قبل زمن قريب بعيد، كان ثمة نظامان اجتماعيان ومعسكران متعارضان متضادان: الرأسمالية التي تزعم أنها نظام أبدي للبشرية، والاشتراكية التي كانت تتصدى لمهمة “إرسال الرأسمالية إلى مزبلة التاريخ”. وبعد أن انقضت تلك الثنائية؛ تكوّن في رأسي انطباع عام عن كلا النظامين. وانطباعاتي هذه ليست عن جوهر الأفكار الاشتراكية أو الرأسمالية، بل عن الواقع الفعلي الذي وُجد على الأرض، وقد أتيح لي معايشة النظام الاشتراكي في ألمانيا الديمقراطية بين عامي 1985 و1990، بينما الرأسمالية عايشناها ونعايشها اليوم على نطاق واسع.
الرأسمالية تترك صخبًا وضجيجًا يملأ الرأس؛ وفي الاشتراكية السابقة ثمة هدوء وسكون. ففي الرأسمالية، تنقل لك وسائل الإعلام كلّ يوم خبرًا محليًا جديدًا، قد يكون مفاجئًا، وقد يكون له تأثير كبير في حياتك؛ فقد يكون الخبر تسريح عمال أو ارتفاع أسعار أو غلاء معيشة أو إفلاس شركة، وقد يكون لك نصيب من بين أولئك المنكوبين، لذا فأنت متحفز دائمًا عند سماعك الأخبار.
وفي الاشتراكية السابقة، أمّمت الحكومة الإعلام، حتى باتت أخباره متشابهة. هي أخبار إيجابية دائمًا مليئة بالإنجازات وبالتفاؤل. وهي خالية من أخبار ارتفاعات الأسعار والتسريح من العمل أو إخلاء البيوت، كما أنها خالية من أخبار الإضرابات والتظاهرات. فتجلس مطمئنًا تنتظر انتهاء نشرات الأخبار في التلفزيون بملل.
في الرأسمالية، يُسمِعك الإعلام ألف رأي ورأي في اليوم، وعليك أن تتمتع بقدرة كبيرة على التحليل والاستنتاج لتعرف ما هو في مصلحتك، وفي النهاية لن تعلم، خاصة أن الأصوات العالية المصاغة ببراعة وجاذبية هي لأصحاب الثروات العالية.
في الاشتراكية السابقة، كانوا يسمعونك الأسطوانة التي سمعها والدك وربما جدّك نفسَها. يدعونك بنفس الطريقة والأدوات والكلمات لاعتناق الأفكار التي دُعي إليها والدك وجدك. وبما أنك من جيل جديد فلن تتقبلها بحرارة، إذ لا جديد فيها، حتى من حيث شكلها؛ فتعزف عنها إلى لا شيء، لأنه لا يوجد ثمة أفكار أخرى معروضة في السوق كي تأخذ بها. بل تصبح أنت، بخبرتك القليلة و”نكاية بهم”، راغبًا في الرأسمالية التي تصل إليك صورها المزوقة بطرق مختلفة.
في الرأسمالية، الانتخابات الحرة طاحونة. إنها معركة كبيرة بين حيتان كبار، بينما تسعى بعض الكتل الصغيرة، من دون نجاح يذكر، لأن تجد لها مكانًا. مكنة الإعلام البارعة وسلطة أرباب العمل ذات تأثير حاسم. ولكنها تبقى معركة طاحنة بين المصالح الكبيرة. ديمقراطيتها ذات اليوم الواحد، يوم الانتخابات، قد تُغيّر وجوه المسؤولين، وتأتيك في كل مرة بحزب جديد قديم، وقيادات ووجوه جديدة قديمة قد تختلف في مشاربها وتفكيرها وتوجهاتها، ضمن حزمة المصالح الرأسمالية، مما قد يغيّر جزئيًا في بعض جوانب عيشك، وربما يقلب حياتك الشخصية رأسًا على عقب، دون أن يكون هناك تغيّر في جوهر النظام، وهكذا تظلّ متحفزًا في كل انتخابات تترقب نتائجها بقلق، وقد تستسلم حين تعلم أنك لن تستطيع تغيير شيء؛ فتعزف عن المشاركة فيها.
