المحتويات
ثانيًا: مفهوم العدالة الانتقالية
ثالثًا: العدالة الانتقالية في سورية
رابعًا: آليات العدالة الانتقالية في سورية
خامسًا: الآليات القانونية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية
2 – إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بسورية
أولًا: مقدمة
“إن أعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها”
فولتير
يشوب الغموض مسألة العدالة الانتقالية من ناحية أهميتها وحقيقة وجودها وقدر فاعليتها أو تميزها من العدالة التقليدية التي يقتصر تحقيقها على الآليات القضائية المتاحة. ففكرة العدالة الانتقالية تستند عمومًا إلى جملة قيم ومبادئ رئيسة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وتتقاطع مع العدالة التقليدية في إعمال الحقوق وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا. وتهدف العدالة الانتقالية إلى تحقيق العدالة للضحايا في البلدان التي مرت بحروب أدت إلى تمزيق المجتمع وتدمير الدولة. لكن هل تمثل العدالة الانتقالية بديلًا من العدالة التقليدية التي تتحقق بالآليات القضائية؟
هناك اختلاف بين مفهومي العدالة الانتقالية والعدالة التقليدية، فالأولى لها علاقة بالمراحل الانتقالية، كالانتقال من واقع نزاع مسلح داخلي أو حروب أهلية إلى حالة السلم الأهلي والبناء الديمقراطي، أو الانتقال من حكم شمولي واستبدادي إلى بناء مجتمع ديمقراطي قائم على التعددية والقبول بالتداول السلمي للسلطة، أو التحرر من الكولونيالية أو الاحتلال الأجنبي والأنظمة القائمة على الفصل والتمييز العنصريين إلى إقامة حكم وطني يقوم على الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان.
في الأحوال جميعها، تستهدف العدالة الانتقالية تطبيق الإجراءات الكفيلة بمحاسبة مرتكبي الجرائم الخطرة (جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية)، وتجذير الإيمان بفكرة حقوق الإنسان ومبادئها لتنظيم العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وإنصاف الضحايا وجبر الضرر، وإصلاح أجهزة الدولة كالجيش والقضاء والشرطة وأجهزة الأمن.
يعتقد كثيرون أن العدالة الانتقالية تتناقض مع العدالة الجنائية (التقليدية). ولهذا التخوف ما يسوغه في ضوء النتائج التي أفضت إليها عشرات التجارب خلال العقود السابقة، إذ تمكن مرتكبو الجرائم الخطرة من الإفلات من العقاب في كثير من الحالات كما جرى في الأرجنتين، جنوب أفريقيا، غواتيمالا، المغرب، السلفادور، تشيلي، اسبانيا، دول أوروبا الشرقية، لبنان وغيرها. وهذا الاعتقاد سيُعزز أكثر في حال تمكن مرتكبو الجرائم شديدة الخطر في سورية من الإفلات من العقاب في سياق أي عملية محتملة للعدالة الانتقالية.
ما زالت سورية عرضة لحرب كارثية منذ ستة أعوام، نجم عنها مقتل أكثر من 300 ألف شخص، واختفاء عشرات الآلاف في السجون ومراكز الاحتجاز، ونزوح أكثر من ستة ملايين شخص داخل سورية، إضافة إلى ما يزيد على خمسة ملايين شخص باتوا لاجئين في دول الجوار وأنحاء العالم كلها، وخمسة ملايين شخص يعيشون في مناطق محاصرة ومناطق يصعب الوصول إليها، فضلًا عن الدمار الواسع الذي طال المدن والقرى والبلدات والبنية التحتية معظمها ([1]).
في نهاية الأمر سيتوقف النزاع المسلح في سورية، وسيتعين في حينها على السوريين البدء بعملية مصالحة وبناء طويلة وبالغة التعقيد في التعامل مع الفظاعات التي مزقت المجتمع والبلاد. وقد تكون العدالة الانتقالية الطريقة المثلى للتعاطي مع معظم القضايا المطروحة، مع العلم أنها لن تكون كافية لوأد الجراح وطيّ صفحة العداوات. ولذلك، من الأهمية بمكان استحضار بعض النواحي التي ميزت تجارب شعوب أخرى مرت بطريق العدالة الانتقالية.
يعالج هذا البحث أسس عملية عدالة انتقالية في سورية، تؤسس لسلام مستقر ومستدام وتفضي إلى مصالحة حقيقية تراعي محاسبة مرتكبي الجرائم الخطرة بحق السوريين، بعيدًا من “عدالة المنتصر” وأفعال الانتقام والثأر.
ثانيًا: مفهوم العدالة الانتقالية
تنتهك أنظمة الحكم الشمولية أدنى معايير حقوق الإنسان ولا تكترث لسيادة القانون، الأمر الذي يفضي إلى انهيار الأنظمة القانونية للدول، فتصبح معدومة الصلاحية وفاقدة للأهلية. وتتسبب انتهاكات حقوق الإنسان في أثناء النزاعات المسلحة، أو الثورات بانهيار الأنظمة القانونية في الأحيان معظمها. وتدخل البلدان ذات العلاقة بعد زوال هذه الأسباب في مرحلة البناء على أسس مغايرة وعادلة، إذ يحاول أبناء المجتمع المتضررين إيجاد قواسم مشتركة في ما بينهم سعيًا لكشف الحقيقة ومحاسبة مرتكبي الجرائم الخطرة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإعادة البناء لمستقبل مغاير، فليجؤون إلى العدالة الانتقالية من أجل تثبيت السلم وإقرار العدل.
