ما إن تشتعل النزاعات والحروب أو تبدأ مراحل التحرر الوطني، حتى تبدأ صناعة الحياد والأنجزة كسياسة، بالتوازي مع توريد السلاح لطرف أو أطراف النزاع. وتُعدّ منظمات المجتمع المدني (NGOs) أحد أفضل الخيارات لدعم تلك الصناعة، كقنوات لتمرير تمويل معفي من الضرائب، ومسيّس في أكثر الأحيان. وغالبًا ما تجذب تلك المنظمات فئة الشباب أو تنتزعهم، نساءً ورجالًا، من الحراك السياسي، فتُدجّنهم، بسياسات وخطاب بعيد عن السرديات الكبرى، كالخلاص من الاحتلال أو/ والأنظمة الأمنية المتوحشة، وتعملق المنظمات المانحة الدولية بعض مديري المنظمات، نساءً ورجالًا، في سوق تصنيع “الخبراء والنخب والاختصاصيين”، وتحوّل بعضهم إلى لاعبي سياسة فعّالة، بالرغم من افتقارهم إلى التدريب السياسي، خلال تسويات تُفرض على الشعوب التواقة للحرية والعدالة والمواطنة.
في منطقتنا، تُعدّ تجربة منظمات المجتمع المدني الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو نموذجًا لانتشارهم الفطري، ونموذجًا أيضًا لتقويض النضال لمصلحة الناشطية، واستخدام خطاب بلغةٍ بيضاء منزوع الأشكلة عن السياق العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث يصلح استخدامه في كل زمان ومكان، وهو ما يُدعى “الأنجزة”، أي إفراغ السياسة من الحركات الاجتماعية. تقول إصلاح جاد (أستاذة الجندر في جامعة بيرزيت – فلسطين)، واصفة التنجيز بأنه عملية: “يتحوّل من خلالها الهمّ الجمعيّ إلى مشاريع منعزلةٍ عن السياق العام، بحيث يتمّ تطبيقها دون أخذ العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المؤثرة على هذه المشاريع بعين الاعتبار”، وبالتوازي مع ذلك، ترى جاد أن بروز “الإن جي أوز” النسائية الفلسطينية و”عملية التنجيز مسبِّبان لانتقالٍ في علاقات القوة: من تمكين النساء على مستوى القاعدة، إلى الاستقواء عليهنّ من قِبل النخبة الجديدة”.[1]
قبل اتفاقية أوسلو، كانت رؤية منظمات المجتمع المدني الفلسطيني هي مقاومة الاحتلال الإسرائيلي وتنظيم الفلسطينيين في اتحادات عمالية ومنظمات أهليّة وجمعيات خيرية ولجان شعبية.. إلخ، وبعد أوسلو، تحوّلت رؤية المنظمات، من مقاومة الاحتلال، إلى التنمية المستدامة تحت الاحتلال[2]، كما أن المنظمات الجديدة، التي زاحمت المنظمات والجمعيات القاعدية الجماهيرية القديمة على الشرعية والموارد والفضاء في الحيز العام، ركزت على قضايا السلام وتسوية النزاعات، وأصبحت المنظمات الدولية تختار من نظيرتها الفلسطينية أفرادًا للحديث باسم المصلحة الوطنية، بعد أن اختطفت المنظمات المحلية الحديثة، وخاصة بعد الانتفاضة الثانية، الأجندة الوطنية[3].
تصف الكاتبة والمناضلة الهندية أرونداتي روي، المساهمةَ الحقيقية لمنظمات المجتمع المدني بأنها تنزع الغضب من الناس، وتحوّلهم إلى ضحايا معتمدين، وتزيل حواف المقاومة السياسية، وتحوّل الغضب إلى مفاوضات، والمقاومة إلى وظيفة بمرتّب وامتيازات ودوام محدد، الأمر الذي تصفه بأنجزة المقاومة أو تنجيز مفهوم المقاومة، في حين أن هذه المنظمات تلعب دور “الرجل المعقول”، في حرب غير عادلة وغير معقولة[4].
مجتمع المانحين يحوّل العاملين/ ات في منظمات المجتمع المدني إلى كتبة مشاريع وتقارير وعروض أسعار، وينتزع الغضب المقاوم لسلط الاستبداد من الفاعلين القاعديين، نساءً ورجالًا.