أما في الاشتراكية السابقة، فالانتخابات هادئة، نتائجها معروفة سلفًا. لا تحتاج إلى الاجتهاد لتعرف النتائج، فلا جديد حتى ينفّذ الخالق إرادته. تقريبًا الوجوه نفسها تتكرر، الأشخاص نفسهم، القيادات نفسها. وإن حصل بعض التغيير في بعض القيادات؛ فلن تأتي بجديد. فإنهم سيرددون الشعارات والعبارات نفسها، وسيقولونها بنفس اللهجة والتنغيم، بلا فرق. لذا تجلس أنت هادئًا مطمئنًا، غير مبالٍ بالانتخابات، سواء أكانت في النقابة أو الجمعية أو الإدارة المحلية أو البرلمان، لا ينتابك أي قلق. ولا تذهب لتدلي بصوتك، إلا إذا كان ذهابك مراقبًا، وتترك لهم أن يعلنوا النتائج كما يرغبون.
في الرأسمالية، يدعونك للتنظيم والانضمام إلى النقابات والجمعيات والأحزاب، وعليك أن تختار -إن كنت تنوي الاستجابة- إلى أيِّها ستنضم. ويدعونك إلى الإضراب أو التظاهر والمطالبة بتحسين الأجور وشروط العمل، أو إلى أن تعبّر عن رأيك في قضية ما، وتطالب الحكومة بموقف ما. وقد تواجهك الشرطة بالهراوات وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، وقد تبات في السجن بعض الوقت.
في الاشتراكية السابقة، لن تقع في هذه الحيرة؛ فالمنظمات معروفة وهي مؤممة من قبل الحكومة. والانتساب إليها شكلي. وليس هناك إضرابات ولا تظاهرات، إلا تظاهرات التأييد التي تدعو إليها الحكومة. إنهم يخلّصونك من الحيرة وصعوبة الاختيار؛ وهكذا يبقى بالك هادئًا.
في الرأسمالية، تتوهم أنه بإمكانك الحصول على الكثير بلا حدود، ثم تكتشف أن عليك أن تكافح وتكافح كي تحصل على أبسط الأشياء. عليك أن تدفع كي تحصل على أي شيء. فإذا كنت لا تملك أو تملك القليل؛ فلن تحصل على ما يكفيك لأود نفسك وعائلتك.
في الاشتراكية السابقة، الأشياء الأساسية تأتي إليك من تلقاء نفسها من دون عناء يذكر. الدولة تخطط وترعى وتقدّم لك ما تراه هي أنك أنت بحاجة إليه. ولا قيمة تذكر لجهودك الذاتية.
في الرأسمالية، ستحصل على التأمين الصحي إن كنت تعمل، وإلا فلا. وقد تعمل من دون هذا التأمين. وخدمات الصحة في الرأسمالية درجات، فهناك خدمات صحية بخمسة نجوم، وهناك خدمات صحية بالكاد تنقذك من الموت، وقد لا يحصل عليها كثيرون. وتكاليفها دائمًا مرتفعة، فإذا لم يكن لديك تأمين صحي؛ صعُب عليك تحمّل نفقاتها.
في الاشتراكية السابقة، الصحة مؤمنة للجميع مجانًا، والدولة هي من يتكفل بها. ليست خدمات خمسة نجوم، ولكنها متاحة مجانًا للجميع. لن تتعب نفسك في الحصول عليها، فهي متوفرة من دون مقابل، ولن تُتعب نفسك كثيرًا في البحث عن خدمات صحية أفضل. فتجلس هادئًا.