ظهر مفهوم العدالة الانتقالية بعد عام 1980، وبدأت هذه النظرية تتبلور وتكتسب أهميتها منذ ذلك الوقت، مستلهمة تجارب عشرات البلدان وفي مقدمتها شعوب أميركا اللاتينية التي استطاعت إلحاق الهزيمة بالطغاة والأنظمة الاستبدادية. وهنالك تجربة الأرجنتين في ثمانينيات القرن الماضي، وتجربة تشيلي عام (1990)، وتجربة السلفادور عام (1992) التي سعت لتقصي الحقائق المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان وكشفها، وتحديد المسؤولين عنها، وجبر الضرر، ووضع الضمانات الكفيلة بمنع تكرارها وتحقيق مصالحة وطنية، وتعزيز السلم الأهلي، وإنشاء نظام ديمقراطي قائم على سيادة القانون ([2]).
ترتكز فكرة العدالة الانتقالية على جملة مبادئ أساسية تتمثل بإعمال الحقوق وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا. وقد جاء في تقرير الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان أن “العدالة الانتقالية” تشمل «نطاق العمليات كاملًا والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تِركَته، من تجاوزات الماضي واسعة النطاق، بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة». وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء محاكمة الأفراد وجبر الضرر وتقصي الحقيقة وإصلاح مؤسسات الدولة أو أي صورة تدمج هذه العناصر على نحو مدروس وملائم ([3]).
تبنى العدالة الانتقالية على مجموعة مبادئ تتمثل بمحاكمة مرتكبي الجرائم والاعتراف بالوضع الخاص للضحايا واحترام الحق في الحقيقة واعتماد سياسة التنحية (العزل) بحق المتورطين في ارتكاب الجرائم ودعم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا ودعم الإجراءات والوسائل التقليدية والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات السابقة والمشاركة في عملية الإصلاح المؤسساتي الهادفة إلى دعم سيادة القانون والحقوق الرئيسة وإقامة الحكم الرشيد ([4]).
في الأحوال كلها، يجب أن تراعي العدالة الانتقالية بالدرجة الأولى مسألة محاسبة مرتكبي الجرائم الخطرة (جرائم الحرب وجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية)، فضلًا عن تقوية الإيمان بفكرة حقوق الإنسان ومبادئها بوصفها أداة لتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة، وإنصاف الضحايا وجبر الضرر وإصلاح أجهزة الدولة كالجيش والقضاء والشرطة وأجهزة الأمن.
ينبغي من الناحية المثالية أن يُتبع نهج العدالة الانتقالية في سورية أيضًا وذلك في إطار استراتيجية شاملة ومتكاملة. وستتطلب تعقيدات الوضع اتخاذ إجراءات في المستويات المختلفة، بدءًا بالبحث عن الحقيقة ومحاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا وتعويضهم وإعادة البناء بما في ذلك إصلاح المؤسسات. وهذا لا يعني أن تتحقق هذه العمليات كلها في وقت واحد. إذ إن من المتوقع أن تصطدم مسألة محاكمة المجرمين والإصلاحات المؤسساتية على نحو خاص بصعوبات قد تفضي إلى رفضها أو تأجيلها ومن ثم المماطلة في تنفيذها من الأطراف، لكن ذلك لا يجب أن يحول دون البدء بتطبيق آليات أخرى كالبحث عن الحقيقة في مراحل مبكرة ([5]).
ثالثًا: العدالة الانتقالية في سورية
سيُوضع حد للنزاع المسلح في سورية في نهاية الأمر، وحينها سيتعين على السوريين اعتماد الآليات المناسبة والأكثر فاعلية للتعامل مع الفظاعات التي مزقت البلاد والمجتمع وألحقت بالسكان مآسٍ يصعب تخيلها. الشيء الأكيد، أن العدالة الانتقالية هي أفضل السبل للتعامل مع هذا الواقع المؤلم، على الرغم من أنها لن تؤدي إلى وأد الجراح، وطي صفحة العداوات بالكامل. ولذلك، فإنه يتعين على السوريين الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى التي مرت بأحوال مشابهة واختارت طريق العدالة الانتقالية لتحقيق المصالحة.
أولًا وقبل كل شيء، يجب أن يكون هناك إجماع سياسي على ضرورة تحقيق عملية عدالة انتقالية وأهمية كونها فاعلة تراعي مساءلة المجرمين والبحث عن الحقيقة والقيام بإصلاحات مؤسساتية ومنح تعويضات للضحايا. وبالنظر إلى وجود احتمال بألا يسقط النظام بالكامل، وفي ضوء ارتكاب الجماعات المعارضة معظمها جرائم خطرة، فإن المحاكمات الجنائية ستواجه برفض الأطراف خوفًا من التعرض للمساءلة. وفي الأحوال كلها، يجب ألا يفضي هذا الأمر إلى استبعاد عدالة انتقالية فاعلة، ربما سيستغرق تحقيقها وقتًا أطول لأن التاريخ يعلمنا أنه يمكن للعدالة أن تتحقق حتى بعد مرور سنوات من ارتكاب الفظاعات ([6]). ومن هنا تنشأ مسؤولية منظمات المجتمع المدني السورية والمعارضة السياسية في نشر الوعي بأهمية عملية العدالة الانتقالية وضرورتها بجوانبها كلها، من دون إغفال مساءلة المجرمين التي ربما ستكوّن العائق الأكبر في وجه العدالة الانتقالية.
