في تسعينيات القرن الماضي، سيطرت طالبان على الحكم في أفغانستان، وكنّا نستمع مع أحد أساتذتنا إلى أحد ممثلي طالبان، وهو يجيب عن سؤال عن منهج الحركة في الحكم، فقال إنهم ينوون أن يحكموا بالقرآن والسنّة والفقه الحنفي. كان أستاذنا رجلًا غزيرًا في الفكر الإسلامي، عقيدة وشريعة، وقد أشار إليّ قائلًا: “انظر إلى سذاجة هذا الرجل الذي لمّا يستوعب بعدُ أنّ تأسيس دولةٍ في هذا العصر لا يمكن أن يقوم اعتمادًا على مذهب فقهي، مهما بلغ هذا المذهب من اتساع ومرونة”!
صحيح أنّ الفقه الحنفي من أوسع المذاهب الإسلامية، وهو أكثرها احتكاكًا بالواقع، وقد تطوّر تطورًا كبيرًا بعد رحيل مؤسسه، وصحيح أن أصوله تتميز بأن قواعدها مشتقة من جزئيات الواقع، على عكس أصول المتكلمين التي توضع فيها القواعد مسبقًا وتطبّق على الجزئيات، إلا أنّ هذا لا يعني أن حكم دولةٍ في عصر معولم، تعلمن فيه الفضاء العام على مستويات مختلفة بين مكان وآخر، يمكن أن يقوم من دون استنزاف لكامل المنظومة التشريعية، بكل ما تنطوي عليه من إمكانية المواكبة، ومن دون تطوير مقاصدها التي أعاد النظر فيها الفيلسوف الإسلامي المغربي طه عبد الرحمن بكفاءة.
ولعلّ العثور على منطق المحاكمة كامنًا بين السطور، في نصوص خصوم طالبان ومناصريها، أمرٌ يسيرٌ، وهو منطق يعبّر عن أزمةٍ في الفكر؛ فكلا الطرفين -إذا نحّينا جانبًا أسلوب المناكفة الذي يكشف عن قصور في النضج- يظنّ أنه يمتلك الحقيقة، وهو وهم المؤدلجين، سواء أكانوا إسلاميين أم علمانيين.
في رأيي المتواضع، ليست طالبان إلا أنموذجًا من نماذج قصور الفهم للمنظومة الإسلامية التي تمثل الأخلاق نطاقها المركزي، والاستبدال بهذا النطاق المركزي نطاقًا مركزيًا آخر هو الدولة، هو القصور الذي يسم عموم حركات الإسلام السياسي.
فالأخلاق التي تمثل حقلًا حدوده تتموضع بين قطبي الواقع والمعيار، فضاؤها هو المجال العام، وهو فضاء يصوغه فعل تواصلي ذاتي بين الأفراد في المجتمع، وهم أفراد متنوعون، يمثّل كل منهم ذاتًا متفردة، وما محاولات تنميط هذا التنوع الذي تمثله الذوات إلا قهرٌ تمارسه تيارات الإسلام السياسي، وتخصف عليه قشرة من شعاراتٍ لا تُسمن ولا تُغني من جوع.
والخطر الكامن في توجه كهذا هو جعل الدولة وصيّة على أخلاق الأفراد، وهو ما يُفضي بالضرورة إلى تحويلها إلى دولة أوصياء، وهي عينها دولة الاستبداد، وما تنطوي عليه عبارة الإسلاميين الأثيرة: “لهم ما لنا، وعليهم ما علينا”، هو تعبير عن قصور أخلاقي متمثل في استعلاء تنطوي عليه هذه العبارة التي يعتقد قائلوها أنهم هم من يمنحون الحقوق للمختلف.
ولعلّ دفع مركزية الأخلاق إلى هامشٍ لا يليق بها وبما تمثله في المنظومة الإسلامية إنّما يجد مرجعية له في نظرية الشاطبي المقاصدية، فعلى الرغم من أن الشاطبي وضع نظرية فذة سابقة لزمانها، في تصنيفه للأولويات إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات، وفي إبداعه منهجًا متميزًا للتأويل؛ فقد كان تصنيفه مشوبًا بجوانب قصور عديدة، ولطالما قلنا إن التجديد إنما ينبغي أن يكون في الأصول لا في الفروع. وما هو أمسّ رحمًا بحديثنا أنّ الشاطبي قد وضع الأخلاق في صنف التحسينيات، وهو حطّ لها من مقامها الرفيع إلى مقام ثانوي لا يليق بها.
إن أصول الفقه لا تكون أصولًا مثمرة -وهو ربّما ما لا يدركه أعضاء طالبان من خريجي المعاهد الشرعية التقليدية المكتفين بما درسوه من كتب صفر- نقول إنه لا يكون منتجًا، بمعنى اتصاله بالواقع وتأثيره فيه تأثيرًا إيجابيًا، ما لم يتصل بالأخلاق عبر علم المقاصد؛ فالمقاصد تبحث عن الغايات باتباع منهج غائي، والغايات هي مملكة الأخلاق، بينما تكتفي أصول الفقه بالبحث عن العلل، باتباع منهج سببي.
ويمكن أن يكون ما نراه من عنفٍ تمارسه الجماعات المتطرفة، بناء على التغاير في العقيدة، مسببًا في جزء منه لوهم التفوق على الآخر، بسبب امتلاك العقيدة السليمة في نظر متبنيها، ومن دون أي اعتبار أخلاقي.
وبالعودة إلى طالبان، فإن السؤال الذي يُوجّه إلى السعداء بعودتهم، بناءً على ما سبق: هل يكفي طابع طالبان الإسلامي لغضّ النظر عن كونها دولة استبداد تريد أن تفرض على المجتمع وصايتها؟
ولا ينفع في التبرير الحديث عن تطور طالبان؛ لأن التطور لا يعبر عن نفسه بتصريحات إعلامية ولا بمواقف جزئية، وإنما بمشاريع قلبت النظر فيها عقولٌ تفقه الواقع، وتستفرغ الجهد في القبض على متغيراته، وتلاقح بين هذا الفهم وبين قيم إنسانية في منظومتها. كما لا ينفع في التبرير الحديثُ عن انتصارها الموهوم على أميركا؛ ليس لأن هذا الانتصار محل نظر، ولكن لأن الصعود على شعار تحدي أميركا هو نفسه الشعار الذي صعدت عليه أنظمة الاستبداد القومية التي قذفت بنا خارج التاريخ.
لا يمكن للاستبداد، أيًا كان اللبوس الذي يلبسه، أن يكون أخلاقيًا، ولا يمكن أن يبرر، أيًا كانت المنظومة التي يستند إليها، ليس لأنه كفيل بمسخ إنسانية الإنسان ومصادرة حرية تفكيره فحسب، ولكن لأنّ من يدّعون أنهم ممثلو منظومةٍ لها حقّها في الوصاية إنما يسرقون مشتركًا إنسانيًا، ويحتكرون الحقّ في فهمه وتنزيله على الواقع، ولهذا فهُم أوّل من ينبغي أن يقام عليهم حدّ السرقة.