الفهرس:
1- مقدمة
2- أزمة الديمقراطية في العالم الغربي
3- أي دور تلعبه الانتخابات في أزمة الديمقراطية؟
4-كيف تجري اللعبة عربيًا؟
5- ما الحكم التقييمي على الانتخابات؟
5-خاتمة
1- مقدمة:
عند طرح مثل هذه الفكرة عن العلاقة بين الديمقراطية والانتخابات، قد يبدو بشكل عام أنه ثمة مغالطة فيها، فالشائع هو أن العلاقة بين الديمقراطية والانتخابات هي علاقة تناسب وتوافق إيجابية، ولا يمكن أن يكون فيها أي شيء متناقض، فالانتخابات بنظر كثيرين هي الجانب التطبيقي الرئيس من الديمقراطية، حيث يقوم الشعب فيها باختيار ممثليه ويفوضهم بمهام الحكم.
مع ذلك فإن كانت العلاقة بين الديمقراطية والانتخابات هي بمثل ذلك التوافق والانسجام والأهمية من الناحية النظرية فقط، فواقع الحال مختلف كثيرًا، وهذا الواقع المختلف لا يخص البلدان غير الديمقراطية أو بلدان الانتقال الديمقراطي فحسب، فوجود إشكاليات ومصاعب وعقبات وتناقضات في ميدان الديمقراطية في هذه البلدان ليس غريبًا، ولكن الأمر يتعداها إلى معاقل الديمقراطية المتقدمة، التي تدل كثير من المعطيات على أن واقع الديمقراطية فيها ليس على ما يرام كما قد يبدو عند النظر إليها من الخارج أو من بعيد.
أما لماذا يجب التطرق إلى هذا الموضوع، فهذا يعود إلى خمسة أسباب:
أولها هو أن الديمقراطية اليوم تطرح كمشروع وطني لا بديل عنه، في العديد من البلدان العربية، ومن بينها سورية، ولذلك فمن الضروري جدًا الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في هذا المضمار.
ثانيها هو أن الانتخابات كثيرًا ما استغلتها الأنظمة العربية المستبدة الحاكمة، ومن ذلك سورية، لإضفاء صبغة ديمقراطية عليها، وإعطائها شرعية ديمقراطية في وقت غدت فيه الديمقراطية مطلبًا عالميًا في معظم العالم المعاصر.
ثالثها هو أنه ليس الأنظمة الحاكمة وحدها هي التي تحاول أن تعطي حكمها شرعية ديمقراطية، فهذه اللعبة، وإن اختلفت الأساليب فيها كثيرًا، تلعبها أيضًا قوى داخلية مغرضة، هي نفسها لا تؤمن بالديمقراطية، كبعض القوى الإسلامية، ولكنها تريد أن تستخدم الانتخابات للوصول إلى السلطة بشرعية ديمقراطية، لأن الديمقراطية، كما سلف الذكر، هي اليوم مطلب عالمي واسع النطاق.
رابعها هو أن الديمقراطية، التي أصبحت اليوم على هذه الدرجة من الأهمية والاحترام في العالم المعاصر، قد تغدو غطاء للتدخلات الخارجية المغرضة في شؤون البلدان العربية، والانتخابات نفسها قد تغدو ذريعة لدعم بعض القوى الدولية لبعض الأنظمة العربية، بذريعة أن هذه الأنظمة شرعية، وتصل إلى السلطة عن طريق الانتخابات، فروسيا مثلًا تدعم النظام السوري، وتبرر موقفها بأنها تدعم نظامًا شرعيًا منتخبًا، والنظام المصري الراهن، الذي جاء نتيجة ثورة مضادة على ثورة يناير الشعبية، هو الآخر يتم الاعتراف به والتعاون معه على نطاق دولي تحت غطاء مثل هذه الشرعية الانتخابية.
وخامسها هو أنه في ضوء ما يجري تحت شعار الديمقراطية من مآسٍ، وما يحدث عند استغلال الانتخابات من مهازل، يجد خصوم الديمقراطية الذريعة للقول بأن الديمقراطية غير صالحة من حيث المبدأ، أو أن الشعوب العربية غير مؤهلة للديمقراطية.
2- أزمة الديمقراطية في العالم الغربي:
هذا الموضوع بات اليوم يُطرح على نطاق واسع في الغرب، خصوصًا مع نمو اليمين المتطرف، والاتجاهات “الشعبوية” التي صارت من القوة بحيث أصبح بمقدورها إيصال حكّام إلى أعلى هرم الحكم، كما حدث مع وصول ترامب إلى الرئاسة الأميركية، أو بحيث تصنع قرارات مصيرية كما حدث في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعن ذلك مثلًا، يقول الكاتب والناقد المصري إبراهيم فتحي: «تصاعدت الحركات الشعبوية في الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب في صور متعددة حتى صارت تسمى بالنزعة الشعبية أو الشعبوية الجديدة. وأصبح الخطاب الشعبوي تيارًا رئيسًا في الديمقراطيات الغربية المعاصرة حتى أن باحثين أطلقوا على الظاهرة “روح العصر” الشعبوية» ([1]).
أما الأديب الحائز على جائزة نوبل، ماريو بارجاس يوسا (Mario Vargas Llosa) من البيرو، فيرى في كتابه “انفجار الشعبوية” أن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي أصبحت الشعبوية هي العدو الأساسي للديمقراطية الليبرالية، ويقول عنها: «تمتلك الشعبوية تاريخًا طويلًا، على الرغم من أنّها لم تصل إلى المدى الذي بلغته اليوم في العالم، وإحدى أكبر الصعاب في مكافحتها تعزى إلى أنّها تلمس الغرائز المغروسة في البشر، مثل روح القبيلة وعدم الثقة والخوف من الآخر، الذي ينتمي لعرق مختلف، أو يتحدّث بلغة أخرى، أو يعتنق ديانة مغايرة، ورهاب الأجانب، والنزعة القومية، والجهل؛ لذلك تنتشر الشعبوية بسهولة في المجتمعات التي تعاني أزمة أو وضعًا لم يكن في الحسبان» ([2]).
