على الرغم من بلوغ الأزمة السورية عامها العاشر، ما يزال الموقف الأميركي فيها محيرًا ويشوبه الغموض وتبدو فيه أميركا متخبطة تتصرف بضعف ولا تتخذ قرارًا حاسمًا أو تلعب دورًا فاعلًا أو تثبت حتى على رأي، وذلك بخلاف مواقف الأطراف الأخرى الفاعلة في النزاع، روسيا وإيران وتركيا ذوات المواقف الحازمة والثابتة والواضحة.

وهذا ما يزال يطرح تساؤلات حتى اليوم عن حقيقة الموقف الأميركي، هل هو لامبالاة، أم عجز أم تواطؤ، أم خليط من كل ذلك أو بعضه، أم سواه؟

وبالطبع من المهم جدًا فهم ماهية الموقف والدور الأميركيين، فالأمر هنا يتعلق بالقوة السياسية والاقتصادية والعلمية والصناعية والإستراتيجية الأولى في العالم، وليس بقوة ثانوية أو هامشية التأثير.

فما هي علاقة أميركا بكل ما يحدث في سورية، وأين هو موقعها بين المؤامرة والهزيمة والخديعة والنأي بالنفس، وإمساك خيوط اللعبة أو الابتعاد عنها؟

1-     ماذا تقول لنا البدايات؟

منذ بداية الانتفاضة السورية صرحت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في حينها -وفقًا لوكالة رويترز- في 27 آذار/ مارس 2011 أنها تستبعد تدخل بلادها في سورية كما في ليبيا لأن لكل انتفاضة عربية خصوصيتها وظروفها المختلفة.

وأشار السيناتور المستقل جوزيف ليبرمان إلى أن الولايات المتحدة ودولًا أخرى قد تتدخل عسكريًا في سورية إذا هاجم النظام السوري المحتجين بضراوة أشد، وقال ليبرمان لمحطة فوكس نيوز إن المجتمع الدولي لن يقف مكتوف الأيدي وأنه توجد الآن سابقة قالها المجتمع الدولي في ليبيا وهي الشيء الصواب.

فيما قال إدوارد ووكر، السفير الأميركي السابق لدى مصر وإسرائيل، إنه سيعارض التدخل العسكري في سورية لأن الولايات المتحدة لديها كثير من المهمات في الوقت الراهن بما في ذلك إنهاء الحرب في العراق وقتال طالبان في أفغانستان([1]).

وتقريبًا دعا السيناتور جون ماكين إلى استخدام القوة الجوية الأميركية لإنشاء مناطق آمنة للمدنيين في شمال سورية، وتعليقًا على هذا الموقف قال المفكر الأميركي المعروف نعوم تشومسكي إن جون ماكين لا فكرة لديه عما يتحدث به في هذا الأمر وفي أي موضوع آخر، وأضاف تشومسكي أنه لا يعتقد أنه يمكن للقوة الجوية أن توجد ملجأ آمنًا، وقال أيضًا إنه لا يبدو أن هناك احتمال حدوث تدخل أجنبي، وليس هناك من يريد التدخل، وأنه متأكد من أنهم في واشنطن ولندن كانوا يهللون للفيتو الذي اتخذته كل من روسيا والصين لأن ذلك أعطاهم ذريعة للقيام بما كانوا سيقومون به على أية حال وهو عدم القيام بشيء. إنهم يعملون ما يحلو لهم في معزل عن الأمم المتحدة ولكنهم قادرون على إطلاق التصريحات النبيلة حول الحرية وما إلى ذلك من دون القيام بكثير([2]).

وكما نرى فالمواقف والآراء المختلفة هنا تدل على عدم وجود نية حازمة لدى أميركا حتى هذه اللحظة للتدخل العسكري المباشر في سورية.

2-     ماذا عن المؤامرة على سورية؟

عدم وجود النية للتدخل العسكري لا تعني عدم وجود النية للتدخل بأشكال أخرى، أو أن التدخل بأشكال أخرى غير موجود أساسًا، وهناك كثيرون في سورية وفي غيرها من الدول العربية يرون أن كل ما يجري فيها بل في المنطقة العربية ككل وما يسمى بـ(الربيع العربي) هو (مؤامرة غربية) تتزعمها أميركا، لإعادة ترتيب هذه المنطقة كما يخدم مصالحها.

وهناك في المقابل من يرى غير ذلك أو عكسه، فنعوم تشومسكي الناقد المعروف للسياسات الأميركية الرسمية يقول في هذا الشأن: “لا أعتقد أن هناك أية مؤامرات إنهم جميعا يرون أن في مصلحتهم ألا يقوموا بالكثير فما الذي يمكن أن يقوموا به تحديدًا؟ وليس هناك بلد يريد أن يدخل حربًا برية في سورية لا تركيا ولا فرنسا ولا روسيا ولا أي منهم”([3]).

ولكن على العكس من تشومسكي يرى الأكاديمي والكاتب العراقي البروفيسور كمال مجيد أن أميركا وبريطانيا ضالعتين في المؤامرة على سورية، وأن هذه المؤامرة بدأ إعدادها وتنفيذها قبل 2011، لأن هناك أسبابًا حقيقية مهمة لعداء أميركا للحكومة السورية، فهناك تناقض واضح بين سياسة الحكومتين في كثير من قضايا المنطقة الحساسة، ويقول في هذا الشأن: “في مقابلة تلفزيونية صرح رولاند فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي السابق، بأن (الحكومة البريطانية خططت عمليات سرية في سورية منذ 2009). و(كنت في بريطانيا سنتين قبل بدء العنف في سورية … وقد قابلت مسؤولين في القمة البريطانية الذين اعترفوا أمامي بأنهم كانوا يحضرون شيئًا ضد سورية كتحضير المسلحين للهجوم عليها)”، ويضيف أن أميركا أدخلت قواتها الخاصة إلى سورية حتى قبل بدء التظاهرات فيها لتدريب المتطوعين السوريين على القتال والاستمرار فيه لا لإسقاط النظام السوري فحسب بل لتحطيم سورية وإعادتها إلى القرون الوسطى([4]).