لكن المشكلة تكمن في ظن كثيرين أن العدالة الانتقالية ليست الحل الأمثل مقارنة بالعدالة الجنائية. ولهذا التخوف ما يسوغه في ضوء النتائج التي أفضت إليها عشرات التجارب خلال العقود السابقة، إذ تمكن مرتكبو الجرائم الخطرة من الإفلات من العقاب في كثير من الحالات كالأرجنتين، جنوب أفريقيا، غواتيمالا، المغرب، السلفادور، تشيلي، اسبانيا، دول أوروبا الشرقية، لبنان وغيرها. وهذا الاعتقاد سيُعزز أكثر في حال تمكن مرتكبو الجرائم في سورية من الإفلات من العقاب في سياق أي عملية محتملة للعدالة الانتقالية.
ويقتضي تأكيد ضرورة البدء في هذه المرحلة قبل انتهاء الحرب، والإعداد لمشروع العدالة الانتقالية على الرغم من الخوف الذي يعتري كثيرين _سلطة ومعارضة_ من إمكان تعرضهم للمحاسبة على الأفعال والجرائم التي ارتكبوها. وينبغي عدم توقع نتائج سريعة أو عاجلة للعدالة الانتقالية في سورية، بل يجب إعطاء الوقت الكافي لبلوغ الأهداف والنتائج المرجوة، ما يتطلب تمكين الشعب والمؤسسات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني من أداء دور رئيس وفاعل في وضع استراتيجية للعدالة الانتقالية تأخذ في الحسبان واقع البلاد. أما وضع توقعات غير واقعية والشروع حالًا في تحقيق العدالة الانتقالية من دون استراتيجية شاملة، لن يحقق المنافع المرجوة، وسيفضي إلى إلحاق الضرر بالعملية بكاملها، وربما إفشالها.
تتطلب تعقيدات الحال السورية من جراء المآسي والجرائم والدمار الذي سببه النزاع اتخاذ إجراءات في المستويات المختلفة ووفق استراتيجية شاملة من أجل سياسة فاعلة لإنصاف الضحايا وإعادة بناء البلد على أسس ديمقراطية وسيادة القانون، بدءًا بالمحاكمة الجنائية للمجرمين، والبحث عن الحقيقة، وجبر الضرر، وتعويض الضحايا، والإصلاحات المؤسساتية. وقد لا يعني ذلك أنه يمكن تفعيل هذه الآليات كافة في آنٍ واحد. فبعض من هذه العمليات، مثل المحاكمة الجنائية للمجرمين أو الإصلاحات المؤسساتية، ربما ستتطلب وقتًا أطول وبذل جهد كبير في التشاور وإشراك أوسع عدد ممكن من السوريين للخروج بسياسة سورية محلية، وأن تجري إعادة البناء بقيادة سورية تكون قادرة على إدارة عملية وطنية حقيقية ([7]).
لكن هذا لا ينفي مشاركة المجتمع الدولي في حماية السلم ودعم عملية العدالة الانتقالية في سورية. ولذلك، سيكون من المفيد الاستعانة ببعثة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة، وبمحكمة الجنايات الدولية لضمان محاكمة عادلة لكل شخص يثبت ضلوعه في ارتكاب جرائم شديدة الخطر (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية). وإذا كان من المهم أن نؤكد مرة أخرى أن عملية العدالة الانتقالية ينبغي أن تكون سوريّة، فمن الضروري أيضًا تأكيد الحاجة إلى الدعم الدولي لهذه العملية، فبعد سنوات من المجازر والدمار، سيكون من الصعب أن تقتصر إعادة البناء _ماديًا ومعنويًا_ على السوريين وحدهم ([8]).
رابعًا: آليات العدالة الانتقالية في سورية
تتعدد آليات العدالة الانتقالية. فبينما مارست بعض البلدان حرية اختيار آليات العدالة الانتقالية الملائمة، حصل في بلدان أخرى فرض آليات العدالة الانتقالية من المجتمع الدولي ومجلس الأمن. وقد أولت لجنة تقصي الحقائق في الأرجنتين مصدر القلق لدى المجتمع بشأن عمليات الاختفاء القسري وكشف مصير المختفين أهمية قصوى، وكانت لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا منبرًا مهمًا شارك فيه الضحايا وبعض مرتكبي الجرائم وتحدثوا عن تجاربهم، بينما تمكنت المحاكم الجنائية الدولية الخاصة بمحاكمة مجرمي يوغوسلافيا السابقة وسيراليون والمشكلة بموجب قرارات مجلس الأمن الدولي من محاكمة مرتكبي الجرائم الأشد خطرًا كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية ([9]).
تعتمد العدالة الانتقالية على مجموعة آليات، منها آليات قضائية لملاحقة مرتكبي الجرائم الخطرة ومحاكمتهم لأنهم يتحملون مسؤولية جنائية شخصية /فردية عن أفعالهم الإجرامية، وآليات غير قضائية داعمة للآليات القضائية ومكملة لها، كلجان الحقيقة والمصالحة، لجان تقصي الحقائق، جبر الضرر و/أو تعويض الضحايا، إصلاح المؤسسات، إحياء ذكرى الضحايا وغيرها.
