يقوم المنطق الذي يسير عليه النظام؛ ومن خلفه حاميه الدولي روسيا، على فكرة بسيطة وواضحة جدًا للقوى الدولية الأخرى، وهي أنه بات من السذاجة المطالبة بإسقاط النظام عسكريًا، طالما أن البديل الوحيد عنه هو الفوضى التي لا يريدها الغرب، وأن القوى الغربية لا تريد التدخل العسكري لإسقاطه منذ البداية، بينما تم الانتصار على التهديد الداخلي القادم من قوى المعارضة المسلحة عبر التدخل العسكري الروسي ذاته، بعد أن عجز التدخل الإيراني قبله عن إنقاذ النظام، بالإضافة إلى أنه ليس هناك قوى معارضة سياسية قادرة أو مؤهلة أو “موحدة” لتمثيل الشعب السوري. كما يدركون أيضًا أن أول من لا يعترف بالتمثيل السياسي الحالي للمعارضة؛ المُجسّد بالائتلاف المقيم في تركيا والتابع لأجندتها، هو الشعب السوري ذاته في الداخل والخارج، وأول من ينقض ذلك التمثيل المُعارض هو المعارضة ذاتها.
ضمن تلك المبادئ البسيطة التي يُفترض أن تكون واضحة للجميع، يعلن النظام عن انتخاباته بدعم وتغطية روسية علنيّة. وهو يعلنها على الرغم من معرفة كلّ كائن صغير أو كبير على هذا الكوكب، حتى النظام وحُماته، أن تلك الانتخابات ليست شرعية ولا تمثيلية، وأنها انتخابات مناقضة للقرار الصادر عن مجلس الأمن 2254، وأنها مجرّد مسرحية كوميدية يريد صاحبها منها تثبيت احتقاره للشعب والديمقراطية والقرارات الدولية، عبر إجرائها “كلعبة يلعبها، لا كقيمة يؤمن بها”.
الآن، ضمن ذلك المنطق الواقعي المحكم الإغلاق، ما الذي يمكن فعله من قبل السوريين لمواجهة تلك المعضلة التي قد تؤجل أي حلّ سياسي ممكن سبع سنوات أخرى!
يطرح المحامي السوري أنور البني وعدد من الجمعيات الحقوقية السورية فكرة بسيطة، وهي أنه لا بد من الضغط والعمل القانوني على طرد سورية “النظام السوري” من شرعية الأمم المتحدة، طالما أن الانتخابات المزمع إجراؤها مخالفة للحل السياسي المطروح في قرار مجلس الأمن المذكور أعلاه. وهي فكرة صحيحة منطقيًا وقانونيًا، لكن ما لم يفكر به البنّي وغيره، ويجعل تلك الخطوة القانونية أقرب للمستحيل سياسيًا، هو أنه لا يمكن المضيّ قدمًا في تلك المساعي، ما دام لا يوجد ممثل شرعي آخر عن النظام السوري، فالشرعيّة التي حققها المجلس الوطني ثم الائتلاف السوري لمدة قصيرة تمكّن من خلالها إخراج جوازات سفر وأوراق أخرى للسوريين، لم تعد موجودة اليوم، وليس هناك دولة واحدة تعترف بالأوراق الصادرة عن تلك الهيئات المعارضة، وإخراج النظام من الشرعية الدولية لن تقبل به أي دولة، لأنه سيخلق إشكالات قانونية لجميع الدول في تعاملهم مع السوريين، قبل أن يخلق مشكلة للسوريين أنفسهم في الخارج والداخل، وما نراه واقعيًا هو العكس، حيث تكثّف روسيا جهودها الدبلوماسية مع عدد من الدول العربية لإعادة النظام إلى جامعة الدول العربية كخطوة أولى في سبيل إعادة تأهيله دوليًا.