أما دانيال بايبس، وهو من المحافظين الجدد، فقال في مقالة في صحفية واشنطن تايمز في 11 نيسان/ أبريل 2013 إنه إذا سقط النظام السوري الآن فإن الأشرار الآخرين سينتصرون. ودعا فيها الإدارة الأميركية والحكومات الغربية إلى تقديم الدعم للنظام السوري الاستبدادي لخلق توازن بينه وبين معارضيه لمنع انتصار الإسلاميين في سورية؛ ولا سيما بعد أن أصبحت قدراته تتراجع وانتصارهم مرجحًا، والسبب وراء تقديم هذا الاقتراح -في رأيه- هو أن قوى الشر عندما تحارب بعضها بعضًا تصبح أقل خطرًا على الغرب، وهذا ما يجعلها تركز على أوضاعها، ويمنع أيًا منها من تحقيق انتصار بحيث تشكل خطرًا أكبر، فالقوى الغربية يجب أن تدفع الأعداء إلى طريق مسدود بينهم من خلال دعم الطرف الخاسر، لإطالة الصراع بينهم أكثر([5]).

3-     كيف كانت العلاقة بين الإدارة الأميركية والانتفاضة السورية؟

تتفق كثير من الآراء هنا على أن الانتفاضات العربية بما فيها الانتفاضة السورية فاجأت أميركا، ولكن أميركا استدركت الأمر بما لديها من قوى واحتوته، لتتعامل لاحقًا مع كل انتفاضة بمخطط خاص مختلف، وفي هذا الشأن يقول الأكاديمي والكاتب السوري د.قصي غريب في دراسة منشورة له في (مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والإستراتيجية): “فاجأت الانتفاضات والثورات التي اندلعت في 2011 ضد الأنظمة الاستبدادية في أكثر من دولة عربية الإدارة الأميركية وأربكتها، ولكن بسبب القدرات والإمكانات والخبرات السياسية والدبلوماسية والمخابراتية التي تتمتع بها الولايات المتحدة كدولة عظمى في الساحة الدولية سرعان ما استعادت توازنها؛ وبدأت باستخدام السياسات المضادة لهذه الانتفاضات والثورات بالتعامل مع وضع كل دولة عربية ثائرة على حدة وبخاصة الثورة السورية”([6]).

وهذا ما يتفق مع كلام د.برهان غليون الذي يقول بدوره: “قد فاجأت الثورة السورية أوباما وجاءت في لحظة حرجة ما كان يقبل فيها التراجع عما حققته له المفاوضات من مكاسب سياسية عامة وشخصية. لذلك رفض منذ البداية أن يوليها أي أهمية، وربما استاء من اندلاعها في تلك الفترة، وأشاح بنظره عنها قبل أن تضغط عليه الدول الأوروبية وأعلن رسميًا في أكثر من تصريح بأنه لا يملك أي إستراتيجية تجاه المسألة السورية. وقد فضح تعليقه على نتائج اجتماعه ببعض قادة الائتلاف المعارض قبل نهاية ولايته رؤيته الحقيقية للأمر عندما صرح للصحافة أن مزارعين وأطباء أسنان لا يصنعون ثورة أو دولة”([7]).

4-     ماذا فعلت أميركا بالفعل؟

لا يحتاج دور أميركا في منطقة شرق الفرات إلى أي جدل بخصوصه، فهناك تدخلت علنًا وبوضوح، وأنشأت تحالفًا دوليًا لمحاربة داعش الذي تمكن من السيطرة على هذه المنطقة في معمعمة الصراع العنيف الدائر في سورية، ودعمت أميركا لهذا الغرض (وحدات حماية الشعب الكردي)، وهزمت داعش، ولكنها في الحصيلة أنشأت دويلة كردية تحكمها قسد، واستمرت في دعمها واحتضانها حتى اليوم، وإن كانت بين حين وآخر تقوم بسحب جزئي أو إعادة انتشار لقواتها، وتعلن في حين أنها ستنسحب من شرق الفرات، ثم تعلن في حين آخر أنها ستبقى، فعلى سبيل المثال أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب في7 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أنه حان الوقت لتخرج الولايات المتحدة “من الحروب السخيفة التي لا نهاية لها في سورية” وسحب جزءًا من القوات الأميركية الموجودة هناك([8])، بينما في وقت أسبق كان وزير خارجيته ريكس تيلرسون قد أوضح في كلمة ألقاها في جامعة ستانفورد عن إستراتيجية بلاده لإنهاء الحرب الدائرة في سورية منذ 7 سنوات حتى ذلك الحين، أن مهمة الجيش الأميركي هي دحر تنظيم الدولة ومنع عودته مرة أخرى، وأن الجيش الأميركي باق في سورية ليس فقط لدحر تنظيم ما يعرف بالدولة الإسلامية بالكامل بل من أجل منع النظام السوري مع حليفته إيران من السيطرة على كامل البلاد، وأن بقاء الجيش الأميركي في سورية يمنح استقرارًا كافيًا يمكن السوريين من إسقاط هذا النظام والتخلص من النفوذ الإيراني([9]).

أما في غرب الفرات فالأمر أكثر تعقيدًا والتباسًا، فالدور الأميركي هناك غير واضح ومبهم، ولكن الجلي فيه هو أن أميركا لم تتصدَّ للتدخل الروسي الذي بدأ في أواخر2015 وما يزال مستمرًا حتى اليوم، ما أسفر عن القضاء على معظم الجماعات المسلحة المعارضة في هذه المنطقة وإعادة سيطرة النظام السوري عليها باستثناء إدلب.

