منذ اللحظات الأولى للانتفاضة السورية، اعتمد النظام سياسة التسويف والمماطلة لكسب الوقت، وقد نجح في ذلك بامتياز، وأسهمت المعارضة الرسمية في إنجاح سياسة النظام، من خلال العزف على وتر الشعبوية الدينية التي قسمت الشارع الثوري عموديًا؛ فزادت من حدِّية الزوايا المجتمعية هوياتيًا، بطرحها مشروعات إسلاموية، أخافت الآخر الثوري، ودفعته إلى الابتعاد مبكرًا، لانحراف المسار الثوري عن أهداف الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فكانت خسارة ما نزال ندفع ثمنها حتى يومنا هذا.
بهذين السلوكين: سلوك النظام الخبيث بالمماطلة، وسلوك المعارضة المداهن للشعبوية المتدينة؛ أضفنا خسارة أخرى إلى خسائرنا الثورية، تمثلت بخسارة التعاطف الدولي مع ثورتنا، حيث بات يراها حربًا أهلية، وصراعًا بين نظام دكتاتوري وإرهابيين، لتتحول أجمل ثورة عرفها التاريخ السوري إلى مأساة إنسانية لا نظير لها في هذا القرن.
هذه المقدمة تدفعنا إلى التساؤل، ونحن نمرّ بمرحلة اللجنة الدستورية ومعركة كتابة الدستور: ما علاقة الدين بالدستور والدولة في عصر المواطنة؟
هذا السؤال متعلق على نحو كبير بخبث النظام وبغباء المعارضة اللذين أشرت إليهما في المقدمة؛ إذ إن المعلومات التي رشحت من اجتماعات المعارضة في لقاء الرياض، وكواليس جنيف، تحدثت عن صراع ضمن وفد المعارضة ذاته، حول دور الدين في الدستور، بين فريقين: الأول إسلاموي يريد دورًا للشريعة الإسلامية يمنع مخالفتها بحسب تصوره! والثاني يريد دستورًا علمانيًا لا علاقة للدين به([1]).
إن الاصرار على وضع عبارة في الدستور تقول بأن الشريعة الإسلامية مصدر أو المصدر، لبعض قضايا الدستور والقانون، يدخل في باب الشعبوية الدينية التي يحاول التيار الإسلاموي من خلالها القيام بثورته المضادة الجديدة على الشارع الثوري، بعد ثورات مضادة عدة، بدأت أولاها بالمجلس الوطني الذي خطف الثورة باسم الدين، ويريد إعادة الكَرَّة في معركة الدستور، مستغلًا حالة التدين الفطري عند الشارع السوري.
للدستور مهمتان أساسيتان: الأولى تأمين حرية المواطن وحماية كرامته، وتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع؛ والثانية ترسيم الحدود بوضوح بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وأي دستور لا يحقق ذلك فهو دستور أبتر.
من يرسم ملامح الدستور ويضع خارطته؟ ومن يصوغ مواده؟
المتعارف عليه أن من يضع الدستورَ فريقان: الأول فريق سياسي واقتصادي واجتماعي ذو خبرة، يرسم الملامح العامة التي يجب أن يكون عليها الدستور؛ والفريق الثاني مكوّن من فقهاء دستوريين وحقوقيين، ويكون دوره تحويل هذه الملامح العامة إلى مواد دستورية، يوافق عليها الشعب، ثم تُرسل إلى فريق قانوني، ليستنبط مواد القانون العام من تلك الفقرات الدستورية.
في المعركة “الدونكيشوتية” القائمة بين فريق المعارضة ذاته وفريق المعارضة مع فريق المجتمع المدني، مارس الإسلامويون ثورتهم المضادة الجديدة بشعبوية دينية، لعلّ الإسلام السياسي يستعيد جزءًا من شعبيته بعد أن كفر جلُّ السوريين به، ولم يعودوا يثقون به، لما جرَّ عليهم من ويلات حولت انتفاضتهم إلى مأساة إنسانية قاسية مع نظام استبدادي فاقد لكل شروط الإنسانية.