تمثل سورية حالة خاصة من جراء شدة النزاع المسلح وما يلحِقُه من معاناة بالسوريين من جراء قسوة المتحاربين وهمجية أفعالهم. وهذا يستدعي من صناع القرار في سورية جميعهم ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية تطبيق آليات العدالة الانتقالية كافة _القضائية وغير القضائية_ الممكنة للوصول إلى مصالحة وطنية حقيقة، ومعاقبة المجرمين، وتعويض الضحايا ما يؤدي إلى وأد الجراح بقدر الإمكان.
العدالة الانتقالية هي عملية ضرورية وذات أهمية خاصة بالنسبة إلى سورية، ويعود القرار بشأن شكل هذه العملية إلى السوريين أنفسهم. ومن أجل تحقيق عملية عدالة انتقالية ناجحة ومثمرة، يجب على السوريين مراعاة عدد من الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي بشأن مساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ([10]). فقسوة الحرب في سورية وما يميزها من أفعال همجية وتمادي المتحاربين في الاستخدام المفرط للقوة وارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السكان، يستدعي إعطاء الآليات القضائية دورًا مفصليًا في سياق عملية العدالة الانتقالية، وضمان وضع الأسس الكفيلة بالملاحقة الجنائية لمرتكبي هذه الجرائم والحيلولة دون إفلاتهم من العقاب.
خامسًا: الآليات القانونية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية
أثيرت مسألة البدء بعملية المساءلة عشرات المرات خلال النزاع المسلح المستمر منذ ست سنوات. وقد أثار عدد من البلدان والمنظمات الدولية _الحكومية وغير الحكومية_ قضية إحالة الوضع في سورية على محكمة الجنايات الدولية، وناقش فقهاء القانون الأمر بإسهاب من الناحية النظرية. لكن هذا التوجه لم يحظ بموافقة مجلس الأمن لغياب الإرادة السياسية لبعض الدول، إذ رُفض هذا التوجه من روسيا والصين باستخدام حق النقض “الفيتو” أكثر من مرة.
وبات واضحًا أن محاكمة مرتكبي الجرائم ستكون من المشكلات الأكثر تعقيدًا بعد انتهاء الحرب، وستعترضها كثير من الصعوبات والتحديات. ومن المفترض أن يأخذ القضاء الوطني دوره في ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطرة ومعاقبتهم، بهدف تحقيق العدالة للضحايا الذين انتهكت حقوقهم من جراء ممارسات المتحاربين كلهم. لكن القضاء في سورية غير قادر على أداء هذا الدور وغير مؤهل له، إذ إن النظام الشمولي السائد في سورية منذ عام 1970 همش دور القضاء السوري، وجعله تابعًا وخاضعًا لإرادته وتوجيهاته، لدرجة إقصائه شبه الكامل. ووصلت الحال خلال النزاع المسلح إلى انهيار نظام القضاء الضعيف وغير النزيه أصلًا، ما يستدعي القول إن هذا القضاء غير مؤهل لتنظيم مداولات جنائية تتوافق مع المعايير الدولية للمحاكمة العادلة ([11]).
فضلًا عن ذلك، قد لا يجرم القانون الجنائي السوري الجرائم الخطرة، وهناك مراسيم وقرارات تعفي موظفي الأجهزة الأمنية الذين يرتكبون مثل هذه الجرائم من المساءلة. ولذلك، ينبغي النظر في هذه القضايا أمام القضاء الدولي بموجب قرار يصدره مجلس الأمن ويقضي بتحويل الحالة السورية إلى محكمة الجنايات الدولية، أو من المحاكم الوطنية إلى الدول الأخرى في حال أمكن ذلك. وفي ضوء استبعاد القضاء الوطني السوري من النظر في الجرائم الخطرة، نورد في ما يأتي الآليات الدولية المتاحة لمحاكمة المجرمين.
1 – الولاية القضائية العالمية
تعني الولاية القضائية العالمية (الاختصاص القضائي العالمي) حق كل دولة باتخاذ الإجراءات القضائية ضد مرتكبي الجرائم الخطرة والتزامها به بمعزل عن مكان حدوث الجريمة أو جنسية مرتكب الجريمة أو الضحية. وتتمثل الصلة الوحيدة التي لا بد من توافرها بين الجريمة والدولة التي تقيم الدعوى وتتولى المحاكمة في الوجود الفعلي لمرتكب الجريمة داخل نطاق سلطة الدولة ([12]).
وتمثل الولاية القضائية العالمية إحدى الأدوات الرئيسة لمنع الانتهاكات الخطرة للقانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان وتجريم مرتكبيها وقمعها ([13]). ويرتبط مبدأ الولاية القضائية العالمية بالدرجة الأولى بوفاء الدول بتعهداتها القاضية بتوسيع نطاق ولايتها القضائية لتشمل النظر في المخالفات الجسيمة المنصوص عليها في الاتفاقات الدولية ذات العلاقة، ومحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حال وجودهم داخل أقاليمها أو في أماكن خاضعة لولايتها القضائية.