كما يعلم البنّي وغيره أن قرارات مجلس الأمن القانونية يمكن تأجيلها إلى ما لا نهاية، عندما لا يكون هناك مصلحة قوية للدول الكبرى بتنفيذها الفوري، ونحن نعلم ذلك تاريخيًا بالعلاقة مع إسرائيل والقرارات الدولية الخاصة باحتلالها للجولان أو جميع الأراضي المحتلة بعد 67، ونعلم أيضًا كيفية التعامل مع قرار مجلس الأمن رقم 2118 الخاص بالسلاح الكيمياوي، والذي يجعل مجرد نقل الأسلحة الكيمياوية داخل سورية؛ قبل حتى استعمالها مجددًا، يستوجب التدخل تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهذا ما لم يحصل، بالرغم من استخدام السلاح الكيمياوي وإثبات استخدام النظام له من منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية أكثر من مرة.
تكمن أهمية إقرار أوروبا وأميركا بانعدام شرعية الانتخابات وعدم الاعتراف بها، بأنها ستعوق الجهود الدولية والعربية لإعادة تأهيل النظام والتعامل معه، وستمنع إعادة اللاجئين أو إعادة الإعمار بشكل شرعي، ولكن الدرس الأهمّ الذي تعلّمه بشار من والده، في مواجهة القرارات والعزلة الدولية، هو أن الوقت دائمًا معه ولصالحه، ما لم يكن هناك تهديد عسكري حقيقي لإزالته بالقوة أو خطر عليه من الداخل، فالديمقراطية تغيّر الرؤساء وسياسات الدول وميول الشارع الانتخابي في الغرب، بينما زمن الاستبداد مفتوح ومطلق “أبدي”. فقد تغيّر تسع رؤساء أميركيين في عهد آل الأسد، ورأينا خلال ذلك الزمن الطويل كيف أن التهديد والضغط الذي مثّله جورج بوش الابن أزاله كله باراك أوباما، ويتكرر الأمر ذاته تقريبًا ما بين سياسات ترامب والسياسة الحالية لجوزيف بايدن، والأمر ذاته حصل مع السياسة الفرنسية منذ فرانسوا ميتران الذي زار دمشق عام 1984 لينكر المذبحة التي قام بها النظام السوري للجنود الفرنسيين في لبنان عام 1981، ثم التغير الذي حصل مع جاك شيراك، والتغير المعكوس مع ساركوزي الذي فتح أبواب الشانزليزيه؛ ومعه أبواب التأهيل الدولي، أمام بشار وزوجته ونظامه، ثم حماس هولاند للتدخل العسكري بعد الكيمياوي، وتراجع ماكرون بعده.. إلخ. وفي المحصلة، يعلم الأسد والروس والأميركيون وغيرهم، أنْ لا خطرَ جديًا وعسكريًا خارجيًا على النظام السوري، ولا استعجال أبدًا في تغييره، ما دام لا يشكل خطرًا على مصلحة إسرائيل وأمنها وحدودها، فالأمن القومي الأميركي في الشرق الأوسط ما زال مرتبطًا؛ على عهده منذ السبعينيات، بمسألتي النفط الخليجي وأمن إسرائيل، ولا شيء خارج تلك المعادلة وتفرّعاتها.
الآن. استنادًا إلى أنه لا يمكن إسقاط النظام عسكريًا ضمن واقع وجود روسيا وحمايتها، وعدم رغبة الأميركيين؛ ومن خلفهم إسرائيل، فإنه لم يبقَ أمام المعارضة إلا المجالان السياسي والقانوني كإطار للحركة والمناورة (يمكننا إضافة الجانب الإنساني “اللاجئين”، باعتبارها وسيلة ضغط موضوعية وواقعية، لكن مشكلة اللاجئين قد تتحول ببساطة إلى وسيلة ضغط معكوسة؛ أي ضد المعارضة والشعب السوري، وذلك في حال تم المضي بإعادة تأهيل النظام، بحيث ستصبح ضغطًا على الدول المستضيفة بدلًا من واقع ضغطها على النظام).
