منذ ظهور التجمّعات الإنسانية الأولى، نشأ نوع من القوانين التي تضبط علاقاتها الاجتماعية بعضها ببعض، وقد تطور القانون وواكب تحوّلَ التجمّعات الإنسانية إلى جماعات سياسية، ويمكننا حصر ذلك في أربع مراحل تاريخية: العصور القديمة، والوسطى، والحديثة، وعصر تنظيم الدول[1].
هناك شبه إجماع، بين علماء القانون الدولي، على أنَّ تنظيم العلاقات الدولية لم ينشأ إلا بعد ظهور معاهدة ويستفاليا 1648[2]، ونتج عن ذلك ظهور الدول التي تتمتَّع بالسيادة ولا تخضع لسلطةٍ أعلى منها، كما أسَّست المعاهدة لمبدأ التوازن الدولي، أي أنه إذا ما حاولت دولة أن تتوسع على حساب دول أخرى، فإن على هذه الدول أن تتجمع كي تمنع هذا التوسّع، وهذا يؤدي بالتالي إلى المحافظة على التوازن الدولي العام. وتُعدّ هذه المخرجات قفزة نوعية في مجال القانون الدولي، وقد أثارت نقاشات واسعة امتدت سنوات عدة بين خبراء في القانون الدولي وسياسيين في بلدان عدة؛ ما مهَّد الطريق أمام انعقاد مؤتمرات دولية، على رأسها مؤتمر هلسنكي 1975، وأقرَّ المؤتمر وثيقة هلسنكي[3] التي أوردت مبادئ لإقامة علاقات جديدة في القارة الأوروبية، وقبله مؤتمر فيينا 1815[4] لتنظيم شؤون القارة الأوروبية وإعادة التوازن الدولي، ثم مؤتمرات السلام في لاهاي 1899 و1907[5]، وإن كان طابع المؤتمر الأول أوروبيًا، لكن المؤتمر الثاني أخذ طابعًا عالميًا، ولعلَّ من أبرز ما نتجَ عنها إنشاء محكمة التَّحكيم الدائمة في لاهاي[6]، وهي أول هيئة قضائية دولية، وهذا يعني وجود هيئة يمكن للدول اللجوء إليها من أجل تسوية النزاعات، وإحلال الأمن والسلام.
وعلى الرغم من كل هذه الجهود، نشبت الحرب العالمية الأولى 1914[7]، وتلاها انعقاد مؤتمر باريس 1919[8]، وكان من أهم نتائجه إنشاء عصبة الأمم[9]، وهي أول منظمة دولية عالمية لديها الحق في معالجة المنازعات الدولية التي تهدد السلم[10]. كما أُنشِئت هيئة قضائية للفصل في المنازعات ذات الطابع القانوني، وهي المحكمة الدائمة للعدل الدولي[11]، وكان ميثاق جنيف لعام 1928[12] من أهم الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها عصبة الأمم من أجل تدعيم الأمن والسلم الدوليين.
لم تمنع هذه الجهود الكبيرة أيضًا اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939، التي شهدت نهايتها اجتماع الدول من جديد في نيسان/ أبريل 1945، في مدينة سان فرانسيسكو، حيث أُعلن تأسيس هيئة الأمم المتحدة.
نلاحظ في جميع مراحل تطور الفكر القانوني، وصولًا إلى القانون الدولي الحديث، أنَّ هناك إجماعًا على تحقيق مفاهيم السلام والأمن والعدالة، وضرورة محاسبة ومعاقبة من يقوم بانتهاكها ومخالفتها، واعتبارها ضرورات لا يقوم المجتمع الدولي بشكل متوازن بدونها، ذلك بهدف القضاء على الحروب وتفادي ويلاتها، وقد حقق القانون الدولي الحديث إنجازات نوعية، عندما وصل إلى إسناد مسؤولية شخصية عن خرق السِّلم والأمن، فمسؤولية الدولة لا تنفي مسؤولية الأشخاص، وبرز ذلك واضحًا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية[13] التي أتاحت محاكمة الأشخاص، كما فعلت سابقًا محاكم نورنبوغ[14] وطوكيو[15].
