مقدّمة

الدولة هي مجموع المؤسسات أو الجهاز الذي تُصنع فيه ومن خلاله الأمّة، وشكل الدولة يُحدد خصائص المواطنة التي هي أحد شروط بناء الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة، لأنّ الانتقال من الصيغ الدستورية النظرية التي تحدد الحقوق العامّة والواجبات للمواطنين لا يتمّ بسلاسة، ما لم تكن أدوات تنفيذها في الحياة واضحة ومحددة. وهذا يقود إلى ضرورة بحث الشكل الأنسب لإدارة التنوّع والاختلاف، وإدارة الموارد وتخطّي العقبات، ما بين المركزية واللامركزية وما بين الدولة الموحّدة والدولة الاتحادية والدولة الأحاديّة.

لقد كان شكل الدولة القومية الموحّدة الأكثر مناسبة للمملكة العربيّة السورية، التي تأسست بموجب الدستور السوري الأول عام 1920، لكنّ ظروف البلاد، على إثر الخروج من الحكم العثماني، التي تقوم على رقعة جغرافية واسعة تشمل، إضافة إلى سورية الحالية، لبنان وفلسطين والأردن، فرضت اعتماد نوعٍ جديد من اللامركزية، “يقوم إداريًا في تصميمه على نظام المقاطعات المستقلّة استقلالًا إداريًا داخليًا تامًا، في إطار وحدة سياسية لا تقبل التجزئة”[1].

مع دخول القوات الفرنسية وتحطيم الدولة السورية الناشئة؛ دخلت البلاد دوّامة الصراع بين الدولة الموحّدة المركزية بشكلها الراهن، وبين الدويلات التي حاول الفرنسيون تكريسها. وقد كان التركيز على شكل الدولة المركزية نابعًا -بدرجة أو بأخرى- من عقدة التقسيم الأول الذي استبعد لبنان والأردن وفلسطين، ثم من التقسيم الثاني الذي لم ينجح في تثبيت دويلات جبل الدروز وجبل العلويين ودمشق وحلب.

وبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، وتحولها إلى العسكرة، وتدخّل العديد من القوى الإقليمية والدولية ومن ضمنها جيوش خمس دول مختلفة، وبعد تشكّل سلطات أمر واقع في منطقتي شمال شرق وشمال غرب سورية؛ بات طرح شكل الدولة الأنسب لسورية المستقبل، بعد الانتقال السياسي، أمرًا لا غنى عنه، فهو أكثر من مجرّد ترف فكري، إنّه أحد أشكال المساهمة في عمليّة التأسيس للدولة السورية الجديدة، التي يأمل السوريون والسوريات أن تساهم في تشكيل الأمّة السورية وبناء الهُويّة الوطنية السورية، على قيم الحق والعدل والمساواة والمواطنة الكاملة.

ملخص تنفيذي

تقوم الثورات لنيل الاستقلال الوطني من مستعمر خارجي، أو لتغيير أنظمة الحكم والتخلّص من الدكتاتورية والفساد. وفي البلاد التي يطول فيها الاستبداد ويعيد إنتاج ذاته، تذوب مؤسسات الدولة وتتماهى في نظام الحكم، فيصبح من مهام الانتقال السياسي تغيير النظام واستبدال الديمقراطية بالدكتاتورية، إضافة إلى تغيير الدولة ذاتها، بوصفها الجهاز الأكبر الذي يعبّر عن العقد الاجتماعي بين المواطنين الأحرار. يحددُ شكل الدولة جوانب رئيسة كثيرة في العلاقة بين المواطنين، ويصبح تحقيق مصالح الجماعات والمناطق المختلفة موازيًا ومساويًا في الأهميّة لمبدأ الحفاظ على وحدة البلاد. من هنا، يكون للحديث في شكل الدولة أهمّية عملية تلامس مصالح المجموعات والأفراد على السواء، ويبتعد عن كونه مجرّد طروحات نظرية لقضايا افتراضية.

