هذه محاولة لتسليط الضوء على خطاب أيديولوجي مزعج معرفيًا، وهو خطاب الأسد في أثناء مشاركته في الاجتماع الدوري الموسع الذي تعقده وزارة الأوقاف في جامع العثمان 7/ 12/ 2020 [1]، لذلك خانتني اللغة الأدبية لسوقه في قالب لغوي مستساغ. فهو -أي الخطاب- في نظري يعيد النظرية الأموية من دس السم في العسل.

هل يمثل الرئيس نفسه في هذا الخطاب أم يختزل الدولة في شخصه؟

إن الرئيس أو المسؤول -كما يقول عن نفسه يمثل الدولة ويريد أن يقدم خطابه ممثلًا لها فيقول:

“قد يسأل أي شخص في هذا المسجد أو في أي مكان هل هذا هو الوقت الملائم لكي يتحدث مسؤول عن قضايا ذات طابع عقائدي وفكري في الوقت الذي تواجهنا فيه كثير من التحديات وبخاصة في الجانب المعيشي… أقول نعم.” [2]

ويقدم بذلك موقف الدولة من المؤسسة الدينية بوصفها الرديف الخطابي والفقهي الرادع جنبًا إلى جنب مع آلة الجيش: “أستطيع أن أقول كما عادتي بعيدًا عن المبالغات بأنكم كنتم رديفًا للجيش وكلنا يعرف بأن الحرب التي استخدمت المصطلحات الدينية في سورية بدأت قبل الحرب العسكرية وكان أملهم بأن الحالة الطائفية هي التي ستدفع الناس إلى حمل السلاح والقتال ولكن عندما فشلوا قرروا أن يذهبوا باتجاه الإرهاب فلذلك عندما أقول رديفًا للجيش فهذا الكلام دقيق لأنه لو تخاذل الجيش لانتصر الإرهاب ولو تخاذلت المؤسسة الدينية لانتصرت الفتنة.”[3]

وبذلك لا يحمل هذا البحث أي بعد شخصي تجاه رئيس هذه الدولة فهو لا يعدو أن يكون ممثلًا لها، بل هو تحليل للمنظومة الأيديولوجية لهذه الدولة ولا يهم إن كان المتكلم هنا زيد أو عمر. فهو يتكلم من ورقة أمامه فيها من الأفكار والطروحات التي قد يستسيغها القارئ ولكنها في رأيي خطاب من السهل الممتنع، فهو يقول: قلت كل شيء بين هذه الجمل. إلا أن ترتيبها ومحاورها خطرة وفي الآن ذاته رصينة وفيها أحكام وعقوبات تنتظر موافقة المؤسسة الدينية عليها. من مثل ذلك:

“كان فيمن خرج من الجوامع في بداية الثورة ملحدون” أو أن “الإخوان خونة”[4]

(وعلى الرغم من الاختلاف مع الإخوان المسلمين لتقاربهم فكريًا من أيديولوجيا الدولة المطروحة في هذا الخطاب، لكن هذا التوصيف ليس مقبولاً). أو أن المعارضة على اختلاف أطيافها إسلامية متطرفة وإرهابية لا تمثل الداخل السوري بل مصالح الدول المستعمرة أو المخالفة لموقف الحكومة السورية. قد يتفق معه المرء في تطور بعض أطياف هذه المعارضة ولكن هذه المعارضة كانت داخلية وتعكس تطلعات المجتمع السوري وهمومه. فهي بذلك الرئة الصحية لتطوره. لكن بعد أن شيطنتها السلطة لجأت أطياف منها إلى دول تمول مشروعات لمصلحة المجتمع السوري وإن كان هناك بعض التجاوزات فهذا لا يعطي الصلاحيات لهذا العنف والإرهاب من كل الأطياف.

هل لجوء الدولة إلى المؤسسة الدينية في هذا الوقت هو ورقتها الرابحة في الانتخابات المقبلة؟

يبدو أن هذا السؤال مشروع فما قاله المسؤول ضد رئيس فرنسا وتركيا يقدم الإجابة عن هذا السؤال. هنا تظهر الدولة حامية المؤسسة الدينية التي ستطلق يدها في المجتمع ولكنها مقابل ذلك ستقدم خدماتها بكل إخلاص بعد تنصيبها مرجعًا وحيدًا يبارك منجزات الدولة ومن أهمها الدعاية الانتخابية المقبلة. وأظن أن مؤسسات الأديان الأخرى ستتسابق على الهدف ذاته.

أما ما هي تنازلات الدولة للمؤسسة الدينية؟

أهم هذه التنازلات أن المجتمع بكل أطيافه وأديانه وقومياته أصبح رهن رضى المؤسسة الدينية. هذه هي الفكرة السياسية الوحيدة التي قدمها هذا الخطاب الشائك. ما يعني تحديد سبب مكان هذا الخطاب وزمانه الذي يعد ظاهرة لا مثيل لها في التاريخ السوري.

عودة إلى الخطاب الذي يُطلب فيه التماهي بين الدولة والمؤسسة الدينية.

السؤال الأول من نحن؟

يقول مسؤول الدولة في محاولة منه لرد كل أفكارنا وتصوراتنا إلى الدين والمعتقد ولا شيء آخر سواه (لا فلسفة ولا علوم ولا رياضيات ولا فلك ولا كيمياء ولا بلاغة ولا تاريخ ولا ثقافة) والمشكلة إذا فُهم من هذا الخطاب أن هذا التصور ينطبق على الدين الإسلامي فقط فهو النواة وكل شيء يدور حوله فهو يقول: “وعندما نتحدث عن الفكر في منطقتنا أنا لا أتحدث الآن عن سورية في هذا الشرق الكبير قد لا يكون هناك تعريف، قد يمتد الشرق من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي ومناطق أخرى، هو شرق عقائدي شرق ديني، عندما نتحدث عن الفكر.اليوم فهذا الفكر هو الدين لأنه يدخل في كل جوانب الحياة،يدخل في العقل وفي العاطفة وفي السلوك، في الماضي وفي الحاضر وسيكون كذلك في المستقبل، فيكفي أن نخرب هذا الفكر لكي نخرب المجتمعات.”[5]   

