تكثر التنبؤات والتوقعات حول الآثار التي سيتركها انتشار وباء كورونا، على مختلف مناحي الحياة، وتذهب الخيالات بعيدًا أو قريبًا، خاصة أن الإجراءات الواسعة والشاملة وغير المسبوقة في التاريخ، حديثًا أو قديمًا، قد شلّت الحياة في جميع دول العالم تقريبًا، أو على الأقل في الدول الكبرى الأكثر أهمية والأكثر فاعلية، في كل جانب من جوانب الحياة، سواء كان بسبب حصتها من الاقتصاد العالمي، أو حصتها من الصادرات، أو تحكمها في أسواق المال والأعمال والسلع والاستثمارات، أو موقعها السياسي الحاكم، إضافة إلى امتلاكها التكنولوجيا والأسلحة الفتاكة والجيوش، حيث تستطيع أن تفرض، عبر قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إراداتها على بقية دول العالم، التي تنصاع لها، أو تقلّدها وتتبع نهجها في ما تفعل، ومثالنا الأخير هو اتباع إجراءات كورونا الشاملة والحجر الشامل غير المسبوق على الناس، وتعطيل الحياة الذي يتبعه العالم أجمع، فلو أنّ دولة صغيرة في العالم هي من واجه كورونا بمثل هذه الإجراءات في البداية؛ لكانت الآن موضع سخرية الدول الكبرى ووسائل إعلامها، ولكن لأنها الصين الكبرى التي تنافس على الموقع العالمي الأول في كل شيء، فقد هرعت دول العالم المتقدمة لتتبع النهج الصيني، بعد تردد دام قرابة ثلاثة أشهر، ولكنها أخذت به في النهاية، فتبعتها جميع دول العالم الثالث والرابع والخامس، دون أن تدرس تلك الإجراءات: أهي إجراءات فعالة ومناسبة أم لا!

تأثيرات مؤكدة على الاقتصاد:

من الآثار المباشرة والواضحة لانتشار كورونا، تأثيره على المعدلات السنوية لنمو الناتج المحلي الإجمالي، وهو المؤشر الرئيس للأوضاع الاقتصادية، فإيقاف جزء كبير من نشاط الأفراد، والمؤسسات الخاصة والحكومية، يؤدي إلى تراجع الإنتاج، وإلى تراجع الاستهلاك عمومًا، وتقلص الطلب، كما يؤدي إلى تعطيل كبير في الطاقات الاقتصادية، الصناعة والتجارة والنقل والسياحة وغيرها من قطاعات الاقتصاد. ويُعدّ مؤشر أسعار النفط من أهمّ المؤشرات وأكثرها دلالة؛ لأن الطاقة ملازمة لكل إنتاج وكل نشاط بشري، وقد تدهورت الأسعار اليوم إلى 18.5 دولار أميركي للبرميل، وهو أدنى سعر يبلغه البرميل خلال 18 عامًا الأخيرة. وإذا استمرت الأسعار في الانخفاض؛ فسيكون لذلك آثار مدمرة على البلدان المصدرة للنفط، مثل بلدان الخليج والعراق والجزائر وليبيا وإيران وروسيا أيضًا.

يتوقع أن يترك انتشار فيروس كورونا آثارًا سلبية على نمو اقتصاديات مجموعة العشرين، وهي أكبر اقتصادات العالم. وبحسب وحدة التحليل The intelligence Unit في مجلة الإيكونوميست The Economist  البريطانية، فإن جميع دول مجموعة العشرين (وهي صاحبة أكبر 20 اقتصادًا في العالم) سوف تسجل ركودًا هذا العام 2020، عدا ثلاثة بلدان منها، وسوف ينكمش الاقتصاد العالمي بنسبة – 2.5 %، بدلًا من توقع سابق لنمو إيجابي + 2.3 %. إذ سيخفض نمو الصين عام 2020 إلى + 1 %، بينما كان + 6.1 % في عام 2019، بينما تواجه الولايات المتحدة انكماشًا بمعدل – 2.9 %، وستواجه مجموعة دول في أميركا الجنوبية انكماشًا بمعدل مرتفع، مثل الأرجنتين -6.7 % والبرازيل -5.5 % والمكسيك -6.5 %، وكذلك كل من جنوب أفريقيا والسعودية -5 %. ومثلها ستواجه أكبر اقتصاديات أوروبا انكماشًا بمعدل مرتفع أيضًا يبلغ في ألمانيا -6 % وفرنسا -5 % وإيطاليا – 7 % وبريطانيا -4.7 %. بينما سيبلغ الانكماش في روسيا – 2.6 %، وفي تركيا -3.5 %، وفي كندا – 3.2 %. وستكون بلدان جنوب شرق آسيا هي الأقل تضررًا: أستراليا -0.5 %، واليابان -1.5 %، وكوريا الجنوبية -1.8 %. أما الهند فستحقق نموًا إيجابيًا بمعدل + 2.1 %، وإندونيسيا +1%.

