مقدمة:
لا بدّ من الإشارة أولًا إلى أنّ ما سوف أتناوله هنا من بنية المجتمع هو الجانب المتعلق بقدرته على مواجهة أزماته الاقتصادية، أو السياسية، أو حتى الكوارث الطبيعية أو الأوبئة، وتحديدًا، كيفية انعكاس هذه الأزمات على مدى تماسك المجتمع، وهل يتعامل معها ككتلة واحدة، أو كمجتمع موحّد؟ وهل تحتمل هذه البنية الهزات القوية، أم أنها عرضة للتفكك حتى في أزمات ذات مستويات منخفضة من الشدة؟
غالبًا ما تعتمد معايير(1) مثل الاقتصاد، وقوة الجيش وأسلحته، والبحث العلمي وغير ذلك، كمؤشرات أساسية ورئيسية لقياس مدى قوة الدول أو ضعفها، لكن بعض علماء الاجتماع السياسي يميلون إلى إعطاء الأهمية الأولى للروابط المشتركة التي تربط الأفراد والجماعات، في عيشهم المشترك داخل المجتمع الواحد، ومدى قوة ومتانة هذه الروابط، ويذهبون إلى اعتبار أنّ المجتمعات الهشّة هي بالدرجة الأولى تلك التي تعاني فجوات كثيرة أو تمزقات، في نسيجها الاجتماعي والثقافي المشترك.
إذًا، يمكن القول، وفق من يعتمدون قوة روابط المجتمع كمعيار لمعرفة قوته، إنّ المجتمع الهشّ هو المجتمع الذي تتراجع فيه مستويات التضامن بين الأفراد والجماعات إلى مستويات متدنية جدًا، ويعزو هؤلاء ضعفَ هذه الروابط إلى جملة من العوامل، لعلّ أهمّها هو تعدد الثقافات المتناحرة أو العنصرية، أو وجود تصنيفات اجتماعية متصادمة، أو انعدام المساواة في المجتمع، أو تهميش فئات واسعة، وغياب الثقة بين السلطة والمجتمع، أو بين جماعات من هذا المجتمع مع جماعات أخرى أو مع السلطة. وهذا ما تتسبب به هشاشة الدولة، أي عدم قدرتها على تلبية الاحتياجات الاجتماعية، وضعف مؤسساتها، مما يؤدي إلى تخبط سياساتها، وفشلها في تحقيق استقرار المجتمع، بأي صيغة من صيغه، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.
لعل الأبحاث التي قام بها الباحث وعالم الاجتماع الكندي ريموند بريتون من أكثر الأبحاث شهرة حول هشاشة المجتمعات، وبوصفه واحدًا من علماء الاجتماع البارزين، فقد ساعد عمله الرائد في تشكيل اتجاه علم الاجتماع الكندي على مدى العقود الأربعة الماضية، وأدّت أبحاثه حول مسائل التنوع العرقي واللغوي دورًا مهمًا في مساعدة الكنديين في فهم تأثير التعددية الثقافية على مجتمعهم، وقد أسهمت أفكاره في حيوية الأقليات الناطقة بالفرنسية في جميع أنحاء كندا.
المهم، بالنسبة إلينا في أبحاث “بريتون”، هو ما يساعدنا في فهم عمق الأزمة التي تتمثل في هشاشة مجتمعاتنا، وطرق الخروج منها، ولعلّ كتابه “النسيج الاجتماعي الهش”(2)، الذي ألّفه مع مجموعة من الباحثين، قد يسهم بشكل جيد في فهم ما نتحدث عنه.
يطرح بريتون خمسة مظاهر للتفكك في المجتمعات الهشّة، وهي:
- التحوّل من تبادل الحقوق والواجبات كصيغة للعلاقة الطبيعية في المجتمعات المعافاة، إلى التوجهات الأنانية التي تتجاوز حقوق الآخرين.
- فساد كل مستويات التنظيم الاجتماعي.
- تخلي الأفراد عن شبكات الروابط الاجتماعية، والدخول في علاقات جديدة ضعيفة وسطحية.
- انتشار العنف بطريقة وبائية، فيما يشبه الجائحة، وبصورة بالغة القسوة، مع سهولة ارتكاب الجريمة، وصعوبة الكشف عنها.
