مقدمة:
مع قدوم الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن في مطلع العام الجاري، بدأت الصادرات النفطية الإيرانية تأخذ منحنًى تصاعديًا متسارعًا غير مطرد، بالرغم من أن العقوبات الأميركية الرامية إلى تصفير الصادرات النفطية الإيرانية التي فرضتها الإدارة السابقة، بعد خروجها من الاتفاق النووي عام 2018، ما زالت سارية المفعول حتى الآن.
وبالرغم من أن سياسة الإدارة الأميركية السابقة لم تنجح كليًا في تصفير صادرات النفط الإيراني، فقد كان من المشهود لهذه السياسة التسبب في سقوط حرّ وانخفاض غير مسبوق في صادرات النفط الإيرانية، إذ تدَّنت من مليون برميل في اليوم، في نيسان/ أبريل 2019، إلى 160 ألف برميل في اليوم، في آذار/ مارس 2020.
لذلك، في الوقت الذي تتفاوض فيه إيران مع القوى العالمية لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وإعادة إحياء الاتفاق النووي، من المستغرب اليوم أن تتجاوز الصادرات النفطية الإيرانية، في انتهاك واضح للعقوبات، مليون برميل يوميًا في العام الجديد، وهو معدّل غير مسبوق لم نشهده منذ سنوات.
نظرة على صادرات النفط الإيرانية:
(من شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020 إلى شهر نيسان/ أبريل 2021)
بشكل عام، تتوافق بيانات جميع مواقع مراقبة الناقلات النفطية على مجموعة من الإحصاءات الشهرية المدعمة بصور الأقمار الصناعية من جميع أنحاء العالم، وهي تبيّن أن الصادرات الإيرانية زادت بشكل حاد منذ شهر كانون الأول/ ديسمبر 2020، لتبدأ حينذاك إيران بتصدير مئات الآلاف من البراميل، نحو وجهتين أساسيتين هما: الصين وحكومة نظام أسد، كما يظهر الجدول (الأرقام هي عدد براميل النفط المصدرة في اليوم الواحد):[1]


وعلى الرغم من أن معدّل صادرات النفط الإيراني قد اتخذ منحنًى تصاعديًا متسارعًا، يبقى هذا المنحنى غير مطرد، وقد شهد صعودًا وهبوطًا كبيرًا في كمية النفط المرسلة إلى الصين وحكومة نظام أسد. ويرجع ذلك في حالة الصين إلى مدى نجاح تكتيكات الاحتيال النفطي وقدرته على تسويق النفط الإيراني، في فترات زمنية مختلفة ممتدة ما بين عملية التحميل الأولي في إيران إلى التفريغ النهائي في الصين[2]. أما في حالة نظام أسد، فكان من الملاحظ ثبات كمية الشحنات النفطية الإيرانية على معدل وسطي (70 ألف برميل يوميًا، وهو ما يعادل نصف احتياجات النظام النفطية)، مع تقلبات كبيرة في الكميات المرسلة تعود أسبابها الأساسية لاندلاع ما يشبه حرب الناقلات بين إسرائيل وإيران حديثًا.
الصين.. نهم نفطي لا ينتهي
صحيح أن بعض الشحنات النفطية توجهت إلى الإمارات والعراق وماليزيا وبعض الجهات غير المعروفة، لكن هذه الأطراف كان لها الفضل الكبير في إنجاح دورة التحايل النفطي، لترفع صادرات إيران إلى مستويات غير مسبوقة، خاصة نحو الصين التي تلقت الغالبية العظمى من صادرات النفط الخام والمكثفات الإيرانية. وبغض النظر عن الطبيعة السرية لمبيعات النفط غير المشروعة، واختلاف التقديرات حول معدل الصادرات الشهرية الإيرانية، لا يخفى حجم النهم والجشع الصيني على النفط الإيراني الذي تدفق إلى مصافي نفط صغيرة ومستقلة في الصين بأسعار مخفضة للغاية، وهو ما شجع الشركات الخاصة والحكومية معًا على المخاطرة والمقامرة، لانتهاك العقوبات الأميركية في ظل تراخي الحكومة الأميركية الحالية.
في خضمّ ذلك، لا تُعزى تقلبات كميات النفط الإيراني المرسل إلى الصين إلى تراجع في شهية بكين أبدًا، بل إن هذه الصعود والهبوط في المنحني يعود لسبب رئيسي متعلق بالأمور اللوجستية المرهونة بطول الفترة الزمنية التي تستطيع فيها إيران إيجاد المشتري المناسب، بعد أن تقوم بنقل نفطها من سفينة إلى أخرى في بحر الصين الجنوبي[3].
