لا شكّ في أنّ كثيرًا من المهن التي نعرفها اليومَ لم تكن موجودة في الماضي بهذه الصورة المنظّمة؛ إذ كانت تدخل من باب المهمّات الذاتية أو التكليفات الآنية (الخطابة، التعليم، الكتابة..)، ولكنها باتت اليوم مِهنًا ووظائف قائمة، يُفرّغ لها أشخاص مؤهلون ومختصون تفريغًا تامًا، ويمارسونها ضمن برامجَ لها قيود وحدود. ومن جملة هذه الأمور التي صارت مِهنة وظيفية، مهنٌ ذات طابع توعويّ/ رساليّ، نعدّ منها التعليم، والتأليف، والخطابة، والإعلام، حيث صارت هناك كليّات في الجامعات، ومعاهد ومراكز أكاديمية، تُعِدّ الشباب لهذه المهن، ولا أرى من بأس في ذلك، لكونه بات ضرورة لا مجال لتجنّبها أو تأجيلها، إذ تغيّرت سمات الحياة الاجتماعية، بتغيّر العصر، وتحددت وظائف الأفراد وأدوارهم فيها.
ويجوز القول إن كثيرًا من المهن، ولا سيّما الإنسانية كالطب، والتوعوية كالتعليم والتأليف، بدأت كمهمّات ذاتية، ثم تطوّرت -بسبب الحاجة والضرورة- إلى مهنٍ قائمة بذاتها، لها كيانها وحدودها، غير أنها ما تزال متصلة -بنسبة ما- بدورها الأول: المهمّة، وليس من السهل أن تنفصل عنها انفصالًا تامًا، على الأقلّ عند من يعتقد أن الضمير الإنساني يُملي على الإنسان أمورًا لا بدّ من القيام بها ضمن حدود الاستطاعة.
ولا يخفى على المتبصّر أن لكلّ مهنةٍ دورًا في المجتمع، وقد يكون هذا الدور بالأساس مهمّةً عاليةَ الشأن، ثم تحوّل -بحكم التطور والضرورة- إلى مهنة أو وظيفة، يُرصد لها أجر معلوم، مقابل أدائها على الوجه الذي يُرضي مؤدي الأجر (المؤسسة/ ربّ العمل)، ومهمّة معظم المهن المستحدثة واضحةٌ للعيان، والحاجةُ إليها ظاهرة، وقلّما يجد المرء من يماري في ذلك، غير أنّا سنقف في هذا المقال عند بعض المهن التي كان غرضها الأساس التوعية ونشر المعرفة: (التعليم، التأليف، الخطابة، الإعلام)، ثم تحوّلت إلى مهنٍ قائمة، وتحوّل كثير من القائمين بها إلى موظفين يقفون عند حدود تأدية الوظيفة، بل إن منهم مَن عقّ المهمّة وبرّ المهنة، فكانت نتيجة فعله وبالًا على المجتمع، ومن ثم عليه.
ربما يصحّ القول إن التعليم هو من أولى المهمّات التوعوية التي تحوّلت إلى مهن قائمة بذاتها، حيث تذكر كتب التاريخ الأدبي أخبارًا عن مؤدبي أبناء الخلفاء، وعن معلّمي الصبيان في الكُتّاب، وغير ذلك من صور التفرّغ للتعليم.. وقد باتت وظيفة التعليم اليوم من أكثر الوظائف المنتشرة، لكثرة الحاجة إليها، ولا يكاد المرء يجد منطقة -مهما كانت نائية- تخلو من مدرسة ومعلّمين. وظلّ المعلّم -عمومًا- يستشعر في قرارة نفسه أنه يؤدي مهمّة سامية هي التوعية، وبالطبع، لا يخلو الأمر من استثناءات. لكن الحال اليوم اختلفت وتغيّرت، فأين المؤسسة التي تطبّق شعاراتها وتسعى لغاياتها سعيًا صادقًا؟ وأين المناهج التي تعرض المادة العلمية عرضًا منهجيًا غايته ترسيخ المعرفة وتنمية الوعي؟ وأين ذلك المعلّم الذي يأخذ بيد الطالب، ويعلّمه جوهر العلم، وغاية المعرفة: كيف يفكّر، وكيف يستنتج، وكيف يعالج الموضوعات ويحاكم القضايا ليعي الواقع ويفهمه؟! لقد طغت سِمة المهنة -عند معظم الأطراف المعنية- على سمة المهمّة طغيانًا ظاهرًا، وآثارُ ذلك لا تخفى، حتى إنك صرت تجد من حاز الشهادة الثانوية ولا يعرف الفرق بين الرأي والحقيقة، وبين الحكم الذاتي والموضوعي، ولا يكاد يفرّقُ بين كثير من دلالات المفاهيم المتداخلة المتقاطعة!