تنطلق هذه الورقة من افتراض يقول إنّ اللامركزية خيار جيّد لتحديد شكل للدولة السورية الجديدة، إذا ما تمّ تصميمه مع مراعاة الظروف التاريخية من جهة، والواقع الراهن بعد عشرة أعوام من الصراع من جهة ثانية. ستتطرق الورقة إلى تعريف اللامركزية، وستدرس أهدافها وفوائدها ومخاطرها. وستناقش عناصرها وخصائصها من حيث اللامركزية الشكلية واللامركزية الجوهرية، وستدرس أنواعها بين لامركزية سياسية ومالية وإدارية. وستتطرّق إلى مجموعة الأسئلة المتعلّقة بضرورة تحقيق التنمية العادلة للمناطق والمحليات، وقضايا اللغة الرسمية واللغات الوطنية، ومسائل التعليم وبرامجه، وستبحث في تشكيل قوى الأمن المحلي وصلاحياتها، والموازنات المحلية وجباية الضرائب، وستعرّج على البرلمانات المحلية واختصاصاتها وصلاحياتها، وكيف يمكن تنظيم ذلك في الدستور. وسيتمّ التعريج على مفهوم الفيدرالية بشكل سريع، وستتم مناقشته من بين الخيارات المطروحة أمام السوريين لبناء مستقبل بلادهم.

أهميّة البحث

تتأتّى أهميّة البحث من راهنيّته أولًا، باعتبار أنّ المركزية الشديدة كانت إحدى أهم أدوات الاستبداد. وثانيًا، بحسبان أنّ كثيرًا من القوى السياسية والمجتمعية السورية ترى في اللامركزية شكلًا مناسبًا للمشاركة الفاعلة في إدارة شؤون البلاد، بما يحقق تنمية عادلة ومتوازنة بين المناطق المختلفة. يُضاف إلى ذلك كلّه ضرورة وضع المعايير الدقيقة للتمييز بين المطالب المحقّة للمشاركة العادلة في الحكم، وبين المساعي الخبيثة للتقسيم أو الانفصال ببعض أجزاء البلاد، ثالثًا.

تعريف المركزية واللامركزية

المركزية هي نمط من تنظيم الإدارة العامة “يترتب عليه إخضاع جميع الهيئات الإدارية للسلطة الرئاسية في العاصمة”[2]. ولا يقلل من شأنها أن يتم توزيع الاختصاصات بين السلطة المركزية في العاصمة وفروعها في المناطق. والحقيقة أنّه لا يوجد في الواقع العملي مركزية مطلقة، فلا يمكن لرئيس الدولة أو الحكومة أو الوزراء القيام بكل المهام بأنفسهم، وهم مضطرون إلى تفويض مرؤوسيهم ببعض اختصاصاتهم، وهذا بحدّ ذاته يخفف من غلواء المركزية.

اللامركزية هي “توزيع اختصاصات الوظيفة الإدارية بين السلطة المركزية وهيئات منتخبة مستقلّة استقلالًا إداريًا وماليًا وتتمتع بشخصية معنوية، وإن كانت تخضع لنوع من الرقابة والإشراف من قبل السلطة العامة تسمى بالوصاية الإدارية”[3].

يشير الدكتور سليمان الطماوي إلى أنّ اللامركزية الإدارية تقوم على ثلاثة أركان، هي:

  1. الاعتراف بوجود مصالح محلية متميزة.
  2. أن يُسند الإشراف على هذه المصالح المحلية إلى هيئات مُنتخبة.
  3. استقلال الهيئات اللامركزية في مزاولتها لأعمالها، لكن تحت إشراف السلطة المركزية[4].

لكن ثمّة من يرى أنّه يمكن تعيين الهيئات القائمة على الإدارة المحلية، ولا يُشترط أن تكون منتخبة لتمكّنها من أداء وظائفها. “وليس انتخاب الهيئة القائمة على الإدارة المحلية ضرورة لنجاحها في تأدية الأعمال المنوطة بها، والقيام بوظائفها التي تحقق الأهداف المرجوّة منها، لأنّ هناك كثيرًا من الهيئات المحليّة المعيّنة قد نجحت في تحقيق أهداف الإدارة المحلية[5].

يُعرّف ماركوس بوكونفورديه اللامركزية بأنّها: “توزيع سلطات الحكم وصلاحياته بعيدًا عن المركز الوطني إلى مؤسسات أخرى على مستويات أخرى من الحكم أو من الإدارة”[6].

