ورقة سياسات

أولًا: مقدمة

يثور التساؤل حول الحماس الأردني للتطبيع مع النظام السوري، الذي وصل إلى حد تبني تسويق مبادرة إعادة دمج النظام السوري لدى الإدارة الأميركية، في قطيعة واضحة مع نهج الأردن السابق من النزاع في سورية، الذي بلغ ذات يوم مرحلة توجيه الملك الأردني نصيحة إلى رئيس النظام السوري بالتنحّي، وتهيئة الظروف لانتقال سياسي آمن، وذلك في مقابلة له مع محطة BBC في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011.

الاندفاعة الأردنية لاحت بوادرها علنًا في مقابلة للعاهل الأردني مع محطة CNN الأميركية، بتاريخ 25 تموز/ يوليو 2021، حيث صرح بأنه حمل إلى الإدارة الأميركية مقترحًا لحلٍّ في سورية، يرتكز إلى التخلي عن مطلب رحيل الأسد، وإعادة سورية إلى الجامعة العربية وتجميد العقوبات، والسماح بإعادة الإعمار، مؤكدًا أن إسرائيل والأردن وروسيا متفقون على العمل سويًا على إنجاح هذه المبادرة، ويطلب من الولايات المتحدة المشاركة فيها، إذ ستتولى الأردن التحرك نحو الدول العربية وروسيا نحو إيران.

وقد شهدت سنوات الصراع في سورية منذ 2011، تأرجحًا في مستوى العلاقات الأردنية السورية، بين التوتر والاسترخاء النسبيين، وإذا كان مفهومًا أن الأردن كيان وظيفي -وهو في الوقت ذاته كيان هشّ بصفته أحد المفرزات العرضية لاتفاقية سايكس بيكو، ومحكوم بتوازن قلق لوقوعه بين جيران أقوياء له هي العراق وسورية و”إسرائيل- فإن مما يلفت النظر هذا الحماس الأردني لتسويق التطبيع مع النظام السوري، والتصريح بأن إسرائيل جزءٌ من هذا المسعى.

لا شك في أن الأردن كان أكبر المتضررين من الصراع الدائر منذ اثني عشر عامًا في سورية وعليها، ولديه كثير من الدوافع الذاتية، للبحث عن مخارج تخفف من همومه الأمنية والسياسية والاقتصادية التي يرزح تحت وطأتها، وقد شكّلت حادثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سورية، في 6 شباط/ فبراير 2023، مدخلًا لتعاطف دولي وعربي واسعين مع مآسي الشعب السوري، ثم جاء تخفيف عقوبات قيصر لمدة ستة أشهر تبعًا لذلك، ثم جاء الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية بتاريخ 10 آذار/ مارس 2023 لينعش التوجهات الأردنية للتداخل مع القضية السورية، فجاء اجتماع جدة التشاوري 14 نيسان/ أبريل 2023 واجتماع عمان الخماسي التشاوري 1أيار/ مايو 2023، ثم الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية الدول العربية، الذي أقر بالتوافق وقف تعليق عضوية سورية بجامعة الدول العربية، وعودتها لممارسة دورها في منظمات الجامعة ابتداءً من 7 أيار/ مايو 2023 ، ثم كان حضور رئيس النظام السوري قمة جامعة الدول العربية في جدة 19 أيار/ مايو 2023.

ثانيًا: واقع العلاقات الأردنية في الفترة 2011-2023

مع اندلاع الثورة السورية آذار/ مارس 2011، وجد الأردن نفسه أمام حالة لم يكن يريدها، لكنها ضريبة الجغرافيا، حيث ازدادت هواجسه ومخاوفه من توسع الصراع وتداعياته، ولا سيما أن عشرات ألوف اللاجئين الفارين من القتل راحت تتدفق عبر الحدود، حتى بلغ عديد المسجلين منهم في لوائح الأمم المتحدة للاجئين 640 ألفًا، ويردد الأردنيون أن العدد أكبر من ذلك بكثير، وقد أظهر الأردن قدرة كبيرة على تنظيم وجود اللاجئين السوريين؛ إذ ضبط أغلبهم ضمن مخيّمَين كبيرين في شمال الأردن، في حين انتشر الباقي في أنحاء المملكة وتكفلوا بتدبير أمورهم اعتمادًا على الذات.

بداية، اتّسم الموقف الأردني بالحذر تحت ضغط هواجسه الأمنية، لكنه خضع للضغوط الخارجية التي وجهت له، فصوّت لصالح تعليق عضوية سورية في جامعة الدول العربية، بعد أن رفض النظام السوري مبادرة الجامعة الثانية 22 كانون الثاني/ يناير 2012 ، التي رسمت خريطة طريق للحل، لكن الأردن لم يقطع علاقاته، بل خفض تمثيله الدبلوماسي إلى مستوى قائم بالأعمال، وبقيت أبواب السفارة السورية في عمان مشرعة، وقد وافق الأردن على أن يكون مكان إقامة غرفة (الموك)، التي أنشئت لضبط إمداد وعمليات تسليح المعارضة المسلحة السورية في القسم الجنوبي من سورية، مقابل نظيرتها غرفة (الموم) في تركيا للغرض ذاته في شمال سورية، وضمّت الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات والأردن.

وقد بدأت نظرة الأردن إلى الصراع الدائر في سورية تتغير، مع ظهور تنظيم (داعش) وسرعة تمدده في الجغرافيا السورية والعراقية عام 2014، وتشكيل الولايات المتحدة للتحالف الدولي، الذي ضمّ قرابة سبعين دولة، كانت الأردن واحدة منها، ثم جاء التدخل الروسي بتاريخ 30  أيلول/ سبتمبر 2015، ليزيد في قناعة الأردن بأن الصراع في سورية ذاهبٌ نحو مزيد من التدويل والديمومة، ما سيزيد في عمر النظام السوري، وبما أن الأردن محكوم إلى حدٍ بعيد بخيارات حلفائه، فقد انتظر الفرصة الملائمة، التي أتته عندما تفاهمت روسيا وإسرائيل وتركيا والأردن، مع عدم اعتراض أميركي في الحد الأدنى، على صيغة مناطق خفض التصعيد الأربعة، أولها في المنطقة الجنوبية المعنية فيها الأردن وإسرائيل، وما تلاها من ترحيل مسلحي فصائل المعارضة المسلحة، الذين رفضوا إجراء تسويات مع النظام بضمانة روسية، لم يتم الوفاء بها من قبل الضامن الروسي، وإغلاق غرفتي (الموك) و(الموم)، ووقف الدعم التسليحي لفصائل المعارضة، فكانت أولى خطوات التقارب الأردنية السورية، فتح معبر نصيب جابر 2018، فاتحة الطريق أمام خطوات التطبيع مع النظام، أقله في الجانب الاقتصادي خدمة لمصالح الأردن، الذي تضرر اقتصاديًا بشكل كبير.