حاول المفكر الطيب تيزيني في مشروعه الطويل من التراث إلى الثورة وبخاصة في كتابه من الاستشراق الغربي إلى الاستغراب المغاربي أن يدحض هذا الادعاء القائل إن كل ثقافتنا دينية، وقدم في ذلك أبحاثًا كثيرة تصف التطور المادي والفلسفي والعلمي لثقافة المنطقة قبل الإسلام وبعده. وصادق العظم في كتابه دفاعًا عن المادية والتاريخ ، فضلًا عن القدماء ممثلي المدرسة الأنطاكية الشهيرة من يوحنا فم الذهب إلى نسطوريوس وبولس السمسياطي ويعقوب الرهاوي ومدرسة قنسرين ونيميسيوس الحمصي وكذلك الكندي والفارابي وابن سينا والرازي وجابر بن حيان. هذا الفكر الذي تلقاه الطلاب على مقاعد جامعة دمشق في أوائل تسعينيات القرن المنصرم. يبدو أن المسؤول الحكومي ضرب هذا التراث المادي ورما به عرض الحائط عربون محبة للمؤسسة الدينية. كان من المفروض على المسؤول أن يتكلم مع من صاغ هذا النص وأن يلزمه بقراءة التاريخ مجددًا ولكن على الرغم من ذلك ترفع له القبعة فهو صاغ خيوط حبكته الأدبية بكل عناية بحيث تنطلي الحيلة على الشعب فلا يوجد مكان أجمل لحياكة السياسة من الجامع لا بل في أحضان المؤسسة الدينية.

إن الشرق لم يتطور بفضل الدين مع عمق الاحترام للدين كونه مسألة إيمانية وتجربة شخصية عميقة وذات خصوصية روحية ولكن شرط ألا تتعدى المعبد وألا تجوب في أروقة السياسة.

الدين المشخص برجالاته كان دائمًا عكاز الطغاة والدين منهم براء فمنذ اللحظة التي تلاقح فيها الدين مع الدولة بدأ تسييسه وإخراجه عن مساره ها هي المحاولة تتكرر وستتكرر لتنتج لنا طغاة.

يجب على مسؤول الدولة أن لا يصف الشرق بعقائدي وإن كانت هناك محاولات كثيرة من الدول والسياسات لجعله كذلك. فهم يدركون لعبة أبي سفيان وعلى أساسها يتعاملون. “تلقّفوها (الخلافة) الآن تلقّف الكرة، فما من جَنّـة ولا نار”.

أما هل للخارج دور في ذلك؟

طبعًا هناك اتفاق مع المسؤول في ذلك لا بل يُزاد من الشعر بيتًا وأقول كما قال الدكتور طيب تيزيني إن الخارج لا يدخل في الداخل إلا بقدر ما يسمح هذا الداخل فالموضوع لا يخلو من مصالح وخيانات.[6] ولكن ماذا يفعل الذي في الداخل إذا هجر وقتل. ومن المعلوم أن الخارج خارجان خارج أوروبي وآخر إيراني، أم أن الإيراني شرقي عقدي ولا يدخل في هذه المعادلة.

في محاولة من المطران يوحنا ابراهيم المخطوف مع المطران اليازجي. قال ابراهيم ما معناه: إن المؤسسة الدينية لا تمثل الرأي السياسي لأعضائها فقد تكون موالية لجهة ما أما الأعضاء فكل بحسب قناعاته قد يكون مواليًا أو معارضًا من جراء هذا الكلام اختفى المطران واتهم الإرهاب بخطفه.[7]

والسائد الآن أن المؤسسات الدينية موالية للدولة بغض النظر عن مكان وجودها في الساحة العربية.

ما هو سبب المد الديني المتزايد في الشرق حتى وصل المسؤول إلى عده عقديًا؟ إنه تقصير الحكومات إما عمدًا أو إهمالًا أما الثانية فهي جد نادرة. الأولى هي الأساس ففي ذلك مقصد وهذا لا يشمل سورية فقط بل في كل الساحة العربية حيث يعتاد الناس من خلالها على الطاعة وتلقي العلوم مشافهة وتنصيب رجال الدين حكامًا في أمور دينهم ودنياهم. لتوطيد ذلك ما على الدول إلا أن تزيد دور العبادة على حساب المدارس والجامعات والمعاهد العلمية والمستشفيات. ففي غياب فرص التعليم يزداد الجهل بالواقع وينتج من ذلك علم التسويف. وبهذا لن نستطيع طبعًا فصل الدين المؤسساتي عن الدولة ففي اتحادهما مأساة للمجتمع الذي لا يرى نفسه خارج هذين السياقين.

الأمثلة التي وردت في خطاب الدولة تؤثر مباشرة في فهم الفكرة فهو يشبه تمامًا تأثير المثل القائل “راح بشربة مي” نحن نعرف ما معنى شربة مي ولكننا لا نعرف كيف راح. وهذا تمامًا هو المقصود بهذه الأمثلة البسيطة التي يستسيغها السامع العادي ولكن ما وراء الأكمة ما يزال غير واضح. خلو الخطاب من تشخيص هموم المجتمع الأمنية والمعيشية والانفصالية وعدّها ناتج أسباب ما، ما نلبث نزيل الأسباب حتى تنتهي هذه الحالة. إنها قضايا عكوسة أما القضايا الفكرية يقصد الدينية فهي مزمنة. إن كان الأمر كذلك فلم لا نحل هذه المشكلات العكوسة من عدم الأمان والخبز والكهرباء والماء والمأوى والقائمة تطول. أو التوقف عن قتل الأبرياء وإن كان بأقل الإيمان. أعتقد أن إن هذه الأمور ليست عكوسة بل تحتاج إلى البدء بحلها وهي تبدأ من وقف القتال والعنف. والاعتراف بالأزمة هو جزء من الحل ولكن ما تزال الدولة مصرة على أنها انتصرت. إقامة حكومة تكنوقراط علمانية تأخذ على عاتقها شق طريق السلام وتقدم الدعم اللازم للشعب المنكوب أم أن هذا الحل مرفوض لأنه سيلجأ إلى دول أخرى قد تكون ليبرالية.