في الرأسمالية، عليك أن تكون من ذوي الحظوة كي ترسل أولادك إلى المدارس الخاصة مرتفعة التكلفة، وهي مدارس تهيئ أولادك بما يتناسب ومتطلبات سوق عمل أولاد النخبة بوظائفهم الممتازة مستقبلًا. أو عليك أن ترسل أبناءك إلى المدارس الحكومية المجانية التي تهيئ أولادك لسوق عمل عامة الشعب، برواتبهم المحدودة.
في الاشتراكية السابقة، التعليم حكومي ومتاح للجميع مجانًا في جميع مراحله، ولا مدارس للنخبة. ولا تحتاج إلى أن تشغل بالك كثيرًا بهذا الأمر؛ فالمتاح هو ذاته للجميع من دون فوارق تذكر، وتحصل عليه حتمًا.
في الرأسمالية، الفروقات بين البيوت ليس لها حدود، بين القصور وبين البيوت الأشبه بالقبور. وإذا كنت من عامة الناس؛ فلن تعلم كم ستبقى في بيتك المرهون للبنك لقاء أقساط شهرية تدفعها، وإذا كنت مستأجرًا فستخشى أن تعجز عن دفع الإيجار فيطردك المالك. إنه تجديد لحياتك، ولكن عبر التشرد.
في الاشتراكية السابقة، لا تجديد للبيت إلا ما ندر، أنت تألف بيتك الذي تقيم فيه، ولا يوجد أي خطر يهددك بطردك منه؛ فالدولة تملك معظم البيوت، وهي متقاربة في مواصفاتها، والدولة تطالبك بأجر زهيد يتناسب ورواتبك الزهيدة. وعملك المضمون يضمن استمرار قدرتك على سداد أقساط بيتك ولا خوف.
في الرأسمالية، الدخول إلى سوق العمل هو التحدي الأكبر، حيث العمل غير مضمون، ولا تعرف أين ستعمل، ولا متى، ولا أي فرصة ستتاح لك. أنت تسعى وتسعى وتسعى. ربما تجد فرصة عمل، لكنها قد لا تناسبك من حيث طبيعتها أو دخلها، وقد لا تجد أي عمل، وإن وجدت فأنت مهدد بالتسريح دومًا. في حياتك ستغيّر عملك أكثر من مرة، وتعيش البطالة والعوز فترات، قد تطول وقد تقصر. إنه تجديد لحياتك عبر الألم. وقد تكون من بين القلة المحظوظة؛ فتحصل على عمل بشروط ممتازة يحسدك عليها أقرانك، لكن هذا حظ القلة القليلة. وسيبقى الغالبية من فئة محدودي الدخل أو الفقراء، وأنت منهم.
في الاشتراكية السابقة، الحكومة تخبرك ماذا ستعمل، وأين. بعض الخيارات متاحة، ولكن الفروقات ليست كبيرة، حيث إنك ستحصل على الراتب ذاته والتعويضات والمزايا ذاتها في أي مكان تعمل فيه. وعملك مضمون من يوم دخولك إلى سوق العمل حتى تقاعدك بعد عمر طويل. لن تعرف شيئًا اسمه البطالة، ولكنك ستعايش دائمًا نفس الأماكن، ونفس المنتجات، ونفس الأشخاص، ونفس المديرين تقريبًا. المشهد يتبدل ببطء أمامك؛ فتجلس مطمئنًا خالي البال من هموم مكان العمل وتحسينه وتبديله.
في الرأسمالية، لا يوجد مسطرة واحدة للجميع، فكل شركة وكل مؤسسة لها نظامها. والحكومة لها نظامها. وثمة فوارق هائلة بين الرواتب الدنيا والعليا، تتفاوت بين بضع عشرات، وبضع مئات المرات، بل إنها تبلغ آلاف المرات في بعض الأحيان. والرواتب المرتفعة هي من حظّ قلة قليلة؛ فقوة العمل سلعة كغيرها من السلع تخضع للعرض والطلب. والرأسمالي يميل دومًا إلى خفضها كي يخفض التكلفة ويزيد الأرباح. لذلك هي جبهة عريضة للصراع اليومي، بين أصحاب الأجور وأصحاب الشركات. وعليك أن تبقى متحفزًا مستفزًا تبذل قصارى جهدك، مهما كانت ظروفك.