المجال القانوني: تعد المسألة القانونية من أهم المسائل المؤسسة لوطنية دستورية على المدى الطويل، فعلى الرغم من غياب ثقة السوريين بالقانون والمؤسسات القانونية المحلية والدولية (ولهذا أسباب تاريخية معروفة)، فإن المسألة القانونية معادلة بأهميتها موضوعيًا وواقعيًا للمسألة السياسية، ولا بد من إعادة الاعتبار لها، وعدم التقليل من أهميتها بأي شكل كان، كما يفعل ثلاثة أرباع المعارضة السياسية. بل يمكننا القول: إن أحد أهم جوانب العمل المعارض التي تحصل ضمن الشروط الحالية لتهافت المعارضة السورية، إنما تحصل من الباب القانوني، لا من الباب السياسي، ويتمثل ذلك العمل القانوني بجهتين صغيرتين: الأولى عمل اللجنة الدستورية التي من النادر أن تجد معارضًا سياسيًا يحترمها، بل يطالب معظمهم بانسحابها من المفاوضات، بالرغم من كونها تحصل على ثلث تمثيلي مواز لثلث النظام، في الوقت الذي ينتصر النظام عسكريًا ولا يوازيها بأي شكل على الأرض؛ والجهة الثانية عمل أنور البني ضمن المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، وبعض المراكز الحقوقية الأخرى، مثل مركز العدالة والمساءلة أو الشبكة السورية لحقوق الإنسان وغيرها، حيث تتركز جهودهم القانونية، بالتعاون مع المراكز الحقوقية الدولية، في رفع الدعاوى وملاحقة مجرمي الحرب في أوروبا، وهو ما بدأ يتطور لينتقل من بلد أوروبي إلى آخر، ويجعل من المستحيل قانونيًا لأي من تلك البلدان إعادة العلاقات مع نظام جرائم الحرب في دمشق. أما باقي الأعمال السياسية البحتة على المستوى المعارض فهي، كما يراها الجميع، لا وحدة لها، ولا اتفاق بينها، ولا رجاء منها، ولا أمل بها لأن تخرج خارج سيطرة الدول الإقليمية المتنازعة، أو تصبح ممثلة شرعية ولو بالمعنى الشكلي الذي يمثله النظام.
المجال السياسي: لقد وجّه المرحوم ميشيل كيلو، في وصيته قبل وفاته، نداء إلى جميع السوريين الديمقراطيين للوحدة وإنتاج عمل سياسي موحد وتجاوز الخلافات، كما أن الدعوات لإنتاج عمل سياسي ديمقراطي فاعل على مستوى سورية لم تتوقف في الآونة الأخيرة، وطلب المراجعات والنقد وإعادة البناء مستمرة من كبار المثقفين والسياسيين المعروفين وغير المعروفين في سورية، وذلك على أمل الوصول إلى خلق طيف ديمقراطي يشكل بديلًا عن نظام الأسد وعن الهيكل الحالي للمعارضة الممثل بالائتلاف. وقد تمثّلت بعض تلك الدعوات بالمعنى النظري أولًا في “إعلان الوطنية السورية” والنقاشات المهمة التي دارت حوله، ثم في صياغة “الجامعة السورية” التي طرحها الدكتور يوسف سلامة، وتسير في المسار العام ذاته لإعلان الوطنية السورية ووصية الراحل ميشيل كيلو أو غيرهما من المبادرات. لكننا سنقول هنا إن تلك الدعوات العامة على طيب نواياها، لن تتمثّل سياسيًا وعمليًا في الواقع السوري إلا بوصفها “أيديولوجيا وطنية” جديدة ومتعالية، ستقف خلف رفيقاتها القدامى؛ أي الأيديولوجيات القومية والماركسية والإسلامية، دون أن تجد لها مكانًا في أي حلّ سياسي ممكن، وينتظره السوريون بكل أطيافهم.