كيف يجب أن يكون مسؤول الدولة الشرقي المستقبلي؟

سؤال متعب في هذا الخطاب يبدو لي أن المسؤول حاول أن يتمثل بالقائد الديني والسياسي وهذا المثال موجود في ما حولنا في إيران وروما وحزب الله والمعارضة السياسية الدينية من القاعدة إلى داعش إلى الفصائل والفيالق والكتائب الإسلامية. فها هو ينبري للدفاع عن الرسول وكان من الأفضل أن يسمح لرجل يعرف خصوصية المجتمع الفرنسي أو الدنماركي التكلم في هذا الأمر. فما نراه إساءة ليس بالضرورة كذلك إذا فهمنا حيثيات نشوئه وبيئته الثقافية. ونعود مرة أخرى لنقول لولا النصوص الإسلامية والأفعال التي تلحق بأشخاص يدعون الإسلام ويقتلون باسم الإسلام لما نقد هؤلاء التصور الإسلامي للرسول أو للنصوص الدينية. أعود هنا للتأكيد أنا لست بصدد نقد دين الإسلام الذي أكن له كل الاحترام ولكني أنقد تسييس الدين وتديين السياسة إنهما وجهان لعملة واحدة هدفها كسب القطاع الواسع من الشعب الذي يمكن تخديره بوصفات وشعوذات تنسيه حاضره وتجنده لأي مهمة حتى لو كانت القتل. يزيد الدهشة هو قول المسؤول أن الإرهاب في أوروبا أوروبي، إذا كان كذلك لماذا ترون (والكلام موجه إلى جميع السياسيين الذين صرحوا في هذا الموضوع) هذا الحراك الأوروبي (سلبًا كان أم إيجابًا) إساءة إلى الدين الشرقي. ويجب أن نعيد تعريفه إنه الدين الشرقي في تجلياته الأوروبية وهو ناتج أوروبي وترفضون تدخل أوروبا في شؤونكم يجب أن تتركوا الدول الأوروبية لتواجه مشكلاتها الداخلية، وبذلك تصبح مقولة المسؤول إن العدو من الداخل:

 “دائمًا الخطر يأتي من الداخل الخطر من أبناء الدين ومن أتباع الديانات ومن أتباع العقيدة ويبدأ هذا الخطر بالتخلف والتطرف وبالتعصب وبعدم قدرة أبناء أو أتباع تلك العقيدة على التفكير السليم”[8]

والسؤال يطرح نفسه من جديد من سمح بالتخلف والتعصب والابتعاد عن التفكير السليم أليست السياسة التي استغلت الدين وصادرت مسلماته وحتى التفكير والنقاش فيه. لو بقي الجهاز السياسي على الحياد من الدين لما خرج مدعومًا مسيسًا ينصب مشانق التكفير والتخوين فالتهمة الدينية في الشرق هي تهمة سياسية بامتياز. ولنأخذ على سبيل المثال الإرهاب الذي لم يره المسؤول سببًا ولا خطرًا وهو بالمناسبة على الرغم من أنه وضع تعريفات كثيرة إلا أنه لم يعرف الإرهاب. وفي ذلك محاولة لجعل هذه التهمة دينية واجتماعية أكثر منها سياسية وأجهزة السياسة العربية تعرف كيف تستغل هذا الإرهاب وتلصقه بأعدائها أن ممارساتها لا تختلف عنه لا بل تدعمه أيضًا. ثم يقول:

“إنه ليس منتجًا إسلاميًا ولكنه يستند إلى ثغرات لها علاقة بالمجتمع.”[9]

 يبدو أنه لم يكمل الجملة هنا فهي تنقص الوصف لهذا المجتمع هل هو المجتمع العقائدي أم العقائدي المسيس. قد يكون سنيًا أو شيعيًا أو مسيحيًا أو حتى قوميًا أو عنصريًا.

الإرهاب كما هو معروف ليس ظاهرة فردية بل هو عمل ممنهج ومؤسساتي يؤمن بالعنف والقتل وهو بحاجة إلى حاضن اجتماعي وفكري وهنا يأتي السؤال من قدم هذا الحاضن؟ أليست السياسات التي عمدت إلى الحفاظ على الكرسي مهما كانت التكلفة، ومن المعروف في أدبيات الحكومات العربية رغبتها الاستمرار والخلود حتى لو ضحت بالشعب كله وهذا ليس بخاف على القاصي أو على الداني. بالمناسبة قد يكون الإرهاب تهمة موجهة إلى كل من يزعزع كيان السلطة ويريد أن يعيدها إلى سياقها التاريخي والمرحلي والتداولي. فهي قد تلجأ إلى الإرهاب لتثبت ذاتها وقد تخلق له الفرص للنمو والاتساع. واضح أن هذه الأمور ليست خافية على أحد من باب الأمثلة على ذلك اجتياح الموصل ونينوى في العراق واجتياح قرى الخابور في  وغيرها كثير.

إذًا أصبح العدو الداخلي معروفًا هو كل من خرج عن عباءة المؤسسة الدينية المتماهية بالدولة وليس بالمجتمع. إنها أي هذه المؤسسة الدينية تعيش في حالة اغتراب مع ما يحصل في المجتمع..

يثير الاهتمام في الجزء الموجه إلى الشعب هو كيفية الرد على هذه الإساءة وما هي ضوابط وطرائق الرد عليها. طريقة ذكية لاستمالة الشعب يبدو أن كل المسؤولين الحكوميين في البلاد العربية لجؤوا إليها.