ومن المهمّات التي غايتها الأولى التوعية، التأليف والتصنيف، وهو إنتاج مادة مكتوبة (كتاب، رسالة، بحث، مقال) والغرض المعلن -عادة- هو التوعية ونشر المعرفة، وكما الحال في التعليم، تحوّل التأليف -شيئًا فشيئًا- إلى مهنةٍ، لها تجّارها وسوقها. ولا ننكر أن هناك قسمًا من المعنيين (أصحاب دور النشر، الكتّاب) ما يزال يحمل مشروعًا توعويًا، غايته نشر المعرفة والوعي، والدفع نحو التقدّم والتطور، لكنّ معظم هؤلاء مُقصَون عن مواقع التأثير، وقلّما يكون لهم حَول أو طَول، على حين أن بعض أفراد القسم الذي نسي المهمّة، أو طغت المهنة عنده على المهمّة، لقي دعمًا كبيرًا، وصار يعتلي منابر ويتصدّر مجالس، وقد تخلّى -في الواقع- عن تلك المهمة كلّ التخلّي أو بعضه، وإنْ كان يُداري ما هو فيه. ومما يُذكر في هذا السياق، جوائز بعض المسابقات التي جُعلت لها موازين ومعايير غير عادلة، فكانت النتيجة سلبية على الثقافة والمثقفين معًا، ومن ثم على المجتمع كله.
ومن أكثر المهمّات التي تحوّلت إلى مهنٍ خطورةً على المجتمع، الخِطابةُ الوعظية في دور العبادة، ذلك لأن نسبة التأثير فيها أكبر، وخطر سوء الفهم أظهر، وتبعات ذلك -وإن تأخرت- أدهى وأمرّ، وربما يتفق معي كثيرٌ من الناس على أن القسم الأكبر من الخطباء والوعّاظ باتوا أقرب إلى دائرة المهنة منهم إلى دائرة المهمّة، فقلّما يجد المرء خطيبًا يحضّ الناس على التفكير، أو يدعوهم إلى البحث عن الحقيقة وتبيّن الأمور، أو يدفعهم إلى إعادة التفكير في مسألةٍ أُسيءَ فهمها وتطبيقها. بل إن هناك من الخطباء من تحوّل إلى قارئ آليّ، يقرأ ما كُتب له، من دون أن يكون له من دور سوى التحكم في شدة الصوت، ولن نتكلّم هنا على الذين غالوا في الامتهان، فوجدوا وظائف في القنوات الفضائية، أو مناجمَ مال في حسابات مواقع التواصل، وصاروا يكتبون ويتكلّمون بحسب السوق، وأمسَوا كالممثلين، إذ يؤدّون الدور المطلوب بحرفية، ولا يخرجون عن النص إلا قليلًا، لتحصيل مزيد من الإيهام. مع الأسف، لقد قدّمَ كثير من الخطباء المهنةَ على أداء المهمة والرسالة، بل إن هناك من تخلّى عن المهمّة كلَّ التخلّي، وصار صاحبَ مهنة، يُنجز ما يُطلب منه على رغبة الطالب. ولا يكاد المرء يجد بينهم مَن غايته أن يحرّك الأذهان والعقول، ويحدوها إلى رياض التفكير والتدبّر والفهم والوعي، بغية تحسين الواقع، وكسب خير المعاش والمعاد، إلا مصادفة، فقد انقلبت الآية، وصارت القاعدة استثناءً، والاستثناء قاعدةً، وقد يكون لذلك أسبابٌ أخرى، غير أنّا نركّز هنا على ما نعُدّه أهمَّها.