نقد الأيديولوجية الوطنية: تعدّ الأيديولوجيا الوطنية الجامعة، والمكرّسة في خطاب الطبقة السياسية القديمة والمناضلين السياسيين القدامى، إحدى أهمّ العوائق السياسية أمام إعادة تشكيل السياسة وبناء الوطن على أسس دستورية وسياسية جديدة، حيث تحتكم جميع القوى السياسية السورية تقريبًا، سواء تمثّلت بأفراد وشخصيات وطنية أو حركات أو أحزاب أو تجمّعات مدنية/ سياسية، إلى ما سأسميه السياسات الكبرى “الماكروسياسة”، وهي لغة سياسية تتنطع للحديث باسم جميع السوريين، وتسعى لتمثيل سورية كاملة بأرضها وشعبها، وتبني خطابها ومبادئها ومشاريعها على أساس الوطنية السورية الشاملة والجامعة. كما تعتبر الأيديولوجية الوطنية أنها تجاوزت الأيديولوجيات الكبرى التي خرجت منها وما زالت تعيش في داخلها، مثل الأيديولوجيا الإسلامية التي أنتجت حركات الإسلام السياسي وعلى رأسها حركة الإخوان المسلمين، أو الأيديولوجيا الماركسية التي أنتجت جميع أنواع الأحزاب الشيوعية على تنوعاتها وتفرعاتها، أو الأيديولوجيا القومية التي أنتجت الأحزاب القومية العربية كالبعث والناصرية، ثم القومية السورية التي أفرزت الحزب القومي السوري. ومثلما كان الحديث عن سورية وحدها سابقًا، تبعًا لتلك الأيديولوجيات الكبرى، هو حديث في الصغائر، أقل من قيمتها وقيمها وأخلاقها، أو هو دعوة للتجزئة والضعف وتشتيت شمل العرب والمسلمين وفصلهم عن قضاياهم الكبرى وأوطانهم المتخيلة “من المحيط إلى الخليج”، فإن الأيديولوجية الوطنية الجديدة، تعتبر أن كل حديث سياسي اليوم عمّا هو أقل من سورية كاملة هو حديث طائفي أو مناطقي أو إثني، وهو خط أحمر أقل من قيمها وقيمتها وأخلاقها، أو هو دعوة مضمرة أو صريحة للتقسيم أو المحاصصة الطائفية أو الفيدرالية وتشتيت شمل السوريين ووحدتهم الوطنية. ولكن مثلما انتهت الأيديولوجيات الكبرى إلى العكس تمامًا من أهدافها وقيمها وتطلعاتها نتيجة انفصالها عن الواقع وتعاليها واحتكامها للمعايير الأخلاقية المتعالية عن الناس الفعليين وقوى الواقع السياسي، فإن الأيديولوجيا الوطنية الجديدة تتجه غالبًا؛ إن لم يكن بشكل حتمي، إلى النتيجة ذاتها التي انتهت إليها سابقاتها، وإلى العكس الحرفي لمبادئها وتطلعاتها وأهدافها. والمعنى المقصود هنا هو أن امتناع القوى السياسية الديمقراطية والمدنية الراهنة عن العمل ضمن سياسة الصغائر “الميكروسياسة”، وتعاليها عن الطوائف والاثنيات والسياسات المناطقية والتمثيلات الصغيرة، سوف يقود هو ذاته إلى ملء فراغها من قبل القوى الطائفية والميليشاوية، وسينتهي هو ذاته بالشرّ السياسي الذي تهرب منه، أي المحاصصة الطائفية والانقسام الأهلي والسياسي، وصولًا إلى الفيدرالية اللاوطنية (وهي فيدرالية تنتجها قوى الأمر الواقع دون اتفاق سياسي وطني، مما يجعل كل جزء منها تابعًا لقوة إقليمية خارجية، ترعى ذلك الجزء وتستتبعه في الوقت ذاته، وهي ضد الفيدرالية الوطنية التي تقوم على اتفاق واضح وصريح ووطني بين الأطراف السياسية التمثيلية) ونرى في المحصلة أن قوى الأمر الواقع معطوفة على سياسات القوى الإقليمية والدولية، سوف تجعل سورية تتجه بشكل طبيعي نحو النموذج العراقي/ اللبناني الذي تسعى القوى الوطنية إلى الهرب منه، وتتعالى عليه، ولا تكف عن التخويف به ومنه، دون أن تلاقيه بأي فعل سياسي جدّي بعيدًا عن الطروحات الوطنية المثالية التي تنيخ تحت أحمالها الأخلاقية والأيديولوجية الكبرى، بينما هي لا تسمن ولا تغني من جوع.