يمكن تتبع خطوات التطبيع ما بين الأردن وسورية على مجالات متفاوتة الحضور ووتيرة التسارع، ويمكن تحديد عدة دوافع وراء التحرك الأردني.


الدوافع الاقتصادية والتجارية:

خلق الصراع الدائر في سورية، وعلى حدود الأردن الشمالية، جملةً من المشكلات على المستويات كافة، كان أبرزها إغلاق المعابر وحرمان الأردن من العوائد، التي كانت تدرّها حركة التجارة عبر حدوده مع سورية، سواء لجهة صادراته ووارداته، أو لجهة كونه طريق عبور للتجارة ما بين أوروبا وتركيا باتجاه الخليج أو بالعكس، ولعل المشكلة الأكثر عبئًا تمثلت باضطرار الأردن، وهو بلد شحيح الموارد، إلى استقبال أعداد كبيرة من اللاجئين، في وقت لا تغطي فيه مساعدات الأمم المتحدة نصف حاجة اللاجئين السوريين، حسب التصريحات الأردنية، وليس في ما وصل إليه الوضع السوري ما يشير إلى عودة قريبة لهم.

لقد وجد الأردن نفسه مع تقدّم الصراع، في وضعٍ أصبحت فيه حدوده ساحة مواجهة إقليمية وحرب بالوكالة، ما بين النظام وداعميه من جهة، ودول الخليج الداعمة للمعارضة من الجهة الأخرى، وبناءً على هذا التوصيف، فإن حلّ مشاكل الأردن بات مرتبطًا بحلٍّ إقليمي وغطاء دولي فاعل، ولا يعود البت فيه للأردن بمفرده، والوضع ذاته بات عليه الجانب السوري، إذ أصبح هو الآخر رهينة الوجود العسكري الإيراني والروسي الكثيف، ما يعني أن الجهتين السورية والأردنية محكومتان موضوعيًا بحلفائهما، يضاف إلى ذلك أن “انخراط الأردن، وهو دولة صغيرة، في علاقات ثنائية مع سورية، لن يشكل حافزًا مغريًا لسورية لتغيير سلوكها حيال القضايا الإقليمية الخلافية”[1]، الأمر الذي دفع الأردن للبحث عن دعمٍ لتوجهاته على المستويين الإقليمي والدولي بهذا الخصوص، مركزًا على الجانب الاقتصادي.

إن اتفاقات خفض التصعيد عام 2018، التي أبعدت فصائل المعارضة السورية المسلحة بأغلبها نحو الشمال السوري، لم تخلق حالة استقرار أمني واجتماعي في الجنوب السوري، بل على العكس من ذلك فقد ملأت الفراغَ الأمني ميليشيات إيرانية، وحزب الله وميليشيات محلية مموّلة من إيران، في ظل وجود ضعيف لقوى النظام، وهو ما أدخل إسرائيل على خط الصراع بشكل علني، فصعدت من قصفها المتواتر على الأراضي السورية، لمنع تموضع إيران عسكريًا قريبًا من حدودها، كذلك بات الجنوب السوري مرتعًا ومصدرًا للجريمة المنظمة، كتهريب المخدرات والأسلحة والبشر، بفعل الميليشيات الإيرانية والجهات السورية المتعاونة معها، وهنا يتهم الأردن الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد.

فُتح معبر نصيب بين البلدين جزئيًا بين شهري تشرين الأول/ أكتوبر 2018 وآذار/ مارس 2020، عندما دفعت جائحة كورونا لإعادة إغلاقه ثانية، وسجلت إحصاءات التبادل التجاري بين سورية والأردن قفزة ما بين تموز/ يوليو 2021 وحزيران/ يونيو 2022، إذ ارتفعت الواردات الأردنية من 21 مليون دولار، إلى 75 مليون دولار، والصادرات من 62 مليون دولار إلى87 مليون دولار، والسلع المعاد تصديرها من 22.5 مليون دولار إلى 46.5 دولار”[2]، وكون الاقتصاد السوري يسير في سورية إلى مزيد من السلع يجعل الميزان التجاري يميل لصالح الأردن، وبحسب قاعدة بيانات الأمم المتحدة لإحصاء تجارة السلع الأساسية، فقد بلغ حجم التبادلات التجارية الإجمالية -باستثناء السلع المعاد تصديرها- 190 مليون دولار في 2021، في حين بلغت 108دولار عام 2020، وهو ما يشكل ما نسبته 30% فقط ممّا كان عليه عام 2007، حيث بلغ حينذاك 670 مليون دولار”[3].

يذهب البعض إلى محاولة تفسير التوجهات الأردنية، بأن الأردن تلقّى وعودًا من روسيا بأن تفتح له مجالًا للإفادة من عمليات إعادة الإعمار مستقبلًا، وهذا الافتراض لا يجد له في الواقع سندًا، عند الأردن الذي له علاقة تحالفية استراتيجية مع الولايات المتحدة، وهناك مراعاة إسرائيلية لمصالحه، وجواره الجغرافي لسورية وبوابة الخليج إليها، ويستبعد أن يركن لوعود من دولةٍ ليست صاحبة القرار بمفردها.

