في وقتٍ تشتد فيه حاجة السوريين إلى توحيد جهودهم وتنظيمها وتوجيهها، حيث باتت الضرورة الوطنية ملحّة أكثر من أي وقت مضى، تواجه القوى السياسية الوطنية – الديمقراطية جملةً من التحديات والعقبات التي تعوق توحدها أو تحالفها أو تعاونها.
بعض التحديات/ العقبات يمكن تسميتها بالمعوِّقات/ التحديات الموضوعية، وهي تلك التي ترتبط بعوامل وظروف خارجة عن إرادة الأفراد والجماعات، وهي ذات بُعدٍ تاريخي، ويحتاج التعامل معها والتصدي لها إلى عمليات تنموية بعيدة المدى، يشارك فيها المجتمع بصورة عامة.
وبعض التحديات/ العقبات يكون من النوع الذاتي، ويتصل بخصائص الأفراد والجماعات المُعيّنين في الوقت الراهن، والظروف الراهنة المحيطة بنشأتهم وحياتهم، وتكون معالجتها من خلال وعيها والتعامل معها بأساليب متعددة.
ترتبط التحديات الموضوعية والذاتية، بعلاقات جدلية/ تفاعلية، وهذا يعني أن أي نجاح أو تقدّم يتم إحرازه، على مستوى إنضاج العوامل الذاتية، سوف يؤثر إيجابًا في الحدّ من قوة العوامل الموضوعية وضغوطها على الواقع الراهن. وفكرة التفاعل هذه، بين الموضوعي والذاتي، مهمة في سياق التعامل معها على مستوى التخطيط التنموي واتجاهاته. ومن أبرز تلك التحديات نذكر:
1- انخفاض مستوى تطور العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية للمجتمع السوري، وغلبة أساليب الإنتاج الفلاحي والتجاري والحِرفي الفردي والعائلي، وضعف التقاليد المدينية -ترييف المدن- وضعف مؤسسات المجتمع المدني.
2- تدني مستوى الوعي السياسي عمومًا، وغياب ثقافة العمل المشترك بين السوريين، فضلًا عن افتقار القوى الفاعلة منهم إلى امتلاك مهارات ممارسة العمل السياسي، والتعاوني/ التحالفي.
ومن أبرز المهارات: القدرة على التفكير النقدي وما يتضمنه من استخدام العمليات العقلية العليا/ المعقدة، كالفهم والتحليل والتركيب والتعميم، والوصول إلى خلاصات واستنتاجات موضوعية استنادًا إلى نقد المعلومات وتصنيفها وتحليلها ونقدها باستبعاد ما هو دخيل، أو غير صحيح، فضلًا عن مهارات التعامل مع الآخرين، والعمل في مجموعات، وما يطلبه ذلك من مقدرة على ضبط النزعات الذاتية/ الفردية، والجرأة في البحث عن المشتركات بين الجماعات ذات المصالح المتشابكة وتفعيلها… إلخ، إضافة إلى توفر الميول والاتجاهات النفسية الإيجابية ذات الطابع المنفتح، ما يسمح بحدوث التفاعل والتآثر ما بين الأفكار والمعلومات بين البشر.
3- إن الفقر في الثقافة السياسية ومهارات ممارستها، لدى غالبية السوريين، يعود في جزء كبير منه إلى خضوع المجتمع السوري عمومًا، طوال عقود عديدة، لآليات الضبط الاجتماعي – الفكري القسري، التي مارستها القوى المسيطرة ذات الطابع الاستبدادي وذات الأيديولوجيا الشمولية (قومية ودينية وكوزموبوليتية/ أممية) ويقف على رأس تلك القوى المتحكمة في وعي السكان قوى النظام المسيطر “القائد للدولة والمجتمع”.
إنها قوى لا تعترف بالآخر المختلف، أدت ممارساتها التربوية النظامية واللانظامية إلى تنميط تفكير الانسان السوري، من خلال اللجوء إلى وسائل وأدوات متنوعة في ضبط الناشئة، منها الوسائل والأدوات الناعمة، والقصد منها التنشئة والتربية الاجتماعية والعقلية والانفعالية للناشئة، الموجهة منذ سنوات الطفولة، مرورًا بمرحلة المراهقة، وصولًا إلى مرحلة النضج. ومنها الوسائل والأدوات الخشنة، كاللجوء إلى اعتقال المختلفين والرافضين الانصياع بالطبع، وما يرافق ذلك من تعذيب وحرمان من الحقوق الأساسية وصولًا إلى التخلّص الوجودي منهم.