من هو العدو الذي يدعم الإرهاب الديني القومي واللغوي؟

يقول المسؤول: “العدو الحقيقي لا يتمثل بشخص بعينه إنه تيار يجب تحديد هويته التي لم تكن واضحة لكثيرين، إنه تيار الليبرالية الحديثة “أساس منهجيتها هو تسويق الانحلال الأخلاقي بشكل كامل وفصل الإنسان عن أي مبادئ أو قيم أو انتماءات أو عقائد من أجل الوصول لأهدافها”[10]

الليبرالية هي في تعريف المسؤول عدوة القيم الأخلاقية فهي تسوق للانحلال الخلقي مثل السماح بزواج المثليين وما يترتب عليه من تطورات لنموذج أسري جديد. وهذا ينقلنا إلى أن الليبرالية عدوة القيم العائلية حيث سيكون للطفل إمكانية التبني من المثليين والطفل يختار دينه بنفسه عندما يكبر وهذا كما يقول المسؤول ضد غريزة الإنسان القائلة إن الفرد يأخذ دين العائلة، يبدو أن الدين أصبح في هذا الخطاب من الغرائز وبذلك يناقض الليبراليون إنسانية الإنسان، ليصل إلى مربط الفرس كما يقال يدخل سؤالًا موجهًا إلى الحضور: ماذا تفهمون من هذا الكلام؟ وهنا يأتي الجواب في هذا الفضاء الزماني المكاني حيث يقول:

“ماذا تفهمون من هذا الكلام؟ المطلوب من هذه الليبرالية ضرب إنسانية الإنسان وهنا تتناقض مع الدين لأن الأديان أنزلت من أجل تكريس الإنسانية فتأتي الليبرالية لتفصل الإنسان عن إنسانيته إذا عندما يفصل عن إنسانيته ويفصل عن قيمه وعقائده ما الذي يقود هذا الإنسان… شيئان المال والغريزة وعندها تسهل قيادته بالاتجاه المطلوب.”[11]

هنا يقدم المسؤول كل الكفاح الفكري الليبرالي مكبلًا مخونًا ونجسًا ذبيحة للمؤسسة الدينية وهو بذلك يعلن على الأشهاد محاربة الليبرالية.

نحن أمام القطب الثاني من الأعداء الأول كان يستخدم الدين حجة والثاني هو من يستخدم الأفكار الغربية الاجتماعية منها والسياسية والثقافية. ولكن هل هذا هو تعريف الليبرالية الجديدة. قبل أن ندخل في مسألة التعريف الفلسفي لهذا المصطلح، يجب أن ينطلق المرء من أن أي تيار سياسيًا كان أم دينيًا أم ثقافيًا أم أدبيًا أم علميًا يخضع في نموه وتطوره للمجتمع والثقافة التي يعيشها ولا يمكن في أي حال من الأحوال عد أي تطبيق لأي تيار من هذه التيارات القاعدة التي تتكرر في كل مكان وزمان، فهو محصور بمقتضيات الزمان والمكان وضوابطهما.

عودة إلى تعريف اللبرالية الحديثة في مبادئها العامة.

مصدر الوحي لليبرالية “الجديدة”: جون ستيوارت ميل [12]

ولدت الليبرالية الجديدة من رحم الليبرالية الكلاسيكية في مخاض أليم

 لنتتبع أهم حوامل الفكر الليبرالي الحديث كي نستطيع فهمها. وهذا الفهم متصل دائمًا بجدلية المحيط الذي ساعد في نشوئها:

أولًا: مفهوم الفردية

جون ستيوارت ميل هو من بدأ تطوير مفهوم الفردية المجردة ومفهوم الفرد الثابت والذري، وتغييره إلى فردية دينامية وتاريخية واجتماعية، وهي نتيجة تطور وصيرورة من التشكل والتمكين. هذا المفهوم قام على بعدين:

أولًا الفردية هي هدف ومشروع أكثر مما هي حالة ثابتة ، هي مشروع تكوين الذات. يعد ميل الفرد كائنًا في تقدم وتحولٍ دائمين.

البعد الثاني يتمثل في أن الفرد لكي يتطور ويعبر عن نفسه، هو بالضرورة بحاجة إلى الآخر: فهو كائن اجتماعي. بعكس الفردية الكلاسيكية، فالمفهوم الجديد يدخل العنصر الاجتماعي والعلاقة مع الآخر (الفرد والمؤسسات) في صلب مفهوم (الفردية)، سامحًا لها بالتطور. إلا أنّ هذه العلاقة ليست علاقة حتمية وميكانيكية وعمياء. بالنسبة إلى ميل، ليس هناك شيء ميكانيكي و (طبيعي) في (التقدم). فالتقدم ليس مسيرة لا رجعة فيها نحو هدف واحد ومحدد، ولكنه نتيجة قرارات إنسانية معقدة.[13]

في هذا التعبير لا يوجد أي رابط بين ما قاله المسؤول وأساسيات الحرية الفردية التي لا تتبلور إلا في حاضنها الاجتماعي الذي لا يحصرها في علاقة معينة بل الحاضن الاجتماعي يقبل التوسع والتغيير إذا ما تطلب تطور الفرد الاجتماعي ذلك. هذا هو الحراك الذي تخشاه الدولة. حراك يكسر القيود الفردية الطاغية والقيود الاجتماعية المسيرة.

مفهوم الحرية

نادى ميل بالتوقف عن تفسير (الحرية) بأنها صفة (طبيعية) للفرد ما قبل الاجتماعي وتحويلها إلى مفهوم علائقي واجتماعي ووضعي يشمل وسائل الحركة وحريتها والوصول إلى المصادر الاجتماعية التي من دونها لا يمكن للفرد أن يحقق ذاته. إذًا ميل لا يختصر الحرية الفردية بحرية السوق/ الأسواق فقط، ولكنه يدعو إلى تدخل السلطات العامة لمساعدة المهمشين.

بذلك يصبح تعريف الحرية ليبراليًا أنها ليست حقًا مجردًا وإنما هي العنصر الأساسي للوصول إلى السعادة وبهدف تحقيق الذات، والفردية هي تحقيق لاجتماعية الفرد وتصبح الديمقراطية في ذلك النظام الأكثر ملاءمة لتحقيق القيم الليبرالية والتعبير عنها.[14]

 هنا أيضًا نقف أمام فكرة الحرية المنوطة بالعلاقات الاجتماعية هذا يعني إنها ليست حرية عمياء فردية لا تحترم القيم الاجتماعية كما نعتها المسؤول.