- ظهور أعراض اضطراب عقلي، تتمثل فى تعاطي المخدرات، والكحوليات، والممارسات الجنسية المصاحبة للإدمان، وممارسات العنف اللفظي والبدني، وحالات اليأس الشديدة المرتبطة بما يسمى “فقدان المعايير، أو القنوط” anomie”.
من الطبيعي أنّ ضعف الدولة سيزداد بازدياد تفتت بنية النسيج الاجتماعي، وأنه سينعكس ليسبب زيادة أخرى في هشاشة النسيج الاجتماعي، ويستمر هكذا وكأننا أمام حلقة إنتاج مستمرة في اتجاهين، والأخطر في حلقة الإنتاج هذه هو ما يحدث غالبًا، عندما تتدخل جهات خارجية تجد في هشاشة الدولة وهشاشة النسيج الاجتماعي فرصةً مناسبةً جدًا للنيل من تماسك الدولة، ولعل سورية في وضعها الراهن هي المثال الأكثر تجسيدًا لهشاشة الدولة وهشاشة المجتمع، وكيف أدى هذا إلى تداخلات خارجية كثيرة.
قراءة في ضعف البنية الاجتماعية لسورية:
تركّز الأبحاث التي تتناول أسباب ضعف البنية الاجتماعية في المجتمعات العربية على منظومات القيم التي توجه سلوكيات البشر في علاقاتهم الاجتماعية، ولأن بناء المجتمع يضمّ تكوينات اجتماعية عديدة يدخل فيها النظام الديني والتعليمي والطبقي والسياسي والاقتصادي، وتتداخل هذه النظم في بنيتها ووظيفتها؛ فإن الخلل في العلاقات بين هذه النظم يؤدي إلى اعتلال المجتمع، وضعف بنيته، وعلى ضوء هذا، يمكن قراءة أسباب البنى الضعيفة للمجتمعات العربية عمومًا، وللمجتمع السوري خصوصًا، لكن ما قد تختلف فيه بعض الآراء يكمن في معظمه حول أهمية ومدى تأثير عامل من العوامل، قياسًا بالعوامل الأخرى، أو يكمن -وهنا الأهمّ- في الأيديولوجيا التي ترابض في منظومة هذا الكاتب أو ذاك، إذ يمكننا أن نميز بين أيديولوجيا قومية أو إسلامية أو ماركسية، وكلها كانت سائدة ولا تزال، إلى حد كبير، في استتباع معظم المثقفين لها، واليوم تضاف إليها الليبرالية واشتقاقاتها.
لن أخوض هنا في تفاصيل القراءات التي تتعدّد أسباب هذه الهشاشة برأيها، لكن يمكننا رؤية مروحة واسعة من الأسباب، منها -عند بعض المتديّنين- التخلّي عن الأديان والعبادات، باعتبارها العامل الأهم في ما وصلت إليه هذه الشعوب، وأن ما حصل هو عقاب من الله لشعوب تخلّت عن إيمانها، وربما كان هذا الرأي يثير السخرية عند طرحه قبل عقود أكثرَ بكثير مما يُثيره الآن، فاليوم يزداد عدد المقتنعين به، وربما قد تكون النتائج صادمة، إذا ما أُجري استطلاع للرأي حوله في بعض المناطق، ومنها أيضًا غياب الدولة، أو موت السياسة، وغياب الأحزاب والعمل المدني.. إلخ، خصوصًا إذا ترافق ما سبق بتنوّع ثقافي، وعرقي، وقبلي وديني، مع اعتبار هذه التصنيفات كانتماء أساسي أكثر أهمية من الانتماء للدولة، وهذا أيضًا يعزز من إضعاف الدولة ويزيد إضعاف روابط المجتمع.
كل الأسباب التي وردت سابقًا يمكن أن نجدها، إلى هذا الحد أو ذاك، عند قراءتنا للأبحاث المتعلقة بالحالة السورية، لكنني سأتناول هنا الفكرة الأكثر تداولًا، والتي تتقاطع بها معظمُ القراءات، على اختلاف مرجعياتها الفكرية، عند حديثها عن بنية المجتمع السوري الذي هو موضوع هذا المقال، وهي تركز على دور الدولة وتاريخها في سورية، حيث كانت في معظم مراحلها -إن لم يكن كلها- دولةَ استبداد، دولة تقوم على الغلبة والقهر المتعدد الأوجه، قهر اقتصادي، وسياسي، واجتماعي وأيديولوجي، الأمر الذي منع الدولة في سورية من سلوك المسار الطبيعي لتطوّرها، أي جدل تطور الاقتصاد وأدواته وتعبيراته، وصراع الأفكار والقوى الاجتماعية، عبر تعبيراتها الثقافية والسياسية.