المفارقة المضحكة المبكية أنّ الأحزاب اليسارية/ الشيوعية والقومية كانَت (وربما ما زالت) تعتبر أحزابًا تقدمية في رؤيتها للواقع العربي، مثلما تعتبر الأيديولوجيا الوطنية اليوم تقدمية قياسًا بالرؤى ما دون الوطنية، لكن لماذا لا يقودنا التقدم إلا إلى الوراء، ولا يقودنا الإجماع إلا إلى التقسيم، فتلك مسألة لا يعلمها إلا الله، وأما النهاية بحضن العسكر أو الإسلاميين، فلا تجد من يفسرها سياسيًا إلا بخطأ الواقع وصحّة النظرية، أو بالمؤامرات والاحتلالات والعوامل الخارجية، بينما يبقى التوجه نحو الذات ونحو القوى السياسية ذاتها لإعادة النظر الجذرية في سياستها وقيمها وأخلاقها ومبادئها وطروحاتها النظرية، تبقى جميعها خارج التفكير والمراجعة والعمل.
ليست مشكلة الأيديولوجيا الوطنية إذًا نابعة تحديدًا من توجهها الوطني الشامل؛ فهذا أمر محمود بذاته بالمعنى الأخلاقي، لكن في قيامها كليًا على الضدّ مما تسمّيه “تحت وطني”، وفي إلغائه تمامًا من خطابها السياسي، وإنكاره واقعيًا، وإدانته أخلاقيًا، والتعالي عليه سياسيًا. وهذا ينطبق حرفيًا على كل واحدة من الأيديولوجيات الكبرى السابقة، فمن المعروف أن الأحزاب القومية، وعلى رأسها حزب البعث الذي انقسم إلى سلطتين متجاورتين وعدوتين في سورية والعراق، عندما وصل إلى السلطة، فرض رؤيته للوطن والوطنية على الشعب وعلى جميع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، وجعل كل من لا يشاركه في مبادئه ورؤاه الوطنية بمنزلة عميل أو خائن للوطن، ومن المعروف أيضًا أن الرؤى القومية “المثالية والجميلة” لحزب البعث انتهت بإخراج الباطن الحقيقي، الذي قامت عليه تلك الرؤى لعقود متواصلة، إلى السطح، فتبين للجميع أن تلك الوطنية التي تأسست على مبادئ قومية، لم تكن في الحقيقة إلا طائفية مُغلّفة بشعارات قومية فارغة، لكن الشعارات القومية الفارغة كان لها وظيفة في غاية الأهمية في الواقع، وهي إضفاء الطابع الأخلاقي والشرعية الأخلاقية على أيديولوجية الحزب، ومنع المزايدات الوطنية في الداخل، فمن يمكنه فعليًا رفض تلك المبادئ الأخلاقية/ السياسية العالية التي قام عليها الحزب! (الأمر ذاته يمكن تطبيقه على حركة الإخوان المسلمين). لكن الواقع جرى بالضبط بعكس اتجاه المبادئ، فالعمق الطائفي الذي قامت عليه السلطتان الوطنيتان/القوميتان هو ما تفجر بعد 2003 في العراق و2011 في سورية، ويا للمفارقة، كانت نتائج الاحتلال هي ذاتها نتائج الثورة: تقطُّع الخيوط الواهية للتماسك الوطني، وظهور الطائفية التي أخفاها كلا النظامين في بنيته العميقة وفي بنية المجتمع كاملًا، إلى العلن، وبقاء المبادئ المتعالية مكانها، زينة للحياة الدنيا والآخرة عند أتباع صدام والأسدين.