مع ذلك، فيجب التركيز على مسألة كبيرة الأهمية، وهي أنه لا يجب النظر إلى أن نمو الشعبوية في الغرب كسبب لتراجع الديمقراطية فيه، بل على العكس من ذلك، يجب النظر إلى نمو الشعبوية كنتيجة من نتائج إخفاق الديمقراطية، وهي ليست النتيجة الوحيدة، فوفقًا لــ “مركز بيو للأبحاث” الأميركي، أقل من خمس سكان أميركا اليوم يثقون في حكومتهم بأنها تمارس السياسة الأمثل في معظم الأحيان، وقد كانت النسبة في عام 1958 ثلاثة أرباع، أما بالنسبة للكونغرس الأميركي، فقد حصل على تقييم سلبي بلغ 69% ([3])، ووفقا لمركز البحوث الرسمي للاتحاد الأوروبي “يورو- بارميتر”، فقد انخفضت نسبة تأييد الأوربيين للاتحاد الأوروبي من 50 % عام 2004، إلى 33 % عام 2012، أي أنها تراجعت بمقدار 27 % ([4])، أما أستاذ العلوم السياسية الأميركي – الألماني ياشا مونك (Yascha Mounk)، فيقول في كتابه “الشعب ضد الديمقراطية”، إن الإحصائيات في عدد من بلدان أميركا الشمالية وأوروبا الغربية تشير إلى أن قسمًا كبيرًا من مواطنيها بات يقبل بحكم متسلط، فثلث الأميركيين باتوا يفضلون رجلًا قويًا يتخلص من قيود البرلمان والانتخابات، فيما وصلت نسبة أمثالهم في فرنسا إلى النصف، بعد أن كانت الربع” في نهاية التسعينات ([5])، ووفقًا لمونك، فذلك يأتي كردات فعل شعبية تتصل بأسباب سياسية ترتبط بتوجه الحكومات الغربية إلى نخب تكنوقراطية ومؤسسات تخصصية واقتصادية عند اتخاذ القرارات، وذلك بسبب زيادة نفوذ القوى المالية غير المسبوق، والتعقيدات التي طرأت على الاقتصاد نتيجة العولمة والتطورات التكنولوجية، فيما يبقى المواطنون بعيدًا عن تلك القرارات الحساسة التي تؤثر في مصائرهم ([6])، كما تتصل أيضًا بأسباب اقتصادية ومعيشية دخلت فيها النظم الغربية في حالة “عدم الإنجاز”، ولم تعد قادرة على الحفاظ على مستويات المعيشة التي سبق أن حققتها من قبل، وبأسباب هويوية ناجمة عن عدم معالجة بعض إشكاليات الهوية بشكل صحيح حاسم، وبأسباب تكنولوجية من أهمها ثورة الاتصالات التي أعطت للقوى اليمينية والمتطرفة الإمكانية غير المسبوقة، والتي لا يمكن للرقابة منعها من الوصول إلى قواعد شعبية واسعة، والنفوذ فيها، مستغلة الأوضاع التي سبق ذكرها،والتي تراكمت آثارها إلى حدود كافية جعلتها قادرة على إنتاج مفاعيل خطيرة، كالمد الشعبوي الراهن ([7]).
وهذا الوضع الذي وصلت إليه الديمقراطية تم تناوله في العديد من الكتب، ومن أواخر ما صدر منها كتاب “ضد الانتخابات دفاعا عن الديمقراطية” للمؤرخ الثقافي والكاتب البلجيكي ديفيد فان ريبروك (David Grégoire Van Reybrouck)، الصادر عام 2013، الذي تُرجم إلى العربية عام 2018، وكتاب ياشا مونك “الشعب ضد الديمقراطية” ، المذكور آنفا، وهو صادر في الولايات المتحدة عام 2018، والكلام في هذه المشكلة ليس جديدًا، فمثلًا، في عام 1989، نشر في باريس المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غي هيرمي (Guy Hermet)، المدير الأسبق لمركز الدراسات والبحوث الدولية، والأستاذ بجامعتي باريس ولوزانا، كتابًا يحمل عنوان كتاب ياشا مونك نفسه “الشعب ضد الديمقراطية”، وقد كان هيرمي من أوائل من أشاروا إلى عيوب الديمقراطية الغربية التي باتت في الغرب توصف بالنفاق، وبأنها مجرد إعادة ترتيب لهيمنة الحكام على المحكومين، وبرأيه ما يحدث في أوروبا وأميركا الشمالية ليس عرضيًا، ويخشى أن يستمر، وأن يؤدي إلى إعادة نظر جادة في الديمقراطية ([8])، وسبق أيضًا للصحفي الفرنسي كلود جوليان (Claude Julien) أن نشر كتابًا بعنوان “انتحار الديمقراطيات” ([9])، عام 1972 في باريس، يقول فيه، في نقده لواقع حال الديمقراطية الغربية: «الثروة والقوة هما هدف كل مجتمع، غير أنهما لا يشكلان الأولوية في مجتمع ديمقراطي، فالأولوية هي تحقيق الحرية، المساواة، العدالة، والإخاء. ومنذ أوائل القرن العشرين، تمت إنجازات هائلة في شتى مجالات الحياة، إلا تلك التي تخص ما هو أولوية في الديمقراطية، فالكلمات أصبحت مستهلكة بسبب كثرة ترددها وعدم تحققها، فالمساواة تمت خيانتها، والمواطنة خُدعت بواسطة “كاريكاتير الاستفتاء العام”، وعمّ عدم العدالة الضريبية، وتزايدت قوة النقود ونفوذها، وتزايد تهديد الحريات، وخلط الدين بالديمقراطية وارتفاع معدلات العنصرية» ([10]).