لكن على الرغم من الالتباس والغموض اللذين يظهر فيهما الدور الأميركي، فطبيعة هذا الدور بخطوطه العريضة توضح أن هناك صراعًا علنيًا تارة وخفيًا تارة أخرى يجري بأساليب وتكتيكات مختلفة بين روسيا وأميركا في سورية، وهذا ما سبق أن قال بشأنه كوفي عنان، أول مبعوث أممي إلى سورية في الأزمة، في مقابلة مع صحيفة الغارديان البريطانية، نشرتها في موقعها على الإنترنت، إن “سورية ستواجه حربًا أهلية سيتسع نطاقها ما لم توقف روسيا والغرب ودول عربية تنافسَها الهدّام لفرض وقف لإطلاق النار وإطلاق عملية سياسية”([10]).

هذا الصراع الدولي على المصالح في سورية الذي بدأ في عهد أوباما استمر في عهد ترامب بالشكل العام نفسه الذي يخدم مصالح الأطراف المتنافسة، وعنه يقول د.برهان غليون: “إدارة الرئيس دونالد ترامب غيرت موقفها ونظرتها لسورية، لكن ليس من منطلق ملاقاة التطلعات الشعبية السورية أو التعاطف معها وإنما من منطلق مواجهة روسيا أو عدم السماح لها بأن تفرض هيمنتها في منطقة متوسطية كانت لها فيها ولا تزال السيطرة الرئيسية. وربما فكر بعض خبرائها بتحويل سورية إلى مستنقع للرئيس الروسي بوتين”([11])، ويضيف د. غليون: “نجحت آستانا في قتل مسار جنيف وهذا كان هدفها الحقيقي والرئيس. لكن الولايات المتحدة والغرب عمومًا لم يكن راضيًا تمامًا عن هذا الاختطاف للقضية السورية من قبل الروس، وقد انتظرهم -وما يزال- على باب الخروج. اليوم يقول لهم لن تستطيعوا الهرب بسورية وحدكم، ولن نترككم تفعلون ذلك، وبالمثل لا يعني التمسك بجنيف من قبل الغرب مراعاة حقوق السوريين والسعي إلى إيجاد حل سريع للنزاع الدامي وتلبية الحد الأدنى من مطالب الشعب السوري وتطلعاته. فلو كان هذا هو الهدف لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه الآن، ولضغط الغربيون بقوة منذ السنة الأولى أو الثانية لتطبيق قرارات مجلس الأمن، ولما كان الروس وجدوا طريقا للهرب من الالتزام بهذه القرارات. ما يهدف إليه الغرب اليوم من التشديد على جنيف هو ببساطة عدم ترك الروس وحلفائهم يهربون بالكعكة ويتركونهم على حافة الطريق”([12]).

5-     هل يمكن تحديد أهداف أميركا في سورية؟

بناء على كلام تيليرسون المذكور في الفقرة السابقة أعلاه تتلخص أهداف أميركا في سورية بالقضاء على الإرهاب متمثلا في داعش بشكل رئيس، وبإسقاط النظام السوري الراهن وإخراج إيران من سورية.

لكن وفقًا لبعض المحللين لا يتوقف الأمر على ذلك فقط، فبرأي البروفيسور كمال مجيد تريد أميركا أيضًا السيطرة على كميات النفط والغاز الكبيرة التي اكتشفت في سورية وفي المياه الإقليمية السورية في المتوسط، وتريد مساعدة قطر على مد خط غازها عبر سورية إلى المتوسط لتصديره إلى أوروبا ومنافسة الغاز الروسي، وتريد أيضًا طرد روسيا من قاعدتها في طرطوس، وهي الوحيدة المتبقية من ثلاث قواعد سبق أن أقامها الاتحاد السوفييتي في كل من سورية والعراق وليبيا، ونجحت أميركا في السيطرة على قاعدتي العراق وليبيا منهما، وبذلك لم يبق لروسيا إلا قاعدة طرطوس ليستخدمها الأسطول الروسي في البحر المتوسط، وعدا ذلك تريد أميركا استبدال النظام السوري الحالي بحكومة عميلة تعترف بإسرائيل من دون إعادة الجولان المحتل([13]).

6-     هل فشلت أميركا في تحقيق أهدافها؟

وفقًا للأهداف المذكورة أعلاه يرى البروفيسور مجيد أن أميركا فشلت فشلا ذريعا في تحقيق كل تلك الأهداف، والشيء الوحيد الذي نجحت فيه يندرج في إطار سياسة (الفوضى الخلاقة) (Creative Destruction)([14]).

وهو رأي يلتقي بدرجة ما مع آراء عدد من السياسيين الأميركيين الذين يرون أيضًا -وإن اختلفت التفاصيل- أن السياسة الأميركية في سورية قد فشلت وينتقدونها بشدة، وهذا ما يراه -مثلًا- كل من جيفري فيلتمان الذي كان وزيرًا سابقًا للخارجية الأميركية، وجيفري د. ساكس، أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسات الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا الأميركية، وجيل بارندولار، مدير دراسات الشرق الأوسط في مركز المصلحة الوطنية الأميركية، والأكاديمي والكاتب والصحافي الأميركي ستيفن كوزنر، والأكاديمية المتخصصة في الشؤون الأمنية والإستراتيجية مارا كارلين وسواهم كما سنبين لاحقًا.

7-     السياسة الرسمية الأميركية في دائرة النقد الأميركي

أثارت السياسة الأميركية في سورية لأسباب مختلفة عددًا من انتقادات المفكرين والسياسيين البارزين في الساحة الأميركية نفسها.