كان كل ذلك من الناحية النظرية، أما عند التطبيق العملي، فإننا نرى خللًا كبيرًا، ويعود هذا الخلل إلى بنية النصوص النظرية نفسها، فعلى سبيل المثال، يعطي ميثاق الأمم المتحدة صلاحيات مطلقة[16] للأعضاء الخمسة دائمي العضوية في مجلس الأمن، وخصوصًا على الصعيد السياسي، وهو الأهمّ، هؤلاء الأعضاء الخمسة لم تنتخبهم جمعية عامة، إذا افترضنا أنَّ دول العالم كافة تُمثل جمعية عامة، فلم يكن هناك انتخاب ديمقراطي لهذه الدول الخمس، ولا يوجد هناك أي تداول للسلطة، فهؤلاء الأعضاء دائمون مدى الحياة، وهذا تكريس للسلطات ودكتاتورية مصلحية في صناعة القرار[17].
بناءً على ذلك، مَن هي الجهة التي سوف تحاسب مجلس الأمن، في حال فشله في معالجة أزمة تُشكِّل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين؟ ومَن هي الجهة التي سوف تُقيِّم مدى هذا الفشل؟ وإذا رغبت دول العالم في العمل على تعديل ميثاق الأمم المتحدة، كي يصبح أكثر عدلًا وديمقراطية، فإن ذلك يتطلب، وفقًا للمادة 108 و109[18] من ميثاق الأمم المتحدة نفسه، موافقة ثلثي الأعضاء، ومنهم الأعضاء الدائمون، وذلك يعني أنه من المستحيل أن يكون هناك أي تعديل لا يُناسب واحدًا من هؤلاء الخمسة، ولا أعتقد أنَّ أيًا منهم سوف يتنازل عمّا منحه إياه ميثاق الأمم المتحدة من صلاحيات واسعة، تعود على هذه الدول الخمس بمنافع اقتصادية وسياسية تكاد لا تقدَّر بثمن.
ما أودُّ قوله، بكل وضوح، إنه عندما تخرق دولة ما ميثاق الأمم المتحدة أو قواعد القانون الدولي وتُهدد الأمن والسلم الدوليين، فإن مجلس الأمن يتعامل معها ليس من الناحية القانونية المبدئية، بل من الناحية السياسية وفقًا لمصالحه، وقد تستغرق عملية التوافق بين الدول الخمس دائمة العضوية أسابيع أو أشهر أو سنوات، لاتخاذ قرار وتحرّك لإيقاف اعتداء الحكومة المعتدية على جيرانها خارجيًا، أو على شعبها داخليًا، وما حصل في سورية، منذ عام 2011 حتى الآن، أوضح مثال على فشل مجلس الأمن في التَّحرك لوقف تهديد الحكومة السورية الحالية للأمن والسلم الدوليين، بسبب معارضة حليفين دائمي العضوية داخل مجلس الأمن الدولي، وهما روسيا والصين، على الرَّغم من أنَّ حصيلة النزاع تجاوزت -بحسب الأمين العام للأمم المتحدة- حاجز الـ 400 ألف شخص حتى عام 2017[19]، وتشريد قرابة 13 مليون سوري ما بين نازح ولاجئ[20]، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فضلًا عن تدمير واسع للمباني والبنى التحيتة، وباعتراف لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة في جميع تقاريرها[21]، فإنَّ الحكومة السورية برئاسة بشار الأسد قد ارتكبت جرائم ضدَّ الإنسانية في عدد واسع من أنماط الانتهاكات منذ عام 2011، ولا تزال مستمرة في ذلك، وصحيح أن الحالة السورية نموذج صارخ على مدى فشل وتسييس مجلس الأمن، لكنها ليست الحالة الصارخة الوحيدة، فما حصل في رواندا[22] والبوسنة[23] نماذج وأدلة إضافية، والقائمة تطول في سرد النِّزاعات التي فشل مجلس الأمن في حلّها أو عجز، وتكفي الدراسة الموسَّعة الأخيرة حول النزاعات المسلحة في العالم التي أعدّها المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية[24]، ومقره لندن، لإعطائنا تصورًا واضحًا عن ذلك.
في النهاية، صحيح أنَّ الدولة التي تخرق منظومة السلم والأمن والعدالة قد تتعرَّض للعزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية، لكنَّ هذا وحده ليس كافيًا ولا يُنهي اعتداءً أو نزاعًا، ولا بُدَّ من التفكير وإيجاد بدائل أقل تسييسًا وأسرع استجابة في حلِّ النزاعات وتحقيق الأمن، والأهم أن تعتمد على القواعد القانونية وتنطلق من الدفاع عن حقوق الإنسان.