كيف بدأت فكرة أسلمة الدستور؟
في منتصف القرن الماضي، بدأت بعض الدول العربية تنال استقلالها، ومنها سورية، وبدأت استحقاقات شكل الدولة الحديثة تفرض نفسها، ومن هذه الاستحقاقات أن يكون هناك دستور ينظم ويضبط العلاقة بين الدولة ومؤسساتها والمجتمع. بدأ البرلمان السوري سنة 1950 مرحلة كتابة الدستور الذي جاء معززًا لصلاحيات البرلمان ومقلصًا لصلاحيات رئاسة الجمهورية، للحد من أطماع الأقطاب السياسية والعسكرية، آنذاك. لكن صراعًا جديدًا ظهر بين تيار الإسلام السياسي والتيار العلماني حول أسلمة الدستور الجديد.
تزعم تيار الإسلام السياسي آنذاك (مصطفى الزرقا ومعروف الدواليبي ومحمد المبارك، بقيادة مصطفى السباعي) أما التيار العلماني فكان بزعامة (أكرم الحوراني)؛ إذ طرح التيار الإسلامي مسألتين للأسلمة: الأولى دين الدولة الإسلام؛ والثانية دين رئيس الجمهورية الإسلام. انتهى الصراع بالتوافق بينهما على أن تبقى فقرة (دين رئيس الجمهورية الإسلام)، وتم تعديل عبارة (دين الدولة الإسلام) إلى عبارة أخرى (الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع).
عندما وضع حافظ أسد دستور 1973، حاول إلغاء المادة الثالثة، لكن ووجه باحتجاجات كبيرة، قام بها الإخوان المسلمون آنذاك، وتزعم الحراك ضد الأسد (سعيد حوى، ومروان حديد، ومحمد علي مشعل) ووافق الأسد الأب على بقاء الفقرة، وتم تعديل فقرة (الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع) بإلغاء أل التعريف منها.
هذا التنازل من الأسد الأب جاء بعد أن أصدر الشيخ سعيد حوى فتواه بالرِدَّة في كتابه (من أجل خطوة إلى الأمام على طريق الجهاد المبارك)؛ إذ نقد فكرة سيد قطب القائلة بجاهلية المجتمع، وطرح فكرة أكثر خطورة، وهي “ردة المجتمع”، وما بين المصطلحين فرق كبير، تترتب عليه أحكام تهدر الدماء. فأدرك الأسد أن المواجهة مع الإخوان المسلمين قادمة، وعليه أن يؤجلها حتى يتمكن من مواجهتها!
بعد معركتي 1950 و1973، نحن اليوم أمام معركة ثالثة أشد خطورة من سابقتيها؛ إذ إن التيار الإسلاموي يصرُّ على أسلمة الدستور القادم، ولديه من أسباب القوة أكثر بكثير مما كان يمتلك في المعركتين السابقتين.
ولكن ما حجج التيار الإسلاموي الشرعية؟
الحجة الأولى: “صحيفة المدينة”
يتذرعون بصحيفة المدينة، كدليل شرعي لإدخال الدين في الدستور، وهذا تدليس شعبوي. فلو قرأنا الصحيفة بتدبر، فسنجد أنها عقد اجتماعي بين المكون الجديد (المسلمين) في يثرب، وباقي المكونات الأخرى القديمة؛ إذ ترسل الصحيفة رسائل تطمئن تلك المكونات، وهذا واضح من السطر الأول لها، ومن الموقّعين عليها؛ إذ يقول نص الوثيقة: “هذا كتابٌ من محمد النبي بين المؤمنين من قريش وأهل يثرب”([2]). وهذا يعني أن الصحيفة تنظّم العلاقة بين مكونات مختلفة العقائد، وليست وثيقة قهرت أهل يثرب على اعتقاد واحد ودين واحد وشريعة واحدة، كما يود الإسلامويون الحصول عليه في كتابة الدستور الجديد.
وقد يقول بعضهم: إن في الصحيفة بعض التميّز للمسلمين، وأقول: إنه تميُّز فيما بينهم مع قريش، لأنهم في حالة حرب معها، وليس على الآخرين من يثرب، وأن هذا التميز نُسِخ بصلح الحديبية، فالصحيفة كُتبت في السنة الأولى للهجرة، وصلح الحديبية كان في السنة الثامنة للهجرة! وقد “حوت الصحيفة اثنين وخمسين بندًا: خمسة وعشرين منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرين مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخرى، ولا سيّما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُونت على نحو يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وفي حال هاجم المدينةَ عدوٌ، عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده” ([3]).