تنص اتفاقات جنيف الأربعة وبروتوكولها الإضافي الأول لعام 1977 وبعض الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان على واجب الدول الأطراف الالتزام بالبحث عن مرتكبي المخالفات الجسيمة (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية) أو المشتبه بارتكابهم لهذه المخالفات أو التخطيط لها، أو إعطاء أوامر بارتكابها وذلك حال معرفتها بوجودهم داخل أراضيها، بصرف النظر عن جنسيتهم، ومحاكمتهم أمام محاكمها، أو تسليمهم إلى دولة طرف أخرى معنية كي تحاكمهم ([14]).
يتعين تطبيق مبدأ الولاية القضائية العالمية في الحالات التي تعجز فيها الدولة عن التحقيق في الجرائم المرتكبة على أراضيها ومقاضاة مرتكبي هذه الجرائم، أو عند تقاعسها عن القيام بذلك، كأن تجنّب المتهمين بارتكاب الجرائم المثولَ أمام العدالة بمنحهم الحصانة والتغاضي عن أفعالهم. في مثل هذه الحالات يمكن إعمال مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي يتيح للمحاكم الأجنبية، إجراء تحقيقات في الانتهاكات الجسيمة التي ترقى إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب والتعذيب ([15]).
تنص المادة 146 من اتفاق جنيف الرابع بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب لعام 1949 على واجب الدول الأطراف فيها، اتخاذ ما يلزم من إجراءات تشريعية لفرض عقوبات جزائية فاعلة على الأشخاص الذين يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة المنصوص عليها في المادة 147 من الاتفاق، ومن ضمنها القتل العمد، وأخذ الرهائن، والاختفاء القسري، وممارسة التعذيب وتدمير الأعيان والممتلكات المدنية، على نحو لا تسوغه الضرورة العسكرية. وعليه، فإن الدول الأطراف ملزمة بملاحقة المتهمين باقتراف المخالفات الجسيمة، أو التخطيط لها أو التغاضي عنها أو الأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمة، أيّا كانت جنسيتهم، ولها أن تسلمهم إلى طرف متعاقد آخر لمحاكمتهم.
ثم إن هناك عددًا من الصكوك الدولية كاتفاق الأمم المتحدة الخاص بمناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984، والاتفاق الدولي لحماية الأشخاص جميعهم من الاختفاء القسري لعام 2006، الذي يتضمن التزامات مشابهة تلزم الدول الأطراف بمنح محاكمها الوطنية صورة معينة من الولاية القضائية العالمية، في ما يتعلق بالجرائم المنصوص عليها في تلك المعاهدات، ومن ضمنها الجرائم التي ترتكب إبان النزاعات المسلحة.
ساهمت ممارسات الدّول في ترسيخ قاعدة ذات قدر من الأهميّة في القانون الدولي العرفي، يتسنى لها بموجبها منحَ محاكمها الوطنية ولاية قضائية عالمية في ما يتعلق بجرائم الحرب، ومن ضمنها الانتهاكات الجسيمة للمادة 3 المشتركة بين اتفاقات جنيف لعام 1949 والبروتوكول الثاني الإضافي لعام 1977، والجرائم المدرجة في متن النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، سواء اقترفت في النزاعات المسلّحة الدولية أم غير الدولية ([16]).
في الأحوال كلها، لا يمكن التعويل على النظام القضائي الرسمي في سورية لعدم استقلاليته، ولكونه غير محايد وغير نزيه، فضلًا عن أن القضاة ليسوا مؤهلين للنظر في الجرائم الخطرة والبت فيها. وبحكم أن سورية دولة طرف في اتفاقات جنيف وبروتوكولها الأول وفي عدد من الاتفاقات الدولية لحقوق الإنسان، فإنه يتعين على الدول الأطراف جميعها في هذه الاتفاقات إعمال مبدأ الولاية القضائية العالمية والبدء بالبحث عن المتهمين بارتكاب الجرائم في سورية أيًا تكن جنسيتهم، وملاحقتهم والقبض عليهم، ومحاكمتهم أمام محاكمها الوطنية.
2 – إنشاء محكمة جنائية دولية خاصة بسورية
تعدّ المحاكم الجنائية الدولية الخاصة إحدى الأدوات الفاعلة لمحاكمة مرتكبي الجرائم الخطرة كجرائم الحرب، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الإبادة، جريمة العدوان. وقد ظهر هذا النوع من المحاكم الدولية للمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية كمحكمة نورنبورغ لمحاكمة النازيين ومحكمة طوكيو لمحاكمة رجال الطغمة العسكرية اليابانيين. ثم أنشِئت خلال تسعينيات القرن الماضي محاكم دولية خاصة للنظر في الفظاعات وأعمال القتل التي ارتكبت خلال النزاع في يوغوسلافيا السابقة ورواندا (المحكمة الدولية ليوغوسلافيا السابقة، والمحكمة الدولية لرواندا وتيمور الشرقية وسيراليون وكمبوديا ولبنان) ([17]). وتتميز المحاكم الجنائية الخاصة بأنها ذات طبيعة موقتة، وتقتصر ولايتها على النظر في الجرائم المرتكبة إبان نزاع محدد (رواندا، يوغوسلافيا، تيمور الشرقية)، أو النظر في جريمة محددة كجريمة قتل رفيق الحريري في لبنان.