فقد صرح تشومسكي في أثناء مقابلة في معهد هارفارد للسياسات في أيلول/ سبتمبر 2015، وفي مقابلات أخرى عدة، بأن اقتراف تدخل إنساني في سورية هو (رنجة حمراء) (وهذا اسم لحيلة كان الفارون من العدالة يستخدمونها لتضليل الكلاب البوليسية التي تتبعهم)، وأن “كل استخدام للقوة يُنعَت بالتدخل الإنساني” وأغلب التدخلات الإنسانية لا يمت إلى الإنسانية بصلة، وأنها في واقع الأمر “تدخلات تخدم مصالح منفذيها” من وجهة نظره، وقال في ما يتعلق بالتدخل في سورية إن الولايات المتحدة قد اقترفت ما يفوق دعم القوات التي تنتج وتُديم الحراك (الجهادي) في البلاد([15]).

أما ​جيفري فيلتمان، فقد صرح بأن السياسة​ الأميركية في ​سورية​، لإدارتي الرئيسين السابقين ​دونالد ترمب​ و​باراك أوباما​ فشلت في ​تحقيق​ نتائج ملموسة تجاه أهداف ​واشنطن​ باستثناء هزيمة (داعش) الإرهابي([16]).

فيما يقول جيفري د.ساكس إن قسمًا كبيرًا من المذبحة التي دمرت سورية في السنوات السبع المنصرمة يعود إلى تصرفات الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، ويرى أنه على الرغم من تخصيص موارد هائلة لإسقاط النظام السوري، فقد فشل كل الجهد في نهاية المطاف، ولكن بعد أن تسبب في إراقة أنهار من الدماء، وتشريد ملايين من السوريين. كما فر كثيرون إلى أوروبا، الأمر الذي أدى إلى إحداث أزمة لاجئين في أوروبا وطفرة في الدعم السياسي لليمين المتطرف المناهض للمهاجرين هناك، إضافة إلى ذلك يرى ساكس أن النظام الحالي لن يسقط ولن يتوقف النفوذان الروسي والإيراني، وأن الوقت قد حان منذ فترة طويلة لتبني نهج أكثر واقعية يفضي إلى سلام حقيقي ينهي إراقة الدماء ويمكن الشعب السوري من استئناف حياته ([17]).

ويقول جيل بارندولار، مدير دراسات الشرق الأوسط إن على قوات بلاده أن تغادر سورية بعد أن فشلت سياستها هناك وبعد أن اقترب النظام السوري من تحقيق الانتصار، ويؤكد أنه لا شيء في سورية يستحق المواجهة بين القوات الأميركية والروسية، مضيفًا: “لقد تهربنا من المواجهة مع روسيا في سورية سابقًا، وقد لا نكون محظوظين إذا أصرت الإدارة الأميركية على البقاء في سورية “([18]).

فيما يقول ستيفن كوزنر: “خلال سبع سنوات مدمرة، قتلت الحرب في سورية مئات الآلاف من الناس، وحولت أكثر من عشرة ملايين إنسان إلى لاجئين، كما حولت مدنًا وبلدات كانت مزدهرة في الماضي إلى خرائب. وهذه الحرب تقترب الآن من نهايتها، ما يعطي فرصة لسورية لكي تعيد بناء نفسها. ومن الممكن الآن إعادة توحيد هذا البلد، وإعادة تنشيط اقتصاده، وتحقيق قدر من الاستقرار السياسي فيه. إلا أنه من المستبعد أن يتحقق أي شيء من ذلك ومن منظور واشنطن، السلام في سورية هو سيناريو مخيف. إذ إن السلام سيعني ما تعتبره الولايات المتحدة (مكسبًا) لأعدائها، وهم روسيا وإيران وحكومة الأسد. ولهذا، فالولايات المتحدة مصممة على منع تحقيق ذلك، مهما تكن الخسائر البشرية. وحسب المنطق الكامن وراء الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط -وبقية العالم- فإن أحد أهدافنا الرئيسية يجب أن يكون منع تحقيق السلام والازدهار في بلدان تحكمها حكومات ليست صديقة لنا([19]).

كما تقول مارا كارلين: “على مدى السنوات الثماني الماضية ولد الصراع في سورية خليطًا من القلق والألم العصبي والعجز في واشنطن في الوقت الذي خرب فيه المنطقة وأدى إلى أسوأ كارثة إنسانية في القرن الحادي والعشرين، ومع احتمال كون ردود الفعل الثلاثة صحيحة، إلا أنها تعكس فشلًا في إدراك السبل التي يمكن لواشنطن من خلالها القيام بدور أكثر فعالية”([20]).

8-     آراء أخرى أميركية وغير أميركية مختلفة

في مقابل تلك الأصوات التي تنتقد السياسة الأميركية في سورية، أو لا تريد لأميركا أن تواصلها فيها، نجد أصواتًا أخرى لديها آراء مختلفة، فعلى سبيل المثال أكد وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، في تصريحات في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير 2019 أن أميركا لن تغادر منطقة الشرق الأوسط على الرغم مما كان يجري في حينها من حديث عن انسحاب أميركي من سورية وما يثار حوله من جدل وتحليلات ([21]).

 فيما أشار الدكتور توفيق أكليمندوس أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية ورئيس وحدة الدراسات الأوروبية بالمركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية إلى أن مسألة الانسحاب الأميركي من المنطقة مطروحة منذ عهد أوباما، وحتى اللحظة لم تنجح واشنطن في تنفيذ هذا الانسحاب، بسبب التهديدات والمشكلات المصاحبة لتبعاته، وفي تصوره “لن يحدث انسحاب كامل لأميركا بالمعنى الحرفي”، فـ”قراءة متأنية للواقع وملفات المنطقة تكشف بوضوح عن أن تكلفة الانسحاب الكامل ستكون صعبة ومرتفعة جدًا ولها تبعات خطرة”، ولذا فهو يفترض “أن الانسحاب سيكون نسبيًا”.