لا شكّ أنّ لسورية مصلحةً في فتح حدودها أمام حركة التجارة، وربّما تكون قد قدّمت تسهيلات على هذا الصعيد، على مستوى الإجراءات أو القوانين الجمركية التي تحكم مثل هذه الحالة، والسؤال الذي يحضر هنا يتمحور حول مدى اكتفاء الأردن بالجانب الاقتصادي في علاقته مع سورية، لتخفيف التداعيات التي تركها الصراع في سورية على اقتصاد يعاني من ضعف بنيوي مزمن. والجواب المرجّح هنا هو لا، ذلك أن هموم الأردن أبعد، بما لا يقاس، من الاقتصاد.

الدوافع الأمنية:

 خلق الصراع الذي شهدته سورية منذ العام 2011، وما زال، للأردن جملة من المشاكل، وإذا كان الأردن قد استطاع وقف تدفق اللاجئين نحو أراضيه، منذ العام 2018 بعد توقيع اتفاقات خفض التصعيد، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا في 22 شباط/ فبراير 2022، واضطرار روسيا إلى سحب جزء من قواتها البرية على قلتها من سورية للقتال هناك، أوجد للأردن مشكلة أبعد أثرًا وخطورةً على أمن المملكة، تتمثل بالفراغ الأمني الذي نشأ بعدها، وملأته قوى أمر واقع، وميليشيات تتبع إيران لتعبث به، حيث تحوّلت إلى ممارسة الجريمة المنظمة، كعمليات تهريب السلاح والمخدرات، وقد شكّل هذا التموضع لأذرع إيران العسكرية، على مقربة من الحدود الأردنية، هاجسًا أمنيًا للأردن حذّر منه العاهل الأردني، ففي برنامج حواري مع الجنرال الأميركي المتقاعد هربرت ما كماستر، ضمن البرنامج العسكري المتخصص “ساحات القتالBttle grands”، رأى الملك أن “الوجود العسكري الروسي في جنوب سورية كان يشكّل مصدرًا للتهدئة، وأن فراغ انسحاب الروس سيملؤُه الآن الإيرانيون ووكلاؤهم، وللأسف أمامنا هنا تصعيد محتمل لحل المشكلات على حدودنا”[4]،فهذا التموضع العسكري عبر الميليشيات التي تتبع إيران، بخاصة تلك التي شكلها الإيرانيون من أبناء المنطقة وجرى تدريبها وتسليحها وتحضيرها، سوف يضيف للأردن أعباءً أمنية وعسكرية، وإذا ما عمدت إيران إلى تشكيل خلايا مسلحة في الداخل الأردني، بغية استخدامها في المستقبل لزعزعة استقرار المملكة، وهذا ليس مستبعدًا ما دامت إيران مستمرة في مشروعها التوسعي في المنطقة؛ فإن هذا الخطر يصبح أكثر حضورًا، عندما ينجدل على العامل الديموغرافي الذي يربط سكان محافظة درعا بسكان شمال الأردن.

تهريب وتجارة الكبتاغون:

كثيرة هي التقارير الدولية التي تؤكد بأن سورية باتت أكبر منتج ومهرب للكبتاغون في العالم، الأمر الذي بات يشكل مصدر قلق للأردن ولدول الخليج بل للعالم كلّه، وعندما يلجأ النظام السوري عامدًا لتسيس قضية المخدرات، لابتزاز دول الخليج ومعاقبتها على مواقفها منه أو لدفعها مكرهة للتطبيع معه وفق شروطه، تأخذ المشكلة أبعادًا أكثر خطورة وإلحاحًا في البحث عن حلول لتلك المشكلة المتفاقمة، التي تهدد أمنها المجتمعي، حيث يفيد تقرير لمعهد نيولانيز بأن “تجارة الكبتاغون المخدرة قد توسّعت في الشرق الأوسط إلى حدٍ كبير خلال العام 2021، لتتجاوز قيمتها 5 مليارات دولار، وأن النظام السوري يستخدم هذه التجارة كوسيلة للبقاء سياسيًا واقتصاديًا بسبب العقوبات المفروضة عليه، ليصنف كأبرز منتج ومصدر لهذه الحبوب”[5]. ويتوافق هذا التقرير إلى حدٍ كبير مع تقديرات جمعتها وكالة (فرانس برس) الفرنسية، تؤكد أن “صادرات الكبتاغون تفوق في قيمتها صادرات البلاد الشرعية، وأن 80 % من هذه التجارة مركزها سورية”[6]، عدا أن هذه الصناعة والتجارة في حالة ازدهار، وليس لدى النظام ما يدفعه للحد من عمليات التصنيع والتهريب القائمة على أراضيه، وربما لا يستطيع محاصرتها، وإن رغب في ذلك افتراضًا، بحكم ثقل القرار الإيراني في سورية، ولا يبدو النظام السوري مكترثًا بانعكاس تصنيع المخدرات واستيطانها كاقتصاد غير شرعي على المجتمع السوري ومستقبل أجياله، ومما يدعو للغرابة أيضًا أن تنخرط في هذه الصناعة بعض شركات تصنيع الأدوية الخاصة، نظرًا لإمكانية استيرادها للمواد الأولية الداخلة في صناعة الكبتاغون.