في الاشتراكية السابقة، هناك مسطرة واحدة للجميع، الفروقات محدودة مهما كانت فروقات التأهيل والكفاءات والإنتاجية. الحوافز هي ذاتها تقريبًا بمعدلات متقاربة يستوي فيها المجدّ والكسول. الرواتب منخفضة، لأن الكثير من السلع والخدمات تحصل عليها مجانًا أو بأسعار مدعومة. لذلك أنت تجلس هادئًا لا تزعج نفسك بالسعي لزيادتها، لأنها محكومة بقانون. ولا تزعج نفسك بالكد والجد لإنتاج المزيد، لأنك لن تحصل على أكثر مما يحصل عليه الكسول من زملائك.
في الرأسمالية، السلع والمنتجات والخدمات تُغرق الأسواق. وهي تتفاوت بأنواعها ومواصفاتها ووظائفها وأسعارها تفاوتًا كبيرًا. بعضها مصمّم لذوي الدخل المحدود، وبعضها لذوي الدخل المتوسط، وبعضها لذوي الدخل الأعلى. الدعاية التجارية تضخ وتحرضك أنت وعائلتك على الشراء والاستهلاك والدفع، ولكن قدرتك على الدفع محدودة، فتظلّ تسعى وتسعى لتحسين دخلك ولكن هيهات، إذ تجد نفسك عاجزًا عن تلبية طلبات أبنائك المدفوعة بالدعاية التجارية؛ فتنظر وتتحسر، وتغضب كثيرًا.
في الاشتراكية السابقة، عرضُ السلع والخدمات أقلّ وأضيق من الرأسمالية بكثير. ولكن السلع والخدمات الأساسية متوفرة ومتاحة للجميع بأسعار يستطيع الجميع شراءها. العرض محدود. لا مبالغة في تغيير المواصفات كل يوم، لتحريض المستهلكين على الشراء. السلع الفاخرة قليلة ومرتفعة الثمن؛ فتقنع بما قدرته الدولة لك وتجلس بهدوء.
في الرأسمالية، المال هو غاية بحد ذاته، وهو كل شيء. والقاعدة تقول: افعل كل شيء لتحصل على المال. وجمع المال -إلى حد بعيد- ضربة حظ. إذ قد تكون ابن عائلة ثرية، وقد تكون من بين القلة وتوفق بالبدء بعمل صغير ينمو ليصبح كبيرًا. وقد توفق بأن تصبح وكيلًا لشركةٍ ما. بل إن المال الفاسد متاح لقلة قليلة، وسيصبح مالًا حلالًا بعد تدويره ضمن مكنة الرأسمال الهائلة. أما إذا كنت من الغالبية العظمى التي تشكل السواد الأعظم من الناس؛ فستبقى فقيرًا أو في أحسن الأحوال ستبقى أوضاعك المادية مقبولة وربما فوق خط الفقر بقليل.
في الاشتراكية السابقة، المال مهمّ، ولكنك تعرف أنه محدود ومصادره محدودة. فلا قطاع خاص ولا وكالات ولا وراثة. والغالبية يتقاضون رواتب متقاربة من الدولة. حتى لو جمعت المال فليس في السوق أشياء كثيرة مميزة كي تحصل عليها بالمال الفائض دون الآخرين. ولو حصلت على مال فاسد؛ فلن تستطيع وضعه في المصارف الحكومية المراقبة بشدة، ولن تستطيع شراء بيت ثان مثلًا لأن هذا سيفضحك. وهذا يجعل المال الفاسد بلا قيمة كبيرة. ولذلك تجلس هادئًا لا تستعجل جمع المال، فطرقه مسدودة من جهة، والأشياء الأساسية متوفرة من جهة أخرى، فتردد في نفسك “القناعة كنز لا يفنى”.