ويجوز للمرء أن يُضيف إلى قائمة المهمّات التي تحوّلت -بحكم الضرورة- إلى مهنةٍ، الإعلامَ، وقد حظي الإعلام بوسائل وأدوات وتقنيات وإمكانات فاقت حدّ التصوّر والتصديق، واتسعت دائرة تأثيره حتى أحاطت بكل نسمة. ومما لا جدال فيه أن وسائل الإعلام أسهمت في خلق وعي جماهيري، بنسب متفاوتة، في الأجيال السابقة، عند كل فئات المجتمع، إذ حازت تلك الوسائل ثقة كبيرة عند الناس، حتى صار قول أحدهم: “قرأتُ الخبر في الجريدة، أو سمعته في الراديو، أو رأيته في التلفزيون..”، أشبه بوثيقةٍ لا تقبل الطعن بصدقيتها. لكن الأمر اليوم تغيّر كثيرًا، ولا يخفى على المتابع الحاذق أن هناك حالة من تضعضع الثقة بين الناس ووسائل الإعلام، وأن هناك هوّة يصعب إخفاؤها ويتعذّر ردمُها، بين الأهداف المعلنة والمضمرة، فأين وسيلة الإعلام التي يثق بها الناس ثقة تُغنيهم عن متابعة غيرها ويسلّمون بكل ما يرد فيها تسليمًا، سواء أكانت حكومية أم خاصة؟ وأين ذلك الإعلام الإخباري الذي ينقل الأخبار بطرق منهجية محكمة، بغية تزويد الجمهور المتلقي بمعرفة أبعاد الموضوع وسياقاته وملابساته، والأخذ بيده إلى الحكم الصحيح والواعي والمسؤول؟ إن هذا السؤال لمُحرجٌ لكلِّ محامٍ عن واقع الإعلام اليوم. هذا ولا موجبَ للتطرق إلى الإعلام الفني (الدراما)، فرائحة التجارة فيه طاغية على كل ما سواها، على أن الغاية المعلنة من كل ذلك هي خلق حالة وعي بالواقع، بغية تطويره وتحسينه ومعالجة مشكلاته معالجة فاعلة!
ولا شكّ في أنّ للأنظمة الاستبدادية الدورَ الأكبر في تحوّل المهمّة إلى مهنةٍ خالصة، ولن ترى مستبدًا واحدًا لا يحارب أسبابَ الوعي والتفكير، ولا يجتهد في تعزيز أسباب الجهل والتسليم، وذلك لعلمه بقدرة الوعي على زحزحة سلطانه فإزاحته، وهذا ما كان في “سوريا الأسد”، منذ بدايات فكرة التأسيس لحكم الفرد والعائلة، حيث تغلغل النظام في كلّ المؤسسات، وبخاصة تلك التي تعمل على نشر الوعي والمعرفة، حتى أثخنَ حركتها، وأمسك بنواصيها، وساقها إلى ما يخدم بقاءَه واستمراره؛ ومن هنا بدأت الثقة بين المجتمع ومؤسسات نشر الوعي والمعرفة تتلاشى؛ وفقدت تلك المؤسسات تأثيرها المنشود في المجتمع، وصار معظم القائمين على تلك المهمات موظفين طيّعين، كأصحاب المهن الحرفية، يصنعون لمن يدفع لهم ما يريد، وإن كان الثمن فساد حاضر مجتمعهم ومستقبله.
إنّ مجتمعاتنا اليوم تعاني مشكلات كثيرة، ومن أسباب تلك المشكلات تخلّي ذوي المهمات عن أدوارهم، لمصلحة مِهنهم وأربابها، فما كان بالأمس مهمّةً غايتُها التوعية ونشر المعرفة، بات اليوم مهنةً غايتُها التحكّم في انفعالات شريحة كبيرة من أفراد المجتمع، ومن ثَم توجيهها إلى حيث يُراد لها أن تكون، وبذلك يستمرّ عمل أولئك الموظفين ودخلهم، وتستمر آثار أفعالهم السلبية، ومما أسهم في ترسيخ تلك الحال أن قليلًا من الناس من يميّز الخطابَ السلبي (الذي غايته أن تنفعل)، من الخطاب الإيجابي (الذي غايته أن تفعل). وإذا كان هذا الأمرُ راسخًا في بيئات الاستبداد، ولا مجال لمواجهته والتغلّب عليه اليوم؛ فما بالُ ذوي المهمات الذين يعيشون في بيئاتٍ فيها من الحريّة ما يكفي لجعلهم مسؤولين أمام المجتمع وأمام أنفسهم؟ أين تقديمهم المهمّة على المهنة؟ وأين هم من الرسالة التي احترمهم المجتمع لأنهم نادوا بها؟ وإذا كان الواجب بالأمس يقضي، على القائمين بتلك المسؤوليات، بإعلاءِ المهمّة على المهنة؛ فإنّ الحاجة إلى ذلك أشدّ بأضعاف المرات، اليوم، وفي البلاد مئات الآلاف من الأطفال خارج نطاق التعليم، فضلًا عن ملايين المهجّرين قسرًا الذين يعانون الأهوال المادية والمعنوية، ويساكنهم العجز والقلق واليأس والضياع، وفيها عددٌ كبيرٌ من الحائرين الذين يعيشون الانفعالات المنهكة، ويعجزون عن القيام بالأفعال المريحة والمربحة، ومن أسباب ذلك، بلا شك، تأخرُ أهل المهمّات عن أداء ما عليهم.