وفي الوقت الذي يبدو فيه أن أميركا -على الأقل في خطابها الرسمي- تخلت عن التزاماتها السابقة تجاه قضايا المنطقة، يقول المحلل السياسي التركي محمد زاهد غول أنه يعتقد بأن “الحضور الأميركي في المنطقة لن يتأثر كثيرًا، ولا يمكننا أن نتحدث عن انسحاب تام”، وهو يتفق بذلك مع ما طرحه الدكتور اكليمندوس([22]).

أما الصحافي البريطاني جانان غانيش، كاتب العمود السياسي الرئيسي في (فاينانشيال تايمز) والمشارك المنتظم في برنامج (صنداي بوليتيكس) على قناة (بي بي سي)، فينبه في صحيفة (فايننشال تايمز) إلى أن “الولايات المتحدة راكمت مصالح أجنبية على مدى القرن العشرين لا تستطيع التخلي عنها بسرعة، ومن دون ثمن باهظ، على الأقل، وليس في منطقة مستعصية كهذه المنطقة”، ويضيف أنه في شهر آب/ أغسطس 2019 حذر المفتش العام في وزارة الدفاع عن العودة الجديدة لتنظيم الدولة في سورية، مشيرًا إلى أن إعلان ترامب عن سحب القوات هو السبب الرئيس، وأنه من الصعب نسيان أن أميركا بعد ثلاثة أعوام من سحب قواتها من العراق2011 عادت إلى القتال من جديد هناك، لكن من الجو([23]).

وبدوره يشير ستيفن كوزنر -الذي ينتقد هو نفسه سياسة أميركا في سورية- إلى أن الإدارة الأميركية (إدارة ترامب يومها) تقول حاليًا إنها لن تكرر تجربة العراق قبل سنوات قليلة عندما انسحبت القوات الأميركية قبل أن تستقر الأوضاع الأمنية والسياسية تمامًا([24]).

9-     بايدن بين التوقعات والتوصيات

مع رحيل دونالد ترامب ووصول جوزيف بايدن إلى الرئاسة الأميركية كثرت الأحاديث والتوقعات عن تغيرات في السياسة الأميركية في سورية والشرق الأوسط.

وفي هذا السياق صرح وزير الخارجية أنتوني بلنكن في إدارة بايدن في سياق انتقاده لسياسة ترامب في سورية قائلًا: “فشلنا في منع وقوع خسائر مروعة في الأرواح وفي منع النزوح الجماعي للناس داخليًا في سورية، وبالطبع في الخارج كلاجئين”، وأضاف: “في الوقت الذي كان لدى الولايات المتحدة نفوذ ما متبقٍ في سورية لمحاولة تحقيق بعض النتائج الإيجابية، لسوء الحظ، قامت إدارة ترامب بتحويل ذلك إلى حد ما للانسحاب بالكامل في سورية” ([25]).

وبالتزامن مع استلام بايدن الرئاسة تطرح اليوم في الساحة السياسية الأميركية آراء مختلفة حول الكيفية الأفضل للتعامل مع الملف السوري.

 ففي مقابلة خاصة مع صحيفة (الشرق الأوسط) دعا وزير الخارجية سابقًا جيفري فيلتمان إلى اختبار مقاربة جديدة تقوم على اتخاذ ​الرئيس السوري​ ​بشار الأسد​ خطوات ملموسة ومحددة وشفافة لا يمكن العودة عنها في شأن الإصلاح السياسي، مقابل إقدام واشنطن على أمور بينها تخفيف العقوبات على دمشق. وأضاف فيلتمان: “الروس والإيرانيون ردوا بطريقة عسكرية على تهديد ​النظام السوري. ​جاؤوا لإنقاذ النظام وتغيير اتجاه الحرب باتجاه معين. حاليًا نحو 65 في المئة من سورية، تحت سيطرة دمشق. لكن، هل ​روسيا​ وإيران مستعدتان لإعطاء الدعم نفسه للنظام في المجال الاقتصادي كما فعلتا عسكريًا، أشك في ذلك. حاليًا، إن تهديد البقاء لحكم الأسد، لم يعد عسكريًا ولا بسبب ​الانتفاضة​، بل بسبب تراجع الوضع الاقتصادي. لا يقابل بالدعم ذاته من روسيا وإيران، كما حصل عسكريًا”([26]).