 لقد باتت صناعة وتجارة الكبتاغون خطرًا داهمًا، لفت نظر العالم ودعاه إلى ضرورة مواجهة هذا الخطر المتنامي، ومن ذلك صدور قانون الكبتاغون عن الإدارة الأميركية نهاية العام 2022، الذي سوف يدخل حيز التطبيق أوائل حزيران/ يونيو 2023، ويقضي بملاحقة شبكات تهريب الكبتاغون السوري في كل دول العالم، وضرب أماكن تصنيعها وملاحقة مسهليها، لكن القضاء على هذه الظاهرة الخطيرة لن يكون بتلك السهولة، ذلك أن هذه الصناعة لا تحتاج إلى إمكانات مالية ضخمة، ولا إلى منشآت كبيرة (آلة خلط، مكبس للحبوب، آلة تجفيف)، كما أن القابلية لتعديل تركيبة المنتج الكيميائية باستمرار تُصعب من عمليات كشفه بالطرق المعتمدة، يضاف إلى ذلك أن الدول المعنية لا تثق بما يذيعه النظام، بين الحين والآخر، من أنه ألقى القبض على شبكة ترويج أو اتجار بالمخدرات، الأمر الذي يلقي على الأردن والدول المتضررة الأخرى أعباءً جمة، كما أن شبكات التهريب تتلقى دعمًا لوجستيًا وحمايةً من ميليشيات مسلحة، لديها طيران مسير، وربما تحظى بتغطية من قوات عسكرية وأمنية سورية في المنطقة، وقد لاحقت القوات الأردنية تلك الشبكات واشتبكت معها، بعد أن زادت عمليات التهريب في السنوات الثلاثة الأخيرة، ما أدى إلى مقتل أكثر من أربعين مهربًا، وضبط 20 مليون حبة مخدرة وحشيش وقطع سلاح وذخيرة، حسب المعلومات الأردنية”[7]، لكن الرسالة ذات الدلالة في مستقبل المواجهة في حرب المخدرات المتصاعدة، كانت في قصف الطيران الأردني معملًا لتصنيع المخدرات يتبع “حزب الله”، في محطة المياه جنوب درعا، وقتل أكبر تاجر ومدير لشبكات التهريب، مرعي الرمثان وعائلته، في قرية الشعاب جنوب شرق السويداء، قريبًا من الحدود الأردنية، بعد يوم من قرار إعادة سورية لشغل مقعدها في الجامعة، فهل يمكن توقع أن يكون الأردن رأسَ حربة في ملاحقة وضرب شبكات التهريب داخل سورية وعلى طرق التهريب في المنطقة، كجزء من تفعيل قانون الكبتاغون الأميركي، وأن يكون درع مواجهة نيابة عن دول الخليج في حرب الكبتاغون؟ ويرجح أنه دافع ليتصدى مضطرًا لهذه المهمة.

دافع مشكلة اللاجئين:

كانت درعا نقطة انطلاق شرارة الثورة، في 18آذار/ مارس 2011، حيث شهد ذلك اليوم الدموي انفلات العنف، بشكل أراد منه النظام تعميم رسالة تحذير لكل السوريين، بما ينتظرهم إذا لم يتعظوا ممّا مارسته قواته في درعا خاصة، مع مواصلة أهل درعا مواجهتهم السلمية للنظام، قبل أن تبدأ ظاهرة الانشقاق داخل عناصر الجيش، وانحياز بعضهم للثورة، الأمر الذي دفع بكتل بشرية ضخمة لعبور الحدود باتجاه الأردن، الذي يشكل شماله امتدادًا جغرافيًا وقبليًا لسكان درعا، وقد جمع الأردن اللاجئين السوريين إليه في مخيّمَين كبيرين، هما (الأزرق) قرب عمان، و(الزعتري) القريب من الحدود السورية في منطقة جغرافية قاحلة، وضمّ 120 ألف لاجئ يعانون قسوة الطبيعة ومشاكل اللجوء. وتشير التقديرات الأردنية إلى وجود 1.3مليون لاجئ، لكن المسجل منهم لدى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، كلاجئين أو طالبي لجوء، بلغ 677 ألفًا حتى تاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، وتوزع الباقون، بغض النظر عن دقة الأرقام، على المجتمعات المضيفة في محافظات الأردن.

حاول الأردن ضبط وجود العدد الأكبر من اللاجئين السوريين في مخيمات، ليسهل من خلالها عمليات الإغاثة وضبط التداعيات التي قد تنجم عن مشكلة اللجوء، من أناس فقدوا أموالهم وبيوتهم وأمانهم وعلاقاتهم وفروا بأولادهم من الموت، ويعاني كثير من أطفالهم صدمة الحرب التي تؤثر في صحتهم النفسية والعقلية، كالقلق والاكتئاب والخوف وتعاطي المخدرات، الأمر الذي أدى إلى امتناع كثير من الأولاد في سنّ المدرسة من الذهاب إليها، نتيجة الخوف من مغادرة أهليهم، أو اضطرارهم إلى تلبية الخدمات البيتية.

في دراسة استطلاعية أجرتها المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بالتعاون مع مركز نماء للاستشارات الاستراتيجية، ورد أن “92% من الأردنيين يقولون إنهم متعاطفون مع اللاجئين السوريين”[8]، وهذا جيّد، قياسًا بنظرة المجتمعات في دول اللجوء الأخرى ولبنان أكثرها سوءًا، لكن منظمة العفو الدولية (أمنستي) تقول إنه منذ شهر أيار/ مايو 2013 بدأت تظهر مؤشرات على وجود سياسة إغلاق غير معلنة للحدود، مما أدى إلى تفاقم مشكلات الدخول إلى الأردن، وتقلص عدد الداخلين بشكل كبير، ما عدا بعض حالات المرضى والجرحى، ما أدى إلى تزايد عدد العالقين على الحدود في نصيب وتل شهاب”[9]، وتبرر السلطات الأردنية قراراتها هذه بأن من لم يملك وثائق ثبوتية لا يحقّ له الدخول، ومن يدخل من معابر غير رسمية، كمركز تسجيل اللاجئين “مركز رباع السرحان”، فإنه يتم حجز ثبوتيات الداخلين وتزويدهم ببطاقات تعريف حمراء، وعدم حمل بطاقات ثبوتية يحرم اللاجئ من تسجيل واقعات الزواج والولادات وتصاريح العمل، مما يجعلهم عرضة للاستغلال الاقتصادي.

يشكو الأردن من تراجع التمويل الدولي لخطة الاستجابة بالسنوات الثماني 2012-2020، وفق أرقام وزارة التخطيط الأردنية، التي قالت إن هناك “تراجعًا بنسبة 58%، ذلك أن الأردن كان قدّر احتياجاته لمواجهة أعباء اللجوء، للفترة المذكورة بـ 2.4 مليار دولار، لم يقدّم منها سوى 1.015 مليار دولار، أي ما نسبته 42%”[10]، أما خطة الاستجابة فقد تضمنت أربعة محاور: (تأمين تمويل كاف للخطة، تأمين مِنح كافية لدعم المؤسسات الوطنية ورفع كفاءة العاملين فيها، تعزيز الأنظمة الصحية والتعليمية والبنية التحتية، وتمويل المشاريع ذات الطابع الرأسمالي)، وعليه، فإن الأردن يكرر تحذيراته بأن نقص التمويل الدولي سوف ينعكس سلبًا ويؤدي إلى تقليص الخدمات والبرامج الإغاثية التي يقدّمها للاجئين.