الليبرالية والأخلاق

يقول توماس هيل غرين أحد أهم مفكري الليبرالية الجديدة: أن الرابط الاجتماعي لا ينجم عن التعاقد، ولا عن نفعية، ولكنه ناجم عن اعتراف متبادل بالآخر غاية بحد ذاتها وبافتراض أن مصالح الآخرين مكملة ومكونة للمصلحة الشخصية والذاتية. انتقد الفردية الذرية للقرن الثامن عشر التي كانت تمثلها الليبرالية الكلاسيكية، وأسس حق الفرد، تجاه المجتمع الذي يدين له بوسائل تحقيق الذات، تحقيقًا أساسيًا وضروريًا لرفاه الجميع وتقدمهم، وأطلق غرين اسم (الخير المشترك) على التفاعل بين المصلحة الفردية والمصلحة المشتركة وأساس (الأخلاق والالتزام السياسيين).

أعاد تأكيد الطبيعة الاجتماعية للفرد، ليكون تطوره مرتبطًا بالآخرين والمجتمع وما يقدمونه له. أخيرًا، توسع في انتقاد الليبرالية الاقتصادية، وأكد أن السوق مؤسسة اجتماعية كغيرها من المؤسسات التي يجب تنظيمها وقوننتها كي تعمل لما فيه مصلحة الجميع كي لا تكون في مصلحة أقلية ما. وذهب بعيدًا في فكره النقدي الاجتماعي، وخلص إلى إعطاء شرعية لتدخل الدولة وحقها في إصدار تشريعات في مجالات التعليم والصحة العامة والملكية الخاصة وقانون العمل لتقليص الآثار السلبية للحرية الفردية.[15]

هذا يعني أن أخلاق المجتمع ليست محصورة بالجنس بل بالقيم الاجتماعية المرتبطة به بوصفه فردًا فاعلًا في المجتمع يقدم واجباته ليحصل على حقوقه والضامن لذلك هي الدولة. إذًا ادعاء الانحلال الخلقي باطل.

مفهوم وضعي جديد للحرية

بلور توماس هيل غرين انطلاقًا من ذلك “الفارق الشهير بين الحرية كاستقلالية من القيود، والحرية الناشطة القائمة على الاستقلالية الذاتية وعلى حرية الفعل والحركة”. هذا الفارق حاسم ودقيق، لأن المعوقات التي تواجه الحرية، لا تتشابه في الحالتين. ففي الحالة الأولى، يتأتى المعوق من السلطة الاستبدادية والسلطة السياسية والدينية ومن القيود عمومًا. في الحالة الثانية، المعوق هو في غياب وسائل الفعل والقدرة على تحقيق مشروعات كالتي يصبو إليها الفرد في حياته. فبالنسبة إلى الحرية، الحقوق الاجتماعية والاقتصادية هي على القدر من الأهمية مثلها مثل الحريات الشخصية والسياسية. “الحرية لا تصبح حقًا من حقوق الفرد إلا إذا كانت لازمة اجتماعية”.[16]

من الملاحظ أن الحكومات -السورية خصوصًا والعربية عمومًا- أبدعت في استبداد السلطة السياسية والدينية وتقييد المجتمع وقتل أي محاولة للتغيير والتجديد لا تسير وفق أهوائها.

ديمقراطية الليبرالية الجديدة

يصار إلى إنقاذ الديمقراطية في نظر الليبرالية، من خلال تطور وتغيير في أهدافها، التي لم تعد حكم الشعب من الشعب بل حكم الشعب (من أجل) الشعب. وهكذا يصبح بالإمكان تحرير الديمقراطية بتنقيتها من أبعادها الشعبوية والديماغوجية وعدّها الوسيلة الفضلى لتحقيق قيم الليبرالية: الدفاع عن الفرد وعن حقه في حياة سعيدة، فصل الحيز الخاص عن الحيز السياسي، وضع ضوابط للسلطة السياسية، إظهار مسؤولية القادة تجاه ناخبيهم، حرية التجارة والسوق، إلى آخره.[17]

بالمناسبة ما يسوَّق من ديمقراطية في مجتمعاتنا هو تمامًا ما يمكن وصفه بالشعبوية غير المسؤولة وبالديماغوجية القائمة على إقناع الآخرين وهنا الشعب من خلال استغلال مخاوفه وأفكاره المسبقة.

الليبرالية الجديدة ومفهوم جديد للدولة

إذا كانت الليبرالية الكلاسيكية تتسم بإعطاء أهمية استثنائية لحماية الأفراد ضد تدخلات الدولة التعسفية والاعتباطية، فالليبرالية الجديدة تتسم بالمراهنة على قدرة الدولة على التصرف لمصلحة الجميع. بدلًا من كونها تهديدًا، أصبحت الدولة قوة للخير بقدراتها، بحيث أصبح دورها يكمن في تلبية حاجات مواطنيها: فيصبح الرفاه مسؤولية الحكومة.

تستدعي الليبرالية الجديدة تدخل الدولة في الاقتصاد لتحجيم الإفراط السلبي للرأسمالية والسوق. لم تعد مهمة الدولة تقتصر على حماية الأفراد ومنع انتهاك حريتهم، بل أصبحت مهمتها تحقيق سعادتهم من خلال العمل على تقوية الاستقرار الاقتصادي وضبط السوق العالمية.[18]

وهنا يطرح السؤال نفسه هل قصد المسؤول بالليبرالية منظومة أخرى. أم أنه أراد أن يشيطنها لذلك قدمها في خطاب شعبوي أشبه بطلسم من طلاسم السحرة. لتصبح عدو المستمع الأكبر أو الدجال الأعور الذي يقف في وجه الدين الصحيح.

