مناقشة من خارج النص
“كيف لعاقلٍ أن يشرع باجتهاد قوانين تنظّم مختلف جوانب الحياة في المجتمع، في حين أن الله قد شرع لنا قانونًا، ما لبثنا أن ضللنا عنه حتى هلكنا؟!”… بهذه العبارة الحاسمة، أو بما شابهها، يبتدئ كل منظّري ومؤيدي نظريّة “حكم الله” أو “حاكميّة الله” على الأرض، حجّتهم لدحض أي محاولةٍ تنويريّةٍ تسعى للتغيير والانتقال نحو التعايش مع مفردات الحرية والديمقراطية والمساواة.
وقبل أن نتوقف عند عبارة “حكم الله” أو “حاكمية الله”، لا بد أن نعرّج بإيجاز على هذا المصطلح.
يمكننا أن نوجز المقصود بمصطلح “حاكمية الله” على أنه إفراد الله وحده في التشريع والحكم، انطلاقًا من آياتٍ عدّة يستشهد بها منظّرو هذه النظريّة، منها قول الله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ وقوله: ﴿وَلَا يُشْرِك فِي حُكْمه أَحَدًا﴾ وقوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ وقوله: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾، وغيرها من الآيات والأحاديث النبوية.
ويذهب البعض إلى أنّ أول استخدامٍ لذلك المصطلح كان خلال معركة صفّين، بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، عندما رأى فريقٌ من أنصار علي أنّ رفع أنصار معاوية للمصاحف على أسنّة الرماح كان دعوةً لتحكيم “شرع الله”، في حين رآها عليٌّ محض مكيدة. ثم أتى فقهاء مسلمون كثر بعد ذلك بمراحل زمنية مختلفة، بمبدأ “توحيد الحاكمية لله” كابن تيمية، وابن القيم، وابن عبد الوهاب، على سبيل المثال، ليعيد تحديثها أبو الأعلى المودودي في الهند، إبان الاحتلال البريطاني، وترجمها عنه السيد قطب لتصبح تلك النظريّة، بالتدريج، الأساسَ الذي صار شعارًا لتيارات الإسلام السياسي عمومًا، على اختلافها، شيعةً وسنة، ويا للمفارقة!
لن أخوض في مقالي هذا بجدل “التفسير الصحيح” لتلك الآيات؛ لأن “التفسير الصحيح” لتلك الآيات، ولغيرها من آيات القرآن، أو أي كتاب مقدس آخر، هو ما يعدّه كلٌّ منا تفسيرًا صحيحًا، أي لا وجود لـ “تفسير صحيح” وحيد يعتمده الجميع وفي كل الأزمنة، لمعظم الآيات والنصوص القرآنية، منذ تنزيل القرآن حتى يومنا هذا، أو لنقل إنّ كل التفسيرات تبدو صحيحةً، بالنسبة إلى معتقدي المذاهب والطرق والفتاوى، وكلٌّ يعتمد تفسير شيخه، وقد أنتج ذلك عبر قرونٍ متعاقبة مئات المذاهب والطوائف والملل، كلٌّ منها يقوم -بالنسبة إليه- على “التفسير الصحيح” للقرآن.
ولن أدخل بجدالٍ قائمٍ على التأكيد على ضرورة عدم انتزاع تلك الآيات من سياقها بالنص، واجتزائها من سياقٍ أشمل، ليتم استخدامها لأغراضٍ سياسيّةٍ أو دنيويّة، لأن ذلك أيضًا جدالٌ يدخل في إطار “التفسير الصحيح” لتلك الآيات، وهو جدال عدميٌّ وغير منتهٍ، لأن لكل منا تأويلاته التي تستند إلى تفسيرات لغوية ودينية وظرفيّة مختلفة.
ولن أخوض في تاريخانية تطور تلك النظرية “حاكميّة الله”، وغرضها الوظيفي سياسيًا في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي، وآخرها كان في المملكة العربية السعودية التي تبنّت الوهّابية القائمة على مبدأ الحاكمية، منذ تأسيسها، لدوافع سياسية محضة، حيث صرّح وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لصحيفة (واشنطن بوست)، بأن بلاده “نشرت الوهّابية، بطلبٍ من حلفائها لمواجهة النفوذ السوفيتي” آنذاك.