أما السفير السابق في دمشق روبرت فورد، فيرى أنه يجب على إدارة بايدن أن تكون واقعية تجاه قدرة الولايات المتحدة على انتزاع التنازلات السياسية في سورية وفرض الإصلاحات على النظام السوري التي لا يستجيب لها، فهذا النظام يحارب على افتراض أن الإصلاح سوف يقصر من عمره، كما يرى فورد أن محافظة الرئيس بايدن على استراتيجية ترامب سوف تعني إهدار مليارات الدولارات، إضافة إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والفشل في احتواء (داعش)، وأن الأهداف المحدودة للولايات المتحدة في سورية يمكن لواشنطن أن تحققها بتكاليف أقل كثيرًا، ومهما كانت الأموال التي تريد إنفاقها، فهي يجب أن تسخر لمصلحة مشكلة اللاجئين الكبيرة ويقول أيضا: “سورية لم تكن قط قضية أمن قومي أميركي، واقتصرت المصالح الأميركية هناك على منع الصراع فيها من تهديد مصالحها الأكثر أهمية في مناطق أخرى. والسياسة الأميركية الحالية لا تفعل الكثير لخدمة هذا الهدف. وكذلك فشلت في تحقيق الإصلاح السياسي في دمشق، وفي إعادة الاستقرار إلى البلاد، وفي التعامل مع فلول تنظيم الدولة الإسلامية الذي يُعرف باسم تنظيم داعش. وسيفعل الرئيس بايدن حسنًا إذا غيَّر هذا المسار نحو سحب مئات الجنود الأميركيين المنتشرين حاليًا في سورية، والاعتماد على روسيا وتركيا في احتواء (داعش)”، ويرى أنه يجب على الولايات المتحدة أن تتفاوض مع روسيا على انسحاب تدريجي لقواتها وفق جدول زمني لنقل السيطرة من القوات الأميركية إلى الروسية، ويرى أيضًا أن الروس سوف يتحلون بالحكمة الكافية للعمل مع قسد بموجب ترتيبات جديدة. وموسكو لديها تجربة سابقة في هذا المجال، فروسيا قد أنشأت (الفيلق الخامس) وجهزته وتشرف حاليًا عليه، من المقاتلين الموالين لدمشق الذين ينفذون مهمات قتالية في مختلف أنحاء البلاد. وبالاشتراك مع الحكومة السورية، يمكن لموسكو أن تنشئ “فيلقًا سادسًا” مكونًا من قوات سوريا الديمقراطية بإمرة روسية، وبرأيه يحب على قوات حماية الشعب الكردية، وقوات سوريا الديمقراطية، أن تتفاوض مع حكومة دمشق حول الوضع السياسي للمنطقة التي يسيطرون عليها والسعي من خلال المفاوضات لضمان المساواة في حقوق المواطنة والملكية التي حُرم منها الأكراد السوريون مدة طويلة. ومع أن ترتيبات كهذه لن تحقق حكمًا ذاتيًا كاملًا في سورية فيدرالية، إلا أنها ستحقق تقدمًا كبيرًا مقارنة بالوضع قبل الحرب([27]).

وكما نرى الطرحان كلاهما قريب من رأي سبق أن طرحه جيفري د. ساكس في أثناء رئاسة ترامب وقال فيه: “سوف يبقى نظام الأسد في السلطة، وسوف تحافظ إيران وروسيا على نفوذهما في سورية. أما الوهم الأميركي الرسمي المتمثل في قدرة أميركا على اتخاذ القرارات في سورية من خلال اختيار من يحكمها، وبالاستعانة بأي من الحلفاء، فلا بد أن ينتهي. لقد أزف الوقت منذ فترة طويلة لتبني نهج أكثر واقعية يدفع مجلس الأمن بموجبه المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران وإسرائيل إلى سلام عملي ينهي إراقة الدماء ويسمح للشعب السوري باستئناف حياته وسبل معايشه([28]).

مقابل ذلك ثمة رأي مختلف للأكاديمية مارا كارلين، وهي عضوة في لجنة مكونة من 12 شخصًا، معيّنة من الكونغرس لدراسة الصراع السوري، مهمتها دراسة الحالة السورية، وتقديم التوصيات للإستراتيجية الأميركية تجاه سورية، ففي مقال لها نشره موقع معهد (بروكينغز) في 24 أيلول/ سبتمبر 2019، تركز كارلين على أربع نقاط تختصر رؤيتها للوضع الراهن في سورية، أولاها أن النظام السوري يستمر بمساعدة روسيا وإيران باستعادة مزيد من المساحات التي سبق له فقدها، ولكنه مع ذلك يعجز عن توفير الأمن والاستقرار ومتطلبات الحياة الطبيعية فيها، وتنبه كارلين إلى أن التنافس بين روسيا وإيران وهذا النظام سيتعمق بعد انتهاء الحرب، وستستمر الانقسامات المتفشية بين العناصر المناهضة للنظام، ويمكن للصراع السوري أن يتحول إلى صورة أبشع، وبالذات في إدلب وما حولها، وهكذا تستبعد كارلين حدوث تغير إيجابي واقعي على مدى السنوات الخمس؛ وتركز في النقطة الثانية على الوضع الكارثي لملايين اللاجئين والنازحين داخل سورية وخارجها، وتحوُلهم إلى عناصر غير مرحب بها في دول الجوار بسبب ما يسببونه لها من أعباء مختلفة؛ فيما تركز النقطة الثالثة على التنافس الدولي في الشرق الأوسط وعلى الصعود والدور الكبيرين لروسيا التي أصبحت تقدم نفسها هنا بديلًا من أميركا وتقوم بالحل والعقد، وإن كان ذلك بطريقة غير مسؤولة أو فاعلة، وتنبه في النقطة الرابعة إلى وجوب إدراك أميركا أن سياستها المشوشة والمتناقضة في سورية أثبتت عدم فاعليتها، ثم تخلص إلى القول بأنه على الإدارة الأميركية على الأقل تجنب الأخطاء الرئيسة التي ستفاقم الصراع في سورية، وقائمة هذه الأخطاء تتضمن:

-إعادة نشر القوات الأميركية في سورية بتهور، وبالذات من دون استشارة أعضاء التحالف الرئيسين.

-عدم تحديد المهمة العسكرية الأميركية بالضبط، وما إذا كان (داعش) التهديد ذي الأولوية.

-استخدام قوات ومقاربة تقليدية بدلًا من قوات مكافحة التمرد، على الرغم من تحول المسار الأمني للصراع.

-إهمال عيوب شركاء أميركا في سورية، وبالذات (قسد)، في وقت التحول إلى عمليات الاستقرار والحكم التي تحتاج إلى كثير من الحث لإحداث تغير سياسي دائم ذي معنى.

-التعامل مع النظام السوري.

-السماح للخلافات مع تركيا أن تحدث تمزقًا في تحالف الناتو.

-تمكين روسيا من تعزيز دورها في عقد اجتماعات إقليمية.

-التقليل من شأن احتمال عودة داعش، وبخاصة مع وجود أعداد كبيرة من الجيل القادم من السوريين عالقين في أماكن احتقان مثل مخيم الهول.