ثم ينطلق المسؤول في خطابه ليقول إنه لا علاقة بين العلمانية والليبرالية فالعلمانية تعني حرية أديان

” الحقيقة أن الهجوم الذي يحصل والطروحات الشاذة التي نسمعها هي طروحات ليبرالية لا علاقة لها بالعلمانية العلمانية شيء مختلف تمامًا العلمانية هي حرية أديان لا علاقة لها على الإطلاق”[19]

معنى العلمانية

معنى العلمانية ونشأتها: يُخلط عادة بين العلمانية ومفهومات أُخرى عدة مثل الليبرالية والإلحاد، لكن العلمانية بمفهومها الاصطلاحي تعني فصل المعتقدات الدينية عن الحياة العامة وسياسة إدارة الدول، وعدم إجبار أي إنسان على تبنّي دين أو مُعتقد معيّن، فيما يجب اعتماد البحث العلمي المجرد في التحليل واستبعاد الدين في التفسير.[20]

إذًا العلمانية منهج تتبناه الدولة وبذلك تصبح دولة ذات نظام حكم علماني ترفض استغلال السلطات السياسية أو الدينية أو الاقتصادية -التي تقحم الدين من أجل مصالحها- للمواطنين. لذلك لا يجوز لي أن أذهب إلى رجل الدين إذا شكوت من ألم في جسمي كي يصف لي رقية أو وصفة من كتاب شعبي أو غير ذلك. وكذلك لست بحاجة إلى تفسيرات دينية تدعم أي مشروع سياسي وقس على ذلك كل القضايا المعيشية التي تحيط بالمواطن وهنا يبدو طرح العلمانية صقلًا لمقولة كارل ماركس (الدين أفيون الشعوب إذا استغل). وما أكثر المستَغِلين والمُستَغَلين. أما إذا كان فهم المسؤول حرية الأديان التي لا تتجاوز عتبة دور العبادة. فلا مشكلة في ذلك. العلمانية ليست الإلحاد ولكنها لا ترفضه ولا تدعمه بوصفه اتجاهًا في المجتمع بل تحاربه إذا فرض نفسه فرض الطغاة، ولا تحلله أيضًا. العلمانية بهذا المعنى أقنوم من ثالوث لليبرالية الجديدة والديمقراطية وفي ظلهم يزدهر المواطن المجتمعي وأي محاربة أو رفض لأحد هذه الأقانيم سيفضي إلى رفض الآخرين أيضًا، وسيطيح بالمواطنة.

من الأمور التي مر عليها مرور الكرام علاقة الدولة بالمجتمع حيث قدم جملة منطقية يجب طرحها هنا وهي:

“المواضيع التي تطرح بينكم وبيننا وأحيانًا معي لحسم الرؤية لأن هذه المواضيع تكون أحيانًا للمجتمع تشكل أساسات وبنفس الوقت بالنسبة لنا كدولة تشكل سياسات بمعنى الربط بين السياسات والأساسات لأن الدولة لا تنفصل عن المجتمع.”[21]

المواضيع التي تطرح بينكم وبيننا (وأحيانًا معي) لحسم الرؤية

هذه المواضيع للمجتمع أساسات

هذه المواضيع للدولة سياسات

جملة اعتراضية الربط بين السياسات والأساسات

يعني أن الدولة لا تنفصل عن المجتمع

يُتفحق على هذه الصياغة ولكن الاعتراض هو من يبت في هذه الموضوعات، إنها الدولة ممثلة بالمسؤول. ثم هذا التماهي في الأساسات (الدينية) والسياسات يفضي إلى أنه ما دامت الدولة راضية عن المجتمع فهي لا تنفصل عنه. المشكلة في هذا الطرح هو ما علاقة الدولة بالمجتمع؟ هل هي علاقة عبودية وتباعية تصل درجة إبادة المجتمع من أجل بقاء الدولة. أم إن المجتمع بوصفه القاعدة هو الذي يقدم ذاته (قربانًا منممثليه العقائديين) للدولة ولا يستطيع أن يحاورها أو أن يقاضيها. هل الدولة هي التي تفرض بسياساتها طريقة التعامل مع أساسات المجتمع.

في هذا المحور يبدو رأي المسؤول بالتفسير الذي أدلى به وزير الأوقاف مثيرًا. فهو يباركه ويقبله نهجًا سياسيًا دينيًا ولا يستبعد منه أن يطلب ذلك من باقي الطوائف والملل. هل سيرسم هذا التفسير خطوات تطور الإسلام السياسي في سورية. فهو يقول:

“وفي هذا التفسير أثبتت المؤسسة الدينية أن هذا الدين دين واثق من نفسه وأبناء هذا الدين وأتباعه والمؤسسة القائمة عليه وأنتم عمادها طبعًا هي مؤسسة قوية وواثقة من نفسها انطلاقًا من ثقتها بدينها هذا جانب والجانب الآخر جسد هذا التفسير في هذا الوقت بالذات معنى أن القرآن هو لكل العصور فالقرآن لم ينزل ككتاب بحبر وورق هو نزل كوحي والقرآن ليس الكتاب الذي نضعه في مكتباتنا أو على طاولاتنا وإنما هو ما يرسخ في عقولنا فالمؤمن المتطرف والمؤمن القويم كلاهما يمتلك نفس الكتاب ويقرأ نفس الآيات ولكن ما يرسخ في العقل هو متناقض تمامًا فهذا التجسيد هو تجسيد لموضوع أن القرآن لكل العصور في نفس الوقت لا يمكن أن نتحدث عن تطبيق صحيح للدين من دون تفسير صحيح يعبر عن تحديات هذه المرحلة هو بداية الطريق لفهم الدين الصحيح وأيضًا لمكافحة التطرف من خلال التطبيق الصحيح للدين.”[22]

من أمور الدولة والدين والمجتمع عرض المسؤول الوجهة الرسمية لفصل الدين عن الدولة هذا الفصل الذي لا يراه ملائمًا فهو يقول:

“من النقاط الأخرى التي طرحت أيضًا فصل الدين عن الدولة الحقيقة لم يأتني أي شخص وقال لي نريد هذا الشيء لأكون أمينًا في الطرح ولا أفترض بأن هذه هي قضية كبيرة ولكنها متداولة من وقت لآخر وبالنهاية عندما يكون هنالك موضوع يتم تداوله لفترات طويلة ولا يحسم لا بد من أن يكون هناك رأي رسمي في هذه النقطة وقد سئلت من ضمن الأسئلة كيف يمكن فصل الدين عن الدولة قلت لهم ممكن ولكن في حالة واحدة عندما نفصل الدين عن المجتمع لأن الدولة تتجذر حيث يتجذر المجتمع لا تتجذر حيث تريد أن تتجذر هي وعندما ينفصل المجتمع عن جذور محددة فلا بد للدولة أن تنفصل عن هذه الجذور فهي مرآة لهذا المجتمع وكما نرى بأن مجتمعاتنا عقائدية وستبقى عقائدية لقرون إلى ما شاء الله والله أعلم لا نعرف ففصل الدين عن الدولة بالشكل الذي يطرح يعني فصل الدولة عن المجتمع هل هذا يخلق استقرارًا أم عدم استقرار… بكل تأكيد الجواب واضح.”[23]