إنّ تحوّل المهمّة (الرسالة) -وحديثنا هنا عن كل المهمات الإنسانية- إلى مهنةٍ (وظيفة) سينقلها إلى دائرة المشاريع والاستثمارات، وبذلك يُمسي صاحب المهمّة/ المهنة موظفًا يؤدي أعمالًا محددة توافق إرادة أرباب المشروع ورعاته، وهذه ثغرة كبيرة أُتي منها المجتمع، ولا بدّ من سدّها، لكيلا يفسد المِلحُ الذي هو عدّتنا لإصلاح ما فسد. ومن البديهي أن يكون لكلّ من الطرفين (أرباب المشروع وأصحاب المهمات) غايتُه التي يسعى لتحقيقها، وقلّما تكون الغاية واحدة، لكن هذا لا يعفي الإنسان، الذي تقوم مهنته على مهمة عالية، من السعي للتوفيق بين مسألتين: الأولى أداء الأمانة (المهمّة)، والأخرى إرضاء العمل (المِهنة)، وليس المطلوب منه اليوم بأكثر من التوفيق بينهما، على ألّا تطغى إحداهما على الأخرى؛ فالنفع والانتفاع كلاهما غاية، لكن النفع مُقدّمٌ عند صاحب المهمّة، والانتفاع مقدّم عند صاحب المهنة، ولا يعجز المتلقي الحاذق عن تبيّن غاية القائم بالعمل. وأمام هذا الواقع؛ لا بدّ من أن يراجع ذوو المهمة/ الرسالة: (المعلّم، الكاتب، الخطيب، الإعلامي..) أنفسَهم، ويحاكموا مذهبهم، وأن يعودوا إلى الجادة، وأن يتخذوا في هذا الموضوع موقفًا إستراتيجيًا، إذ لا سبيل إلى الحياة السويّة الصحيحة إلا مع مجتمع واعٍ، يكون حرًّا في إراداته ومسؤولًا عن خياراته، ولا سبيل إلى خلق المجتمع الواعي حتى يؤدي كلّ منا دوره، ويكون كل شخص في مكانه.
قد يكون هذا الكلام مثاليًا، وقد يبدو بعيدًا عن الواقع، لكنه -عند من يُمعن النظر جيدًا- السبيلُ الأقصر، وربما يكون الوحيد، لنهضة مجتمعاتنا وتعزيز الأواصر بين أفرادها وطبقاتها، وقد رأينا رأي العين أن الروابط بينها كانت صورية، ولم تصمد أمام الهزات والضربات الداخلية والخارجية. هذه دعوة إلى الإقبال على البناء المكين، بإعادة ترتيب الأولويات، ووضع كل شيء حيث ينبغي له أن يوضع. ولا أنكر أنّ هناك مشقّات وعقبات دون بلوغ ذلك؛ فاحتمال الخسارة واردٌ، لكنّ المكاسب الكبيرة تنتظرنا عند آخر الطريق، وما علينا سوى أن ننظر في مصير الذين أفلحوا في التوفيق بين المهمّة والمهنة، وحازوا المجدَ بحقّ، وسنجد عندئذ ما يُحفّزنا على المضيّ في الطريق، من دون التفاتٍ إلى أصوات حرّاس الاستبداد.