إذًا، بتغييب مسار التطوّر الطبيعي تمّ إجهاض الولادة الطبيعية للدولة الحديثة، الأمر الذي عرفته أوروبا وأوصلها إلى شكل الدولة الحالي، والذي نحاول اليوم أن نفهمَه وندرسه ونتمثله في محاولتنا لبناء الدولة التي نريد، وتم أيضًا -وهو الأهم برأيي- إجهاض قيام مجتمع معافى، إلى هذا الحد أو ذاك، وبالتالي منع تشكل وعي معادلة (الفرد/ المواطن) التي هي الركن الأساس في الدولة الحديثة.
هناك توافق عريض على أن القمع والقهر هو العامل الأكثر حضورًا، عند حديثنا عن أسباب ضعف بنية المجتمع السوري، لكن هذا التوافق سرعان ما ينهار عند تسمية الاستبداد ومصدره، فتتعدد الآراء، وقد تتباين، خصوصًا إذا اعتبرنا السلطة السياسية وحدها هي مصدر القمع، وتجاهلنا سلطات أخرى لا تقلّ قمعًا، سواء أكان قمعها معلنًا أو مستترًا، وسواء أكان بهذه الصيغة أو تلك، إذ لا بدّ من إضافة المقدس، وما يتفرع عنه من سلطات صغيرة (العائلة، والمدرسة.. إلخ)، وسلطات كبيرة (مؤسسات دينية) إلى جهات القمع، وأيضًا إضافة باقي الأيديولوجيات التي تقوم علاقتها بالآخر في جوهرها على النفي أو الاستبعاد أو الاستتباع.
تسبب القمع في نشوء مجتمع مشوّه، مجتمع يعيش بعض علاقاته بوحي من القرن الحادي والعشرين، ولاتزال العلاقات الأكثر حضورًا في بنيته هي العلاقات التي عرفتها سورية وتوارثتها منذ زمن طويل، وأقصد العلاقات التي عاشها المجتمع في مراحله التاريخية القديمة، وتوارثها ضمن منظومة قيمية وثقافية متعددة المصادر، ولا سيما أنّ سورية عرفت في تاريخها احتلالات وغزوات وهجرات كثيرة، وكلّها تركت أثرًا لها في ثقافة المجتمع، أو في تركيبته السكانية، أو في تعدد تصنيفاته الدينية، والقومية والطائفية.. إلخ، ولم تستطع الدولة التي نشأت بعد الاستقلال، بالرغم من تعارضها مع هذا الموروث في جوانب كثيرة، أن تُقلل من حضوره التصادمي، بتعبير آخر: لم تعرف سورية حتى الآن الدولة القادرة على إقامة علاقتها مع الفرد/ المواطن، بحيث تصبح هذه العلاقة (المواطنة) هي الركيزة الأساسية الأهمّ والأقوى من باقي علاقات ولاء الفرد للطائفة أو القبيلة أو القومية.
ربما شهدت سورية، بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، محاولات تمهّد لمسار طبيعي -إلى حدّ ما- لنشوء الدولة الحديثة، فبادرت البرجوازية السورية إلى فصل الدولة عن الطبقات الاجتماعية، على عكس مرحلة الحكم العثماني التي كان التطابق ما بين كبار رؤوس الأموال والوجهاء السياسيين والاجتماعيين يكاد يكون كاملًا (3). وربّما يعود هذا أيضًا لتوزيع كثير من الأملاك التي كانت ملكًا للدولة العثمانية على أشخاص ومتنفذين، وبغض النظر عن هوية المالكين الجدد، فإنهم بتحررهم من تبعيتهم للدولة، أصبحوا أكثر قدرة على إحداث تغييرات حقيقية في البنية الاقتصادية للمجتمع.