هذه النظرة أسس لها قبل ذلك في الجملة المنطقية التي طرحناها وهو يقول الدولة لا تنفصل عن المجتمع وبالطريقة ذاتها نصوغ هذه القضية المنطقية من كلامه طبعًا:

المجتمع عقائدي إذًا الدولة عقائدية ولكن النتيجة هي المفزعة فهو يقول: إن مجتمعاتنا عقائدية وستبقى لقرون إلى ما شاء الله في استقرار ما بعده استقرار. وكل من لا يقبل بذلك فهو بحسب رأيه اعتمد على الخارج الذي يريد أن يهدم مجتمعاتنا فهو إن فعل هذا ساذج أو خبيث.

يمكننا أن نخلص إلى قضية منطقية مهمة:

المجتمع عقائدي خالد

الدولة عقائدية

إذا الدولة خالدة

هذه هي النتيجة التي تطمح إليها الدولة فهي تعرف أن خلودها من خلود هذا المجتمع المغلق على ذاته.

كيف نكرس هذه المسلمة (السياسة)؟

بالسيطرة على تطور المجتمع، وكيف ذلك؟ بالسيطرة على الأجيال المقبلة وعلى منهاجها الدراسي. لذلك لا نستطيع فصل الأخلاق عن الدين ولا الدين عن المجتمع ولا المجتمع عن الدولة ولا الدولة عن المجتمع والمدرسة. هنا نرى أن درع الدولة وحاميها فيما هي عليه هو تسييس الدين لا شيء آخر.

الشق الأخير من هذا الخطاب هو الليبرالية الحديثة بمفهوم مسؤول الدولة هي التي تريد أن تهدم مجتمعنا العقائدي من خلال تشكيكها في ثلاثة موضوعات.

الشك بعروبة سورية يقول المسؤول إن الليبرالية تريد أن تنسف المجتمع السوري العربي من خلال نظريات عدها ساذجة ، ومن يصدقها ساذج.

“النقطة الأولى حول سورية أن سورية هي بلد كان قبل الإسلام مسيحيًا يتحدث السريانية ويكتب بالسريانية وأتت الغزوات من الجنوب غزوات إسلامية عربية وأتت اللغة العربية لتلغي اللغة السريانية الحقيقة الرد على هذا الكلام بسيط وسهل جدًا لأن الحقائق التاريخية تنسفه” [24]

ورده على هذه الفرضية قائم على وجود العرب في سورية قبل الإسلام وهم من ساند المسلمين في السيطرة على سورية. على الرغم من كل ما قدمه لنا من خلط تاريخي في قدر يطبخ أيديولوجيا العجب العُجاب ويخشى أن يكون مستوى تدريس الجامعات على هذا النحو. يا سيادة الدولة لا أحد يشك في وجود العرب في سورية، ولكن نسيت أن تُعَرّف لنا العرب عبر التاريخ وما هي هويتهم. ونسيت أن سورية كانت وما زالت مع ابتلائها المرير وستبقى مهد الحضارات والثقافات. فإن أردت في منهجك هذا أن تفعل فعل العثمانيين في التتريك وعلى غرارهم التعريب. فهذا مشروع سياسي يسعى إلى تعبئة الشعب في قالب واحد يلغي فيه التنوع والتلاقح ويصبح من خلال المنهج المطروح: نقبل بالمسيحي العربي وبالكردي العربي وبالسرياني العربي وغيرها من الأديان والمذاهب والقوميات والإثنيات من الأطر التي طرحها هذا المنهج، ولكن الويل لهم إذا فعلوا غير ذلك. نعم استطاعت الدولة بهذا المنهج أن تسوق نفسها حامية للأقليات ولكن هذا بعيد عن الحقيقة. ففي تكريس الدولة منذ خمسين عامًا شعار الأقليات، بنت الأسوار بين أطياف المجتمع السوري الذي لن يخجل بأن يفتخر بكل حضاراته وأعراقه وأديانه وقومياته هذه المكونات التي ابتليت بالنزعة العروبية القومجية المصطنعة سياسيًا. بالمناسبة العربية فخر لكل مواطن سوري، ولكنها ليست الإطار المزيف الذي يساق لنا في مداجن الدولة التي بنت أشتاتها على قمع الآخر وقتله وتهجيره. نحن يا سيادة الدولة متساوون في سوريتنا لا فرق بيننا إلا ذلك الذي فرضته علينا الأيديولوجيات القمعية العنصرية من أواخر عصر الأمويين السياسي مرورًا بالعباسي وهكذا إلى أن وصل المطاف بنا إلى دولة البعث. أصبحنا نخجل من العروبة التي تصدرها لنا السياسات العربية. هذه العروبة الجبانة الخنوعة التي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها إلا تحت ستار الدين الإسلامي أو القومية العربية الهشة.

ثم تتكلم الدولة عن الحضارة العربية المرتبطة بالإسلام. نطالب الدولة أن تقدم لنا دليلًا حضاريًا واحدًا من خارج عباءة الدين يمكن أن نصفه بعربي طبعًا لن نجد ذلك، لذلك سوقت لنا الدولة التفسير الجامع للقرآن ووصفته بالعصري. إن مجرد التصفح في هذا التفسير الذي يمكن أن يوصف بكل شيء إلا بالعصري. فهو مع الإطراء المعسول من الدولة عليه لم ولن يقدم أي تحليل أو حل لحال المسلم الآن لا بل زاده عزلة واغترابًا أكثر من ذي قبل. لا يجب على الدولة أن تبيع الشعب أوهامًا. يجب تذكر إنه لا وجود لعربي بكل صفاته في سورية إن لم يكن في الآن ذاته سوريًا وكرديًا وسريانيًا وتركمانيًا وعربيًا يفتخر بكل مكونات شعبه ويراهم في صف واحد يمتلكون الحقوق والواجبات ذاتها ويا حبذا لو توقفناعن التطبيل لنظريات العرق والعنصرية. نحن بحاجة إلى المواطنة التي تحمي كرامتنا وتزيدنا ثراء ونطالب الدولة أن تعيد النظر في مناهجها الدراسية التي خرجت لنا الإرهاب السياسي المغلف باسم الدين.