ليس لدى كاتب هذه السطور أدنى شك في أن سورية لن تتقسّم إلى دول، فهذا غير ممكن على الإطلاق ضمن الترسيمة الدولية الموجودة، ومانع التقسيم بهذا المعنى هو مانع خارجي قبل أن يكون داخليًا، ولكن بالمقابل فإن احتمال تقسيمها إلى كانتونات تقوم على حرب أهلية كامنة أو معلنة، ترعاها من جهة، وتمنع خروجها عن السيطرة من جهة ثانية، القوى الدولية الفاعلة والموجودة على الأرض؛ أي أميركا وروسيا وتركيا وإيران، هو احتمال واقعي جدًا، إن لم يكن هو الواقع. ولذلك لا بد من تصويب الحديث عن التقسيم لكي تتوضح الفكرة:
لقد قسّم العلم الحديث الإنسان إلى ألف قطعة واختصاص من الجلد حتى النخاع، ومن الرأس حتى أخمص القدمين، دون أن يعني ذلك أن الإنسان نفسه تقسّم، وقسّم الفكر السياسي الحديث السلطة؛ منذ جون لوك إلى ثلاث سلط، ثم إلى آلاف السلطات الجزيئية التي تحكم المجتمع وتضبطه، دون أن يعني ذلك نهاية الدولة وتقسيمها فعليًا، ولم يبقى شيء معاصر خارج التقسيم، الحب والموسيقى والسياسة والديمقراطية والليبرالية والحرية وكل مجالات الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية والجماد، دون أن يعني ذلك نهاية أي من تلك الكليات المفاهيمية أو الوجودية. لكننا ما زلنا، بقيادة يسارنا وإسلاميينا ونظامنا ومعارضتنا، إن تحدث أحدهم عن تقسيم السلطة أو إدارة ذاتية أو لا مركزية أو فيدرالية أو أي نوع من أنواع التقسيم السياسي، يتم اتهامه مباشرة بالسعي للمحاصصة الطائفية أو تقسيم البلد أو خيانة الوحدة الوطنية، وكأن طوائفنا غير طائفية، وبلدنا غير مقسّم بقوى الأمر الواقع، وكأن الوحدة الوطنية تشرشر من السوريين أينما حلّو، فلا مشكلة بينهم ولا خلافات ولا صراعات تذكر. المهم هو النظرية، فالنظرية دائمًا صحيحة والواقع هو الخاطئ، الإسلاميون يقولون ذلك عن الإسلام، والماركسيون عن ماركس، والقوميون عن القومية، وأخيرًا الوطنيون عن الوطنية، دائمًا نظرياتهم صحيحة، ولا بد من تعديل الواقع ليتطابق مع النظرية، حتى لو قاد ذلك إلى تحطم الواقع ذاته فوق رؤوس أصحابه.
إذًا؛ لا بدّ من خلق سياسة جديدة ومعيار وطني جديد، يقوم فعليًا على هدم جميع الأصول السياسية المؤسسة للأيديولوجيات الكبرى، وأولها الأيديولوجيا الوطنية الجديدة، وذلك عبر إنتاج حركات وكتل سياسية ديمقراطية ومدنية على مستوى المناطق الصغيرة والمحافظات والمدن (على طريقة التجربة الرائدة للجان التنسيق المحلية) وربط تلك الكتل السياسية بين سوريي الداخل والخارج على مستويات صغيرة، وإنجاز المشاريع والتوافقات ومفاهيم العمل السياسي والمالي وخطط الدعم والمطالب على تلك المستويات، ثم إجراء التحالفات البينية والمفاوضات بين تلك الحركات الديمقراطية على مستوى البلد، لربما تخرج كل منطقة بقوة سياسية حقيقية تمثيلية لشعب تلك المنطقة، ومتشابكة مع الناس العاديين وأفراد المجتمع المحلي، وذلك لتصبح بديلًا عن قوى الأمر الواقع التي هي “حثالات” المجتمع حرفيًا، وأكثر فئاته طائفيةً وانحطاطًا وتعصبًا وضيق أفق، وأكثرها قابلية لتمزيق المجتمع السوري وإخضاعه للاستبداد أو القوى الخارجية.
إن البديل الديمقراطي الفاعل لا بد أن يبدأ بالسياسات الصغرى، ويحتكم للسياسة “الميكروية” لكي يصل “تجميعيًا وتركيبيًا” إلى صياغة السياسة “الماكروية” الكبرى للبلد، إن تسنى لنا ذلك، وأما التعويل على خلق “أكثرية سياسية وطنية من جميع الطوائف” أو خلق كتلة وطنية ديمقراطية من جميع الأحزاب القديمة، أو تجميع عشرة آلاف سوري ديمقراطي على ما أراده حزب الجمهورية، فهي طروحات طوباوية لن تنجح على مستوى سورية، حتى لو بقينا مئة سنة أخرى على الحال الذي نحن عليه اليوم.