ونقل صلاحيات الحكم بموجب اللامركزية يمكن أن يكون داخليًا ضمن حدود الدولة، وهو مجال بحثنا الراهن، ويمكن أن يكون خارجيًا نحو منظمات إقليمية أو دولية، وهو ما يسمّى باللامركزية التصاعدية أو الاندماج الإقليمي. والمثال الأكثر بروزًا على ذلك هو الاتحاد الأوروبي، “حيث اكتسب الاتحاد مع مرور الوقت صلاحيات كثيرة من الدول الداخلة في عضويته، فبات بمثابة حكومة دولية تتمتع بصلاحيات تشريعية وتنفيذية وقضائية”[7].

أهداف اللامركزية

تحقق اللامركزية أهداف مجموع المواطنين بتعزيز المشاركة العادلة والمتساوية في إدارة شؤون البلاد من جهة، فالقدرة على رسم السياسات المحلية وتنفيذها بما يخدم أهالي منطقة محددة تعطي إحساسًا أكبر بالانتماء إلى الدولة والأمّة التي ينتمي لها هؤلاء الأهالي. ويعزز هذا النمط من الحكم ولاء الأقليات والفئات المهمّشة للدولة، ويحسّن فرص اندماجها الفاعل في إطار الوحدة الكلية للأمة. وتهدف اللامركزية إلى خلق أدوات فعالة لتقديم الخدمات ضمن أطرٍ محلية تحقق أكبر قدر ممكن من الشفافية والرقابة. فاستلام الإدارات المحلية من قبل أهالي المنطقة المعنية يعزز من عمليات فهم المشاكل من جهة، كما يقوّي عناصر الإحساس بالمسؤولية تجاه المجتمع من جهة ثانية، ويزيد فرص المتابعة والرقابة والمحاسبة من جهة ثالثة.

يرتبط تحقيق هذه الأهداف بمجموعة من العوامل الخاصّة بالبلد المعني، فقد تؤدي اللامركزية إلى عكس المراد منها، إذ “ينبغي توخّي الحذر والحيطة عند صياغة الشكل الأمثل للامركزية، لا سيما في مرحلة ما بعد النزاع، لتجنّب آثار عكسية. فقد يؤدي ضعف الهياكل المحلية والافتقار إلى موارد بشرية ماهرة إلى إنتاج حكم محلي فاسد وغير كفء، بينما قد تعزز اللامركزية العرقية سيئة التصميم الحركات الانفصالية أكثر من ذي قبل”[8].

إذا أحسن السوريون تصميمها، فقد تكون اللامركزية في سورية حلًا لكثير من القضايا العالقة منذ عقود طويلة، قد يكون مبتدأها التأسيس الأول للدولة قبل مئة عام. فالتفاوت الكبير في مستويات التنمية بين الريف والمدينة كان من النتائج المباشرة للمركزية. وعلى سبيل المثال، ما زالت محافظات الجزيرة السورية الثلاث (دير الزور، الحسكة والرقة) حتى الآن، تحت تصنيف المحافظات النامية، على الرغم من أنّها تشكل 40% من مساحة سورية وتحتوي في بقعتها الجغرافية أكبر موارد الثروة النفطية والمائية، وعلى الرغم من أنّها تشكل المورد الرئيس من القمح والقطن والثروة الحيوانية!

يمكن أن تساعد اللامركزية في إظهار التنوّع الكبير للشعب السوري، من خلال إتاحة الفرصة للقوميات المتعددة بالتعبير عن جوهرها وخصائصها ومميزاتها، وبدلًا من أن يؤدي الكبت والقمع إلى ظهور نزعات تقسيمية انفصالية، فإنّ منح المناطق الجغرافية التي تقطنها نوعًا من اللامركزية يجعلها أكثر انتماءً وولاءً للدولة الوطنية السورية. بالمقابل، يجب الحذر من إساءة تخطيط اللامركزية ومن إساءة استعمالها فيما بعد، إذا ما بُنيت على أسس عرقية، فهذه ستكون منبتًا خصبًا للاحتراب الأهلي بدلًا من أن تكون عنصرًا فاعلًا في السلم والتنمية.