[1] مالكولم إن شو، القانون الدولي (الطبعة الخامسة، مطبعة جامعة كامبريدج [2003]).
[2] معاهدة ويستافاليا 1648، <https://is.muni.cz/el/1423/podzim2008/MVZ430/um/Treaty-of-Westphalia.pdf>
[3] منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا (CSCE): القانون النهائي لهلسنكي، 1 آب 1975، <http://www.refworld.org/docid/3dde4f9b4.html>
[4] مؤتمر فيينا 1814-1815، <https://archive.org/details/congressofvienna00webs/page/n7>
[5] مؤتمرات السلام في لاهاي 1899 و1907، <http://opil.ouplaw.com/view/10.1093/law:epil/9780199231690/law-9780199231690-e305>
[6] محكمة التحكيم الدائمة، <http://www.haguejusticeportal.net/index.php?id=311>
[7] جون غراهام، رويد سميث، دينيس شولتر، الحرب العالمية الأولى، <https://www.britannica.com/event/World-War-I>
[8] الاتفاقية الخاصة بتنظيم الملاحة الجوية الموقعة في باريس في 13 تشرين الأول 1919، 1919 < http://library.arcticportal.org/1580/1/1919_Paris_conevention.pdf>
[9] مكتبة مكتب الأمم المتحدة في جنيف، وحدة التسجيل والسجلات والمحفوظات، تاريخ عصبة الأمم، <https://www.unog.ch/80256EDD006B8954/(httpAssets)/36BC4F83BD9E4443C1257AF3004FC0AE/$file/Historical_overview_of_the_League_of_Nations.pdf>
[10] عصبة الأمم، ميثاق عصبة الأمم، 28 نيسان 1919، المواد (8 و10 و11 و12 و13 و14 و15 و16 و17).
[11] محكمة العدل الدولي الدائمة، < https://www.icj-cij.org/en/pcij>
[12] بروتوكول لحظر استخدام الغازات الخانقة أو السامة أو غيرها من الغازات في الحرب، وكذلك أساليب الحرب البكتريولوجية، <https://www.un.org/disarmament/wmd/bio/1925-geneva-protocol/>
[13] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، << https://www.icc-cpi.int/NR/rdonlyres/ADD16852-AEE9-4757-ABE7-9CDC7CF02886/284265/RomeStatuteAra.pdf>>
[14] محرري الموسوعة البريطانية، محاكم نورمبرغ، <https://www.britannica.com/event/Nurnberg-trials>
[15] المحكمة الدولية للشرق الأقصى، <http://www.un.org/en/genocideprevention/documents/atrocity-crimes/Doc.3_1946%20Tokyo%20Charter.pdf>
[16] الأمم المتحدة، ميثاق الأمم المتحدة، المادة 12(1)، المادة 24(1)، المادة 41،، المادة 42، المادة 43، المادة 48(1)، المادة 53(1).
[17] ديمتريس بورانتونيس، تاريخ وسياسة إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (طبعة تايلور وفرانسيس [2004]).
[18] الأمم المتحدة، ميثاق الأمم المتحدة، المادة 108 والمادة 109.
[19]الصراع في سوريا: 2017 الأكثر دموية للأطفال، تقارير رسمية للأمم المتحدة، 13 آذار/ مارس 2018، <https://news.un.org/en/story/2018/03/1004802>
[20] المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، حالة الطوارئ في سوريا، <<https://www.unhcr.org/ar/58fc758e10.html>>
[21] لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، تقارير، < https://www.ohchr.org/EN/HRBodies/HRC/IICISyria/Pages/Documentation.aspx>
[22] منظمة العفو الدولية، تقرير منظمة العفو 1995 – رواندا، 1 كانون الثاني 1995،<http://www.refworld.org/docid/3ae6a9fe48.html>
[23] منظمة العفو الدولية، تقرير منظمة العفو 1995 – البوسنة والهرسك، 1 كانون الثاني 1995، <http://www.refworld.org/docid/3ae6a9f01f.html>
[24] المؤسسة الدولية للدراسات الاستراتيجية، الآثار الإنسانية للنزاع المسلح في المدن، كانون الأول 2017، <https://www.iiss.org/publications/strategic-comments/2017/armed-conflict-in-cities >