-مراقبة كيفية تأثير التوترات المتزايدة -بين أميركا وإيران في الخليج وبين إسرائيل وإيران ووكلائها في سورية- خارج حدود الشام.

-إهمال المعاناة الكبيرة لبلدان مثل لبنان والأردن وتركيا بسبب المتطلبات الضخمة التي يحتاج إليها العدد الكبير من اللاجئين السوريين لديها.

-إلغاء التمويل أو الحد الكبير منه لأسوأ أزمة إنسانية على مدى عقود([29]).

10- خلاصة

كما نرى أعلاه ثمة قدر كبير من الاختلاف في الآراء ووجهات النظر والمواقف حول سياسة أميركا في سورية والشرق الأوسط عمومًا، وليس من المنطقي قطعًا تجاهلها عند محاولة تكوين صورة واضحة عن هذه السياسة، فهذه التباينات الكبيرة والكثيرة في وجهات النظر تعكس فعليًا حقيقة ما يجري على أرض الواقع، وتعني بشكل مؤكد وجود تذبذب وتخبط بدرجات ما في السياسة الأميركية في المنطقة، وهذا بدوره يعكس واقع الحال المتأزم داخل أميركا نفسها اليوم، ما يعد (ظاهرة ترامب الشعبوية) أوضح دليل عليه، في الوقت نفسه الذي تعد فيه هذه (الترامبية) ذروة ما وصلت إليه هذه الحالة المتأزمة التي يمكن إعادة أسبابها المباشرة بشكل رئيس إلى أزمة 2007-2008 الكبيرة التي كانت لها انعكاسات وآثار سلبية ثقيلة في أميركا دولة ومجتمعًا.

هذه الأزمة هي التي ألقت بظلالها الكثيفة على سياسة أوباما، وجعلت أميركا على الرغم من كل قوتها غير قادرة في أحيان عدة على اتخاذ قرارات حاسمة خطرة على الصعيد الدولي، وزاد الأمر سوءًا عندما أفرزت هذه الأزمة منتجها الخاص في شخصية ترامب، لتصبح السياسة الأميركية نفسها محكومة عبره بمنتـَج مأزوم بطبيعته، ولذلك انطبعت سياسة أميركا إلى حد لافت بالتقافز في عهد ترامب، فيما ظهر عليها أيضًا بوضوح التذبذب والتردد في عهد أوباما، واليوم على الرغم من وصول شخصية سياسية مخضرمة إلى رئاسة أميركا ممثلة في بايدن، فالتركة الثقيلة التي خلفها سلفه والآثار الأخرى للأزمة التي أنتجها، ستجعل قدرة بايدن على إحداث تغيير حقيقي محدودة.

مقابل ذلك نجد أن سياسة روسيا كانت مختلفة، وذلك على الرغم من أنها هي الأخرى تعاني أزمات حقيقية مختلفة، ولكن إصرار روسيا الشديد على العودة إلى الحضور الدولي وطبيعة السلطة المختلفة فيها، جعلاها أكثر قدرة على انتهاج سياسة أكثر حزمًا، وما لا شك فيه أن التردد والتذبذب الأميركي ساعدها أيضًا بشكل كبير على ذلك.

في مطلق الأحوال تبقى السياستان الأميركية والروسية كلتاهما سياستي مصالح بشكل كامل، ولا تهمهما مصالح الأطراف الأخرى إلا بقدر ما تخدم مصلحتيهما، ولا تهم في الحالة المعاكسة الأثمان الباهظة التي تدفعها الأطراف الأخرى، ولا سيما شعوب البلدان التي تصبح هدفًا لهذه المصالح، وميدانًا لتنافسها الشرس.

وفي أي حال، ومهما كانت درجة الضعف الذي تعانيه أو تبدو فيه السياسة الأميركية في سورية، فهي بقيت منسجمة مع الإستراتيجية الأميركية وقادرة على ضمان المصالح الأميركية.

عن ذلك يقول د.عودة الصويص في كتاب له عن الإستراتيجية الأميركية والحرب في سورية إنه ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحل أي مشكلة في العالم ما دام حلها لا يخدمها، وأن مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة كلها وتحركها لمصلحتها، وأن التغيير الديمقراطي مقبول ما دام على القياس الأميركي وينضوي تحت لواء خدمة إستراتيجيتها([30]).

وهذا ما يمكن قوله عن الخطوط العريضة التي ستسير ضمنها سياسة بايدن مهما كانت الاختلافات التي سيصنعها في التفاصيل.

يجب عدم المبالغة في حجم تأثير التخبطات والتذبذبات التي تظهر فيها السياسة الأميركية في سورية في المصلحة الأميركية، وألا نبالغ أيضا في حجم المكاسب التي حققتها السياسة الشرسة لروسيا، ففي واقع الأمر هناك إلى درجة كبيرة توازن بين النتيجتين، فروسيا في غرب الفرات تهيمن على منطقة فيها بقايا دولة وبقايا نظام، وأميركا تهيمن في شرق الفرات على منطقة هي بدورها صنعت فيها (دويلة) أو (شبه دولة) ممثلة بـ(مسد وقسد)، ومقابل تفوق مساحة الهيمنة الروسية جغرافيًا ثمة في المقابل تفوق في قيمة منطقة الهيمنة الأميركية اقتصاديًا، فهي منطقة جيدة زراعيًا وغنية بالنفط والغاز بينما هناك جزء كبير من منطقة سيطرة روسيا هو بادية محدودة الفائدة، والمنطقتان كلتاهما فيهما كثير من المشكلات الخطرة والتوترات الحادة وإن اختلفت التفاصيل، والدولتان كلتاهما تعانيان مشكلات مع حلفائها، ففي الوقت الذي تعاني فيه أميركا خلافات مع تركيا بشأن الأكراد وتوسيع النفوذ التركي في سورية، روسيا أيضًا في منطقة سيطرتها تواجه منافسة على النفوذ مع إيران على الرغم من التحالف العسكري بينهما، وعدا عن ذلك ثمة عامل مهم جدًا لمصلحة أميركا، فعمليًا ما تزال أميركا وحلفاؤها الدوليين يتحكمون في الاقتصاد العالمي إلى حد كبير، وهذا يبقي ملف العقوبات والحصار الاقتصاديين اللذين تفرضهما أميركا وحلفاؤها على النظام السوري عاملًا شديد الخطر على موازين القوى في المعادلة السورية، وليس لدى روسيا كثير لترد به في هذا الشأن، هذا إضافة إلى أن منطقة مهمة أيضًا ما تزال تحت سيطرة تركيا -حليفة أميركا في الناتو- في شمال غرب سورية، ويمكن لأميركا تحسين العلاقات مع تركيا أكثر ودعمها فيها، ما يعني في الحصيلة أن الحديث عن حسم وسيطرة روسيين على الملف السوري ليس في محله بتاتًا، ويؤكد مقابل ذلك أن أميركا ما تزال بقدر روسيا على الأقل قادرة على التأثير في هذا الملف وعلى مسار الحل وشكله المنتظر، وهي غير مضطرة بالتأكيد إلى التفريط في هذه الإمكانية.