وكم نتمنى لو أن الإسلامويين يهتمون بثقافة المواطنة، ويقرؤون الصحيفة على هذا الأساس، لا على أساس أكثرية وأقلية، أو قوي وضعيف، وبتدبّر الوثيقة؛ نستخلص ما يلي:
- – الاعتراف بالتعددية الدينية، والحق لأهل كل اعتقاد بالتعبير عن طقوسهم.
- – العدل والمساواة والحرية حقوق لكل أبناء المجتمع، على اختلاف مشاربهم الفكرية والدينية.
- – الانتصار لأي مظلوم من أبناء المجتمع من أي طغيان أو تعدٍّ يتعرض له.
- – المحافظة على المدينة، ومنع أي فرد من أبنائها من نشر الفساد فيها أو إشاعة الظلم أو الفتنة.
- – لا يؤخذ أحد بجريرة أحد، بل يحاسب المخطئ فقط على خطيئته.
- – احترام حقوق الآخرين وعدم التعدي عليهم بذريعة الحرية الشخصية.
- – منع حماية المجرمين والتستر عليهم أو مناصرتهم.
- – تكافل وتضامن أبناء المجتمع الواحد للمشاركة في المصائب، ماديًا ومعنويًا.
- – لا يُعفى أحد من جرمه بذريعة الدين أو النسب أو لمكانته السياسية أو الاجتماعية.
- – تشكيل ما يشبه صناديق المساعدة المادية لمساعدة الغارمين والمحتاجين والفقراء.
- – حق المواطنة مكفول لكل مواطني المدينة، سواء كانوا مسلمين أم يهودًا أم غير ذلك.
ولم يذكر النبي أيّ دليل على أن تكون الشريعة الإسلامية مرجعًا يحتكمون إليه، وترك ذلك كل حسب شريعته، وكان إذا احتكم إليه اليهودُ يسألهم: أعلى شريعتكم أم على شريعتنا؟([4]).
الحجة الثانية أن “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”([5]).
الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولكن ليس بمنظاركم الراغب في السلطة، وإن الإنسانية دين الأديان، والتديّن الذي لا إنسانية فيه هو تديّن مغشوش ومزيّف، ودعاته يكذبون على الله، فالقرآن بدأ باسم الله، وانتهى باسم الإنسان، والدين في خدمة الإنسان والعكس خطأ. فالدستور كما الله (قياس مع الفارق)؛ الله وصف نفسه في كتابه بأنه “ربّ العالمين”، أي رب الجميع يرزقهم ويرعاهم سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، وكذلك الدستور لكل المواطنين، يحميهم ولا يميز بينهم على أساس ديني أو طائفي أو عرقي. فإنْ كنا صادقين في تأسيس دولة المواطنة، فعلينا أن نؤسس بعمق ثقافة المواطنة، ولا تتحقق المواطنة، إن لم يتساو أبناء الوطن كلهم في الحقوق والواجبات دون أي تمييز.
ولمن يريد إعادة استنساخ المادة الثالثة (دين رئيس الدولة الإسلام)، نقول: لا نريد رئيسًا متديّنًا، فهذا شأنه مع ربه، إنما نريد رئيسًا عادلًا، وقد ولّى عهد الرئيس الفرد القائد، ولا بد أن يكون مقام الرئاسة مؤسساتيًا يديره فريق من أشخاص ممثلين بشخص أمام الشعب، عندئذ لا عبرة إنْ كان هذا الشخص امرأة أو رجلًا، ولمن يعترض على تولي المرأة الرئاسة باسم الدين، نقول: لا دليل قطعيًا يؤيد ذكورية القيادة([6]).
وعودة لمقولة “الإسلام صالح لكل زمان ومكان”، أيّ إسلام تقصدون؟ فلدينا أكثر من إسلام، الشيعي أم السلفي أو الصوفي أو الجهادي.. إلخ؟ وبهذه المقولة تريدون فرض علينا فهمًا لإسلام يناسب مشروعكم السياسي لا الإسلام ذاته، الذي يعرفه المسلمون كافة. ثم تريدون إحراجنا بقولكم: “أنتم ترفضون الإسلام”.