إن ما يجعل مصيرنا “الحتمي” كمصير لبنان أو العراق هو تعالي الأحزاب القائمة والسياسيين والمثقفين السياسيين عن العمل في الصغائر والسياسات الصغرى، وانشغالهم في السياسة الكبرى على مستوى الوطن السوري كله، وعندما نقوم بنقد الوطنية الجامعة التي تم طرحها وتداولها من المثقفين والسياسيين، فلأنها وطنية صادقة من حيث النيّات الطيبة برأينا، لكنها وطنية فارغة ومثالية ولا قيمة لها على أرض الواقع إلا بما يطرب الآذان ويخدّر العقل، فليس هناك وطنية جامعة تبدأ من الأعلى إلى الأسفل إلا لاقت مصيرها في إحدى النهايتين: إما في السياسات الشمولية المطلقة، وإما في عدم التأثير والخروج النهائي خارج اللعبة السياسية، وكل وطنية جامعة لا تبدأ من تجميع الصغائر والكتل الفردية والجماعية الصغيرة والمناطقية هي وطنية ستنتهي خارج الوطن، وستبقى أعلى منه، ولن تمثل يومًا مصلحة مواطن واحد، فضلًا عن تمثيل المواطنين السوريين باختلافاتهم وتنوعاتهم.
أخيرًا، إن الانتخابات الرئاسية غير شرعية، هذا صحيح، ولكن صحّته مرتبطة أيضًا بواقع أنه لا توجد جهة أو قوة واحدة شرعية في سورية اليوم، روسيا غير شرعية كونها مستقدمة من نظام فاقد لشرعيته الشعبية، وتركيا غير شرعية؛ لا هي ولا جبهة النصرة التي تحكم في إدلب، وأميركا غير شرعية، والتمثيل الكردي غير شرعي، ما دام محكومًا بأجندة حزب PKK الكردي/ التركي، وإيران غير شرعية، لا هي ولا ميليشياتها التي تملأ البلد من الجنوب إلى الشمال والشرق، والأسد يقف كحلقة وصل لا شرعية بين جميع تلك القوى.
ولذلك لا بدّ من توضيح أهم الجوانب المغفلة عند الحديث عن الشرعية، وذلك ابتداء من أن مسألة الشرعية في سورية اليوم هي مسألة صراع على الشرعية، وهو صراع سياسي وعسكري، محلي ودولي وإقليمي، دموي ولا أخلاقي ولا مكان فيه للأخلاق، ومن هنا، فإن ما يمكن قوله بخصوص الشرعية هو ذاته ما يمكن قوله بخصوص الوطنية، ويجب تحديده على النحو التالي:
ليس هناك شرعية وطنية جاهزة في سورية، لا لدى النظام ولا المعارضة، وليس هناك وطنية شرعية ومشروعة في سورية عند جميع الأطراف، ولذلك لا بد من صناعة الوطنية وصناعة الشرعية على أسس جديدة تمامًا ومختلفة كليًا عمّا هو قائم، وصناعة الشرعية الوطنية أو الوطنية الشرعية تبدأ من الأدنى إلى الأعلى، ومن داخل الطوائف والاثنيات والجماعات والمناطق والمدن، ومن الدوائر الصغرى إلى الدوائر الكبرى وليس العكس، لأن الخيار الآخر للشرعية والوطنية هو خيار القوة المحض؛ أي فرض الوطنية من طرف واحد، وفرض الشرعية بانتخابات مزوّرة على نحو دائم، وهذا الخيار؛ الذي اتخذه النظام سابقًا، لن يؤدي إلا إلى الحرب الأهلية الدائمة، مهما استمر الصراع القائم. ولكن أليس هذا النوع من الشرعية هو ما يُفترض أن تقف ضده المعارضة! وكيف سيحصل ذلك إن كانت تنظّر للشرعية فكريًا وتعمل عليها سياسيًا بالأدوات الأخلاقية والأيديولوجية والسياسية المتعالية ذاتها التي قام عليها النظام الذي تعارضه!