المشروع الممكن وعقدة الحلّ السورية
الانتقال المؤلم، من عالم الفكرة المكتمل مثاليًا، إلى الواقع بتجلياته وأصنافه وتمايزاته، عملٌ شاق ومرهق، أسماه هيغل بـ “الاستلاب”، حين تنتقل الفكرة إلى الواقع بتفصيلاته ونسبياته ومدى اختلافاته. هذا الانتقال المؤلم كمن يأسر المفهوم المطلق الممتد، أثيريًا وفكريًا، في واقع أو واقعة محدودة تضيق عليه، لكنه ضرورة أولى وكبرى للاستقاء منه وتحميله مضامين جديدة لم يكن يراها، هي عودة جدلية لعالم الفكرة وقد اكتست لحمًا وحياة، أسماها هيغل “عودة الروح”!
ما من شك في أن اختلاف مذاهب الفكر حالة تاريخية طبيعية، مثلت أطوارًا متعاقبة من حمولة الإنسان ومسيرته التاريخية، ولو فرضنا جدلًا أنه بالإمكان حل مشكلات الإنسان دفعة واحدة، وبعالم من المثل الفكرية، لاكتفى التاريخ بنموذج مثالية مدينة أفلاطون الفاضلة، أو بالوصايا الدينية العشر، أو بعالم الماركسية والاشتراكية الشيوعي، أو حتى بالليبرالية التي أسماها فوكوياما في نهاية التاريخ “أرض الميعاد”، لكن للإنسان أسئلته الوجودية التي تتشكل بحكم واقعه ومتغيراته الموضوعية، بحكم وجوده الإنساني والحسي والمادي وأحلامه أيضًا، وهي تجعل المسألة تأخذ سياقًا وسياقات مختلفة، أهمها سؤال: كيف يمكن تحقيق ذلك؟ وعدم الاكتفاء بماهيته الفكرية وحسب.
سؤال السوريين اليوم، حواراتهم وجل اهتمامهم: الحلّ السوري، التغيير السياسي، الانتقال إلى دولة الحق والقانون، الديمقراطية والعقد الاجتماعي… وهي ليست أسئلة فكرية فقط حتى نسبغ عليها ذلك المنهج أو غيره، وليست أسئلة تمت الإجابة عليها في أيديولوجيا ماركسية أو قومية أو دينية، وعلى الناس اتباعها لتأتي لهم بسحر الحل المفقود! إنما هي أسئلة عشر سنوات من التهجير والقتل والاعتقال ودمار المدن وتغييرها ديموغرافيًا، فكيف سيجيب الفكر النظري عن معطيات الواقع المدونة في وثائق الأمم المتحدة: 2.7 مليون طفل سوري بلا تعليم، و40% من البنى التحتية مدمرة، ومليون طفل يتيم ومثله معاق حرب، و83% من سكان سورية الباقين فيها دون مستوى خط الفقر، ونصف هؤلاء نازح من بيته! وهل سيكتفي الفكر السياسي السوري بحواره النظري بلزوم ووجوب تطبيق الديمقراطية والحل السياسي، دون الأخذ بهذه المعطيات والانتقال لموضوعة المشروع السياسي الممكن والفعل والضرورة؟
درجت أحزاب السلطة المتحكمة في رقاب البشر إلى اليوم، على تحويل الشعب كتجسيد عام لمفهوم الدولة والأمة التاريخي، إلى جمهور وجماهير، إلى رعايا تابعة بلا محتوى سوى التصفيق والتهليل، بحيث أحالته إلى سواد عام مُنتَقص ومُنتكِس عن سمات التكون المجتمعي في مفهوم الشعب، من حيث الحرية والتعدد والتنوع والاختلاف، إلى سديم بشري، هيولى كتلية، كائنات مصطفة بجانب بعضها دون تمايزات، تحكمها أدلوجة السلطة ونزعة القيادة السلطوية المحكمة والمطلقة، وهذا سببُ الثورات والربيع العربي أصلًا، لكن كيف يمكن لصنوف المعارضة اليوم ممارسة الفعل ذاته، باحثة عن جمهور لها ودهماء تصفق خلف قائد ما خلاف غيره؟ في فعل يشابه فعل السلطة ذاتها!
بالأمس، حاولت العديد من الأحزاب الكلاسيكية القومية واليسارية عقد مؤتمر لها في دمشق، بعنوان الجبهة الديمقراطية الوطنية (جود)، فكان أن منعتها أجهزة النظام من الانعقاد تحت التهديد والوعيد، كما هي العادة، وبعيدًا عن التداخلات السياسية الممكنة والقابلة للتكهن المفرط في التأويل، كما الأسئلة السياسية الحقة، فإن حرية الاصطفاف السياسي والتشكل في كتلة، كنتيجة لثورات الربيع العربي، هي مبدأ عام، على كل السوريين ممارسته خلافًا لما تريده السلطات أولًا، وحق الاختلاف في الرأي والتوجه السياسي نتيجة موضوعية لنقرّ به بالمبدأ، ولنتفق بعدها على الطريقة والكيفية!