المؤكد في سياسة بايدن هي أنها ستكون أكثر استقرارًا وحزمًا في الحفاظ على المصلحة الأميركية، ولكن هذا لا يضمن حكمًا أن شيئًا مماثلًا سيحدث في اتجاه المصلحة السورية، أما كيف ستتعامل سياسة بايدن مع الأزمة السورية وكيف سينعكس هذا على المصلحة السورية، فهذا ما ستظهره الأيام المقبلة، مع أن المطلوب من هذه الإدارة وجميع القوى الفاعلة في سورية لحل الأزمة فيها واضح، وهو الالتزام بنتائج مؤتمر جنيف 1 وقرار مجلس الأمن الدولي 2254 والعمل الفعلي الجاد على تنفيذهما.


[1]صحيفة الشعب اليومية أونلاين الصينية، الولايات المتحدة تستبعد تدخلها في سورية بالطريقة التي تدخلت بها في ليبيا في الوقت الحالي، 28\3\2011

[2] نعوم تشومسكي.. التدخل العسكري في سوريا، شبكة الجزيرة، 2012/3/29

[3]نعوم تشومسكي.. التدخل العسكري في سوريا، شبكة الجزيرة، 29-3- 2012

[4]كمال مجيد، أين نجحت أميركا في سورية وأين فشلت – رأي اليوم، 2-11-2015

[5]قصي غريب، السياسة الأميركية تجاه الثورة السورية – مركز الروابط للدراسات الإستراتيجية والسياسية، 23-2- 2016

[6] المرجع السابق.

[7]تلفزيون سوريا، غليون: أربعة ظروف جعلت مصير ثورة سورية مختلفًا عمّا سواها، 16-6-2020

[8]ترامب عن سحب قوات أميركية من سورية حان وقت خروجنا من الحروب السخيفة – CNN Arabic، 7-10-2019

[9]تيلرسون الولايات المتحدة ستحافظ على وجودها العسكري في سوريا- BBC News عربي،18-1- 2018

[10]عنان يهاجم التنافس الغربي الهدام على سوريا، سيريان تلغراف، 7-7-2012

[11]تلفزيون سوريا، غليون: أربعة ظروف جعلت مصير ثورة سورية مختلفًا عمّا سواها، 16-6-2020

[12]برهان غليون، عن سورية التي تحولت من وطن إلى غنيمة، موقع د. برهان غليون، 2020-01-04

[13]كمال مجيد، المرجع السابق.

[14]المرجع السابق.

[15] – سام حمد، كيف خان نعوم تشومسكي الشعب السوري؟ ترجمة فرح عصام – إضاءات، 29-4- 2016

[16]مسؤول أميركي سياسة واشنطن فشلت في سورية – Sputnik Arabic، 31-1-2021

[17]جيفري ساكس، إنهاء الدور الكارثي الذي تلعبه أميركا في سوريا، ترجمة: إبراهيم محمد علي، Qantara.de، 26-2-.2018

[18]ناشينال إنترست على أميركا أن تغادر سورية بعد فشل سياستها، الخليج أونلاين،19-9- 2018.

[19] ستيفن كوزنر، ما هي الإستراتيجية الأميركية في سورية ؟ صحيفة الخليج، 2-5- 2018

[20]باسل درويش، بروكينغز: دراسة تقدم 4 توصيات لإستراتيجية أميركا بسوريا، عربي 21، 25-9- 2019.

[21]محمد خالد، أميركا في سورية تكتيك متغيّر وإستراتيجية ثابتة، البيان، 27-1- 2019.

[22]المرجع السابق.

[23]باسل درويش، لهذا من الصعب على أميركا الخروج من الشرق الأوسط، عربي 21،19 -9- 2019.

[24] ستيفن كوزنر، المرجع السابق.

[25]محمود عثمان، ملامح إستراتيجية جو بايدن في سوريا، وكالة الأناضول، 26-1-2021

[26]مسؤول أميركي سياسة واشنطن فشلت في سورية – Sputnik Arabic، 32-1-2021

[27]روبرت فورد، الإستراتيجية الأميركية في سورية قد فشلت، كيوبوست-نقلا عن فوربن أفيرز، 4-2-2021

[28]جيفري ساكس، المرجع السابق.

[29]باسل درويش، بروكينغز: دراسة تقدم 4 توصيات لإستراتيجية أميركا بسوريا، عربي 21، 25 -9-2019.

[30]الإستراتيجية الأميركية والحرب على سورية كتاب جديد للدكتور الصويص، صحيفة الغد الأردنية، 10-1-2021