يعطي ميثاق الأمم المتحدة لمجلس الأمن الدولي صلاحية إنشاء المحاكم الخاصة، الأمر الّذي أتاح إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السّابقة بمقتضى القرار رقم (808) لعام 1993، التي أوكلت إليها مهمة النظر في الانتهاكات الجسيمة على أراضي يوغسلافيا السابقة ومحاكمة مرتكبيها. كذلك الأمر في ما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا وفقًا لقرار رقم (955) لعام 1994، فقد أوكلت إليها مهمة تولي إجراءات التحقيق في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب التي ارتكبت في رواندا ومحاكمة مرتكبيها. ومؤخرًا شهدنا إقامة المحكمة الخاصة بلبنان بموجب القرار رقم 1644؛ لمحاكمة الأشخاص المتهمين بتنفيذ اعتداء 14 شباط/ فبراير 2005 الذي أدى إلى مقتل 22 شخصًا بمن فيهم رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري. وقد أصدر مجلس الأمن أكثر من قرار بشأن محاكمة مجرمي الحرب كما هو الحال بشأن قراره رقم 1593 الخاص بمحاكمة مجرمي الحرب فى دارفور، وقراره رقم 1315 الخاص بمحاكمة مجرمي الحرب في سيراليون وغيرهما من القرارات.
وبموجب ميثاق الأمم المتحدة، يجوز لمجلس الأمن إعمال صلاحياته وإنشاء محكمة جنائية خاصة بسورية للنظر في الانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها أطراف النزاع، ومحاكمة مرتكبيها. ولإصدار قرار بهذا الشأن، يتعين توافر الإرادة الدولية في مساءلة مرتكبي الجرائم في سورية، وإجماع أعضاء مجلس الأمن الدائمين الخمسة على هذا الأمر.
إضافة إلى ما سبق، فإن إنشاء محكمة خاصة بسورية سيواجه بالضرورة بمعوّقات ومشكلات تتمثل في التأخير في إنشاء مؤسسة جديدة ومتكاملة (محكمة رواندا الخاصة ومحكمة يوغوسلافيا السابقة الخاصة)، صعوبات وضع إطار عمل قانوني ملائم للمحكمة والعثور على مقرات لها، الوقت والتكلفة الضروريين لتوظيف عاملين مؤهلين وضمان تعاون الدول مع المحكمة. ولذلك؛ فإنه من الأجدى تحويل الحالة السورية إلى محكمة الجنايات الدولية كونها قائمة بالفعل وتعمل دائمًا وتمتلك اختصاص النظر في الانتهاكات الجسيمة لطرفي النزاع في سورية ([18]).
3 – محكمة الجنايات الدولية
تمثل محكمة الجنايات الدولية الأداة الأكثر فاعلية لمساءلة مرتكبي الانتهاكات الخطرة في سورية. ونظرًا إلى أن سورية ليست دولة طرفًا في المحكمة لعدم مصادقتها على نظامها (نظام روما الأساس لمحكمة الجنايات الدولية لعام 1998 دخل حيز النفاذ عام 2002)، فإن تفعيل ولاية المحكمة في هذه الحالة منوط أيضًا بقرار يتخذه مجلس الأمن.
للمحكمة صلاحية النظر في جريمة الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب وجريمة العدوان ([19]). ولكي تمارس المحكمة اختصاصها في حالة سورية، يتعين أن تحال الجريمة من دولة طرف، أو أن يتصرف مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فيحيل حالة سورية على مدعي عام المحكمة، ويطلب منه فتح تحقيق بموجب المادة 13 من النظام الأساس.
استخدم مجلس الأمن هذه الصلاحية الممنوحة له بمواجهة السودان، في إثر تسلمه تقرير لجنة التحقيق التي ألّفها بمقتضى القرار رقم 1564 للتحقيق في الأوضاع في دارفور، فقرر المجلس بعد استلامه تقرير اللجنة في كانون الثاني/ يناير 2005، إحالة الوضع في دارفور على محكمة الجنايات الدولية، التي قبلت بدورها هذه الإحالة من خلال إعلان مدعي عام المحكمة آنذاك الشروع في التحقيق في الجرائم المرتكبة في دارفور. وفي شباط/ فبراير 2011 أصدر مجلس الأمن قرارًا رقم 1970، طالب فيه مدعي عام المحكمة بفتح تحقيق خاص بالأوضاع الجارية على صعيد الجماهيرية العربية الليبية.
لا جدل بشأن حقيقة الاستخدام المفرط للقوة بحق المتظاهرين السلميين من طرف النظام منذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة في سورية، والقيام بأفعال تمثلت بالقتل العمد، التعذيب، الإخفاء القسري وأخذ الرهائن. وفي إثر انتقال الثورة السلمية إلى عتبة النزاع المسلح، اتسع نطاق العنف وحدته إذ يرتكب المتحاربون المجازر وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المتمثلة بالقتل غير المشروع والهجمات غير المشروعة ضد المدنيين والفئات والأعيان المحمية كلها، واستخدام الأسلحة غير المشروعة، وأخذ الرهائن والاختفاء القسري والتعذيب وإساءة المعاملة والعنف والاعتداءات الجنسية والاغتصاب والتشريد التعسفي والقسري.