هذا الحال الذي وصلت إليه الديمقراطية في الغرب يوجه فيه الكثير من الباحثين والمفكرين التهمة إلى الرأسمالية التي وسّعت وعمّقت الفجوة الطبقية في المجتمع، وركّزت فيها الدولة سياساتها على مصلحة الأثرياء، فخذلت شعوبها وخيبت أملهم، وهكذا يقول المؤرخ والفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي مارسيل جوشيه (Marcel Gauchet) بهذا الشأن: “بعد أن بدا أن الرأسمالية هي (الجن العبقري)، التي تتقدم وحدها والكل يسقط أمامها، فالنتيجة هي خيبة أمل… فالمسار الحالي يظهر عجزًا في القيادة، وانعدامًا في الرؤية، وكأنه يقود إلى مأزق، وإلى سبيل للانتحار” ([11])، ووفقًا للمؤرخ والبروفيسور والاقتصادي والنقابي الفرنسي بيير روزانفالون (Pierre Rosanvallon)، كما يقول الباحث المصري المقيم في باريس د. مصطفى نور الدين، فـ “الدولة الرأسمالية التي تتبني الديمقراطية لم تقم بسد الفجوة بين الأثرياء والغالبية من المجتمع، بل على عكس ذلك، كل التشريعات والقوانين التي تصدرها تزيد من اتساع الفجوة بحماية متزايدة لرأس المال، وللشركات الكبرى، وفي ذات الوقت، تزيد من السياسات التي تكبل الغالبية من المواطنين بالضرائب المباشرة وغير المباشرة” ([12]).
3- أي دور تلعبه الانتخابات في أزمة الديمقراطية؟
كانت الديمقراطية البدئية، أو الأولية، كما عرفتها اليونان القديمة، عبارة عن حكم مباشر للشعب، وكانت القرارات فيها تتخذ أيضًا بالتصويت المباشر، وتلك الديمقراطية كانت ممكنة في نموذج الدولة – المدينة، الذي كان سائدًا في اليونان حينها، وكان قابلًا للتطبيق في تلك المدن التي لم تكن كبيرة، وكانت تركيبتها الاجتماعية بسيطة، لكن مثل هذه الديمقراطية لم تعد ممكنة في العالم المعاصر الذي باتت توجد فيه دول موحدة جدّ كبيرة، ومدن كبيرة، وبنى اجتماعية معقدة، ولذا تطورت الديمقراطية الحديثة لتصبح ديمقراطية تمثيلية أو نيابية، ولكنها حافظت على مبدأ الانتخاب، حيث يقوم الناس فيها بانتخاب ممثليهم في هيئات الدولة المختلفة، ويفوضونهم بالقيام بالمهام والأعمال واتخاذ القرارات التي يفترض بها أن تعبر عن إرادة الشعب وتخدم مصلحته، ومن المفترض في هذه الآلية التمثيلية النيابية أن الشعب فيها هو من يقوم بالحكم بواسطة نوابه وممثليه ومفوضيه.
وكما نرى، فهذا النموذج غير المباشر من الديمقراطية القائم على مبدأ النيابة والتمثيل يعتمد بشكل رئيس على “الانتخابات”، التي يتم بواسطتها اختيار النواب والممثلين الذي سيحكمون باسم الشعب وبالنيابة عنه وبتفويض منه، وهكذا، تصبح العملية الانتخابية هي المحور الأساسي، والعملية الأكبر في ممارسة وتطبيق الديمقراطية.
وهنا مكمن المشكلة، فإن أمكن لقوة ما أن تسيطر بشكل غير مباشر على هذه العملية الانتخابية، وتوجهها وفقًا لما يخدمها، فهي تكون بذلك قد أبقت على الديمقراطية شكليًا، ولكنها استحوذت عليها عمليًا، وخدعت الشعب في المحصلة، فهي أبقت له اللعبة الديمقراطية التي يقوم هو فيها بانتخاب واختيار من يحكم، بما يوحي ظاهريًا أن الشعب هو فعليًا من يحكم، ولكن في واقع الأمر من يحكم هو تلك القوة التي باتت تتحكم بعملية الانتخاب هذه، وتحولها فعليًا إلى مسرح دمى، وهذا فعليًا ما فعله رأس المال والقوى المالية والاقتصادية التي تتشكل من قلة قليلة من كبار أصحاب الثروات.
وهكذا تحولت هذه الديمقراطية النيابية إلى ديمقراطية نظرية أو ديمقراطية زائفة، وينطبق عليها توصيف د. مصطفى نور الدين الذي يقول: «ما يقال حول النظم الديمقراطية هو أنها مجرد مظهر خارجي لعالم تتحكم فيه قلة يحتكرون اتخاذ القرار، وأن هذه القلة غير منظورة وغير معروفة تحديدًا، إلا أنها تقوم بتسيير الأحوال على كل المستويات، عبر شبكة من أصحاب النفوذ، وتلك ليست نظرية مؤامرة، ولكن واقع الحال الذي تكشفه أرقام وتقارير رسمية وشبه رسمية، وكأن لسان حال من بيدهم السلطة يرددون مع وليام بن (William Penn): “اتركوا الشعب يعتقد أنه يحكم، وسوف يمكن حكمه، فهذا لا يمكن أن يفشل، لأنه إذا وجد من يعتقدون بذلك، فهذا يعني أنهم اعتقدوا به من قبل”» ([13]).
وذاك يعني أن الديمقراطية الليبرالية، التي يفخر بها الغرب الرأسمالي، والتي اعتبرها عالم الاقتصاد والفيلسوف والسياسي والأستاذ الجامعي الأميركي، فرانسيس فوكوياما، عام 1992، في كتابه “نهاية التاريخ”، أنها الشكل النهائي لتطور المجتمعات البشرية، وقصد بذلك “وجود إجماع عند معظم الناس بصلاحية وشرعية الديمقراطية الليبرالية، أي انتصارها على صعيد الأفكار والمبادئ، لعدم وجود بديل يستطيع تحقيق نتائج أفضل” ([14])، قد تحولت فيها الانتخابات الديمقراطية المزعومة إلى أداة مضادة فعليًا للديمقراطية، يستخدمها من وراء الستار “دكتاتور رأس المال” غير المعلن، لترسيخ سلطته، وحماية مصلحته.