الدوافع السياسية:

على أهمية الدوافع الاقتصادية، وخطورة الأبعاد الأمنية، في محاولة تفسير الدوافع الأردنية في حماسها وحراكها المحموم، للتطبيع مع النظام السوري وفكّ عزلته الدولية، فإن الدوافع السياسية ربما تكون مقدمة على الدافعَين السابقين، حيث من المستبعد أن يساعد النظام السوري الأردن على الصعيد الاقتصادي، في الوقت الذي يعاني فيه أزمات اقتصادية ومالية ومعيشية لم يتمكن من حل أي منها، بل تزداد مظاهرها تعقيدًا بفعل عدة عوامل، منها العقوبات المفروضة على النظام ومؤسساته المالية والاقتصادية ومعظم مسؤوليه، إلى جانب سوء الإدارة وتفشي الفساد في أجهزة الدولة.

وقد كان الأردن أوّل من نبّه، منذ مطلع الألفية، إلى خطر الهلال الشيعي، الذي بات حاليًا بعد الغزو الأميركي للعراق 2003، والصراع المفتوح في سورية منذ العام 2011، يطوّقه من خاصرتيه الشرقية والشمالية، بحكم المحاولات الإيرانية المستميتة، للتموضع العسكري في سورية، وهو يتعرض لضغوط من روسيا والعراق والإمارات، للسير في محاولات إعادة تأهيل النظام، بالقدر الذي لا ينكر فيه الدفع الإسرائيلي بهذا الاتجاه.

يمكن الافتراض بداهة أن الأردن، ككثير من الدول العربية، لم يكن مرتاحًا لثورات الربيع العربي، فوضعه لا يحتمل انتقال شرارتها إليه، لكنه خضع لتداعياتها المباشرة كأمر واقع، وبات أحد الدول الداعمة للمعارضة السورية في الجنوب، لكن التدخل العسكري الروسي، في أيلول/ سبتمبر 2015، غيّر من معادلات الصراع لصالح النظام، والتفاهمات الروسية الإسرائيلية والأردنية، على اتفاقات خفض التصعيد الأربعة عام 2018 وما نجم عنها من مصالحات وتسويات لأوضاع أفراد عناصر الفصائل المسلحة بضمانة روسية وترحيل من لم يقبل بالتسويات منهم إلى الشمال، فتحت أمام الأردن فرصة التفكير ببدء مسار التطبيع، مع النظام من المدخل الاقتصادي وفتح المعبر الحدودي، ثم تتابعت الخطوات الأردنية على هذا الطريق.

  • بدايات التحرك الأردني: لعلّ أبرز تلك الإشارات والخطوات ما صرّح به العاهل الأردني، في مقابلة له مع CNN الأميركية، بتاريخ 25 تموز/ يوليو 2021، إذ قال إنه “قدم إلى الإدارة مقترحًا لحل الأزمة في سورية، يرتكز على التخلي عن فكرة رحيل الأسد، وإعادة سورية إلى الجامعة، وتجميد العقوبات (قيصر)، والسماح بإعادة الإعمار، وأن الأردن وروسيا وإسرائيل على إنجاح هذه المبادرة، وأنه طلب من الولايات المتحدة المشاركة بها، إذ ستتولى الأردن التوجه نحو الدول العربية وروسيا تجاه إيران”، وأنه “ما دام بقاء الأسد بات حقيقة، فلم لا نتعامل مع الواقع، أليس هذا أفضل من ترك الأمور معلقة!”[11]، هذه الواقعية السياسة ما كان للعاهل الأردني أن يعلنها صراحة، مفتتحًا بذلك مسارًا للتطبيع مع النظام السوري وإعادة تأهيله عربيًا ودوليًا، لولا تفاهم الأردن مع روسيا وإشارات إسرائيلية وضغط إماراتي، على الرغم من تصاعد الهواجس الأردنية الأمنية ودواعيه الاقتصادية.
  • المبادرة الأردنية: لم ينشر شيء رسمي عن بنود ما عرف بالمبادرة الأردنية تجاه سورية، سوى ما صرح به وزير الخارجية الأردنية أيمن الصفدي، في آذار/ مارس 2023، بقوله: “هناك عمليات تنسيق مع الأمم المتحدة، من أجل إطلاعها على مضمون المبادرة العربية، لإيجاد حل للملف السوري، وذلك بإطلاق جهود عربية، للانخراط مع الحكومة السورية في حل سياسي، يستهدف حلّ الأزمة ومعالجة تبعاتها الإنسانية والأمنية والسياسية”، ويتابع الصفدي: “نحن كعرب أولى بتَصدر طاولة الحوار، لأن سورية بلد عربي، وتبعات الأزمة تؤثر علينا أكثر من غيرنا”[12].

إن توجه الأردن يبدو تسليمًا بوقائع على الأرض أفرزتها استعادة النظام السوري، بدعم روسي وإيراني، السيطرة على معظم المناطق التي اضطرت المعارضة إلى الانسحاب منها، وتراجع فرص الإطاحة بالنظام، ما يقتضي قبول التعامل مع النظام السوري، وليس حلًا سياسيًا، وإذا كان كل ما يُصرّح به حول المبادرة الأردنية يقوم على ما قدّمه الأردن عام 2021، أو ما عُرف باللا ورقة، التي تضمنت أربعة بنود: (1-صياغة نهج تدريجي نحو حل سياسي على أساس القرار الأممي رقم 2254/2015، 2-بناء الدعم للنهج بين الشركاء الإقليميين والدوليين،3- السعي لاتفاق مع روسيا على هذا النهج والاتفاق على آلية لإشراك النظام السوري،4- مرحلة التنفيذ). وهي تقوم على مبدأ الخطوة مقابل خطوة، وتقديم مساعدات اقتصادية وتخفيف تدريجي للعقوبات وحلحلة المسائل الإنسانية كاللاجئين والمعتقلين، كمقدمة لمسار سياسي حدده القرار الأممي 2254، فالأمر على هذا لا يعني حلًا سياسيًا مستدامًا[13].