في الرأسمالية، ثمة غنًى فاحش يفقأ عينك وأنت ترى القصور والسيارات والخدم والحشم والشاليهات واليخوت ومحلات تسوق الفئات الغنية ومحلات سهرهم ولهوهم التي لا يستطيع الآخرون الذهاب إليها. ولهم أماكن سكنهم الخاصة مرتفعة الثمن، ولديهم الأموال الطائلة الثابتة أو السائلة. ويستفزك أيضًا أن ربّ العمل هو شخص يشبهك في كل شيء، بل قد تكون كفاءاتك أعلى منه، وعلى الرغم من ذلك، تجده يتحكم في مصاير المئات وربما الآلاف وعشرات الآلاف، وأنت واحد منهم. ويستفزك الأمر أكثر إن كنت تعرف أصول الكثيرين منهم وتعرف المصدر الفاسد لثرواتهم.
أما في الاشتراكية السابقة، فيكاد الجميع يتشابهون، حيث يتسوّقون ويلهون في الأماكن نفسها بفروقات قليلة. ومن يتسنّم مفصلًا إداريًا اليوم ويتحكم في مصاير الآخرين هو أحد المدعومين من بين صفوف الكادحين، وقد يغادر منصبه غدًا، بجرّة قلم، فيعود إلى صفوف “الكادحين غير المدعومين”، بينما يحلّ محله واحد آخر مدعوم من صفوف “الكادحين”.
لكل ما تقدّم وأكثر، ففي الرأسمالية ثمة أمراض تنتشر أكثر من الاشتراكية، مثل ضغط الدم الشرياني والتهاب الأعصاب والاضطرابات النفسية. أما في الاشتراكية السابقة، فتنتشر الأمراض التي تصيب الإنسان بسبب الملل والرتابة، ويظهر الميل إلى الانتحار.
الرأسمالية هي لعبة قمار يربح فيها القليلون ما يخسره الكثيرون. وتوجب عليك الاستعداد الدائم وبذل أقصى جهد، من دون أن تكافئك، إن كنت من الغالبية. تحرّضك على خلق كثير من الأحلام التي تركض خلفها من دون أن تنالها. إنها تعرض عليك أشياء كثيرة، من دون أن تمنحك إمكانية الحصول عليها. قد تكون مليئة بالإثارة، لكنها أيضًا مليئة بالمآسي. غير أنها تمنحك حق التعبير والاحتجاج دون أن يكون لاحتجاجك أثر جوهري عليها.
والاشتراكية السابقة تريحك، فلا تحتاج إلى السعي والكد الحثيث الذي لن يصنع لك فرقًا. إنها تؤمن لك الأساسيات فتطمئن، ولكنه اطمئنان ممل وانتظار فارغ مسترخ. ولا تستطيع أكثر من الاحتجاج الصامت. الوقت في الاشتراكية يمر ببطء ثقيل كالرصاص. لا تعرف ماذا تنتظر. أنت تعلم أن طبيعة الأشياء هكذا، وستبقى على حالها ولن تتغير. ويبدو الأفق أمامك مسدودًا، فتصاب بالإحباط إن كنت من الطامحين. أما إن كنت من أصحاب شعار “القناعة كنز لا يفنى”، فهي الفردوس، حيث يصل إليك كل شيء من دون عناء يذكر.
بعد كل ما تقدم:
إذا كنتَ اليوم من غالبية الناس وسوادهم الأعظم، سواء كنت في العالم الثالث أم الثاني أم الأول أو العاشر؛ فإن ثمة من يتحكم فيك ويقرر عنك، سواء في تلك الاشتراكية أو هذه الرأسمالية. أما إذا كنت من أبناء العالم الثالث، سواء كنت في بلد “رأسمالي أو اشتراكي عالمثالثي، فلن ينالك سوى الجانب السلبي في كلا النظامين، ولن ينالك الجانب الإيجابي في أي منهما.