وهذا الحال الذي وصلت إليه الديمقراطية الليبرالية المزعومة، من تغييب لإرادة ومصلحة الشعب من قبل “زمرة” والأصح “طغمة” اقتصادية سياسية جيّرت هذه الديمقراطية لخدمة مصالحها، كان لا بد له في المحصلة أن يولد ردات فعل شعبية، وهكذا نمت الحركات الشعبوية اليمينية، التي تتبنى توجهات ضد هذه الليبرالية، لأنها أصبحت ترى فيها “إيديولوجية” الزمرة المسيطرة على السلطة والمستأثرة بالثروة، والأسلوب الضامن لمصالح هذه الزمرة.
ولكن هذه الشعبوية نفسها أيضًا استخدمت سلاح الانتخابات، لتحقق فيه حضورًا ونفوذًا سياسيين كبيرين، ولكن، بما أنها حراك “رد فعلي” وضدي، ويتميز غالبًا بالعاطفية السلبية والسطحية وغياب الرؤية الواضحة والتنظيم والقيادة، فهي نفسها أصبحت عرضة للاستغلال السهل من الانتهازيين، وهكذا تمكن بفضلها انتهازيون كدونالد ترامب من الوصول إلى رئاسة أميركا، وتميزت فترة حكمه بعدم احترام القوانين والتقاليد السياسية الأميركية، وذهب أنصاره إلى حدّ اقتحام الكونغرس في حادثة غير مسبوقة في التاريخ الأميركي، وذلك بعد أن أعلن ترامب رفضه لنتائج الانتخابات التي تبين فيها فوز منافسه بايدن ([15]).
وبالطبع، ليس غريبًا أن يصل شخص مثل دونالد ترامب إلى رئاسة أميركا عبر الانتخابات، فهتلر النازي سبقه إلى ذلك عام 1933 في ظروف مضطربة اقتصاديًا واجتماعيًا، إثر أزمة الكساد الكبير التي بدأت عام 1929، كما أن الانتخابات أوصلت مرتدًا شيوعيًا مدمنا على الكحول كبوريس يلتسين إلى رئاسة روسيا عام 1991، وأوصلت شخصية مهزوزة كبوش الابن أيضًا إلى رئاسة أميركا عام 2000.
وبالطبع، هذا الوضع المزري للانتخابات كان لا بدّ له من أن يولد ردة فعل ضدها، وهذا ما فعله ديفيد فان ريبروك، في كتابه (ضد الانتخابات.. دفاعًا عن الديمقراطية) الذي انتقد فيه بشكل حاد الانتخابات التي لا تلبي إرادات الشعوب ولا تخدم مصالحها، حيث كثيرًا ما يختار فيها المواطنون سياسيين لا يعملون لصالح ناخبيهم، بل إنهم يفعلون عكس هذا، ويتخذون قرارات تضر هؤلاء الناخبين، وقد وصف فان ريبروك الانتخابات بأنها قد أصبحت “موضة قديمة كوسيلة للديمقراطية” ([16])، وبأنها “ليست سوى مجرد طقوس غريبة قديمة” أو “مهرجان ديمقراطية ([17]).
وبدوره، يعترف هارولد جيمس (Harold James)، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون الأميركية، بوجود أزمة في الديمقراطية، فيقول: «لم يعد هناك من ينكر أن الديمقراطية معرضة للخطر في جميع أنحاء العالم. إذ يشكك كثير من الناس في ما إذا كانت الديمقراطية تعمل لصالحهم، أو أنها تعمل بشكل صحيح أصلًا. ولا يبدو أن الانتخابات تسفر عن نتائج حقيقية، باستثناء تعميق التصدعات السياسية، والاجتماعية القائمة. إن أزمة الديمقراطية هي، إلى حد بعيد، أزمة تمثيل، أو بتعبير أدق، هي غياب تمثيل». لكن جيمس يعزو سبب ذلك إلى الخلل في العملية التمثيلية، ويعتبر هذا الخلل خطأ إجرائيًا مرتبطًا بهذه العملية نفسها، التي ماتزال تحددها وتؤطرها المعايير المفروضة للديمقراطية على نطاق دولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، والمرتبطة بتعقيدات هذه المرحلة التي ارتبطت بضمان الاستقرار بعد الحرب، وتحقيق التوازنات الدولية، ولا يربط جيمس أزمة الديمقراطية بإشكاليات منظومة العلاقات الاقتصادية والسياسية القائمة خلفها، ويرى أن “الأزمة الراهنة تحدت في وقت يشهد مستويات عالية من العمالة، لم يشهدها التاريخ من قبل”، على الرغم من أنه يعترف بأن “كثيرًا من الناس، اليوم، يشعرون بعدم الأمان الاقتصادي”، ولإصلاح هذا الخلل، يقترح استخدام أساليب جديدة يتم فيها رفع كفاءة العملية التمثيلية وفق رؤية يطلق عليها “التجديد الديمقراطي”، ومما يطرحه فيها استخدام التقنيات الرقمية الحديثة، كالتصويت الإلكتروني لحل مشكلة تراجع المشاركة، وتطبيقها في بعض القضايا المحددة المتعلقة بشكل رئيس بشؤون الحياة اليومية، وتجربة ذلك في الدول المتقدمة الصغيرة والمدن المنفردة، لتشجيع الدول الكبيرة على استخدامها بعد ذلك ([18]).
لكن الفيلسوف الفرنسي ألان باديو (Alain Badiou) يذهب إلى جذور المشكلة التي يراها في هيمنة رأس المال على الديمقراطية، ما يجعل الإصلاح متعذرًا ما دامت هذه الهيمنة قائمة، وتفرض على كل من يستلم السلطة، أيًا كان حزبه أو أيديولوجيته، العمل السياسي تحت سقف الرأسمالية، فيقول إن “الأخ الأكبر للديمقراطية هو رأس المال الذي يهيمن عليها، ولذا فلا خلاص للديمقراطية -كما نعرفها- من الرأسمالية… فكل محاولة إصلاح محكوم عليها بعدم التوفيق، لأن الأضداد سياسيًا يتناوبون في الحكم، من دون أن يحدِث أي منهم، وهو في قمة السلطة، سياسة للخروج الجذري عن القاعدة، فهو يحكم سياسيًا، ولكن بشرط عدم المساس بالرأسمالية كنظام” ([19]).