إن تعدد تشكيل الكتل السياسية والمنصّات مثّل حالة تشظ عام، في نموذج الحالة السورية، فقد حملت كل جهة مشروع قيادتها للثورة منفردة عن غيرها، وادعت وحدانية قيادتها لها، ووقّعت -كما غيرها- بين مخالب القوى الإقليمية والدولية الساعية لتقاسم النفوذ داخل سورية. هذا الانتقال الحاد في سيرورة الثورات وتكسرها لسلسلة من الصراعات السلطوية، وكل يبحث عن جمهوره الذي يفوز به على الآخر سحقًا أو قتلًا أو ثراء، أو بالكل مجتمعة، في نموذج تعويمي لمكر السياسة وانحدار للقيم الأخلاقية إلى ما دون مستوى الكائن الإنساني المعرف -اجتماعيًا وأخلاقيًا- ككائن يفكر، بات من الضروري إيقافه والعمل بمسار مختلف اليوم، خاصة أن طيفًا واسعًا من المعارضة السورية يمارس الدور ذاته، سواء في تقييم “جود” أو الائتلاف أو غيره، بالمنهجية ووحدانية الرؤية ذاتها! لكن السؤال الواجب طرحه على الجميع اليوم: هل يمكن لجهة وحيدة سورية ادعاء حلها للمسألة السورية، وأنها الحامل الوحيد للتغير؟! هذا الادعاء، وإن كانت تتقاسمه مناصفة موضوعات التدخل الخارجي في سورية، ما زال يمثّل الموضوعة ذاتها في أحقية فكر خلاف غيره!
بات من الضرورة اليوم النظر إلى الواقع السوري، كمعطيات وأرقام، كحالات متعددة واختلافات منابر وتوجهات، خلافًا لتلك النزعة الوحيدة الاستئثارية المنكرة للواقع والمتمترسة خلف أدلوجتها! ومعطيات الواقع بذاتها تفصح عن نفسها، فالائتلاف السوري ليس حاملًا وحيدًا لقوى الثورة والمعارضة، لكنه يمثل كتلة عريضة من السوريين الموجودين في الشمال السوري، تتموضع بظلّ لاعبٍ محترف بالسياسة اسمه تركيا، لا يمكن إنكار دوره أو إدارة الظهر له! و”جود” وغيرها نموذج يمثل حالة سياسية حزبية، لا تستنفذ خلافها! ومثلها باقي أطياف المعارضات السورية في جبهات ديمقراطية ومدنية متعددة، مجموعها يمثل الحالة السورية العامة، فإن كان نصف الكأس الفارغ يقول إنها حالات متشظية متباعدة، فإن نصفه الملآن، أو بقايا هذه القطرات من الماء العالقة على جدرانه تقول ثمة حراك سوري عام عليه أن ينتج، إذا ما أخذ بعين الاعتبار معطيات السياسة الدولية، بتنازعها الدولي الروسي والأميركي بداية، ومن دونه التركي والأوروبي، والتفاوض مع هذه الدول بات حقيقة سورية سياسية تحتمل المسؤولية، لا الغبن التاريخي والكيدية.
التفاوض مع جيوش من الاحتلالات العسكرية ليس تخليًا عن الثورة وتاريخ تضحياتها، بقدر ما هو دليل على القدرة على الإجماع العام في مواجهة ضرورات الواقع ومعطياته، فالاكتفاء بفكرة وجدلها لن ينتج حلًا لمشكلات السوريين في الداخل، ولا في دول اللجوء والنزوح. هذا التفاوض اليوم هو شرط التغيير نحو الاستقرار والأمان أولًا، وتحقيقه يعني الانتقال إلى كيفية الاختلاف السياسي لما بعده في مشاريع انتخابية وديمقراطية تكون ممكنة حينها. فإذا كان الانتقال والتغيير السياسي عنوانًا عريضًا لحلّ المسألة السورية، فإن الانتقال الشاق من عالم تنازع الأيديولوجيات إلى عالم معطيات الواقع وإعادة صياغتها في مشروع سوري، يقوم على احترام الاختلاف والتعدد وتنحية المصالح والمكاسب الشخصية، مقدمة كبرى لتحقيق هذا الانتقال.
من الممكن والمريح البقاء في ذلك العالم الوردي للأفكار، وتبادل أطرها المعرفية بعيدًا عن الواقع، حين تصبح الديمقراطية والحرية والاشتراكية العلمانية والعقد الاجتماعي أفكارًا كأنها جنة الفردوس، لكنها ستتحول إما إلى جملة من الوصايا المثالية وإما إلى محض أحلام تداعب النفوس، بينما السوريون اليوم بحاجة إلى مشروع عمل سياسي يأخذ بعين الاعتبار القوى الدولية على ساحتهم، وإلى ميزان مُغلّب للتغير السياسي وإن كان تدريجيًا، وتواصل سياسي مهني غير أيديولوجي بين مختلف صنوف المعارضة السورية.
هو البحث نتيجة عن “غاندي” أو “هوتشي منه” السوري، حين يتكئ على خلفية سياسية وشعبية، لم تتنازل عن حقها إلى اليوم في الانتقال السياسي والثورة، ولكنها تفاوض على كيفية تحققها وشرط استمرارها، وهنا تكمن عقدة الحلّ.
مقال عميق ودراسة فكرية محترمة ولكن للأسف أغفل الدكتور جمال نقطة هامة وهي أن غاندي السوري أو هوتشي منه السوري ممنوع من الظهور أو التحرك أو العمل السياسي والذي يمنعه هو القوى الكبرى الفاعلة عميقاً أفقياً وعمودياً في الشان السوري ويمنعه أيضاً الجدار السميك من ثقافة المنفعة واقتناص الفرص التي خلقت جيوشاً من السوريين الذين بعد اعتناق ثقافة وفكر النظام لم تجد سوى نسخة عنه في المعارضة الرسمية وهذا أدى إلى تجذر وتعميق حالة الأنا المادية والمصلحة والإنتفاع أما عن الشرفاء والوطنيين الحقيقيين فهم ممنوعون ومحظورون من العمل في الشأن العام لأن القاعدة الأساسية في العمل السياسي للأسف هي أن تكون بيدق أو عبد لجهة ما وهذه هي الحقيقة المرة التي تطغى على الأوهام والأحلام الجميلة ………تحياتي واحترامي للكاتب والناشر .