من ناحية أخرى، تستخدم إيران الناقلات الخمس الكبار، وهي مجموعة ناقلات غير إيرانية لا تتبع للشركة الوطنية الإيرانية للناقلات الخاضعة للعقوبات الأميركية، وتتمتع بقدرة على حمل أكثر من 57 مليون برميل من النفط في كل دفعة إلى الصين[4].
لذلك، في الوقت الذي يتم تصدير ما بين ثلث إلى نصف النفط الإيراني، عبر تكتيكات التحايل النفطي في البحار المفتوحة بعيدًا عن عمليات التتبع، تُظهر قدرة الناقلات الخمس الضخمة على حمل كميات كبيرة من النفط غير المشروع حجم نهم الصين التي كانت وما زالت أكبر مشترٍ للنفط الإيراني منذ سنوات.
النفط الإيراني المقسط لا يسدّ رمق نظام أسد
بالرغم من أن التحقيقات تشير إلى وجود تاريخ حافل من شحنات النفط الإيراني المُقَسَّط إلى النظام السوري، الذي اعتمد خلال السنوات العشر الماضية على واردات النفط الإيراني (نحو 70 ألف برميل يوميًا) لسدّ نصف احتياجاته النفطية، فإن هذه الكميات لم تداوِ أزمة المحروقات السورية التي كانت تضرب البلاد بين الفينة والأخرى، في ظل فقدان نظام أسد سيطرته على معظم الحقول النفطية وحاجته الملحة إلى أكثر من 200 ألف برميل يوميًا، حتى يتمكن من تسيير آلته الحربية وتشغيل شبكة الكهرباء المتهالكة ضمن التقنين الوسطي المعهود[5].
يُبين الجدول التالي متوسط صادرات النفط الإيراني إلى سورية:

وبناء على ذلك، يمكننا بناء تصور قائم على أساسيين اثنين: الأول أن التقلبات في كميات النفط الإيراني المرسل إلى سورية تُعزى إلى عمليات الشحن المعقدة والطويلة والمحفوفة بالمخاطر، في ظل اندلاع ما سمته بعض وسائل الإعلام حربًا غير مباشرة بين إيران وإسرائيل على ثلاث جبهات، كان أحد محاورها حرب الناقلات التي اشتملت على أكثر من 14 استهدافًا إسرائيليًا في البحر الأحمر ومياه المتوسط، منذ أواخر عام 2019[6].
وبالرغم من أن الاستهدافات الإسرائيلية للناقلات الإيرانية كانت مدروسة ودقيقة وتتسم بدرجة كبيرة من السرية والصمت وتهدف إلى تعطيل صادرات النفط الإيراني إلى سورية، فقد نجحت بعض الناقلات النفطية الأصغر في الوصول إلى مقصدها النهائي في ميناء بانياس[7]؛ والثاني أنّ الشحنات النفطية الإيرانية، بغض النظر عن تقلب كميات النفط الإيراني المرسل إلى نظام أسد بسبب حالة التوتر السائدة، كانت بمنزلة مسكّنات آلام إذ لم تقدّم حلولًا جذرية لأزمة المحروقات المستمرة والمتجددة في سورية. وفي الحقيقة كانت حاجة إيران الشديدة إلى القطع الأجنبي السبب الرئيس وراء تفضيلها المشترين الآسيويين على سورية التي كانت تشتري نصف النفط الإيراني المصدّر إليها بالتقسيط في العامين الماضيين[8]. وفي الوقت الذي تضاعفت فيه الشحنات النفطية الإيرانية إلى الصين مرات عدة، بقيت حصة النظام السوري ضمن معدل لم يتجاوز 3.5 مليون برميل في الشهر، أي أقلّ من نصف احتياجاته الشهرية.
هل سينضمّ العملاء الآسيويون لقائمة المشترين للنفط الإيراني مع رفع العقوبات الأميركية؟
فتحت إمكانية رفع الولايات المتحدة للعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران البابَ واسعًا أمام إمكانية عودة العملاء الآسيويين الرئيسيين السابقين لقائمة المشترين للنفط الإيراني، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية اللتين كانتا ثالث ورابع أكبر مشترين للخام والمكثفات الإيرانية في العالم بين عامي 2016 و 2018.