وفي ضوء إمعان المتحاربين في استخدام القوة المفرطة، ومنع لجان التحقيق والمراقبين الدوليين والصحافة من الوصول إلى مسرح الحوادث، فإن على مجلس الأمن الاضطلاع بمسؤولياته وإحالة الوضع في سورية على محكمة الجنايات الدولية على وجه السرعة. وليس هنالك ما يسوغ التقاعس الدولي عن إصدار قرار سوى غياب الإرادة السياسية للدول، ما يتسبب باستمرار مأساة السوريين وتمكين المجرمين من الإفلات من العقاب ([20]).
سادسًا: خلاصة
لجأ نظام بشار الأسد إلى استخدام القوة المفرطة لقمع ثورة السوريين السلمية، وارتكبت القوات الحكومية والأجهزة الأمنية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وصلت إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. وتفاقمت الأوضاع من جراء ازدياد حدة العنف واتساع نطاقه، وتحولت منذ شباط /فبراير 2012 إلى نزاع مسلح غير دولي، ومن ثم إلى حرب بالإنابة لمصلحة قوى محلية وإقليمية ودولية متناحرة.
إنّ انتقال الثورة السلمية في سورية إلى طور النزاع المسلح، كان له تبعات سلبية ومدمرة على ثورة السوريين التي خرجت للمطالبة بالحرية والكرامة، ومن ثم بإسقاط نظام الاستبداد والفساد الذي يديره بشار الأسد. وقد أدى تفاقم النزاع المسلح بين المتحاربين _قوات النظام ومليشياته من جهة، والجماعات المسلحة من جهة أخرى إلى إلحاق الويلات بالمدنيين والتشريد القسري لأكثر من نصف السكان في داخل سورية وخارجها. ويرتكب المتحاربون في سياق استمرار هذا النزاع انتهاكات لحقوق الإنسان ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
تمثل سورية حالة خاصة بحكم شدة النزاع المسلح وما يُلحِقُه من معاناة بالسوريين من جراء قسوة المتحاربين وهمجية أفعالهم. وهذا يستدعي من صناع القرار جميعهم في سورية ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات الأهلية تطبيق آليات العدالة الانتقالية _القضائية وغير القضائية_ الممكنة كافة للوصول إلى مصالحة وطنية حقيقة، ومعاقبة المجرمين، وتعويض الضحايا ما يؤدي إلى وأد الجراح بقدر الإمكان.
العدالة الانتقالية هي مفهوم أوسع من العدالة الجنائية، وتشمل عمليات تقصي الحقائق وكشفها، وجبر الضرر، وتعويض الضحايا، وإصلاح مؤسسات الدولة كالجيش والشرطة وغيرها، وإحياء ذكرى الضحايا، وتقديم الاعتذارات. إلا أن المحاسبة الفردية لمرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان يجب أن تكوّن حجر الأساس لأي عملية عدالة انتقالية.
العدالة الانتقالية هي عملية ضرورية وذات أهمية خاصة بالنسبة إلى سورية، ويعود القرار بشأن هيئة هذه العملية إلى السوريين أنفسهم. ومن أجل تحقيق عملية عدالة انتقالية ناجحة ومثمرة، يجب على السوريين مراعاة عدد من الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي بشأن مساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. فقسوة الحرب في سورية وما يميزها من أفعال همجية وتمادي المتحاربين في الاستخدام المفرط للقوة وارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق السكان، يستدعي إعطاء الآليات القضائية دورًا مفصليًا في سياق عملية العدالة الانتقالية، وضمان وضع الأسس الكفيلة بالملاحقة الجنائية لمرتكبي هذه الجرائم والحيلولة دون إفلاتهم من العقاب.
تبين في سياق هذه الورقة البحثية أن أفعال وممارسات المتحاربين المحسوبين على قوات النظام والمليشيات التابعة لها والجماعات المسلحة، تدخل في نطاق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ما يستدعي ضرورة مرور سورية بعملية عدالة انتقالية لتحقيق العدالة للضحايا تتضمن محاسبة المجرمين.
سابعًا: توصيات
في ضوء ما توصلت إليه هذه الورقة البحثية من استنتاجات، نوصي بما يأتي:
- وفاء المتحاربين جميعهم بالتزاماتهم في الامتثال لقانون حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ووقف الانتهاكات وتحديدًا الجسيمة.
- عدم استهداف المدنيين ووقف قصف المناطق المأهولة بالسكان وفك الحصار المفروض على المناطق المأهولة بالسكان.
- السماح للمنظمات الإنسانية بالدخول إلى مناطق سيطرة المتحاربين وتسهيل وصول مساعدات الإغاثة الإنسانية.
- السماح بدخول لجنة التحقيق المستقلة والخبراء الدوليين المستقلين كلهم وتوثيق ممارسات أطراف النّزاع جميعها في سورية، وجمع الأدلة على ذلك وتوثيقها؛ لاستخدامها في سياق المحاكمات المستقبلية.
- البدء بالتحضير لعملية عدالة انتقالية في سورية تقوم على المصالحة ومحاسبة المجرمين وإعادة البناء وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح المؤسسات.
- إحالة مجلس الأمن الحالة السورية على محكمة الجنايات الدولية، بصفتها الجهة الأكثر قدرة وأهلية لمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
- وفاء الدول الأطراف بالتزاماتها الناجمة عن القانون الدولي الإنساني، وإعمال مبدأ الولاية القضائية العالمية لمحاكمة المتورطين بالانتهاكات الجسيمة أمام محاكمها الوطنية.
