناسبة لتطبيق القانون وتطويره بشكل دائم ومستمر، وصولًا إلى خلق دولة مؤسساتية رشيدة قائمة على احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون وتداول السلطة، وتعزيز ثقافة الاختلاف، وهو ما يضمن الأمن الاجتماعي والقانوني ويحول دون الانزلاق والسقوط في الفوضى والحروب الأهلية والعرقية والدينية.
لقد دلّت التجارب، منذ القديم، أن الأمن والسلم الدوليين لا يتجزّأان، وأن الفوضى التي تعمّ منطقة أو إقليمًا معينًا لا تنحصر آثارها وتبعاتها في تلك البقعة، إنما سرعان ما تنتقل إلى الأقاليم المجاورة ككرة الثلج، فتؤدي إلى نتائج كارثية. وهكذا لاحظنا أن السياسات الخاطئة للأنظمة السياسية التي نشأت في دول العالم الثالث في نهاية الخمسينيات تهدد الأمن السلم الدوليين بالانهيار، وذلك بسبب أزمة الشرعية التي تلازم هذه الأنظمة وفسادها وتخلفها وعدم قدرتها على مواكبة تطلعات شعوبها واستئثارها بالسلطة ومراهقتها السياسية وتغليبها لمبدأ الولاء على مبدأ الكفاءة. وهذا ما يجعلنا بأمس الحاجة إلى حوكمة هذه الدول وإيجاد معايير مستمدة من تجارب الدول التي خاضت معترك التحول إلى الديمقراطية.
وما يزيد من أهمية دور المركز أن المنطقة العربية باتت على أعتاب استحقاق تحوّل مرحلي مهم جدًا، ألا وهو التحول الديمقراطي كثمرة طبيعية لربيع الشعوب العربية، وهو ما يجعلنا بحاجة ماسة إلى خارطة طريق واضحة للانتقال للمرحلة الجديدة لتجنب الفشل، فالفوضى والانزلاق إلى ما هو أسوأ.
لقد قدّم الواقع العربي بعد ثورات ربيع الشعوب نماذج جديدة من العنف المستشري المنفلت من كلّ لجام، فتعامل الأنظمة الأشدّ استبدادًا في المنطقة -أي نظام الحكم في سورية- جعل نتائج الكارثة من أعظم التحديات التي واجهتها البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، حسب وصف منظمة الأمم المتحدة. سيكون من مهام المركز الرئيسة إذن إنشاء وحدة متخصصة بالعدالة الانتقالية، تكون مهمتها الأساسية دراسة الواقع العربي بتمعّن شديد واجتراح الحلول المناسبة له، دون الوقوف فقط عند ما تمّت مراكمته من تجارب الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار، فما قدّمته تجارب الشعوب العربية المريرة يشكّل بلا ريب ذخرًا هائلًا للبحث والدراسة واستخلاص النتائج، التي يمكن تعميمها على المنطقة والعالم.
سيساهم المركز أيضًا في عمليّة التنمية المستدامة، من خلال دراسة الحوامل الاجتماعية التي تؤسس للتمييز القائم على أساس الجندر. إنّ المساواة الجندرية عماد أساسي من أعمدة إعادة الاستقرار والتنمية في مناطق النزاعات وما بعد النزاعات، وإنّ أخذها بعين الاعتبار واجبٌ لا محيد عنه في بناء مسارات العدالة الانتقالية في المجتمعات الخارجة من الثورات والحروب الأهلية. سيكون للمركز مساهمة نظرية وممارسات ميدانية فعّالة في رسم سياسات جديدة تهدف إلى تغيير الواقع المعيش، وبناء واقع جديد تنتهي فيه أشكال التمييز القائم على أساس الجندر. سيكون المركز نقطة تحوّل في جهود تمكين المرأة وتعزيز دورها المجتمعي في كل المجالات، وانطلاقًا من حقل العلوم القانونية الاجتماعية المشترك.
يجب أن يتضمّن المركز كذلك وحدة مهمّة جدًا، لا غنى عنها، تحت مسمّى وحدة بناء الملفات القانونية الخاصّة بجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والجرائم الدولية الأشدّ خطرًا. إنّ معالجة مخلفات تعامل الأنظمة القمعية مع ثورات ربيع الشعوب العربية، وخاصّة ملف الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، التي ينوءُ كاهل الشعوب العربية ومجتمعاتها فعلًا بحملها، أمرٌ لازمٌ، حالٌّ، مُلحٌّ ولا غنى عنه. ولذلك لا بدّ من بناء وحدة خاصّة في هذا المركز، تكون مهمتها الرئيسة بناء الملفات الجنائية، وفق المعايير المعتمدة أمام المحكمة الجنائية الدولية والمستندة إلى ميثاق روما الأساسي المنشئ لهذه المحكمة. سيكون من مهام هذه الوحدة أيضًا تمكين القضاة والمحامين والحقوقيين والمدافعين العرب عن حقوق الإنسان، رجالًا ونساء، بحيث يكونوا قادرين في المستقبل على بناء هذه الملفات من دون حاجة إلى إشراف الخبراء الأجانب الذين سبقونا كثيرًا في هذا المضمار.
سيكون المركز بالتعريف “وهو تعريف متداول دوليًا”: منظمة غير حكومية إقليمية مستقلة، يهدف إلى رفع مستوى الوعي الاجتماعي، وتحرير العقل العربي من عوائق التفكير العلمي وتعزيز ثقافة احترام حقوق الإنسان والديمقراطية، وتحليل صعوبات تطبيق القانون وتطويره واحترام سيادته في العالم العربي، وتعزيز الحوار بين الثقافات في إطار الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف يجب أن يعمل المركز على اقتراح والدعوة إلى سياسات وتشريعات وتعديلات دستورية تعزز من المعايير الدولية لحقوق الإنسان، والقيام بأنشطة بحثية، ودعوية عبر توظيف مختلف الآليات الوطنية والإقليمية والدولية، ونشر ثقافة حقوق الإنسان مع التركيز بشكل خاص على تمكين الشباب، وبناء القدرات المهنية للمدافعين عن حقوق الإنسان. ومنذ تأسيسه يجب أن يقوم المركز بشكل منتظم بنشر كتب ودوريات تتناول قضايا حقوق الإنسان والفئات المهمّشة وسيادة القانون والديمقراطية في العالم العربي.
يجب أن يصبح المركز نقطة انطلاق لمسار التطوير القانوني العربي، بحيث يكون الجسر الذي يمكّننا من مواكبة الحداثة والتطوّر الهائل في جميع مناحي الحياة، كما يجب أن يكون خطوة في مساهمتنا العربية في هذا المسار العالمي الحديث القائم على مبادئ سيادة القانون، والهادف إلى تطوير التفاعل الاجتماعي القانوني خدمة لأهداف البشر في العيش الآمن الكريم، فيصل بنا إلى العالميّة.
باعتقادي إنّ مركزًا كهذا لن ينجح، ما لم يتمّ تبنّيه بإرادة سياسية واعية مدركة، فمثل هذه الأعمال الكبرى لا يقدر عليها القطّاع الخاص، فالموضوع أكبر من مجرّد تمويل مالي، إنه إرادة تغيير واعية ومستنيرة في المجتمعات العربية، وثمّة جهة واحدة حتى الآن أثبتت أنها الأولى، إن لم تكن الوحيدة، على مستوى الوطن العربي التي ترفع هذه الراية، من خلال تبنّي ودعم مشاريع حضارية نهضوية مماثلة.