وعلى الرغم من أن هذا الموضوع قد يستغرق وقتًا طويلًا؛ بسبب وجود مجموعة العقبات، أهمّها إجراءات عودة بناء الثقة وحل مشكلات التحويل المصرفي والتأمين، بعد غياب إيران لأكثر من عامين عن قوائم الموردين بسبب العقوبات، فإن دفع إيران بميزة السعر المخفض لنفطها سيشجع العملاء السابقين، ومنهم الأوروبيون أيضًا، للعودة بسرعة لقائمة المشترين للنفط الإيراني[9].
ومع قدرات تخزينية عالية تتمتع بها في إيران في البر والبحر (65 مليون برميل عائم و54 مليون برميل أخرى في التخزين البري)، ومجموعة ضخمة من الناقلات النفطية (100 ناقلة تقريبًا) تساعدها في عملية تسويق نفطها، من المرجح أن تعود إيران -في وقت قياسي- لأسواق النفط العالمي بمعدلات ضخمة تزيد عن مليوني برميل في اليوم الواحد، أي إلى معدل التصدير المعهود قبل فرض العقوبات الأميركية في عام 2018. ([10])([11])
لكن بغض النظر عن توقيت وحجم عودة النفط الإيراني إلى سوق النفط العالمي، باعتباره أحد العوامل المؤثرة في سعر النفط العالمي، ستكون عودة طهران السريعة والضخمة ودفعها بميزة السعر المخفض سببًا كافيًا لعودة أغلب العملاء السابقين الطامعين في تحقيق المزيد من المكاسب الاقتصادية.
خلاصة واستنتاجات
ما سبق يقودنا إلى مجموعة من الاستنتاجات:
- – إن الزيادة المهولة في صادرات إيران النفطية لا يجب أن تثير تساؤلات حول فعالية العقوبات الأميركية أو سياسة الضغط الأميركية القصوى المتبعة من قبل الإدارة الأميركية السابقة، التي نجحت في إدارة ما يشبه حربًا اقتصادية على النظام الإيراني تهدف إلى تجفيف موارده المالية.
- – يجب أن تُوجّه أصابع الاتهام إلى تساهل الإدارة الأميركية الجديدة في تطبيق شبكة العقوبات الاقتصادية وعدم تحديثها بشكل دوري، واطمئنان طهران إلى أن الإدارة الجديدة لن تفرض المزيد من العقوبات الاقتصادية، كبادرة حسن نيّة برغبتها في العودة للاتفاق النووي، وهذا ما جعل طهران أكثر جرأة على تحدي العقوبات مستفيدة من تكتيكات الاحتيال النفطي والدفع بميزة السعر المنخفض.
- – بمجرد رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن طهران، ستعود الصادرات النفطية الإيرانية إلى سابق عهدها في وقت قياسي جدًا، وبالتالي سيواجه سوق النفط العالمي صدمات كبيرة في أسعار النفط الخام، بسبب تعطش طهران للقطع الأجنبي الذي حُرمت منه لأكثر من عامين.
- – رفع العقوبات الأميركية عن طهران سيملأ خزينة النظام الإيراني بالقطع الأجنبي الذي سيستخدمه حتمًا لتأجيج الصراع في الشرق الأوسط، خاصة في سورية واليمن.
[1]– نيسان/ أبريل 2021- تتبع الناقلات الإيرانية – موقع متحدون ضد إيران النووية – https://bit.ly/3vxlEzc
[2]– الصورة أعلاه نقلًا عن موقع تانكر تركرز – https://bit.ly/3ihWSj1
[3] – ارتفاع صادرات النفط الإيرانية مع تطلع الولايات المتحدة للانضمام إلى الاتفاق النووي – صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية – https://nyti.ms/3fw14JX
[4]– المرجع رقم 1
[5] https://www.syria.tv/108081
[6]– الكهرباء الإيرانية في سوريا.. نوع جديد من “إبر التخدير” – ضياء قدور – تلفزيون سوريا – https://bit.ly/32tp3SE
[7]– هجمات إسرائيلية مدروسة بهدف تعطيل صادرات النفط الإيراني لسوريا – ضياء قدور – تلفزيون سوريا – https://bit.ly/3uyangK
[8]– خفت حدة أزمة الوقود في سوريا بالشحنات الإيرانية – راديو فردا – https://bit.ly/3vHBTdi
[9]– بينما تتطلع إيران إلى إنهاء عقوبات تصدير النفط، هل يشتري عملاء آسيا السابقون؟ – وكالة أنباء رويترز – https://reut.rs/3yPri1K
[10]– تمتلك إيران مخزونًا ضخمًا من النفط العائم يجب إزالته عند رفع العقوبات – بلومبرغ – https://bloom.bg/3i55r0s
[11]– أوقف القفزة – متحدون ضد إيران النووية – https://bit.ly/3c2lmZC