4- وكيف تجري اللعبة عربيا؟
ذلك هو حال الديمقراطية في العالم الغربي، وهو بالطبع يختلف بشكل جذري عما هو حالها ومعاناتها في منطقتنا العربية، التي ما تزال بشكل عام ترزح تحت نير الدكتاتوريات الحاكمة أو تتخبط في الصراع على السلطة بين هذه الدكتاتوريات وحركات الإسلام السياسي بشكل رئيس.
وعلى الرغم من أن الربيع العربي قد زلزل أركان عروش الدكتاتورية التي كانت تبدو راسخة إلى أمد بعيد، فإن هذا الربيع حتى الآن لم ينجز كثيرًا بعد في مجال البناء الديمقراطي، وغالبًا ما اختطف أو هيمن عليه الإسلاميون السياسيون، أو تغلغلت فيه الحركات المتشددة والمتطرفة أحيانًا، إضافة إلى التدخلات الخارجية العديدة والخطيرة التي كثيرًا ما تحرفه بعيدًا عن الغايات المرجوة منه.
مع ذلك، فما يلاحظ بوضوح، هو أنه في العديد من الأحيان كل من الدكتاتوريات الحاكمة وحركات الإسلام السياسي لعبتا “لعبة الديمقراطية”، وبالأدق “لعبة الانتخابات”، فأنظمة الحكم المستبدة سعت عبر إجراء الانتخابات لاستخدامها كذريعة لإضفاء “غلاف ديمقراطي” خارجي يشرعن حكمها، في زمن أصبحت فيه الديمقراطية مؤيَّدة على نطاق عالمي واسع غير مسبوق، فـ”اليوم أصبحت الشرعية لا تستقيم من دون الديمقراطية، وحكومات قليلة تلك التي تريد أن تبدو غير ديمقراطية” كما يقول كينيث روث المدير التنفيذي لـ “هيومان رايتس ووتش”، الذي يقول أيضًا ما فحواه أن الديمقراطية نادرًا ما تم الترويج لها بهذه الكثرة، في الوقت الذي تُنتهك فيه كثيرًا وتتعرض لعدم احترام واسع على النحو نفسه ([20]).
ووفقًا لتقارير عديدة قدمها لاري دايموند (Larry Diamond) -من “وحدة الاستخبارات الاقتصادية” (EIU) في “مجموعة الإيكونوميست”، ومنظمة “فريدوم هاوس”- فقد تراجعت الديمقراطية بشكل متواصل على مدى 11 عامًا في أنحاء عديدة من العالم، وظهر العديد من الدكتاتوريين المنتخبين” ([21]).
وبالطبع، فمسألة استغلال الأنظمة المستبدة للانتخابات للظهور بمظهر ديمقراطي، تبدو فيه وكأنها تحكم بشرعية ممنوحة لها من شعوبها، ليست جديدة، وفعلته وما تزال تفعله استبداديات مختلفة في العالم.
ولو أخذنا الحالة السورية مثالًا، فسنجد أن النظام السوري الراهن واظب، منذ عام 1963، على إجراء أشكال الانتخابات كافة، ونص دستوره لعام 1973، الذي استمر العمل به حتى عام2012، في مادته الأولى على أن “الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية شعبية واشتراكية…”، في وقت كانت المادة الثامنة من هذا الدستور نفسه تنص على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب، ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية” ([22])، هذا في الوقت الذي كانت فيه “حالة الطوارئ” التي تمنع النشاط السياسي معلنة منذ عام 1963 ولغاية عام 2011، ولم يكن بمقدور أحزاب الجبهة نفسها على مدى أكثر من ربع قرن تقريبًا حتى أن تصدر صحيفة علنية خاصة بها، ولم يُسمح لها بذلك إلا في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2000 ([23])، مع أن الجبهة أُنشئت في عام 1972، ولم يختلف الأمر فعليًا إلا في بعض الشكليات منذ إصدار دستور عام 2012 حتى اليوم.
وكما سلف الذكر، فهذه الحالة لم تكن خاصة بسورية وحدها، فكانت أنظمة عربية دكتاتورية أخرى تستخدم الانتخابات بأساليب مشابهة، وللغايات نفسها.
وعندما انطلق الربيع العربي، وسقط فيه أكثر من نظام دكتاتوري، بدا وكأن هذه المسرحيات الانتخابية الهزلية ستنتهي، وهذا ما حصل فعليًا في بعض الحالات، ولكن لعبة انتخابية مغرضة أخرى بدأت، فمع السعي في بعض بلدان الربيع العربي للدخول في تجربة ديمقراطية حقيقية، سعى العديد من قوى الإسلام السياسي لاستغلال هذه التجربة لصالحه، مستفيدين من سعة وثقل حضورهم في الشارع الشعبي، بسبب ضعف المنافسين الآخرين، والفراغ السياسي، وتديّن عامة الناس التقليدي، وغياب التجربة الديمقراطية في هذا الشارع، ولذلك لعبت هذه القوى من الإسلام السياسي لعبة الانتخابات، ليس إيمانًا ولا حبًا بالديمقراطية نفسها، إنما لتصل إلى السلطة وتمرر مشاريعها الخاصة عبر صناديق الاقتراع.
وفي واقع الأمر، يمكننا أن نقول إن سلوك الإسلاميين السياسيين في منطقتنا العربية يشابه بشكل ما سلوك الحركات اليمنية المتطرفة في الغرب، التي لا تؤمن بمبادئ الديمقراطية، ولكنها تستغل الانتخابات لتحقيق حضور وتأثير سياسيين.
وإضافة إلى ما تقدم، يجب ألا ننسى أن التدخلات الأجنبية، ولا سيما الغربية منها، هي بدورها أيضًا تستخدم الغطاء الديمقراطي في العديد من الأحيان، وتتم بذرائع ديمقراطية.