فوائد اللامركزية

تحقق اللامركزية مستويات عدّة من الفوائد، يمكن شرحها وفق ما يلي:

  1. تحسين مستوى تقديم الخدمات.
  2. توزيع السلطة بين المركز والأطراف.
  3. تعزيز مبدأ المواطنة وتكريس الممارسة الديمقراطية.
  4. زيادة مشاركة المواطنين وتعزيز المنافسة السياسية بين الأطراف والمركز.
  5. معالجة إهمال الأطراف من قبل المركز وتعزيز المساءلة والحفاظ على الوحدة الوطنية.

يعود التداخل بين الفوائد المتحققة من تطبيق اللامركزية وبين أهدافها، لكون هذا الشكل من أشكال إدارة الدولة يرتبط بشكل وثيق بمصالح الأفراد والمجموعات، فما هو هدفٌ وغاية مستقبلية يصبح فائدة آنيّة ومستمرّة بعد تحققه.

إنّ قرب الإدارات المحلية من السكان يجعل الرقابة الشعبية على أدائها أكثر فاعلية. كذلك تكون الإدارة أكثر قدرة على معرفة الاحتياجات المحلية، وأكثر حرصًا على تحقيق صالح المواطنين المحليين، خاصّة إذا ارتبطت اللامركزية السياسية باللامركزية الإدارية والمالية، لأنّ مستوى الأداء الخدمي سينعكس بالضرورة على مستوى التمثيل السياسي. يخلق هذا كلّه أجواءً إيجابيّة من التنافس الذي يؤدي بالنتيجة إلى فتح آفاق التطوير الاقتصادي، من خلال السعي لجلب الاستثمارات وتحسين أداء النظام الضريبي المحلي، ويعزز موضوع الشفافية ويخفف من القيود البيروقراطية الناتجة عن المركزية ويسرّع آليات اتخاذ القرار.

يعزز تقاسم السلطات بين المركز والأطراف عمليات التنمية المتكافئة، ويقلل من نتائج إهمال الأطراف من قبل المراكز والعواصم. من العدل أن تحظى الأرياف باهتمام يوازي ما تقدّمه من موارد وكفاءات للبلاد. في ألمانيا -على سبيل المثال- لا يكاد المرء يلاحظ فروقًا جوهرية كبيرة بين الأرياف الأبعد ومراكز المدن الكبرى، من حيث مستوى الخدمات، فالنظام الصحي مثلًا مصمم لأن تكون سيارات الإسعاف موجودة في أي نقطة من البلاد في ظرف 20 دقيقة من الاتصال، واستخدام المروحيات شائع جدًا في الحالات الأكثر عجلة. كذلك خدمات الدفاع المدني، ففي كلّ قرية مهما صغرت مركز للإطفائية، ولتوفير التكاليف يتطوّع أهالي الأرياف بالعمل فيها مجانًا عن طيب خاطر.

إنّ المشاركة في اتخاذ القرارات، من خلال الإدارات المحلية، تعزز شعور الانتماء الوطني من جهة باعتبار البشر يميلون للدفاع عمّا يشاركون بصنعه، وتعزز الممارسة الديمقراطية من خلال الرقابة والمساءلة. كلّما كان المسؤولون السياسيون والموظفون الإداريون أقرب للبيئة المحلية؛ كان من الأسهل تقييم أدائهم ومساءلتهم عن أخطائهم. تعزز المشاركة في المسؤوليات المحلية الممارسة الديمقراطية وتكبح جماح الاستبداد السياسي. يفترض هذا بالتأكيد وجود أحزاب متنافسة وصحافة حرّة ووعي مجتمعي وقدرة على الوصول إلى المعلومات ومشاركتها.