ستكون معدلات الانكماش أكبر، إن استمر الإغلاق بمعدلاته الحالية، ولكن سيستمر التأثير بنسب أقلّ في حال عودة القطاعات إلى الإنتاج وعودة الحياة تدريجًيا، مع استمرار بعض الإغلاقات والقيود، أي إن الآثار قد تكون أكبر مما ورد أعلاه، في حال ظهور موجات ثانية أو ثالثة من الوباء، أو مع اقتراب فصل الشتاء في بلدان الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، واحتمال انتشار الوباء بشكل أوسع في بلدانه، فهذا من شأنه أن يزيد من تباطؤ النمو.

لقد أنتج الإغلاق في دول العالم معدلات بطالة مرتفعة، قدّرت خلال الفترة الأولى بنحو 25 مليون عاطل جديد، وستكون أعلى من ذلك، في حال تمديد مدة الإغلاق، وستتركز معدلات البطالة في دول العالم الفقيرة التي قلدت الدول المتقدمة في خطوات الإغلاق، دون أن تخصص برامج لتعويض المؤسسات الصغيرة والكبيرة، كي لا تقوم بتسريح عمالها، أو لتعويض الذين يعملون لحسابهم، وهذا ما فعلته البلدان الغنية، بينما تعجز البلدان الفقيرة عن فعل ذلك. وهذا يعني أن آثار الإغلاق على الناس في البلدان الفقيرة أكثر كارثية، وهي غالبية بلدان الأرض وشعوبه، وستدفعهم في النهاية إلى كسر الإغلاق والخروج في مواجهة إجراءات حكوماتهم، رافعين شعار “الموت بكورونا ولا الموت جوعًا”.

الأثر المحتمل على العولمة:

ليس أدلّ على عمق العولمة اليوم من أن دول الكرة الأرضية كلها تواجه مشكلة واحدة، وتتخذ الإجراءات ذاتها تقريبًا في الوقت ذاته، ويرتبط مصير جميع الدول بنجاح إحداها في تطوير لقاح وإنتاج دواء. وقد أصبح من الصعب فكّ عرا هذا الترابط. طبعًا لا مجال لاستعراض تشابك العالم مع بعض، واعتماد كل مجتمع على أسواق المجتمعات الأخرى في تصريف منتجاته، أو الحصول على مواده الأولية أو آلاته وعلومه واختراعاته، وحتى منتجاته الثقافية والفنية، فكلها تصبح معولمة. وفي الوقت ذاته، نرى مواقف لاعبين كبار تنقلب، فأميركا كانت عرّاب العولمة، وبخاصة منذ الثمانينيات، بينما كانت الصين تعادي العولمة، وصارت المواقف تنقلب اليوم، حيث يعود ترامب ليدعو إلى سياسات تتعارض مع سياسات الانفتاح العولمي، وإلى عودة الاستثمارات والصناعات، ومن ثم عودة فرص العمل إلى الولايات المتحدة، وثمة توجهات مماثلة في أوروبا، ولكنها ليست بوضوح توجهات الولايات المتحدة، بينما نرى الصين تجدّ السير في طريق العولمة، فتوطد علاقاتها التجارية والاستثمارية والاقتصادية مع دول العالم المتقدمة والنامية، ولها غايات متباينة من هذه العلاقات، وهي تطرح منذ 2013 مشروعها الإستراتيجي العولمي “الحزام والطريق”.

يتوقع أن تخرج الدول النامية من أزمة كورونا مثقلة بديون أكثر؛ فالإيرادات العامة تتراجع مع إجراءات الإغلاق، وهي ضعيفة في الأساس، بسبب فساد الأنظمة وسوء الأداء الاقتصادي، بينما تستمر الحاجة إلى الإنفاق، وهذا سيضع العديد من البلدان النامية على حافة أزمة ديون حادة، ويؤثر سلبًا في الاستثمار والنمو. وقد تواجه المصير ذاته دولٌ متقدمة مثل إسبانيا أو حتى إيطاليا.