5- ما هو الحكم التقييمي على الانتخابات؟
عند طرح الديمقراطية كمشروع وطني أساسي، عربيًّا أو سوريًّا، كثيرًا ما يُثار ضد هذا الطرح اعتراضان:
أولهما مفاده أن الديمقراطية قد فشلت في بلدانها، فلماذا نستورد تجربة فاشلة لم يعد أهلها أنفسهم يريدونها.
وثانيهما فحواه أن الشعوب العربية، والشعب السوري ليس استثناء، هي شعوب غير مؤهلة للديمقراطية، والدليل هو الأشكال المزرية التي تصوّت فيها هذه الشعوب، حتى في الهوامش الديمقراطية المتاحة لها، والتي يتم فيها في معظم الأحيان انتخاب أسوأ الناس كفاءة وأخلاقًا، وكثيرًا ما يقول خصوم الديمقراطية لأنصارها بناء على ما يحدث وينتج في مثل هذه الانتخابات وعمليات الاقتراع: انظروا إلى فوز الفاسدين كفلان وفلان، هذا ما ستوصلنا إليه ديمقراطيتكم، فهل ستسلمون البلاد لأمثال هؤلاء؟
وفي الرد على ذلك، يمكن القول بالنسبة إلى الاعتراض الأول أنه اعتراض جدّ مسطح، فالحكم على فشل التجربة الديمقراطية الغربية هو حكم شديد المبالغة والإجحاف، والنجاحات التي حققتها الديمقراطية في تلك البلدان أكثر من أن تحصى، والحديث عنها يطول كثيرًا، ووفقًا لكوفي عنان، في جواب له على سؤال “لماذا الديمقراطية”؟ فالجواب هو: «لأنها في الواقع تحقق الكثير. فمن ضمن العشرين دولة التي لديها أعلى مستويات للتنمية البشرية، وفقًا لمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة، هناك تسع عشرة دولة ديمقراطية ليبرالية، ومن ضمن أعلى أربعين دولة هناك 36 دولة ليبرالية، حتى مواطنو الديمقراطيات الأكثر فقرًا، فهم يعيشون في المتوسط تسع سنوات أطول من مواطني الدول الأوتوقراطية -الأنظمة الاستبدادية- الفقيرة؛ لأنهم يتمتعون بفرص أعلى للحصول على الصحة والتعليم. وإن الدول الديمقراطية أقل عرضة للمجاعات والصراعات» ([24]).
أما الجوانب التي أخفقت فيها الديمقراطيات، فمنها ما يعود إلى أن كل تجربة تخطئ وتصيب، وتنجح في شيء وتخفق في سواه، والتجربة العاقلة تستفيد دومًا من أخطائها، وهذا ما يحدث في الديمقراطيات عمومًا وليس في الغرب وحده فقط، كما يحدث في سواها من التجارب الإنسانية المختلفة، ولا سيما الكبيرة منها، أما سبب الإخفاق الثاني فهو لا يعود إلى الديمقراطية نفسها، إنما يعود إلى الرأسمالية، فهي فعليًا قد جعلت “رأس المال” يهيمن على الديمقراطية، وهي -أي الرأسمالية- بجشعها تُعلي “الربح” المادي على كل الأهداف والقيم، وبحكم طبيعتها وغايتها تنشر وتروج ثقافة اللاثقافة والاستهلاك، وهذا كله يتناقض مع طبيعة الديمقراطية الثقافية والقيمية.
أما عن الانتخابات في الغرب، ونتائجها التي قلّما تخدم الشعوب، ولا تنسجم مع مبادئ وغايات الديمقراطية نفسها، فيمكن القول إن الانتخابات ليست عنصرًا ديمقراطيًا منعزلًا عن بقية عوامل وظروف الواقع، هذا من ناحية، وهي بحدّ ذاتها ليست ركنًا من أركان الديمقراطية نفسها، إنما هي آلية من آليات العمل والممارسة الديمقراطيين، وأسلوب من أساليب النشاط الديمقراطي، وبذلك فالانتخابات تعكس أولًا وضع الديمقراطية في بلدها، وتعكس ثانيًا وضع مجمل النظام السياسي القائم في هذا البلد، وعندما يكون هذا النظام فاسدًا، فيفسد فساده الديمقراطية نفسها إن كانت موجودة فيه، وسيفسد أكثر الانتخابات التي تحدث فيه، وهذا ما يحدث عمومًا في المجتمعات الغربية، علمًا أن الديمقراطية هناك ليست مجردة ضحية سلبية للرأسمالية، والعلاقة بينهما هي فعليًا علاقة صراع قوى، والقول الختامي بفساد الأداء الديمقراطي هو قول يخص محصلة هذا الصراع الذي لا تتمكن فيه الديمقراطية من تحقيق نتيجة ديمقراطية تامة أو كافية، ولكن هذا لا يعني أن دورها بلا أثر، فهي تحدّ كثيرًا من توحش الرأسمالية، والرأسمالية نفسها مدينة لها بذلك، فلولاها لدمرت بتوحشها نفسها بنفسها.
أما في ما يتعلق بموضوع الانتخابات في بلداننا العربية، فهو أسوأ بكثير، لأنها فعليًا تحدث في أطر الديمقراطيةُ غائبة عنها تمامًا، والغاية منها ليست العمل الديمقراطي لصالح الشعب، بل غايتها فعليًا إتمام مسرحية مغرضة لصالح الدكتاتورية، عبر إعطائها شرعية ديمقراطية كاذبة، وبذلك فالانتخابات في البلدان الدكتاتورية هي تمامًا نقيض الانتخابات في الدول الديمقراطية، فهي في الديمقراطيات نشاط ديمقراطي، أما في الدكتاتوريات فهي إجراء دكتاتوري.