نعم، نحن نرفض فهمكم السياسي للإسلام، ولا نؤمن بالإسلام التاريخي الذي أنتج دينًا موازيًا، لكننا نؤمن بمقاصد الدين الإنسانية والتوحيدية، ولا نظن أن دينًا من الأديان الثلاثة جاء ليؤسس إمبراطورية باسم الله، لهذا لا نؤمن بوهمكم المسمى (الخلافة) فهذا كان فهمًا بشريًا للإسلام، اقتضاه شكل الدولة آنذاك، وسطوًا سياسيًا عليه، بدأ بالأمويين وانتهى بالعثمانيين، ويريد التحريريون والإخوان والجهاديون استعادة وهمهم المفقود([7]).
وإذا كنتم تأخذوننا إلى عبارات الأصوليين وقواعدهم، فنحن نعيدكم إلى عبارات أصولية محكمة، إذ قالوا: “الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان”. فالزمان تغير والمجتمعات تطورت، من مجتمعات تعيش الأيديولوجية الدينية وتفرضها على الآخرين، إلى عصر المواطنة وحقوق الإنسان، فإعادة عقارب الساعة إلى الوراء دليلٌ إفلاس لا إبداع([8]).
فما هي مهمة الدستور والقانون المنبثق عنه؟ أليست هي حماية المواطن والمجتمع، وأنَّ هدف الحدود الشرعية هو حماية المواطن والمجتمع من أيّ اعتداء؟ وبناءً على نظرية الشاطبي في المقاصد؛ فإن أي دستور يستند إلى حمايتهما فهو قائم على مقاصد الرسالات السماوية التي جاءت لحماية الإنسان، وجعلته مقدسًا من أن تنتهك قدسيتَه سلطٌة سياسية مستبدة أو دينية غاشمة، تدّعي أنها تمثل الله سبحانه وتعالى.
إن الأديان الثلاثة كانت إنقاذًا للإنسان من أن يكون قربانًا حتى لله، لذلك نقول: الدين في خدمة الإنسان لا العكس. الأديان حولت الإنسان، من إنسان الغريزة إلى إنسان الخطيئة، ثم من الإنسان القربان إلى الحيوان القربان، وسنَّت الإبراهيمية الحنيفة ذلك.
لكن مشروع الإسلام السياسي عبر التاريخ عكَس القاعدة، وأعادنا إلى الإنسان القربان، من أجل السلطة باسم الدين، فذهب الآلاف من أبنائنا قرابين لتحقيق طموح الإسلام السياسي بالعودة إلى السلطة. وعلى مدار مئة عام من تاريخ ولادة الإسلام السياسي، ذهب عشرات الآلاف من شبابنا ضحايا فكرة لا تتناسب مع رسالات السماء، فبعد أن أقنعوا المتدينين بقدسية التاريخ وطهرانيته، بدؤوا بإيديولوجية صناعة المستقبل المقدس المثالي، من خلال عودة الخلافة، قياسًا على قدسيّة التاريخ، وتاريخنا السياسي مدنّس لا مقدس. والإسلام دعوة لا دولة، وكم أضرَّ إسلام الدولة إسلام الدعوة.
الحجة الثالثة أن “عصر الخلافة وما بعده حكَم المجتمعات بالشريعة، فكنّا الأقوى والأول عالميًا”.
دائمًا تُقاس علاقة الدين بالدولة بحياة النبي الكريم، عندما كان زعيمًا سياسيًا للمجتمع ورسولًا مبلِغًا عن ربه، ولكن المشكلة أننا لم نفرق بين تصرفات النبي ذاتها، فجعلناها كلها تشريعًا! وهذا خلل وضّحه علماء مثل الكرابيسي في كتابه (الفروق) ثم جاء بعده بقرن من الزمن الإمام القرافي، وكتب (أنوار البروق في أنواء الفروق)، إذ بيّنا أنَّ هناك أفعالًا قام بها كرسول هي واجبة الاتباع، وأن هناك أفعالًا أخرى قام بها بموجب الجبلّة البشرية، كزوج وسياسي وعسكري وقاضٍ إلخ، ويجب التفريق بينهما.
نتيجة هذا القياس الخاطئ، منحنا سلطة التشريع حتى للخلفاء الراشدين، ولم نفطن إلى أنهم كانوا زعماء دولة، وليسوا مشرعي دين، هذا الخلط أدى إلى سوء فهم بين وظيفة الدولة ودور الدين! وساهم في ذاك الخلط الحديثُ المحفوظ عند المسلمين: “عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي”. وهو حديث ثابت ضعفه، بشهادة علماء الحديث أنفسهم! ولكن بعض الفقهاء لم يتحروا ضعفه! فبنوا عليه أحكامًا خلطت بين الحكم الشرعي والقرار السياسي!