  • دبلوماسية الزلزال والاتفاق السعودي الإيراني: تسارعت الحركات الدبلوماسية في اتجاه التطبيع مع النظام السوري، بدفع كارثة الزلزال الذي تعرضت له سورية بتاريخ 6 شباط/ فبراير 2023، الذي شكل مدخلًا للتحرك العربي تجاهها من البوابة الإنسانية، مستفيدًا من القرار الأميركي لتعليق بعض عقوبات قيصر لمدة ستة أشهر، لكن الأهم من هذا كان الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، الذي أُعلنَ في 10 آذار/ مارس 2023، وفتح المجال أمام تحرك سعودي تجاه الملف السوري، ربما لم تكن بوارد الانخراط النشط فيه في هذه المرحلة ، لكن كون إيران هي خيط الربط بأربعة ملفات تهمّ السعودية، وأبرزها الملف اليمني، أسهم مع هاجس غزو الكبتاغون بتناغم الخطى بين الرياض وعمان، فكان اجتماع جدّة بتاريخ 14 نيسان/ أبريل 2023، بحضور العراق والأردن ومصر وسورية والإمارات، وحضور السعودية كدولة داعية ومضيفة، وحدد البيان الذي صدر عن اللقاء الخطوط العامة لما يهم الدول المجتمعة وأولوياتها في هذه المرحلة، فقد أكد أن الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة في سورية، وشدد على أهمية أن يكون هناك دور عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف الجهود بين الدول العربية، بما يكفل نجاح هذا الدور.
  • الاجتماع الخماسي التشاوري: بتاريخ 1 أيار/ مايو 2023، دعت الأردن للاجتماع الخماسي في عمّان، بحضور السعودية ومصر والعراق وسورية، استكمالًا لاجتماع جدّة ومخرجاته، ومع دخول المجتمعين بشكل تفصيلي بالأبعاد التقنية لخطة العمل، شدّد البيان على أهمية تجاوز تداعيات الأزمة السورية وانعكاساتها الإقليمية والدولية، عبر حل سياسي يحفظ وحدة سورية وتماسكها وسيادتها، ويفضي إلى خروج جميع القوات “غير الشرعية” منها، بما يحقق المصلحة الوطنية. واتفق الوزراء على تشكيل فريق فني على مستوى الخبراء، لمتابعة مخرجات هذا الاجتماع، وتحديد الخطوات القادمة في سياق هذا المسار الذي يستهدف معالجة الأزمة السورية وحلها، ومعالجة جميع تداعياتها، كما اتفق الوزراء على أجندة المحادثات، وأنها ستتواصل وفق جدول زمني سيتم الاتفاق عليه، بما يتكامل مع الجهود الأممية وغيرها ذات الصلة. وتابع البيان أن الوزراء اعتبروا عودة اللاجئين الطوعية والآمنة إلى بلدهم أولويةً، ويجب اتخاذ الخطوات للبدء بتنفيذها فورًا، وتعزيز التعاون بين سورية والدول المضيفة للاجئين، والتنسيق مع هيئات الأمم المتحدة، لتنظيم عودة طوعية وآمنة للاجئين وإنهاء معاناتهم، وفق إجراءات محددة وإطار زمني واضح، وكذلك التنسيق مع هيئات الأمم المتحدة، لتحديد الاحتياجات اللازمة لتحسين البنية التحية وتنفيذ مشاريع التعافي المبكر[14].

نقطتان ذات دلالة تجاوز فيهما اجتماع عمان لقاء جدة، أولاهما تضمنتها العبارة الملتبسة، حين طالب بإخراج القوات غير الشرعية، أي أنه هنا ترك للنظام السوري حرية تحديد من هي القوات الشرعية، والقوات غير الشرعية، وهذا تراجع لم يكن متوقعًا في ظلّ تشديد الأردن على خطر الميليشيات الإيرانية المتموضعة جنوب سورية، فهل تم قبول ذلك لتجاوز احتمال انهيار المباحثات، أمام تصميم النظام السوري على عدم مناقشة علاقته بإيران على طاولة البحث؟ وثانيتهما أن مشاريع التعافي المبكر للمناطق، التي سيعود إليها اللاجئون وتكاليفها، سوف تُحدد بالتنسيق مع هيئات الأمم المتحدة، الأمر الذي عنى عدم ترك تقدير ذلك للنظام السوري، ولا منحه فرصة استجرار أموال أكثر، مما يتحمله مصطلح التعافي المبكر، والأهم جعل العملية بغطاء ومشاركة المجتمع الدولي.

  • قمة جدة: بما أن موعد مؤتمر القمة العربية في دورته العادية 32 كان محددًا بتاريخ 19 أيار/ مايو 2023، وأن قرارًا على إعادة سورية، لشغل مقعدها في مؤسسات الجامعة، قد تم اتخاذه، كما اتضح لاحقًا، فقد تكفلت السعودية بإقناع الدول الثلاثة، التي بقيت على اعتراضها على العودة، وقد نجحت في مهمتها مع الكويت والمغرب، في حين بقيت قطر على اعتراضها، لكنها امتنعت عن طلب التصويت، كما تكفلت مصر بالإجراءات البروتوكولية، ومنها دعوة وزراء خارجية الدول العربية بتاريخ 7 أيار/ مايو 2023، لإقرار إلغاء قرار الجامعة بتجميد عضوية سورية، القرار الذي فتح المجال لحضور سورية مؤتمر القمة في جدة، والذي تبين من بيانه الختامي أن الوضع السوري لم يشغل حيزًا فيه، وكأن حضور رئيس النظام السوري جلسات المؤتمر أغنى، من وجهة المؤتمرين، عن أي قرارات ذات معنى حيال الوضع السوري، إلا إذا اعتبر المؤتمرين أن مخرجات اجتماع عمان الخماسي، التي أعلنت في بيانه الختامي، أو ما ترك من قضايا معلقة، لعمل دبلوماسي لاحق لم يعلن عنه، كان كافيًا عند هذه المرحلة.