إذًا، بانهيار السلطة العثمانية، ومع الصيغة الاقتصادية الجديدة في سورية، التي بدأت في مرحلة الاحتلال الفرنسي وتعزّزت بعد الاستقلال؛ فُتح الطريق أمام نشوء الحياة السياسية في سورية، وأصبحت للأحزاب السياسية علاقاتها مع الطبقات الاقتصادية، ودخل الاقتصاد في صلب الجدل السياسي، وعلاقات القوى وبرامج الأحزاب، واستطاعت فئات اجتماعية “دنيا” أن تلج مجالاتٍ لم تكن متاحة لها، من قبل، مثل الجيش، والسياسة وغير ذلك.
لكن المشكلة الأكبر في سورية هي أنّ كل مرحلةٍ، من مراحل تطورها الطبيعي، كانت تقطع بشكل قسري، الأمر الذي كان يمنع التطور الطبيعي، ويمنع الولادة الطبيعية للمرحلة الجديدة، فتأتي مشوّهة، ولأنها مشوهة، فهي عاجزة عن طرد القديم والحلول محله، وإنّ ما نشاهده اليوم من تعايش لأنماط متعددة من الاقتصاد، والثقافة، والسياسة و..و.. هو بسبب الإجهاضات المتكررة لكل الولادات التي لم تستطع أن ترى النور بطريقة طبيعية.
لم تكن العلاقات الاقتصادية التي فرضَها الاستعمار الفرنسيّ، نظرًا لحاجته لها في علاقاته الاقتصادية بمستعمراته (مركز- أطراف)، حسب سمير أمين(4)، والتي كانت متطوّرة نسبيًا على العلاقات الاقتصادية الموروثة والسائدة خلال الحقبة العثمانية، قادرةً على تطوير كل علاقات الإنتاج في المجتمع السوري، لذلك تعايشت أنماط اقتصادية متطورة فرضتها آليات الاقتصاد الاستعماري في مناطق من سورية، مع أنماط اقتصادية متخلفة لمناطق أخرى، ولم تهتم دولة الاحتلال بتطويرها، لأنها لا تدخل في دورة الرأسمال الخاص المهمّة لها. هذا التعايش بين نمطين مختلفين لم ينعكس على تفاوت البنى الاقتصادية في المجتمع فحسب، بل انعكس أيضًا على الثقافة، والسياسة، والعلاقات الاجتماعية.
ما فعلته أنظمة الاستبداد العسكرية التي حكمت سورية بعد الاستقلال هو أنها كرّست غياب مسارات التطور الطبيعية للدولة والمجتمع، وما تزال كلّ العلاقات، التي عرفتها البنى الاجتماعية التي سبقت دولة الاستقلال، قائمة بهذا الشكل أو ذاك، لكنّ الأنظمة المستبدة، في مواجهة استحقاقات ومتطلبات الدولة الحديثة، والحاجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، اضطرت إلى تبني صيغ معدلة، شعاراتية، شكلية، وغير فاعلة، وظلّت العلاقات السابقة هي الأقوى، وهي السائدة أيضًا، وكل ما فعلته الدولة هو أنها أخفتها عبر تغليفها بغطاء هشّ من الشعارات، حافظت عليه بقوة القمع.
وهكذا، خسرت سورية، بسبب الاستبداد وسيطرة الانقلابات وحكم العسكر، المسارَ الطبيعي الذي كان ضروريًا لقيام الدولة المعافاة، وليس هذا فحسب، بل خسرت أيضًا -حتى اليوم على الأقل- المقدّمات الضرورية لحدوثه، وأقصد العلاقات الاقتصادية التي تنمو وتتطور فتدفع المجتمع نحو تطوير أدواته ثقافيًا، وقانونيًا وسياسيًا.
لم تعرف منطقتنا عمومًا -ومنها سورية موضوع بحثنا- علاقاتِ الإنتاج الرأسمالية التي عرفتها أوروبا، وإنّما عاشت صيغة هجينة فرضها الاستعمار الذي رأى في هذه الدول مصدرًا لمواده الأولية، وسوقًا لتصريف منتجاته، وقد فرض برؤيته هذه أن تعيش هذه الدول نظامًا اقتصاديًا هجينًا، ومشوهًا، نظامًا غير قادر على إزاحة الصيغ القديمة المتخلفة، وغير قادر على امتلاك ديناميكية التأسيس لتطور لاحق.