“تحسّن اللامركزية أيضًا الحوكمة بتوسيع المشاركة المدنية من خلال الانتخابات المحلية التي تتيح للمواطنين الترشح لشغل المناصب وتسمح لهم بمراقبة حكومتهم المحلية على أرض الواقع. وقد تبين أن ازدياد مشاركة الفئات التي كانت مهمشة من قبل في الحكومة يثبط صعود الحركات الانفصالية. كما تزيد اللامركزية السياسية أيضًا مَعين القيادات المتوفّرة ممن لديهم خبرة بالحكم الديمقراطي. وأخيرًا نجد أن المواطنين الذين تعودوا على المشاركة في الحكومة المحلية يقلّ احتمال مساندتهم لعودة الحكم الاستبدادي؛ بما أن الأنظمة الاستبدادية لا تميل إلى ترسيخ الحكم المحلي اللامركزي أو الحفاظ عليه. ويعطي اتساع المشاركة في حكومة طبّقت اللامركزية في الحكومات المحلية المواطنين نصيبًا مباشرًا من نجاح الحكومة المحلية”[9].

تشكل اللامركزية صيانة لوحدة البلاد من التقسيم، فقد ساعد هذا الشكل صرب وألبان كوسفو في العمل في إطار حكم محلي عابر للاثنيات. وقد يكون هذا مفيدًا لحلّ قضايا تمثيل القوميات في سورية، من تركمان وكرد وشركس وأرمن وغيرهم، خاصّة أنّ هذه القوميات منتشرة في أغلب بقاع سورية تقريبًا.

مخاطر اللامركزية

تتضمّن اللامركزية مخاطر متعددة، فالتضارب في المصالح بين المركز والأطراف من جهة، وضعف البنى الدستورية الضامنة للفصل بين هذه المصالح من جهة ثانية، يهددان الاستقرار المجتمعي والتنمية المنشودة. وكذلك هناك مخاطر سيطرة أصحاب الجاه والنفوذ المحليين وأصحاب الثروات أو الزعماء القبليين على السلطات المحلية، وقد يؤدي هذا إلى سوء في إدارة الموارد وتعسف في فرض الضرائب ومحاباة في توزيع الخدمات. إنّ سيطرة المافيات وشبكات الإجرام على المؤسسات المحلية أمرٌ وارد جدًا، وفي ظلّ غياب الضمانات الدستورية الضابطة لحدود العلاقة بين المركز والأطراف، والتي تسمح للحكومة المركزية بالتدخّل لمنع مثل هذا الأمر، تصبح اللامركزية وبالًا على المواطنين، وسبيلًا للارتزاق غير المشروع والفساد، بدلًا من أن تكون وسيلة للتنمية وسبيلًا لتحقيق الفائدة العامّة. والضامن لعدم انزياح اللامركزية عن أهدافها هو الوعي المجتمعي بالدرجة الأولى.

هذه المخاطر كلّها موجودة في الحالة السورية، وقد يكون من الحكمة بمكان تطبيق اللامركزية على مراحل وبالتفاوت، حسب الظروف، لإنجاح التجربة وحمايتها من الفشل. إنّ استحقاقات العدالة الانتقالية في سورية وإعادة الإعمار وتأمين الموارد اللازمة لها، وكذلك استحقاقات ضبط الأمن وجمع السلاح وإخراج الجيوش والقوى الأجنبية، كلها تشكل تحديات أمام التطبيق السريع للامركزية في سورية.

خيارات اللامركزية

تحدد الظروف الخاصة بكلّ بلد خياراته في تصميم اللامركزية، فألمانيا التي قامت أساسًا من اتحاد مجموعة إمارات ودويلات على يد بسمارك عام 1871، عدّلت من خياراتها بعد الحرب العالمية الثانية، بما يتناسب مع شكل العلاقة بين الولايات من جهة ومع المحيط الأوروبي من جهة ثانية.

الخيار الأول هو اللامركزية الشكلية الذي يُعنى بتحديد مستويات الحكم وعدد الوحدات في كل مستوى، كما يُعنى أيضًا بالتناظر أو عدم التناظر اللذين يعنيان تساوي أو عدم تساوي مستويات الحكم في أقاليم البلاد أو مناطقها ونواحيها. يشمل الخيار الشكلي نواحي النظام المؤسسي للامركزية، وهل تشمل جميع المؤسسات من تنفيذية وتشريعية وقضائية، أم بعضها فقط.