ثالثًا: عقبات على طريق المساعي الأردنية

  1. استطاع الأردن نتيجة جهوده الحثيثة منذ عام 2021، بمساعدة المملكة العربية السعودية في الأشهر الثلاثة الأخيرة، أن يمرر عودة النظام لشغل مقعد سورية في جامعة الدول العربية، تجميدها لعقد من الزمن، وحضر رئيس النظام السوري مؤتمر القمة الدورية رقم 22، الذي عقد في جدة بتاريخ 19 أيار/ مايو 2023، وبما أن بيان اجتماع عمان التشاوري الذي عقد بتاريخ 18أيار/ مايو 2023، يعتبر ركيزة لمسار التطبيع، وقد كان واضحًا في أهدافه وخطواته المتبادلة لإنجاز تلك الأهداف وصولًا إلى الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254/2015، فإن عودة سورية إلى الجامعة لا تعني نهاية مسار التطبيع، بل بداية له تقف أمامه جملة من العقبات، التي يصعب على العرب حلحلتها، ولذلك كانت دول اجتماع عمان الخمس حريصة في البيانات الثلاثة الأخيرة، وهي الأهم في هذا المسار، أن تؤكد أن خطواتها -حتى تلك التي تخص الوضع الإنساني- تجري في سياق القرارات الأممية، وليس بالقفز فوقها.
  2. يعدّ الوجود الإيراني والروسي العسكري بشكل أساسي واحدًا من العقبات التي ستمهّد لعرقلة المسار، ما لم يصب في قبول العرب بالوجود الإيراني، كأمر واقع عليهم التعايش معه، وهذا مما لا يمكن للسعودية والأردن على وجه الخصوص التسليم به، فهو يشكل أكبر خطر على أمنهما الوطني، وعندما يضاف إلى ذلك أن روسيا، التي كانت تتفهم بعض الهواجس العربية، وكان يمكن لها أن تضغط على النظام وإيران، بما يسهل مساعيها لإعادة تأهيل النظام، لم تعد تملك ذلك التأثير في الملف السوري، بعد تورطها في الحرب الأوكرانية، كما أن إيران التي لا يساورها ذلك القلق الكبير من التحركات العربية، بحكم وجودها العسكري الكثيف ميدانيًا، وربما تحكمها إلى حدِ كبير بالقرار السياسي للنظام السوري، فإنها مع ذلك تحركت بالتزامن مع الحراك العربي في الفترة الأخيرة، بشكل أساسي على الصعيد الاقتصادي، حيث سعت من ضمن محاولتها استرداد ديونها التي بلغت 32 مليار دولار، حسب تصريح لمسؤول إيراني، و50 مليار حسب تسريبات غير رسمية، من خلال اجتماع اللجنة الاقتصادية السورية الإيرانية المشتركة الذي عقد في دمشق بتاريخ 26 نيسان/ أبريل 2023، واتفقا على تطوير التعاون بينهما في مجالات الطاقة والنفط والكهرباء والنقل والثقافة وكذلك مجالات التأمين والمصارف والجمارك، كما تدشين ميناء الحميدية على الساحل السوري، كما جرى الحديث عن شراء أراضٍ زراعية، كذلك جاءت زيارة الرئيس الإيراني إلى دمشق بتاريخ 3 أيار/ مايو 2023، لتأكيد الرسالة التي أرادت طهران إيصالها للدول العربية المعنية، بأن إيران باتت مقررة بالصراع السوري، وعليهم أخذ ذلك بعين الاعتبار، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية الإيرانية حسين عبد اللهيان، في تغريده له على (تويتر) قبيل مغادرته طهران: “إن أهمية الزيارة تدلّ على انتصار الإرادة السياسية للمقاومة علاوة على أبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية[15].
  3. لعل العقبة الأكبر تقبع في العقوبات الأميركية المفروضة على النظام السوري، كقانون قيصر وقانون الكبتاغون، والقانون الجديد الذي أقرته لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي وينتظر التصويت عليه في غرفتي البرلمان الأميركي، وفي حال إقراره سيمنع الإدارات الأميركية من الاعتراف ببشار الأسد رئيسًا لسورية، ويمنع الاعتراف بأي حكومة يرأسها، إضافة إلى عقوبات أخرى.

من الواضح أن الولايات المتحدة، التي لا تني تؤكد في بيانات وزارة خارجيتها أو الناطقين باسمها أنها لن تطبع مع النظام، ولا تشجع الآخرين على ذلك، لا تتبع سياسة نشطة لمنع حركة التطبيع، إلا أنه لا يمكن للأطراف العربية تجاوز العقوبات الأميركية، فالولايات المتحدة منشغلة في الملف الأوكراني، ولا ضير لديها إن استطاع حلفاؤها تحقيق اختراق ما، ما دامت هي من يتحكم في الحل النهائي، كذلك مواقف الاتحاد الأوروبي، والعقوبات التي فرضها على مسؤولين وهيئات سورية، وقد عنونها الاتحاد مطلع العام الجاري بلاءاته الثلاثة: ( لا للتطبيع، لا لإعادة الإعمار، لا لرفع العقوبات قبل تحقيق حل سياسي للأزمة السورية)، وكان آخرها تصريح جوزيف بوريل رئيس المفوضية الأوروبية الذي “شدد على عدم التطبيع مع النظام وعدم رفع العقوبات عنه، إلى حين تحقيق انتقال سياسي يلبي متطلبات قرارات مجلس الأمن”[16].