ومن القضايا التي أسهمت في هشاشة المجتمع السوري أيضًا، تبرز قضية التفاوت في التطور بين مناطق الدولة الواحدة، وإذا كان من المألوف في كلّ المجتمعات أن يحدث تطور اقتصادي متفاوت، بين منطقة وأخرى، أو بيئة وأخرى في جغرافية الدولة ذاتها، فإن هذا قد يتسبب بتفاوت أيضًا بدرجة تطور البنية التحتية، وبمستوى الخدمات المقدمة. وفي مراحل أخرى، تصبح المناطق ذات الاقتصاد الأكثر نموًا أكثر نشاطًا ثقافيًا وسياسيًا ومدنيًا.. الخ، لكن في الدول الحديثة والمتطورة، التي تتنبه إلى خطورة التباين في مستويات الحياة داخل المجتمع الواحد، نجد أن الدولة تتدخل غالبًا لتقلل ما أمكن من هذا التباين، ولتجعل التفاوت في حدوده الآمنة، ليس بالمعنى الاقتصادي فحسب، بل بكل الأوجه الأخرى للمجتمع، لكن ما تفعله الدول الحديثة نادرًا ما يحدث في الدول المتخلفة، مثل سورية، حيث يتعزز التفاوت ويتفاقم عبر ممارسات الدولة وقوانينها، ولا يكون هذا مقتصرًا على مناطق متباعدة جغرافيًا، أو مختلفة في بيئتها الاجتماعية، وعلاقاتها الاقتصادية، كما بين الريف والمدينة مثلًا، بل نراه في المدينة ذاتها، فقد أصبحت العشوائيات التي تحيط بالمدن السورية أكبرَ من المدن ذاتها، وأصبحت هذه العشوائيات تجترح قوانينها وعلاقاتها الخاصة وآليات استمرارها، وهذا ما أطلق عليه عالم الاجتماع الكندي ريموند بريتون وآخرون، تعبير (توحش التحضر)، وعدّوه جانبًا مهمًّا من جوانب أساسية أخرى تعكس الهشاشة في البنية الاجتماعية لمجتمع ما.
بتعدد الثقافات العنصرية(5) التي يغلب عليها حضور موروث متناحر، وبتعدد أنماط الاقتصاد وتفاوت مستوى المعيشة بين مناطقه، وبغياب الحريات والأحزاب، كان طبيعيًا أن يصبح المجتمع السوري مجتمعًا هشًا، وأن يكون عرضة لتأثير عوامل متعددة ومتناقضة، وكان من الطبيعي أيضًا أن لا يصمدَ هذا المجتمع أمام هزات سياسية، أو اقتصادية قوية، كالتي حدثت في الثورة السورية، وهذا يعني أن ما فعلته الثورة لم يكن سببًا لإضعاف وانهيار الدولة، كما يدعي أزلام النظام، وكل ما فعلته الثورة هو أنها أزاحت الغلاف الهش الذي فرضته أنظمة الاستبداد بالقوة، لتكشف حقيقة بنية المجتمع السوري، ومدى هشاشته.
كيف انعكست هشاشة المجتمع السوري على الفرد السوري؟
في العشوائيات التي تحدثنا عنها سابقًا، والتي انتشرت حول معظم مدن سورية الكبيرة، وشكّلت ما يقرب من 60% من مساحة مدينة مثل دمشق(6)، كان لا بدّ لهذه البيئات المكتظة، والفاقدة للبنية التحتية المناسبة، أن تنشئ علاقات خاصة بها مع الدولة، وكان أهمّ تجلٍّ لهذه العلاقة الخاصة هو انخراط قسم كبير من الأفراد الذين يعيشون في هذه العشوائيات، في ارتباطات متعددة الصيغ مع الأجهزة الأمنية، وبالرغم من أن معظم هذه الارتباطات قد لا تُحقق لصاحبها، أو من يقوم بها، أيَّ أجر، أو أي ميزة اجتماعية، فإنها قد تحدّ من استباحة الأجهزة الأمنية له، وتشعره ببعض الأمان، هذا النمط من حماية الفرد لنفسه، في الدول البوليسية القمعية، هو من أسباب هشاشة المجتمع وضعف ارتباط الفرد بالدولة، وبحث الفرد الدائم عن ارتباطات أكثر أمنًا وحماية له.