لكني سأحاول أن أناقش المصطلح ذاته “حاكمية الله”، ولا بد أن يثير هذا في الذهن العديد من التساؤلات بالحقيقة. أليست الأكوان كلّها -بالنسبة إلى المؤمنين- تحت حكم الله وإرادته أصلًا؟! أم أنّ “حاكميّة الله” يمكن أن ينازعه عليها بعضٌ من البشر أو من مخلوقاتٍ أخرى؟ ألا ينطبق مبدأ الحاكميّة الإلهيّة على جميع مخلوقاته وعلينا، سواء كنا مسلمين أم عصاة أم غير مؤمنين بالأصل؟ ألم يكن الله متفردًا في الحكم والتشريع حتى قبل رسالة الإسلام؟ ويمكن أن نتجاوز ذلك السؤال الجوهري ونتساءل: كيف “يحكم الله”؟!
غالبًا ما تكون الإجابة المنصوص عليها في كتب “الفقه”، بالاستناد إلى تأويلاتٍ دينية، أن حاكميّة الله تتم بكل بساطةٍ من خلال تطبيق شريعته، شريعته الإسلاميّة “السنيّة” طبعًا، وكي لا أبتعد عن جوهر الموضوع، لن أتساءل: وفق أي مذهبٍ سنيٍّ يجب أن تطبّق شريعة الله، تحقيقًا لحاكميّته؟! وإذا أردْنا أن نذهب خطوةً أخرى مع تلك النظريّة، فهناك تساؤلٌ آخر: من الذي سينوب عن الله في الإشراف والتأكد من فرض شريعته وحسن تطبيقها، كما يريد الله ذاته أن تكون؟ أليس الحاكمَ؟ ومن يعطي الحقّ للحاكم بأن ينوب عن الله في تطبيق شريعته؟ أهو الله؟ أم هي الانتخابات أم الشورى أم الغلبة بالحديد والنار أم ماذا؟!
وإذا سلّمنا بالمقولة الحاسمة الأخرى بأن “القرآن الكريم هو دستورنا”، دستورنا الذي يجب أن نشتق ونستنبط منه كلّ الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تنظم شؤون الخلق والمجتمعات، وتضبط علاقاتهم وتحدد مهماتهم وواجباتهم في مختلف تصاريف الحياة وبالتفصيل، إنفاذًا لحاكميّة الله؛ فمن الذي يحق له أن يترجم للحاكم، ولنا عامة، إرادة الله الخفيّة من بين سطور قرآنه، ليستنبط الأحكام والقوانين والأوامر الإلهية -كما يريدها الله- في ما يُعرف بـ “الفتاوى”، أليس من نسمّيهم “علماء الدين”، أو “رجال الدين”!
فمثلًا، عندما تقول إحدى “الفتاوى” بأن المسلم لا يجوز أن يهنّئ المسيحي بأعياده وأفراحه، وألا يعزيه أو ينعيه حين وفاته، فذلك -وفقًا لأصحاب هذه الفتوى ومن يعتقد بها- لأن الله قد أمرنا بذلك كمسلمين، وليس لأي دافعٍ آخر، ولكن الله لم يقل ذلك صراحةً في كتابه!! إنما “رجال الدين” هم من استنتجوا هذا الحكم، وأخبرونا بأنّه أمرٌ صادرٌ عن الله ذاته، مستندين إلى تأويلاتهم لما جاء في القرآن أو على لسان النبي محمد، لتصبح تلك الفتوى، كما غيرها من ملايين الفتاوى الأخرى، جزءًا من الدين ذاته، وبذلك يكون الاعتراض عليها اعتراضًا على أوامر الله ورغباته!
ثم من الذي يقرّ بصحّة تلك الاشتقاقات والاستنتاجات للأحكام والقوانين من خلال النصوص القرآنية، من عدمها، أليس الحاكم المناب عن الله في تطبيق شريعته؟
وهل تلك “الفتاوى” ثابتة ثبوتَ النص القرآني؟ ألم يلهج “رجال الدين” بفتاوى كانوا قد عدّوا مخالفتها مخالفةً لله ذاته ولدينه وشريعته، ثم عادوا وتراجعوا عن فتاواهم، بل أصدروا فتاوى نقيضة تمامًا بسندٍ من آياتٍ وأحاديث أخرى، وأحيانًا بتأويلٍ مختلفٍ لتلك الآيات والأحاديث التي استندوا إليها ليطلقوا -نيابةً عن الله- أحكامهم السابقة، وذلك بعد تغيّر الظرف السياسي، أو بعد مرور زمنٍ معيّنٍ شعروا فيه -لسببٍ من الأسباب- بضرورة التراجع عن فتوًى كانت قد صدرت في وقتٍ سابقٍ على أنها أمرٌ إلهيٌ، سيعاقب كل من يخالف بالجحيم؟ ويمكننا أن نلحظ بسهولة تناقض “الفتاوى”، بين رجل دينٍ وآخر، في الزمان والمكان ذاته، وكل منهم يدّعي أن “الله” هو من يريد أو لا يريد ذلك.