  • لعل أعقد العقبات أمام المسار العربي، الذي انطلق للتطبيع مع النظام، يمثلها النظام السوري الذي يجيد المراوغة والمراهنة على عامل الوقت، وعندما يضاف إلى ذلك فقدانه لكثير من قراره السياسي، بحكم تحكم حلفائه موضوعيًا فيه، وليس أدل على ذلك من تصريح وزير خارجية النظام فيصل المقداد، لقناة RT الروسية، بعد ثلاثة أسابيع من اجتماع عمان الخماسي، ومخرجاته الواضحة والمجدولة زمنيًا وتقنيًا، وفق قاعدة خطوة مقابل خطوة، وفي إطار قرار مجلس الأمن الدولي 2254، بقوله: “في اجتماع عمان لم يتم الاتفاق على منهجية خطوة مقابل خطوة، ونحن سوف ننفذ ما يعنينا من القرار الأممي المقصود، وما يعنينا منه محاربة الإرهاب وتنشيط الاقتصاد السوري ورفع العقوبات”[17]، فإلى من كان يوجه كلامه هنا المقداد، ما دام لم يتحفظ على البيان عند صدوره، ولم يرفض أيًا من بنوده، أكان موجهًا إلى الداخل والموالين؟ أم إلى الدول العربية الخمس -وهذا هو المرجح- للقول بأنّ ما كان يعني النظام هو الجانب البروتوكولي، وعودة سورية إلى الجامعة، واستجرار أموال الخليجيين، ودفعهم للضغط على الإدارة الأميركية، ومحاولة رفع العقوبات أو التخفيف منها، ثم سيغرقهم بعدها بالتفاصيل، في ما يخص البنود الأخرى.

رابعًا: خاتمة

من الطبيعي أن تتغيّر سياسات الدول ومواقفها، استجابة لضغوط داخلية، أو تساوقًا مع تطورات إقليمية ودولية، وقد خضع الأردن لكلتا الحالتين، اقتصاد داخلي منهك، وخطر إيراني محدق به من الشرق والشمال، وقد جرّه إلى حرب مخدرات مكلفة سياسيًا واجتماعيًا، وهذه العوامل، مع استسلامه لفكرة بقاء النظام السوري، دفعته إلى محاولة إقناع دول الإقليم والحليف الأميركي، لتقبل فكرة التطبيع مع النظام، ثم جاء الانقلاب في الموقف السعودي، بعد توقيع الاتفاق السعودي الإيراني، ليعطي دفعًا قويًا للحراك الأردني، الذي أثمر إعادة النظام إلى الجامعة وانطلاق مسار اختباري تدريجي، لمحاولة معالجة تداعيات الصراع، في أبعاده الإنسانية الاقتصادية والأمنية والسياسية، وأيًا كانت درجة تفاؤل المتفائلين من موالي النظام، أو درجة الإحباط التي قد تكون أصابت الشعب السوري، فإن التجربة لا توحي بأن المغامرة السعودية والاندفاعة الأردنية سوف تحقق أهدافها المعلنة، فالنظام يصرّ على عدم السير بأي حل لا يبقيه في السلطة، وفقًا لمعطيات الصراع عند هذه العتبة، كما أن حلفاءه لن يسمحوا له، إذا أراد ذلك افتراضًا، بأن يفرّط بما أنجزوه، لذلك فالأكثر ترجيحًا أن يبقى مسار التطبيع يراوح مكانه، وما دام النظام لن يقدّم شيئًا ذا معنى، فإن الآخرين المحكومين بالعقوبات الأميركية والقرارات الأممية لن يُقدّموا له ما كان يتطلع إليه.


[1] تجارب الأردن تسلط الضوء على حدود العلاقات المتجددة مع سورية- دراسة للباحث في مركز كارنيغي كير الشرق الأوسط أرميناك توكماجيان- تاريخ النشر 6/3/2023- carnegie-mec.org/2023/3/6/ar-pub-89178  

[2] مصدر سابق، تجارب الأردن تسلط الضوء carnegie-mec.org/2023/3/6/ar-pub-89178

[3] المصدر السابق، تجارب الأردن تسلط الضوء carnegie-mec.org/2023/3/6/ar-pub-89178

 [4]مقابلة للعاهل الأردني مع الجنرال هربرت ماكماستر بتاريخ 18/5/2022 https://www.youtube.com/watch?v=aVxBWCNKcPo

[5] تجارة الكبتاغون وسيلة النظام للبقاء اقتصاديا وسياسيا، موقع العربي الجديد، تاريخ 5/4/ 2023 alarabY.co-uk/politics

[6] حبوب الكبتاغون التي حولت سورية إلى دولة مخدرات، موقع سويس انفو، تاريخ3/11/2022swissinfo.ch/ara/ufb/48027332–

[7] ألغام في طريق تطبيع العلاقات بين الأردن وسوريا، موقع الجزيرة نت، https://www.aljazeera.net/politics/2022/5/25

[8] الأزمات المعيشية تلاحق اللاجئين السوريين في الأردن، موقع العربي الجديد، بتاريخ25/3/2022 – alaraby.co.uk/economy

[9] تقرير لمنظمة العفو الدولية بتاريخ 9/6/2021 –amnesty.org/en/wp-content/u pleads/sites/9/6/2021/mde/160032013ar

[10] الأردن واللاجئون السوريون على موعد مع أزمة خانقة، أيمن فضيلات، موقع الجزيرة نت، 9/1/2020 Aljazeera, net/politics

[11] مقابلة مع العاهل الأردني أثناء زيارته لواشنطن، تموز 2021 hptts:/wwwapwxeddpad5 mbrbpavtc

[12] مبادرة أردنية للحل في سورية فهل ترى النور؟، موقع اندبندنت عربي، independente arabia.com/nod/434541/

[13]للمزيد حول المبادرة الأردنية، انظر: المبادرة الأردنية للحل في سورية، شروط النجاح غير متوفرة، تقارير عربية بتاريخ23 2023/3/ 23alaraby.co%3Buk%2Fpolitic

[14] بيان اجتماع عمان الخماسي حول سورية، موقع عمان نت، 1/5/2023،

https://2u.pw/fxXZZGn

[15] تغريدة لوزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان لمناسبة زيارة رئيسي لدمشق-1https://www.alaraby.co.uk/politics/

[16] الاتحاد الأوروبي لا تطبيع مع النظام، موقع الجزيرة نت، https://www.aljazeera.net/politics/2021/3/10

[17] مقابلة لفيصل المقداد مع محطةRT الروسية بتاريخ 23/5/2023–نقلًا عن موقع أورينت نت https://www.youtube.com/watch?v=DPZ6tSdx84o