([1]) اللجنة الدولية للصليب الأحمر. https://www.icrc.org/ar/where-we-work/middle-east/syria
([2]) أحمد شوقي بنيوب، العدالة الانتقالية: المفهوم والنشأة والتجارب، حلقة نقاشية، ص1.
انظر ايضًا: العدالة الانتقالية في سورية، إصدار “دولتي” و“لا سلام دون عدالة”، ص14.
([3]) من موجز تقرير الأمين العام للأمم المتحدة حول “حول سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع”، مجلس الأمن، 24 آب/ أغسطس 2004، 616/2004.
عبد المحسن شعبان، الصفح والمصالحة، ملف بحثي 15/12/2104، ص9.
([4]) وثائق مؤتمر العدالة ما بعد النزاعات المسلحة والمحكمة الجنائية الدولية 15-17 كانون الثاني/ يناير 2009، مؤلَّف جماعي – القاهرة جامعة الدول العربية، مقدمة الدكتور محمود شريف بسيوني ودانيال روتنبرغ، ص26-27.
([5]) Priscilla Hayne, Unspeakable Truths: Transitional Justice and the Challenge of Truth Commission (New York: Routledge, 2nd edition, 2011), p. 93, 95-97
([6]) Priscilla Hayne, Unspeakable Truths, p. 93-97; African Union Panel of the Wise, Peace, Justice, and Reconciliation in Africa, p. 12
([7]) العدالة الانتقالية في سورية، إصدار “دولتي” ولا سلام دون عدالة”، ص38.
([8]) Christopher S. Chivvis, Jeffrey Martini, Libya After Qaddafi: Lessons and Implications for the Future, RAND Corporation, 2014, p. 13-20
([10]) العدالة الانتقالية في سورية، ص21.
([11]) سورية: العدالة الجنائية على الجرائم الجسيمة في القانون الدولي، هيومن رايتس ووتش، 2013، ص16.
([12]) إحسان هندي، الحماية الجزائية للاتفاقيات الدولية الإنسانية في إطار التشريع والاجتهاد القضائي السوري، دمشق، الطبعة الأولى،1998، ص22.
([13]) نطاق مبدأ الولاية القضائية العالمية وتطبيقه، الجمعية العامة للأمم المتحدة، كلمة اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
([14]) انظر على سبيل المثال: المادة 5 (فقرة 2 و3) من اتفاق مناهضة التعذيب لعام 1984 والمواد (50 من الاتفاق الأول و51 من الثاني و130 من الثالث و147 من الرابع) لاتفاقات جنيف لعام 1949 بشأن الانتهاكات الجسيمة التي هي جرائم حرب تخضع للاختصاص القضائي العالمي.
المخالفات هي إحدى الأفعال الآتية إذا اقترفت ضد أشخاص محميين أو ممتلكات محمية بالاتفاق :القتل العمد، والتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب الخاصة بعلم الحياة، وتعمد حوادث آلام شديدة أو الإضرار الخطر بالسلامة البدنية أو بالصحة، والنفي أو النقل غير المشروع، والحجز غير المشروع، وإكراه الشخص المحمي على الخدمة في القوات المسلحة في الدولة المعادية، أو حرمانه من حقه في أن يحاكم بصورة قانونية وغير متحيزة وفقًا للتعليمات الواردة في هذا الاتفاق، وأخذ الرهائن، وتدمير الممتلكات واغتصابها على نحو لا تسوغه ضرورات حربية وفي نطاق كبير بطريقة غير مشروعة وتعسفية.
([15]) دفاعًا عن الولاية القضائية الدولية، المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان.
([16]) اللجنة الدولية للصليب الأحمر، نطاق مبدأ الولاية القضائية الدولية.
([17]) المحاكم الخاصة، نظرة عامة. اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
Available at:
([18]) سورية: العدالة الجنائية على الجرائم الجسيمة في القانون الدولي، مصدر سبق ذكره، ص15.
([19]) لم تُعرّف جريمة العدوان، وقد أُجِّلت آنذاك لتكون قيد البحث بين الدول الأطراف في النظام الأساس لحين التوصل إلى توافق على تعريفها مستقبلًا. وبعد انقضاء ثمانية أعوام على دخول النظام الأساس للمحكمة حيز التنفيذ، توصل المؤتمر الاستعراضي للدول الأطراف في جلسته المعقودة في 11 حزيران/ يونيو 2010 (القرار Rc/Res.6) إلى تعريف لجريمة العدوان، وقد أجرى المؤتمر تعديلات على نظام روما الأساس للمحكمة بشأن جريمة العدوان (المرفق الأول) وتعديلات أخرى على أركان الجريمة (المرفق الثاني).
http://crimeofaggression.info/documents/6/Review-Conference-offiical-records-ARA.pdf
واعتمد المؤتمر قرارًا عدل بموجبه نظام روما الأساس ليشمل تعريفًا لجريمة العدوان والشروط التي يمكن في ظلها للمحكمة أن تمارس اختصاصها في ما يتعلق بهذه الجريمة. وتكون الممارسة الفعلية لهذا الاختصاص رهنًا بقرار تتخذه بعد كانون الثاني/ يناير 2017 الأغلبية نفسها من الدول الأطراف المطلوبة لاعتماد تعديل على النظام الأساسي.
([20]) سورية: العدالة الجنائية على الجرائم الجسيمة في القانون الدولي، المصدر نفسه، ص21-23.