ألا يغدو التشريع الإسلامي، بذلك، عبارةً عن تراكم هائل من الأنظمة والقوانين والأحكام “الوضعية” التي يتم سنّها وتشريعها باجتهاداتٍ شخصيّة من مجموعاتٍ من الأشخاص، كانوا قد اكتسبوا حقّ “إصدار الفتوى الإلهية” ليس من قِبل الله، وإنما من قبل السلطة؟
ومن ثم؛ أليست الادعاءات المطالبة باستبدال “القانون الإلهي” بـ “القوانين الوضعية”، كذبةً كبرى تعطي الحصانة لـ “فتاوى وضعيّة” دينية، على اعتبارها ذات طبيعة ألوهية، تشكل بمجملها قانونًا إلهيًا، يمكن أن تتغيّر ببساطة بتغيّر الفتوى، المتغيّرة بدورها مع الزمن وبحسب الظرف السياسي واختلاف التأويلات والأمزجة والأفهام!
أليست ما تسمى بـ “مصادر التشريع” ذاتها، كالقياس والإجماع والعرف وغيرها، هي مصادر تشريع “وضعيّة”، ليست لا إلهية ولا جزءًا من الدين، إنما وضعها “فقهاء” كانوا يحاولون ترجمة الأوامر الإلهية في أدق دقائق تفاصيل الحياة، لتصبح تلك المصادر لاحقًا وتدريجيًا جزءًا من الدين ذاته، بل الدين ذاته؟
ألا ينبغي أن نتفق على أن “تأويلات النص الإلهي” أيًا تكن تلك التأويلات والتفسيرات والفتاوى، هي مجرد تأويلات، يمكن نقدها ودحضها وحتى الاستغناء عنها ببساطة، لأنها لا تحمل صفة قداسة النص الإلهي نفسه؟
إن محاولات حيازة السلطة والاستبداد بها، من خلال احتكار “الله” وترجمة إرادته ورغباته بـ “فتاوى” تستنبط وتستنتج من النص الديني وتعبّر عنه، والإصرار على حشر الدين بالسلطة، التي تستمد سلطتها لا من شرعيتها الأخلاقية أو التمثيلية، وإنما من خلال شرعيّةٍ إلهيّة، هو ضرب من ضروب الفكر الخرافي السائد في القرون الوسطى وما قبلها، حيث لم يكن لملكٍ أو حاكمٍ، سواء كان مسلمًا أم غير مسلم، أن يستمد سلطته إلا بوصفه ظلًّا لله على أرضه، حارسًا لشريعته، حاميًا لدينه، ممثلًا لأوامره، وخليفةً لنبيّه.
يكون لدينا، والحال هذه، دينٌ موازٍ، مبنيٌّ على تراكمٍ هائلٍ من الفتاوى والتشريعات التي أرسى قواعدها آلاف الأشخاص “الفقهاء” بانسجامٍ تاريخيٍّ مستمرٍ مع السلطة، شعاره “حاكمية الله” أو “توحيد الحاكميّة لله”، لا يكتفي بإيصال رسالته للناس وتركهم وخياراتهم في الاعتقاد والإيمان أو عدمه، وإنما يتميّز هذا الدين الموازي بكونه أيديولوجيا تعرّف نفسها على أنها شموليّة، وتهدف إلى أن تدار المجتمعات كلّها وفقًا لذهنيّتها وأفكارها وما تعتقد هي أنّه “أوامر إلهية”.
لكنّ ذلك الفكر القروسطي المستند إلى نظريّة “حاكميّة الله”، الذي يَعدّ مناقشته خروجًا عن “الفهم الصحيح للإسلام”، بدأ -مع بدايات القرن الماضي- بالتداعي؛ بفعل حركات التنوير في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، حيث ما زال التنوير يعدّ جريمة سياسية ودينية في آن واحد، وكذلك بفعل سيرورة التاريخ ذاته وحركته، حيث بات يشكل ذلك الفكر نقيضًا تلقائيًا للحياة، وللتطور، وللإبداع، وللعقل ذاته.
شكرا ..
الموضوع شائك ومعقد و قد ابدعت في الطرح و اظهار ما يريد ان يخفيه اصحاب اللحى والعمامات بأن ما يسن على ايديهم ما هو الإ حكم إلهي.
نحن بأمس الحاجة الى هكذا آراء تعيد للعقل نوعا من ملكاته علنا نستطيع أن نبني جيل متمرد على الف باء التقليد الذي غطى عقولنا بغباره لاكثر من الف سنة.