فالخلفاء الراشدون لم يكونوا مشرعين دينين، إنما مجتهدون مدنيون، لأنه -ببساطة- لا تشريع بعد الوحي، وكل تشريعات الخلفاء الأربعة ليست معصومة، كما أنها ليست دينًا، لكنها مستوحاة من روح الدين ومقاصده الإنسانية ومصلحة المجتمع، لذلك جاءت توقيفات عمر لنصوص معروفة ([9]).
وعلى ذلك؛ يمكننا القول: إن ما سنَّه الخلفاء الراشدون يشبه تمامًا المراسيم التي يعلنها رؤساء الدول وملوكها اليوم، فهي قابلة للتغيير والتبديل بمراسيم أخرى، لأن الواقع تجاوز القديم والمجتمع بحاجة إلى جديد، والأدلة على ذلك كثيرة. لكن المشكلة أن الفقهاء أدخلوا تشريعات الخلفاء المدنية بكتبهم، واختلطت بمرور الأيام مع الدين، فحسبناها دينًا!
هذا يعني أننا يجب أن نصل إلى قناعة بأن وظيفة الدين ودوره متغيران، بحسب العصر، ولو أن الله أراد للفهم الذي يدعون إليه البقاءَ، لأبقى جيل الرسالة حيًا، فسُنة الله في خلقه هي تعاقب الأجيال وفناء السابق، وهذا دليل واضح على تغيُّر وظيفة الدين ودوره، إذ لكل عصر شروطه الموضوعية التي تنهض بالمجتمع، فمجتمع الرسالة وما تلاه كان الصراع فيه على عالم الغيب (كيف هو الله! والقرآن هل هو مخلوق، وخلق الإنسان لأفعاله)، فكتبوا كتب العقائد، وبحسب رأيي، فإن من أصَّل كتب العقيدة أراد أدلجة الدين.
أما نحن فصراعنا اليوم على عالم الشهادة، ومن أهم أدوات عالم الشهادة في عصر التكنولوجيا مفاهيم وثقافة الديمقراطية، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان، والمواطنة، والعدالة الاجتماعية، والزواج المدني إلخ.. وتلكم قضايا لا علم لجيل الرسالة بها، وهي ما نحتاج إليها في دستورنا القادم.
الحجة الرابعة: “لا يجوز التفاوض على الدين فهو أهمّ من الوطن”!
من المعروف أن للدستور المزمع إنجازه هدفًا إنسانيًا اجتماعيًا يريده المجتمع الدولي، ويتمثل بوقف شلال الدم السوري والدمار وتشريد الملايين، قبل كونه حالة فض اشتباك سياسي بين النظام والمعارضة، وإن مصلحة الإسلامويين أن تكون لهم بصمة في هذه الدستور، بإدراج مواد إسلامية، ولكن هذه المصلحة قد تعطِّل ولادته، وتبعث برسالة أن فريق المعارضة نفسه غير متفق! والمستفيد من هذا التعطيل النظامُ، والمتضرر قوى الثورة وملايين السوريين الذين يعانون ويلات الحرب. وإنّ القاعدة الأصولية تقول: “درء المفاسد مقدّم على جلب المصالح”([10]). وهذه قاعدة متفق عليها عند الفقهاء والأصوليين وحتى أهل الحديث، ولا توجد مفسدةأكبر من استمرار نزيف الدم السوري، حتى إن العزّ بن عبد السلام قال: “ندرأ المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة“([11]).
وللدين وظيفة قبل العبادة والشريعة هي الحفاظ على الحياة، بدليل أنه أجاز أكلَ المحرّم، كالميتة، للحفاظ على الحياة. ولم يطالب الله -سبحانه وتعالى- قريشًا بعبادته، إلا بعد أن حققّ لهم الأمن الاجتماعي والاقتصادي: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.