ثم ربط الإسلام بالعروبة هذه عنصرية لا مثيل لها. الإسلام تعاليم وأخلاق وليس لغة وإلا فلا يقبل الإسلام إلا إذا كان عربيًا. هذه نظرية رأيناها في اليهودية والمسيحية أيضًا. وهذا ينطبق تمامًا على عروبة الرسول والقرآن. الرسول ليس عربيًا وإلا لما خرج الإسلام ليصبح دينًا عالميًا وها أنتم تعيدون الصيحات العنصرية وتقولون إن زواركم من شرق آسيا قالوا إنهم لا يستطيعون تخيل الإسلام من دون الدور المركزي للعرب فيه. عجيب فما هو رأيهم بالبخاري وابن تيمية وغيرهم كثير يبدو أن فيهم السذاجة وليس سوء النية.

كل فكرة مهما كانت إذا لم تستطع تجاوز حدودها الزمانية والمكانية واللغوية لن تستطيع الاستمرار وها نحن بعد 1400 عام نقف أمام من ما زال يدافع عن تأطير الإسلام بالعروبة.

بالمناسبة لم يرفض المسيحيون أو اليهود اللغة العربية لأنها ليست لغة كتبهم لا بل ترجموا كتبهم إلى العربية وترجموا آلافًا مؤلفة من الكتب إلى العربية فهل تراهم يا سيادة المسؤول بخدمتهم الحضارية هذه عرب أقحاح أو بالأحرى عدنانيين، أم إنهم ما كانوا ولن يكونوا سوى عبيد وشرذمة لا تأثير لها في صرحك العربي الذي تتباهى به. يا للأسف.

أما ما يخص القرآن فما ورد في الخطاب هو دغدغة لعواطف الناس وعندما تُصهر اللغات في العربية تكتسب هوية عربية. هذا كلام يسري على كلمات وجمل ومصطلحات وهذا جاء في كل الحضارات والثقافات المتجاورة. ولكن العلاقة اللغوية لا تعكس كلمات ومصطلحات فقط إنها تاريخ مشترك ممتزج متشابك يرفض هذا التفسير السطحي الديماغوجي.

ولكن السؤال التالي محير ومتعب: هل سيختل التعليم القرآني إذا لم يكن عربيًا فقط؟

ما هو المهم في القرآن؟ لنأخذه بصفته الأدبية إنها قيمة تعاليمه وسموه طبعًا. أقصد هنا لاهوت القرآن.

هل سيخرج الناس من الإسلام أفواجًا إذا عرفوا أن في القرآن ما ليس عربيًا؟

ثم كيف يتفق رأي المسؤول مع أن الإسلام دين سماوي يعني لكل الناس عربًا وعجمًا؟ أم إن المقصود فقط دين سماوي لبضعة أناس، وما أقلهم، يفهمون العربية التي هي لغة الله، ولن يستطيع المؤمنون التواصل معه إلا بوساطتهم. ثم كيف يفهم ما في القرآن من كتب الأولين هل ترجم القرآن أمورًا عنها؟ أم إنه بحسب المفهوم الإسلامي امتداد للرسالة ذاتها وعلاقة تواصل وتفاصل.

هناك من الشواهد العلمية ما ينسف رأي الدولة في القرآن فهي لا تستخدمه إلا لغاياتها. أما بخصوص السريانية والقرآن فهذا ليس ملعب الدولة لتلعب فيه. لهذا العلم رجاله ولا أراهم نراهم بين صفوف الدولة. وأخيرًا يمكن القول إن خوف الحكومة من الليبرالية الحديثة التي ستقض أركانها لأنها هي البديل الداخلي الوحيد الذي يضمن احترام المواطن بكل أطيافه تحت قانون دولة علمانية تقف على البعد ذاته من كل المواطنين وتحصر الدين برجالاته في المعابد وتحرره من مطامعهم التي لا تتحقق إلا في ظل الدولة التي تذهب إلى الجامع لتخطب خطابًا يسحب البساط من تحت أرجل رجال الدين ليعلن المسؤول نفسه ظل الله على الأرض. والعجب هو تصديق الحضور هذه اللعبة.

في هذه المحاورة مع خطاب المسؤول لا يوجد فيها تشخيص لشخص بعينه إنما هي محاولة لإظهار الطرائق التي تسعى فيها الدولة والحكومة متمثلة في مسؤولها شد الخناق على الشعب.

 مما تقدم يمكننا القول إن هذه الدولة بكل أيديولوجيتها زائلة لأن الشعب أزال الغشاوة عن عينيه وكيف لا وهو يسبح في دمه منذ أكثر من عقد.


[1]  https://www.sana.sy/?p=1272991

[2] المصدر السابق.

[3] المصدر السابق.

[4] المصدر السابق.

[5] المصدر السابق.

[6] لمزيد عن نظرية الداخل والخارج انظر: جمال شوقي، في النقد المنهجي: الطيب تيزيني بين الموسوعية المعرفية و”التماهي” التراثي، قلمون المجلة السورية للعلوم الإنسانية. العدد التاسع 2019. الصفحة 164ـ 167.

[7] https://bit.ly/3vdMZWM

[8] https://www.sana.sy/?p=1272991

[9] المصدر السابق.

[10] المصدر السابق.

[11] المصدر السابق.

[12] لتتبع هذا الفصل يمكن العودة إلى مقال الليبرالية الجديدة لـ كاترين اودارد في موقع سابق الزمن. الرابط: http://zamnpress.com/content/27575

[13] المصدر السابق.

[14] المصدر السابق.

[15] المصدر السابق.

[16] المصدر السابق.

[17] المصدر السابق.

[18] المصدر السابق.

[19] https://www.sana.sy/?p=1272991

[20] https://bit.ly/3tLapCi

[21] https://www.sana.sy/?p=1272991

[22] المصدر السابق.

[23] المصدر السابق.

[24] المصدر السابق.