تعدد أنماط العلاقات في المجتمع الواحد، وإرغام أفراده على التصرف بين حدين معلن ومخفي، والعيش دائمًا بين مسموح وممنوع لا يحددهما القانون وإنما يحددهما الحاكم أو أجهزته الأمنية، أدّى إلى نشوء طبقات متعددة في شخصية كل مواطن سوري، أدّت بدورها إلى تعدد الأوجه التي يحتاجها السوري في علاقته بالآخر، وبالدولة، وهذا أنتج فردًا فاقدًا للقدرة على العمل العام الجمعي مع الأشخاص الذين يشبهونه، أي الذين يحملون الطبقات المتعددة، والأوجه المتعددة، وأنتج أيضًا فردًا قلقًا وغير آمن وشديد الحذر، وضعيف الثقة بالآخر إذ يرى فيه مصدر خطر، فهو بنظره متهم ومتهم حتى تثبت براءته.
إذًا، كان من الطبيعي أن تزيد الدولة الفاشلة (7) من هشاشة المجتمع السوري، وأن تُضعف من ترابط أفراده، وأن يصبح التفكك الاجتماعي هو السمة الأكثر تعبيرًا عمّا يُشكل حقيقة علاقات المجتمع، وهو ما يمكن تلمّسه عبر نواظم السلوك الحاكمة التي تربط الأفراد بعضهم ببعض، أو تربطهم بمجتمعهم.
عندما تعجز الدولة، أو لا تريد، أن تلغي التصنيفات القائمة في مجتمع ما، تلك التي تبعد الأفراد عن تصنيفهم كمواطنين، وتحيلهم إلى تصنيفات أخرى؛ تصبح هذه التصنيفات مفروضة على الفرد، سواء قبل بها أم لا، وسواء أكان متبنيًا للتصنيف الذي هو فيه أم لا، ولأن هذه التصنيفات تقوم أساسًا بدلالة العلاقة مع الآخر، وبمواجهته، فإن السائد هو أن يتم تنميط الآخر مسبقًا، أي تنميط التصانيف الأخرى، وفق سردية ما مستمدة من التاريخ القديم، أو الحديث أو من الأيديولوجيا أو.. أو.. ومع الأسف، فإن السردية الطاغية في مجتمعاتنا هي سردية الآخر الكافر، المعادي، المضمر للشر.. إلخ. الأمر الذي يوصل في الخضات الاجتماعية الكبيرة إلى حد قتل الآخر، (القتل على الهوية)، كما حدث في لبنان والعراق وسورية.
الخاتمة:
عندما تعجز الدولة الفاشلة، مهما كانت الأسباب، عن تأمين حاجات المجتمع الأساسية، وتعجز عن القيام بدورها الوظيفي، فإنها تلجأ إلى فرض سيطرتها بالعنف. وفي مواجهة عنف أجهزة الدولة تتباين ردود المجتمعات، ويتجلى مدى هشاشة المجتمع أو ترابطه.
ما يحدث في المجتمعات الهشة عمومًا في مواجهة العنف، الذي تمارسه الدولة الفاشلة عبر مؤسساتها الأمنية، هو انقسام هذه المجتمعات، ولجوء الأفراد والجماعات إلى اختراع آليات دفاع خاصة بهم، سواء آليات فردية أو جماعية، وتلجأ بعض فئات المجتمع لموالاة السلطة على حساب فئات أخرى من المجتمع، وتقوم بتقديم خدماتها للسلطة مجانًا، لكي تتجنب عنفها. في كل هذه الاحتمالات، هناك مشترك أساسي، وهو أن العنف سينتقل من صيغته الأولى (سلطة في مواجهة شعب)، إلى صيغ متعددة أخطرها ( فئة من الشعب في مواجهة فئة أخرى من الشعب)، وبالرغم من أن بعض الأفكار تتحدث عن ضرورة الحرب، كمقدّمة لقيام الدولة، فالحروب الدينية في أوروبا كانت العامل الأهمّ في نشوء الدولة بمفهومها الحديث، لأنّ الدولة أصبحت ضرورة لترسيخ السلم الأهلي، لكنّ الأمر في منطقتنا العربية، ومنها سورية، مختلفٌ حيث إنّ فشل الدولة وأنظمة الاستبداد هو الذي أوصل المجتمع إلى الحروب الدينية أو الطائفية.