هذا كان في الماضي. اليوم الاشتراكية السابقة انهارت، وساد نموذج رأسمالي نيوليبرالي متطرف على العالم؛ فازدادت فروقات الثروة بين البشر، وأصبح مداها أوسع في جميع بلدان العالم. وخسر معظم الناس في الشرق والغرب كثيرًا من بعض ما كان لديهم. أوضاع عامة الناس أصبحت أسوأ في كل مكان، وأصبح كثيرون في العالم يتحسرون حتى على تلك الأيام الهادئة المليئة بالملل. وحلم الناس بالعدالة الاجتماعية، وحاجتهم إليها، لم ولن ولا يمكن أن ينهار.
أصبحت ثقافة شريعة الغاب أيديولوجيةً يُروّج لها من دون خجل، وهم يرددون عليك: “إمّا أن تأكل الغبار الذي يثيره من تركض خلفهم، أو عليك أن تجعل من يركض خلفك يلتهم الغبار الذي تثيره وأنت تركض في المقدمة”. ويرددون الحكاية الأفريقية: “في كل صباح، يستيقظ غزال، وعليه أن يركض أسرع من أسرع أسد، كي لا يموت؛ وفي كل صباح، يستيقظ أسد، وعليه أن يركض أسرع من أبطأ غزال، كي لا يموت. وسواء أكنت غزالًا أم أسدًا؛ فعليك أن تركض بأقصى ما تستطيع”.
فكيف سيكون المستقبل؟
وهل سنستمر في الرأسمالية؟
أم ثمة عودة لذاك النموذج من الاشتراكية السابقة؟
أم ثمة بدائل أخرى من الاشتراكية التي تستفيد من أخطاء سابقاتها؟
فكيف ستكون الاشتراكية القادمة؟
البعض روّج “للطريق الثالث” وكأنه شيء آخر، ولكنه لم يكن أكثر من رأسمالية مزوّقة. نحكم على هذا الطريق الثالث من معرفتنا بأن بيل كلينتون وطوني بلير عدّوا أنفسهم من هذا الطريق. والبعض روّج لاقتصاد السوق الاجتماعي بنموذجه الألماني. ولكن هذا الأخير ليس أكثر من رأسمالية تراعي قليلًا الجانب الاجتماعي. مع دور أوسع قليلًا للدولة.
فهل ثمة بدائل أخرى، تضمن من جهة أولى قدرات إنتاجية وإبداعية عالية، ومن جهة ثانية عدالة اجتماعية عالية وحريات عالية وحقوق إنسان ومجتمع مدني قوي يواجه قوة الدولة؟
وإن كان وجود هذا البديل ممكنًا، فأين هو؟ وكيف يكون شكله؟! وهل هو جاهز أم يحتاج إلى اجتهاد بشري لصياغته، وتعهد بالعمل من أجله، كي يكتمل ويتمثل في أرض الواقع؟ وهو كذلك فعلًا!
هناك جهود تُبذل وتيارات تتكوّن، ولكنها لم تتبلور بعد، ولم تشكل تيارًا عالميًا واضح المعالم يقدم نفسه كبديل مرن متطور حتى الآن، وتساعد أزمات الرأسمال، وبخاصة الأزمة العالمية الأخيرة وتزايد الفروقات وخسارة ما ربحه الناس في السابق، تساعد في بلورة تيارات جديدة بديلة.
الرأسمالية غير صالحة… والنموذج الاشتراكي السابق لم يُفلح… والجديد ما زال في طور الولادة، ومن له مصلحة في ميلاد هذا الجديد؛ فعليه أن يعمل من أجله، وقبل ذلك ثمة شرط أساس، وهو أن يعي الناس مصلحتهم.
المقارنة جميلة ورائعة ولكن حبذا لو استطاع من خلالها تصور شكل الانسان بعد هذه التغيرات .. لن يكون مجرد انسان بل مسخ مشوه … تحياتي للاستاذ سمير سعيفان