يفضح انتشار الوباء فسادَ النظام السياسي والاجتماعي الذي يسود العالم، ويُبرز الخلل في العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وشبكة الضمان الاجتماعي ودور الدولة ودور البنوك وأسواق المال والعملات الرقمية والطابع الريعي للنظام القائم على تقديس الربح.

الصراع الأميركي الصيني على المكان الأول:

أدت إجراءات انتشار وباء كورونا إلى أن يخرج الصراع الصيني الأميركي إلى العلن أكثر. وكانت نُذره قد بدأت قبل سنوات، وخاصة منذ تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة، ويستغل ترامب المناسبة ليسمي كورونا “الفيروس الصيني”، وبدأت بعض الأوساط الأميركية برفع صوتها، مطالبة الصين بدفع التعويضات، مقابل الأضرار التي سببها انتشار الفيروس، بينما بدأت دعوات من الصين تقول إن الفيروس إنتاج أميركي موجّه ضد الصين، ومن المحتمل أن نشهد مقدمات حرب باردة جديدة، بين الولايات المتحدة والصين، تخرج إلى العلن، كما كان مع المعسكر السوفيتي السابق، فقد باتت الولايات المتحدة أكثر خشية من تزايد دور الصين، على حساب دورها العالمي، وستكون جبهة الاقتصاد وسياسات التجارة الدولية والاستثمار هي ميدانها الرئيس، بينما كان ميدان السياسة وسباق التسلح هو ميدان المواجهة، بين الحلف الغربي والحلف السوفيتي السابق، أما الصين فقد اختارت أن تستعمل سلّم الاقتصاد كي تصعد عليه، لتلعب دورًا سياسيًا بعد حين. ويتوقع أن تعمل الولايات المتحدة مستقبلًا على حرمان الصين من كثير من منجزات التقدم التكنولوجي الذي كانت الصين تستفيد منه، وعلى حرمانها من الاستثمارات، مثلًا شهدنا قبل شهور معركة ترامب ضد شركة “هواوي” الصينية، ولا يُعرف كيف سيكون موقف أوروبا من الحرب الصينية الأميركية، ولكن لن يكون ذلك مهمة سهلة.

أي نظام نريد أن نعيش فيه؟

يفضح انتشار الوباء فسادَ النظام السياسي والاجتماعي الذي يسود العالم، ويبرز الخلل في وضع العدالة الاجتماعية، وعدالة توزيع الثروة وشبكة الضمان الاجتماعي ودور الدولة ودور المؤسسات المالية (البنوك) وأسواق المال والعملات الرقمية والطابع الريعي للنظام القائم على تقديس الربح، خاصة أن العقود الأربعة السابقة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، شهدت اندفاع السياسة الليبرالية الجديدة “النيوليبرالية” التي تقدس الربح وتضعه فوق كل قيمة، وتراجعت شبكة الضمان الاجتماعي في جميع دول العالم، وخاصة في دول العالم الثالث والدول المفتقدة للديمقراطية، وتحولت السياسات الاقتصادية والتجارية والمالية وسياسات أسواق العمل، لتصب في مصلحة رأس المال على حساب قوة المشتغلين؛ فتزايد تفاوت توزيع الثروة، سواء على مستوى كل مجتمع، أو على المستوى العالمي، حتى وصلت ثروات البعض إلى حدود خيالية، وأصبح العالم منقسمًا بين نسبة الـ 1 % التي تكاد تملك كل شيء، والـ  99 % التي تعمل لخدمة الـ 1 %. وبينما نسبة الـ 1 % المنتشرة عبر العالم تنسّق وتخطط وتعمل معًا، للسيطرة على الـ 99 %؛ تبقى هذه الأخيرة مبعثرة الجهود ومشتتة، وتلهو بصراعات ثانوية، أو تركض خلف أوهام ومعتقدات زائفة تبدد طاقتها، بدًلا من التوحد للبحث عن عالم جديد ونظام اجتماعي جديد.

وكما يقول المفكر الأميركي تشومسكي: “الطاعون الجديد المتمثل في النيولبرالية يقودنا إلى الهلاك. لقد تمت خيانتنا من النظم السياسية التي تتحكم فيها النيولبرالية ويديرها الأغنياء، ولا خِيار لنا سوى الخروج من الطاعون النيولبرالي، للتعامل مع الأخطار المقبلة التي تلوح في الأفق في العالم، واستبداله بنظام عالمي إنساني، كي يكون هناك مستقبل للبشرية قابل للبقاء”.