وعلى الرغم من أن المنظمات غير الحكومية تغطي بعض مهمات الدولة المنسحبة من أدوارها ومهماتها تجاه مواطنيها ومواطناتها، فإن مسؤوليتها، بالدرجة الأولى، هي أمام الجهات المانحة وما توافق على تمويله، وخاصةً خلال النزاعات وتفكك وضعف المؤسسات الوطنية، كما أن بنية وهيكلة هذه المنظمات، وتحديدًا تلك التي تخلو من المتطوعين/ات، تشبه بنية الشركات الخاصة التي يتكفل ممولوها بنموّ بعضها، وزيادة عدد موظفيها وفروعها.
يتعارض خطاب بعض منظمات المجتمع المدني المتمركز حول الحقوق والديمقراطية، مع تأبيد مديريها في مناصبهم، فينتفي عنهم تطبيق الديمقراطية في بنيتها الداخلية، وخاصة أولئك المعيّنين منهم، أو من عيّنوا أنفسَهم بأنفسِهم وتسلّطوا عليها عبر انتخابات غلبت عليها المصالح الذاتية، ويتقوض دور بعض مجالس الإدارة في تلك المنظمات، والمنوط بعملهم التحقق من الشفافية والنقد والاستقلالية والانسجام بين أهداف ورؤية المنظمة وخطابها وممارساتها، فيكون عاجزًا عن ممارسة دوره المسؤول، من جراء تضارب المصالح الناجم عن شبكات معقدة بينهم وبين أفرادٍ في المنظمة نفسها أو في منظمات أخرى أو نافذين في الشأن العام، يمكن أن يسهّلوا لهم الوصول إلى مصادر تمويل ومشاركات رفيعة المستوى.
وبالعودة إلى السياق السياسي للأنجزة، فإن مجتمع المانحين يحوّل العاملين/ ات في منظمات المجتمع المدني إلى كتبة مشاريع وتقارير وعروض أسعار، وينتزع الغضب المقاوم لسلط الاستبداد من الفاعلين القاعديين، نساءً ورجالًا، ويعيد تدويره، تركيزًا واهتمامًا، لدعم القضايا التي تهمّ الممولين ودولهم، مثلًا، في سورية، يتم التركيز على دعم اللجنة الدستورية، وعدد النساء فيها، في حين أنها -كمسار سياسي- تعد انقلابًا على المسار الواضح والمتسلسل الذي خطه قرار 2254 القاضي بإنشاء هيئة حكم انتقالي، كما يتم أيضًا إغداق التمويل من أجل التركيز على حقوق المساكن والأراضي والممتلكات، على أهميتها، أكثر من التركيز على عدم دعم وتمكين سلطات الأمر الواقع التي سلبت وقوننت نهب ممتلكات المواطنين والمواطنات، وعلى رأسهم النظام السوري، فيبدو الأمر وكأنه إصلاح أضرار توحش نظام السارين، رغبة في تغيير سلوكه وطيّ جرائمه وانتهاكاته! ويصبح التغيير الجذري الذي طالب به الشعب قضية إغاثة ومساعدات ومعابر، ويصبح الحلم السياسي المقاوم بتفكيك الاستبداد وأدواته فقرًا في (البراغماتية) وتيهًا سياسيًا.
وبالرغم مما تقدّمه بعض المنظمات غير الحكومية من أعمال مهمة، فإن نقدها يكاد يكون متشابهًا في العديد من التجارب الدولية في العالم، وخاصة في دول الجنوب. في حين، يتساءل المرء عن أثر الملايين التي يقدّمها المانحون لقضايا معينة، وتبرزها المنظمات على أساس أنها “قصص نجاح”، وسط كل أنواع الخراب الذي نحن فيه.
[1] – إصلاح جاد، “المنظمات غير الحكومية – بين الكلمات الطنانة والحركات الاجتماعية”، ربيع 2013، بدايات، شوهد في 17/10/2021، في: https://bit.ly/2YU270s
[2] – تحرير، عزيز كايد، “دور المنظمات غير الحكومية في صياغة التوجهات السياسية الفلسطينية”، ماهر دسوقي، “حدود المدني والقبلي في المنظمات الأهلية الفلسطينية”، مركز رؤية للتنمية السياسية، إسطنبول – تركيا 2017، صفحة 58، شوهد في 18/10/2021، في: https://bit.ly/3aLNSNT
[3] – مصدر سابق، إصلاح جاد، “المنظمات غير الحكومية – بين الكلمات الطنانة والحركات الاجتماعية”.
[4] – أرونداتي روي، ترجمة، خلود إبراهيم، “أنجزة المقاومة”، الحوار المتمدن، 7/5/2016، شوهد في 18/10/2021، في: https://bit.ly/3pciws4