الهوامش:
1- يرى زبيغبنو بريجنسكي، في كتابه (الاختيار بين السيطرة على العالم أم قيادة العالم)، ترجمة: عمر الأيوبي، دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، 2004، أنّ مثّلث القوة (القوة العسكرية، القوة الاقتصادية، والقوة التكنولوجية) هو الذي مكّن الولايات المتحدة من أن تتربّع على قمة الهرم الدولي، وأن أقطاب هذا المثلث مجتمعه تمثل القوة السياسية التي هي أبرز مخرجات القوة المؤثرة في الوحدات الدولية .
2- ريموند بريتون، عالم اجتماع كندي معاصر، يعدّ من أبرز علماء الاجتماع في كندا، وقد استخدم تعبير (النسيج الاجتماعي الهش) fragile social fabric بطريقة مجازية، للإشارة إلى ما أسماه البنية التحتية الاجتماعية للعهد أو الميثاق الاجتماعي، social covenant للحقوق والواجبات، التي يمكن أن تمثل قاسمًا مشتركًا يربط المواطنين معًا، ويربطهم بمجتمعهم.
Raymond Breton, Norbert J. Hartmann, Jos Lennards and Paul Reed , Fragile Social Fabric?: Fairness, Trust, and Commitment in Canada,( Montreal and Kingston: McGill-Queen’s University Press, 2004).
3- شهدت البلاد في سنوات ما بعد الاستقلال تطوّرات متسارعة على صعيد بُنيانها الاجتماعي، منها صدور قانون العمل، وقانون ضريبة الدخل التصاعديّة. ونصَّ دستور الاستقلال على كافة مبادئ «العدالة الاجتماعية»، من الصحة والتعليم إلى كفالة العجز والبطالة، كما في المادتين 26 و27 من ذاك الدستور؛ وكانت قدرة الإقطاع المحلّي وكبار الملّاك على التأثير، لا سيّما في ما يتعلق بإجبار الفلاحين على التصويت وفقًا لمشيئتهم، قد تراجعت في الخمسينيات “بشكل جوهري“. وبينما كانت حكومات الأربعينيات تُتداول بين أسماء دمشقيّة-حلبيّة، سنيّة-مسيحيّة، عربيّة-مُستعربة، وجميعها تنحدر من خلفية عائلات كِبار المُلّاك، شهدت الخمسينيات تطورًا ملحوظًا، فتبوأ المنصب التنفيذي الأول، أي رئاسة الوزراء، أشخاص من خلفيات غير إقطاعيّة، مثل معروف الدواليبي أو فارس الخوري، وسعَت الحكومات كذلك لإدماج تكنوقراط في صفوفها. ولا يبدو ضربًا من التزلّف للجمهورية السورية القول إنّ بلادنا كانت تتجّه من داخل عقدها الاجتماعي نفسه، نحو أشكال أكثر عدالة لعلاقات الإنتاج وترسيخ المساواة بين مواطنيها، ما دام بإمكان المرء جمع أدلة داعمة لذلك، وإضافة إلى نتائج الانتخابات التي شهدت صعود «الأحزاب الجديدة»، والنقابات المستقلة التي اعترف بها قانون العمل، والحقوق الاجتماعيّة التي نصّ عليها دستور الاستقلال، ثمّة سلسلة إجراءات أقل جوهريّة وأكثر رمزيّة قد اتُّخذت، لعل أبرزها إلغاء الألقاب العثمانيّة.
سامي عواد، لماذا سقطت الجمهورية السورية، موقع الجمهورية، 19 كانون الأول/ ديسمبر 2019. https://2u.pw/ls7KXe .