في النظم الدكتاتورية، يكون الفساد عادة قرينًا للدكتاتورية ومتغلغلًا فيها، وبذلك يكون تأثير الدكتاتورية الإفسادي على الانتخابات مزدوجًا، ويأتي من مصدرين، المصدر الأول منهما هو الدكتاتورية نفسها، التي فعليًا لا تريد أية انتخابات ديمقراطية، ولذلك تجري عروضًا انتخابية مزيفة وفارغة تمامًا من كل مضمون ديمقراطي، وتفعل ذلك فقط من أجل “المظهرة” والظهور بأنها ديمقراطية، ولذلك فالتركيز فيها يتم على إنتاج كذبة انتخابية، ومنع أي عامل انتخابي ديمقراطي من الفعل والتأثير، في الوقت الذي يحدث نقيض هذا في الانتخابات الديمقراطية الحقيقية التي يتم فيها التركيز على تطوير ورفع كفاءة العملية الديمقراطية، أما المصدر الثاني فهو الفساد الذي يستشري في التركيبة الدكتاتورية، وينعكس على كل نشاطات دولتها ومجتمعها، وهذا ما يطال الانتخابات نفسها، ويساهم أيضًا بقسط كبير من إفسادها، وهو بالطبع قسط مرْضيّ عنه من قبل الدكتاتورية التي لا تريد فعليًا انتخابات صالحة، إنما تريد بالضبط انتخابات فاسدة.
ولهذا نرى هذا الأداء المزري انتخابيًا، فحيث يستشري الفساد الأخلاقي والثقافي والاجتماعي، وتتلاعب أجهزة السلطة بالانتخابات، لا يمكن أن يكون هناك أي نشاط انتخابي صحي، فالسلطة نفسها، إلا في ما ندر، تقوم بإقصاء المرشحين الشرفاء وأصحاب الكفاءات، هذا إن لم يبتعدوا هم أنفسهم عن هذه المهازل الانتخابية، لأنهم يدركون سلفًا أنهم لن ينجحوا فيها، أو لن يستطيعوا أن يصلحوا شيئًا وإن نجحوا، وبذلك لا تعود الساحة الانتخابية إلا مسرحًا يتقاطر عليه الفاسدون والانتهازيون، وإذا لم تتدخل أجهزة السلطة من وراء الستار لحسم المنافسة بينهم وفق ما تريده هي بالضبط، فهي عادة تكون راضية سلفًا عمن ينجح، وواثقة أنه لن يكون إلا واحدًا من أتباعها الفاسدين المباشرين أو غير المباشرين، وهكذا عندما تجري مثل هذه المهازل الانتخابية التي يتحول فيها الناخبون فعليًا إلى مجرد كومبارسات، أو “كومبارس جماعي أو جمعي”، لا يبقى في هامشها المتروك لهم إلا الاختيار بين فاسد وفاسد، وفي مثل الاختيار الفاسد، لا يمكن للعبة الاختيار نفسها إلا أن تجري هي الأخرى بشكل فاسد، ولذلك تلعب معايير، هي الأخرى فاسدة، الدور الحاسم في توجيه خيار الناخبين، فيصوتون على أساس المحسوبية أو المصلحة الشخصية الوصولية، أو على أساس عائلي أو طائفي أو عرقي، أو أساس فئوي آخر، وهنا حتى العامل الجنسي يمكن أن يلعب دوره سلبًا أو إيجابًا، فتُنتخب أو تُرفض امرأة لأنها امرأة، وفضلًا عن ذلك فإن شراء الأصوات يمكن أن يحدث في هذه المهزلة التي يدرك الناخبون فيها سلفًا عبثيتها وعدم جدواها وبطلانها؛ والأمر لا يختلف حتى إذا صدف وجود مرشح نزيه كفء، فاحتمال فوزه في مثل هذه الأحوال يكون عادة شبه معدوم، وإن لم تتدخل أجهزة السلطة ضده، وهي عادة لا تكون مضطرة، لأنها تدرك أن الفساد المستشري في أوساط الناخبين كناخبين في هذه المسرحية كاف لأن يغنيها عن التدخل المباشر ضده، فثقافة الفساد السائدة، بما فيها من محسوبية وانتهازية وفئوية وإحباط وأمية معرفية وفراغ في ثقافة وخبرة الديمقراطية، كافية لحسم النتيجة ضدّ هذا المرشح الذي يدخل الانتخابات بمعايير من النزاهة والكفاءة عديمتي الفاعلية في وسط لعبة انتخابية يهيمن عليها الفساد، ويدخلها سواه بمعايير ومؤهلات متناسبة مع هذا الفساد ومناسبة له.
وكما سلف القول عن أن الانتخابات في المجتمعات الغربية تعكس واقع الأنظمة الغربية، فهذا يصدق تمامًا على بلداننا العربية التي تعكس فيها الانتخابات المزرية المثيرة للاشمئزاز والسخرية واقع الأنظمة الحاكمة الفاسدة في هذه البلدان، فلكي تجري انتخابات ديمقراطية حقيقية تعبّر عن إرادة شعب واع يعي صالحه من مشاركته في العملية الانتخابية، يجب أن يكون هناك منظومة متكاملة تكون فيها الثقافتان العامة والديمقراطية ناميتين بما يكفي من ناحية، ومن ناحية أخرى تتوفر فيها منظومة سياسية اجتماعية تدعم وتحترم هاتين الثقافتين، وتحترم الانتخابات وتعمل على إنجاحها ورفع سويتها، وتمكّن الناس من اختيار الممثلين المناسبين، وبالطبع، تضع هؤلاء الممثلين المناسبين في مواقع المسؤولية والقرار المناسبة، وتوفر لهم الظروف والإمكانيات اللازمة ليقوموا بخدمة شعوبهم.
وهذا كله لا يتوفر منه شيء في الدكتاتوريات العربية، لذلك لا عجب أن ينتخب الناخب العربي عندما يلعب في لعبة الديمقراطية، والأصح يُلعب به فيها، أشخاصًا فاسدين لا يخدمون مصلحته، بل العكس من ذلك، ولا عجب أن يكون خياره مدفوعًا بكل أشكال الفساد المهيمنة.
