ليس من ينتسب إلى طائفة أو إلى مذهب طائفيًا؛ فنحن جميعًا ننتسب -شئنا أم أبينا- إلى ما نولد فيه من مذاهب وأديان، وهذا أمرٌ لا غبار عليه، طبعًا، لأن الانتماء بالولادة إلى مذهب هو شأن شخصي، مهما صحبه من إيمان بطقوسه، وممارسة لعباداته، في حال وجدت.
يصبح المرءُ طائفيًا، عندما يعمل لإلزام غيره بما يقرّره له، في ضوء انتسابه إلى طائفة؛ حيث يبدّل، عندئذ، علاقته بمذهبه، ويخرجه عن روحانيته، ويضفي عليه صفات ووظائف، تهدم الدين وتجافي رسالته الإنسانية، وتنحدر به من سويته الإيمانية السامية، إلى مذهبة طائفية، لحمتها وسداها إكراه الآخرين على العيش بدلالتها، وإعادة إنتاجهم بما يتناسب من قوة وقهر مع مصالحه الكامنة وراءها، فإن كان الطائفي صاحب سلطة عامة، وأضفى طابعًا سلطويًا على طائفيته، وطابعًا طائفيًا على السلطة العامة، يضع أدواتها، التي هي أدوات دولة، والتي من المفترض أن تكون محايدة، أكلت الطائفية السياسة بمعناها المجتمعي والدولوي، وتبنّت سياسةً تطيّف المجتمع، وتُخضع دولته للسلطة المطيفة، فتنزع عنها وظائفها وهويتها كدولة، وشحنت المجال العام بروح تفتيتية/ تناحرية، تنقله من مجتمع متعايش إلى جماعات تخضع لعصبوية، تنتج أزمات هي الأداة التي يضبط صاحب السلطة بها ما بقي من الهيئة المجتمعية العامة، بما يمثله وجودها من تحدٍّ لسلطته وخطر عليها، لذلك يواجهها بفتنٍ تفككها، ويرعى ما فيها من تناقضات، ويضخمها قدر المستطاع، ويخضعها لتذرير يضعُ مكوناتها بعضها في مواجهة بعضها الآخر، والمواطن في صراع مع بيئته الحاضنة التي تحفل منذئذ بتناقضات شاقولية، لم يعد الآخر فيها مواطنًا ينتمي إلى غيره، بل عدوًا لهذا الغير، تستنزفه مشكلاته التي يعزوها إلى الآخر، بالرغم من أنه مثله، من ضحايا السلطة المطيفة، التي لا تسمح موازين القوى لها بالحكم، فتمتصّ ما في وطنها ومجتمعها من قدرات، تحتكرها سلطة تنكر حق المجتمع في آن يكون موحدًا أو مستقلًا عنها، ومن ثمّ حرًّا، أو محميًّا بقوانين تصون مصالحه وترعى وجوده.
ماذا يمكن أن يترتب على الطائفية، في صيغتها المذهبية والسلطوية المندمجة، غير كوارث تحلّ بالعباد والبلاد، ينتجها بالقطع والضرورة تناقضُها مع الوضع الطبيعي للمجتمع والدولة، الذي يحتم خضوع أي كيان جزئي، بما في ذلك الطائفي/ السلطوي، لكيان الدولة الجامع، غير أنه يحدث هنا العكس، فتخضع الدولة لسلطة مطيفة جزئية الكيان، تحول، بوضعها الخاص ووضع الدولة والمجتمع المخالف لطبيعتهما والشاذ، دون أن تكون السلطة، التي حلّت الدولة، لجميع المواطنين، أو للمجتمع كهيئة عامة وموحدة، ويخضع كل شيء لسلطة أنتجتها جهة مغلقة، تتبنى أهدافًا معظمها معادية للكلية المجتمعية، لتناقضها مع الأهداف العامة التي تحمل عادة سمة وطنية، ويتشوه كلّ أمر، ويعمّ الإقصاء والعنف، بصفتهما بديل السياسة، بمعناها الأصيل، كتدبير للشأن العام وشؤون المواطنين، أفرادًا وجماعات. ولا تنجو الطائفية كجسم مجتمعي شرعي يضمّ مؤمنين من الارتدادات الكارثية للسلطة المطيفة والطائفة المتسلطة، التي تزجّ بها في تجاذبات وصراعات، ليست من اختيارها ولا مصلحة لها فيها، بما أنها تضعها في مواجهة مجتمعها، الذي تحتاج إلى التكامل معه في أجواء من الحرية والمساواة، بدل الانخراط في ما لا طاقة لها به، ولا قدرة عليه: خوض معركة لم تخترها، ويستحيل كسبها، لأنها معركة ضد المجتمع والدولة المجتمعية، بما يمثلانه من مصلحة وجودية لها أيضًا، تنضبط علاقاتها بهما، عبر توازنات وتوافقات سلمية، وعهود ومواثيق وطنية، تحميها عبر إدراج مصالحها الخاصة في مصلحة وطنية عليا، تضمن استقلال المجتمع، واستقلالها النسبي عن التمثيلات السياسية.
ليس الاعتزاز بالانتماء إلى مذهب طائفيةً. إنه أمرٌ طبيعي يتصل بحرية الإنسان وحقوقه، ولا يكون الإيمان مذهبيًا أو طائفيًا، ما دام يدور في النطاق الشخصي للمؤمن. الطائفية هي سياسة تستغلّ مذهبًا من المذاهب، لأغراض تعطل جوانبه الإيمانية، الخيّرة والإنسانية، لذلك، يجب القول: إن الطائفي يدمر أول ما يدمر طائفته، بإخراجها عن حالة الطبيعة، وزجّها في وظائف تتحدّى قدرتها على تحقيقها، ضمن ظروف تآلف ووئام عامين، ودون صراعات يستحيل كسبها على المدى الطويل، بما أن الطرف الطائفي، أي الأقلوي، يستفز ويتحدى مجتمعه ومذاهبه، التي لن ينصاع أتباعها لما يفرض عليهم من إقصاء يحتمه الاستئثار بالسلطة.
لا يمكن لعاقل أن يعتبر الطائفية ضمانة له أو لطائفته، وأن يرى فيها حلًا لما قد يوجد من مشكلات تواصل أو تكامل مع بقية المجتمع، فما بالك إن اقترنت بالسلطة، وانتشرت بواسطتها في مجمل الرقعة الوطنية، وتحولت إلى تحد يومي وشخصي للمواطنين. ولا يمكن لعاقل اعتبار الطائفية وضعًا طبيعيًا، ونهائيًا، للمجتمع والدولة، بالنظر إلى ما يترتب عليها من كبح للتطور المجتمعي، وتعظيم للفارق بين أتباعها والمنتفعين منها، وبين تشكيلاته المختلفة، ومن عنف يتفاقم باضطراد، ويتراكم إلى أن يصبح عاملًا يفجر الصراع بين قطاعات المجتمع الكبرى، وسلطة تغرّبت عنها، وغدت عدوًا داخليًا لها.
أخيرًا، ومع نظرة إلى النتائج الكارثية التي ترتبت على تظاهراتها المختلفة، في السلطة والمجتمع، لا بدّ من مقاومة الطائفية والقضاء عليها، من خلال فكّ ارتباطها بالسلطة كحاضنةٍ تحوّل أبناء طائفة ما إلى طائفيين، والالتزام بما في المذاهب والأديان من نقاء إيماني، وعلاقة خاصة بين المؤمن الفرد وخالقه، ليكون لدينا طوائف ضد الطائفية، ونستعيد حياتنا الطبيعية كسوريين!