4- “نظرية المركز والأطراف” التي نظّر لها عالم الاقتصاد المصري الشهير سمير أمين، عبر ثلاثيته الأشهر «التراكم على الصعيد العالمي» (منشورات ابن خلدون، بيروت، 1973)، «التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة» (دار الحقيقة، بيروت، 1974) و«التطور اللامتكافئ» (دار الطليعة، بيروت، 1974). ثلاثة كتب مرجعية طوّر فيها سمير أمين نظريته الاقتصادية التي عرفت بـ “نظرية المركز والأطراف“، وانطلق فيها من حقيقة تاريخية تتمثل في كون المركز الرأسمالي الغربي حقق هيمنته الاقتصادية على مرحلتين: الأولى استندت إلى أنماط تراكم عنفية، كالنهب والعبودية والاستعمار، والثانية ارتكزت على التفوق التكنولوجي ومردودية رأس المال.
5- ظهرت مصطلحات عدة للإشارة إلى العنصرية الثقافية، مثل “الأصولية الثقافية” أو “العنصرية الحديثة”، التي تعرّف بأنها نوع من أنواع العنصرية التي تعتمد على الاختلافات الثقافية، بدلًا من العلامات البيولوجية التي تتعلق بفكرة التفوق العرقي أو الدونية العرقية، إذ يمكن أن تكون الاختلافات الثقافية حقيقية أو متخيلة أو مبنية، وتوسّع البعض في استعماله لعنصرية ثقافية تحمل صبغة دينية أو طائفية، أو حتى مناطقية، ودرس البعض شكلًا آخر من أشكال العنصرية الثقافية، وهو شكل متداول في الخطابات الشعبية حول الطوائف أو القوميات.. إلخ.
6- صدر تصريـح لوزيـر الإسكان السوري عـام 2018، نشرته صحيفة (الوطن) السورية بـتاريخ 13 أيار/ مايو 2018، أقــرّ فيه بأن مناطـق السـكن العشوائي في سورية تراوح بين %40 إلـى 50%، وكان يرد على القول بأن نسـبة السـكن العشـوائي فـي سورية تتجـاوز 60%. لكن في دراسة قام بها الدكتور قاسم الربـداوي، مجلة جامعة دمشق، المجلد 31، العدد الثالث، 2015، عن زيادة المساكن بين عامي 1981 و1994، تبيّن أن نسبة السكن العشوائي تجاوزت النصف، ففي مدينة دمشق تم بناء 102 ألف مسكن، منها 35 ألف مسكن نظامي، وبذلك تكون نسبة السكن العشوائي قد بلغت في تلك الفترة 67.7%.
7- رغم إشكالية مفهوم الدولة الفاشلة واستعمالاته التي يعتبرها البعض مشبوهة وتخدم أهدافًا سياسية لبعض الدول فإنه هو الأكثر قدرة على استيعاب وضع الدولة السورية الراهن؛ فكل المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، التي استعملت، سواء من جهات سياسية أو بحثية، من أجل تدقيق مفهوم الدولة الفاشلة، نراها متوافرة في الحال السوري.
– المؤشّرات الاجتماعية، وتشمل: الضغوط الديموغرافية المتزايدة، هجرة السكان أو نزوحهم في الداخل من منطقة إلى أخرى أو الحركة الكبيرة للنازحين، تنامي عدد المجموعات التي تسعى إلى الانتقام من مجموعات أخرى، المشكلات الحزبية والعرقية، الفقر والبطالة والجريمة والمخدرات والسرقة، وتنامي الهجرة المزمنة والطوعية، ومن ضمنها هجرة الأدمغة.
– المؤشّرات الاقتصادية، وتشمل: التنمية الاقتصادية غير المتكافئة ما بين المجموعات التي تنتمي إلى البلد الواحد (الإنماء غير المتوازن)، والتدهور الاقتصادي الحاد (اختلالات بنيويّة، ركود في الدورة الاقتصادية، وانهيار قيمة النقد الوطني).
– المؤشّرات السياسية، وتشمل: تراجع مساحة الشرعية في النظام السياسي القائم، فقدان الثقة بالدولة ومؤسّساتها، تراجع وظيفة الدولة لجهة تقديم الخدمات العامة، إساءة استخدام السلطة وزيادة التدخل الخارجي في شؤون الدولة الداخلية، زيادة الشقاق الحزبي، والصراعات بين النخب الحاكمة.
– المؤشّرات العسكرية، وتشمل: انتهاكات حقوق الإنسان، ضعف السلطة الأمنية، وبروز قوى أمنية غير نظامية.