وبالطبع، فهذا ليس قدرًا محتومًا لا يستطيع المواطن العربي تجاوزه، ومن يشكك في ذلك عليه الرجوع إلى انتخابات الخمسينيات في سورية، وسيرى من نتائجها، التي تعكس الحالة الوطنية والاجتماعية الصحية التي كانت البلاد تمرّ فيها، أن الناخب السوري كان حينها قادرًا على الاختيار، ومتمتعًا بأهلية الاختيار، فانتخابات عام 1954مثلًا، جمعت تحت قبة برلمان واحد بين الليبرالي والاشتراكي والعروبي والقومي السوري والإسلامي والشيوعي وغيرهم، ولم تكن حصة الإسلاميين فيها طاغية، حيث حصل يومها الإخوان المسلمون -مثلًا- على أربعة مقاعد من أصل 142، فيما حصل البعثيون على 22 مقعدًا ([25]) ([26]).
5- خاتمة:
الديمقراطية ليست صندوق اقتراع يضع السلطة في أيدي قلة من أصحاب الثروات، ليتحولوا إلى طبقة مالكة حاكمة تحتكر الثروة والسلطة، فيما يتحول الشعب إلى كتلة من الفقراء المحكومين، أو تستغل بواسطته هذه الحركات أو تلك عقائد وعواطف الناس للوصول إلى السلطة وتمرير مشاريع غير أو ضد ديمقراطية.
والديمقراطية ليست عملية تداول شكلي للسلطة تتغير فيها الشخصيات ولا تتغير فيها السياسات التي لا تخدم الشعب، بل تخدم أطرافًا معينة تهيمن على هذه اللعبة من الكواليس، وتحقق بواسطتها مصالحها على حساب مصلحة الشعب.
فالديمقراطية هي منظومة اجتماعية اقتصادية سياسية ثقافية قانونية متكاملة، ولا يمكن الفصل بين جزء وجزء، أو جزء وكل، ومهمات الديمقراطية هي ضمان حقوق الإنسان، وحماية حرياته، وتحقيق العدالة والمساواة بين جميع الناس، واحترام القانون وسيادة الدولة وكرامة المواطن، وهذه بالوقت نفسه هي مؤشرات الديمقراطية الحقيقية، وليس الانتخاب واختيار الممثلين والنواب وتداول السلطة، فهذه إجراءات وعمليات تكون ديمقراطية فقط عندما تجري في بيئة ديمقراطية حقيقية، وبذلك تكون آليات ممارسة ديمقراطية حقيقية، لكنها أيضًا يمكن أن تكون آليات ديمقراطية زائفة عندما تجري في أنظمة حكم مستبدة تدّعي الديمقراطية، أو في بيئات الديمقراطية فيها مجيّرة كما هو الحال في العالم الرأسمالي، أو تستغلها قوى غير ديمقراطية أو ضدّ ديمقراطية شعبوية أو يمنية أو طائفية أو عرقية وما شابه، للوصول إلى السلطة والتفرد بها، كما هو الحال مع الإسلام السياسي في بعض دول المنطقة.
في الديمقراطية لا يمكن الفصل بين الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والمدنية والسياسية والثقافية والقانونية، فهي النظام المتكامل الذي يحترم الإنسان كإنسان ويعمل من أجله كإنسان وبطرق إنسانية.
إنها ببساطة بناء المجتمع والدولة بشكل إنساني، وهذا ما يجب أن نركز عليه دائمًا في السعي لبناء ديمقراطية حقيقية.
[1] – إبراهيم فتحي، مخاطر الشعبوية الجديدة فى الغرب، الأهرام اليومي، العدد 47507، 31 كانون الأول\ديسمبر 2016
[2] – علي نوار، انفجار الشعبوية الخطر الأكبر على الديمقراطية ، صحيفة حفريات، 13 أيلول\سبتمبر 2020
[3]– ديفيد فان ريبروك، ضد الانتخابات .. دفاعًا عن الديمقراطية ضد الانتخابات .. دفاعًا عن الديمقراطية، كتب غوغل، ص 9
[5] – أبو بكر العيادي، الشعب ضد الديمقراطية، مجلة الجديد، 1 تشرين الأول \أكتوبر 2018
[7] – محمد الشيخ، الشعب ضد الديمقراطية للباحث ياشا مونك، جريدة عالم الثقافة، World of Culture، 27 آذار\مارس 2020
[8] – [Guy Hermet, Le peuple contre la démocratie] – Persée
[9] – كلود جوليان، انتحار الديمقراطيات، وزارة الثقافة، دمشق 1975، (BAU Libraries catalog › Details for)
[10] – مصطفى نور الدين، الدولة ضد الديمقراطية، مجلة الديمقراطية- العدد 74، نيسان\ إبريل 2019، ص 87.
[11] – المرجع السابق 2019، ص 85-86.
[12] – المرجع السابق، ص 87.
[13] – المرجع السابق، ص 88.
[14] – نهاية التاريخ والإنسان الأخير – ويكيبيديا
[15] – في حال فاتكم.. إليكم ما حصل باقتحام أنصار ترامب مبنى الكونغرس، CNN Arabic، 7 كانون الثاني\يناير 2021
[16] – ديفيد فان ريبروك، المرجع السابق، ص 113، ص 13.
[18] – هارولد جيمس، ما هو السبب وراء أزمة الديمقراطية؟ ترجمة: نعيمة أبروش، Project Syndicate، 4 كانون الأول\ديسمبر 2019
[19] – مصطفى نور الدين، المرجع السابق، ص 88.
[20] – كينيث روث، الطغاة يتنكرون في ثوب الديمقراطية، هيومان رايتس ووتش، ص 1.
[21] – ديفيد فان ريبروك، المرجع السابق، ص 8.
[22] – الدستور السوري – 1973-2012، مركز كارنيغي للشرق الأوسط ، مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي
[23] – السماح بإصدار صحف حزبية في سوريا، صحيفة البيان الإماراتية، 30 تشرين الثاني\نوفمبر 2000
[24] – ديفيد فان ريبروك، المرجع السابق، ص 13.