4- لقد أنتجت وسائل التنشئة والضبط ذات الطابع الشمولي أجيالًا كثيرة من السوريين، وقد شبّوا على آليات تفكير، وعلى قيم وتصورات واتجاهات عن العالم والمحيط، تماثل إلى حدٍّ ما أفكار النموذج المُربي (المسيطر) وقيمه وآليات تفكيره، وقد يُفسر ذلك انتشار آليات التفكير المولدة للأفكار النمطية والميكانيكية، والخطية اللاتفاعلية، أي الأفكار المؤسسة على المبالغة في اللجوء للتعميم، والتسرّع في إطلاق الأحكام، من دون تدقيق وتمحيص، فضلًا عن المجازفة في إطلاق التهم، على كل من هو مختلف، أو غير مطابق للموديل المحفور في الأذهان. وليس شاذًا أن نجد تلك الآليات التفكيرية، لدى عدد غير قليل ممن تمردوا على ذاك النموذج المربّي المستبد والشمولي، وأقصد بعض “المعارضين” له، فهم أيضًا يميلون إلى رفض غير المتشابه أو المطابق، ويسعون لاستبعاده، من خلال الاستعانة بآلية المبالغة في تكبير نقاط الاختلاف، ونفي و/أو تقليص حجم المشتركات. وبمرور الوقت؛ يمكن أن تتحول تصوراتهم ومعتقداتهم واتجاهاتهم وأفكارهم إلى ما يشبه الشعارات القريبة من التابويات/ المقدسة، الثابتة، وأن ينصبّوا أنفسهم حراسًا لها!!
5- أضف إلى ما تقدّم من عقبات، إقدام أجهزة النظام المسيطر على استخدام أدوات وآليات التلاعب بالمجموعات البشرية السورية المتنوعة، سواء المهنية أو الاجتماعية/ الطبقية، فضلًا عن الجماعات الدينية والإثنية والقبلية، بقصد شرذمتها وتصادمها. وقد نجح إلى حدٍ بعيد في ذلك. فصارت المنافسة ودق الخوازيق، وفنون “طق البراغي” نهجًا منتشرًا بين السوريين، في أماكن وأوساط مهنية واجتماعية عديدة.
مع ذلك، فقد تمكن السوريون في 2011 من التمرد/ الثورة على المستبد، واستطاعوا تحطيم العديد من التابويات التي نشؤوا عليها، وتحطمت معها أدوات الضبط والتنشئة الشمولية، المولدة للتفكير المنمّط والساعية لتقييده.
وعلى الرغم من نجاح النظام من حرمان طلائع ناشطي الثورة من بناء أدواتهم الفكرية وإنتاج وقائع مطابقة لأحلامهم، من جراء لجوئه إلى العنف المفرط بحقهم، بل تصفيتهم وتغييبهم، فقد تمكن بعض السوريين من دخول المرحلة الأكثر نضجًا، فكريًا وسياسيًا، وبدا ذلك من خلال مباشرتهم إجراء مراجعات نقدية، على مستوى الفكر والسياسة والعمل التنظيمي، تتسم بالموضوعية بعيدًا عن الجمود الفكري والذاتية المفرطة.
اليوم، يكمن التحدي الأكبر في توفر شجاعة المباشرة بأعمال تنظيم الصفوف وتحشيدها على أسس متينة، من جانب القوى الوطنية الديمقراطية، التي يقع على عاتقها عبء تكوين أكبر تجمع لقواها المبعثرة، في وقت بالغ الدقة والخطورة، على قضية الثورة وأهداف السوريين منها.
لا تكفي كل تلك الأسباب، على صحتها وأهميتها، لتفسير هذه الحال المذرية والمخجلة للمعارضة (الديمقراطية)، وقد أصبحنا على مسافة عشر سنوات من بداية الثورة…
أرى أن العامل الأكثر تأثيراً في مصيبتنا هذه هو العامل النفسي.. هذه الشخصيات المتورمة النرجسية المغلقة على نفسها، غير المفتوحة على الآخرين، غير القابلة للتنازل والمساومة والتفاوض.. وشعار كل منها: تكون الأمور كما أريدها أو لا تكون.. وأتساءل عن أوجه الاختلاف بين هذا الشعار وشعار الأسد: الأسد أو لا أحد.
مشكلتنا نفسية بالدرجة الأولى، والعيادات النفسية هي خطوتنا الأولى..