وعندما يكون الخيار بين العقيدة وحقن الدماء؛ يجب اختيار الثاني، ففي صلح الحديبية، من أجل حقن الدماء، تخلى الرسول عن العقيدة التي هي أعلى من الشريعة، عندما مسح اسم (محمد رسول الله)، وقَبِلَ أن يفاوضهم كقائد عسكري لا نبيّ، بالرغم من اختلاف الصحابة معه كلهم. لكنه لم يأخذ بالعاطفة الدينية التي اعترت الصحابة، فوقّع هدنة أوقفت المقتلة بين أبناء الوطن الواحد.
مُفخخة الدولة المدنية
مصطلح الدولة المدنية مصطلح مفخخ، ففي وثائق القاهرة 2012، توافق الإسلاميون والعلمانيون على أن سورية المستقبل هي “دولة مدنية”، وكان التوافق آنذاك لفضّ الاشتباك بينهما، فخرج الإسلامويون وأخبروا جمهورهم أن المقصود بالدولة المدنية هو “الدولة غير العسكرية”، أما العلمانيون فأخبروا جمهورهم أن المقصود هو “الدولة العلمانية”.
نحن نريد دولة المواطنة، بمعناها العميق، الدولة التي تحترم الدين وشعائره، ولكنها لا تسمح للمؤسسة الدينية بالتدخل في إدارة الدولة، ولا تُسَخِّرُ المؤسسةَ الدينية لمشروعها الأيديولوجي، لأننا لا نريد دولة أيديولوجية، أي نريد فصل الدين عن الدولة؛ فالدولة كائن اعتباري لا دينَ له، إنما هي مؤسسة تدير شؤون البلاد والمواطنين بحيادية كاملة ومساواة.
[1] ـ معلومات حصلت عليها من أعضاء في اللجنة الدستورية الممثلة للمعارضة.
[2] ـ راجع صحيفة المدينة عند ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية).
[3] ـ المستشرق الروماني جيورجيو: ممدوح الشيخ: مدخل إلى ثقافة قبول الآخر: رؤية إسلامية (الطبعة الثالثة 2018). المركز الدولي للدراسات والاستشارات والتوثيق.
[4] ـ راجع حادثة عبد الله بن سلام في الزنا، وهي مذكورة في صحيح البخاري.
[5] ـ أول من أطلق هذا الشعار هو عبد العزيز جاويش في عام 1905 في مؤتمر تونس، للرد على حمالات التبشير، ثم تبناها حسن البنا وروّجها؛ وجاويش من أشد مناصري الخلافة ثم من مؤسسي جمعية الشبان المسلمين.
[6] ـ حديث أبي بِكرة (ما أفلح قوم ولّوا أمورهم امرأة) لم يصح سندًا، وإن صح وقبله بعض المحدثين والفقهاء في عصرهم الذكوري، فهو تحليل للنبي، وليس إخبارًا.
[7] ـ راجع بحثنا المنشور في مركز حرمون للدراسات بعنوان: (حلم الخلافة من البنا إلى البغدادي).
[8] ـ راجع في هذه القاعدة كتب: إعلام الموقعين عن ربّ العالمين لابن القيّم. والقواعد الفقهية للشيخ مصطفى الزرقا، والقواعد الفقهية للعزّ بن عبد السلام.
[9] ـ نأخذ على سبيل المثال، تصرف أبي بكر مع مانعي الزكاة، كان تصرفًا بصفته زعيمًا للدولة لا مشرعًا؛ إذ وجد تمردهم ضارًا بخزينة الدولة وهيبتها، فقرر معاقبتهم. عمر ذاته أدرك الفارق بين الدولة والدين، ففي عهد رسول الله كان الرجال والنساء يتوضؤون في مكان واحد، وكان الاختلاط مباحًا، لكن عمر وجد أن من الرجال والنساء من استغل ذلك لفساد ما؟ فأصدر أمره بمنع الاختلاط، فتصرف كزعيم دولة لا كمشرِّع، وبالتالي فقراره تنتهي صلاحيته متى اختفت العلة الباعثة لإصداره، لكن كثيرًا منا جعل أمره تشريعًا، لا قرارًا من زعيم دولة! فحرّم الاختلاط!
[10] ـ شرح الكوكب المنير: ابن نجار الحنبلي (1/599) ط 1993 وزارة الأوقاف السعودية؛ والبحر المحيط في أصول الفقه: الإمام الزركشي (7/280) ط دار الكتب العلمية.
[11] ـ غمز عيون البصائر. أحمد بن محمد الحنبلي، دار الكتب العلمية.