 الخيار الثاني هو اللامركزية الجوهرية، وهي تعني عمق الصلاحيات الممنوحة في الأشكال المختلفة من اللامركزية السياسية والإدارية والمالية. وتشمل أيضًا التناظر وعدم التناظر، وهما اللذان يعنيان تمتّع جميع الوحدات المحلية أو الفرعية بنفس الصلاحيات والسلطات الجوهرية ذاتها على التساوي والتوازي فيما بينها، أو وجود اختلافات في ذلك. يدخل في هذا الخيار أيضًا مدى الحماية للامركزية من تغوّل المركز والتعدّي على اختصاصاتها وسلطاتها.

إنّ الحالة السورية الغارقة بالاستبداد السياسي والمركزية الشديدة، من ستة عقود تقريبًا، تفرض علينا التفكير بشكل جدّي بالشكل الأمثل من اللامركزية عند الأخذ بها في المستقبل. وقد يكون هناك شكل سوري خاصّ من اللامركزية، التي تسمح لجميع المكونات بتمثيل نفسها والدفاع عن مصالحها ضمن إطار وحدة البلاد السياسية والجغرافية.

أشكال اللامركزية

اللامركزية على ثلاثة أشكال: سياسية، إدارية، اقتصادية/ مالية. وليس بالضرورة أن تُطبّق هذه الأشكال جميعها، ولا أن تُطبّق دفعة واحدة، حتى يكون لدينا نظام لامركزي، فقد تتحكم عوامل وظروف كثيرة في تطبيق أحدها دون الآخر أو أحدها قبل الآخر. ومن هذه العوامل الواقع الجغرافي والموارد الطبيعية والكثافة السكانية والعوامل التاريخية المتعلقة بالصراع في الدول حديثة العهد بالديمقراطية.

يتفاوت مدى اللامركزية وفقًا لاعتبارات شكلية تتعلق بعدد مستويات الحكم أو الإدارة المحلية وعدد الوحدات في كل مستوى من جهة أولى، ووفقًا لاعتبارات جوهرية تتعلق بعمق اللامركزية ومدى السلطات التي تتمتع بها مستويات الحكم المختلفة. كلّ هذا يخضع للتوافقات التي تصل إليها القوى السياسية عند رسم شكل الدولة في دساتيرها.

اللامركزية السياسية

هي قدرة المواطنين على اختيار المسؤولين المحليين وتعيينهم وعزلهم، أي قدرتهم على انتخاب ممثليهم السياسيين محليًا، والقدرة على تحديد صلاحيات هؤلاء الممثلين، وصياغة مهامهم ومراقبتها وتقييمها.

تتوزّع المهام التي يؤديها المسؤولون العموميّون على وظائف تشريعية وتنفيذية وحتى قضائية في الأنظمة الفيدرالية. والانتخاب ليس الطريقة الوحيدة لشغل هذه الوظائف، فثمّة مهام بيروقراطية لا يمكن شغلها إلا بطريق التعيين باعتبار أصحابها من التكنوقراط الذين يخضع اختيارهم لمعايير الكفاءة الفنية لا لمعايير التوافقات السياسية. “من خلال اللامركزية السياسية، يتمّ قياس حجم ما تسمح به الحكومات المركزية للوحدات الفرعية من تقلّد للوظائف السياسية للحكم كالتمثيل النيابي”[10].

“تقضي اللامركزية السياسية بنقل السلطة السياسية، من الحكومة المركزية أو حكومات الأقاليم، إلى الحكومات المحلية، وتتألف من ثلاثة عناصر: سلطة المواطنين المحليين لاختيار مسؤولين تشريعيين وتنفيذيين محليين؛ القواعد التي تنظم العلاقات بين مختلف وحدات الحكم المحلي؛ القواعد التي تنظم العلاقات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية. ومن أهمّ أهداف اللامركزية السياسية، ضمان أن يكون لأفراد المجتمع المحلي رأي في اختيار المسؤولين الذين سيتولون تنسيق تقديم الخدمات المحلية والإشراف عليها، وبالتالي زيادة المساءلة السياسية لمسؤولي الحكم المحلي أمام ناخبيهم”[11].

من الخطأ إغفال الحديث في سورية عن اللامركزية السياسية، وبالرغم من المخاوف التي يثيرها المصطلح عند غير المتخصصين، خاصّة أنّه يُفهم منها غالبًا تمهيد الطريق للتقسيم والانفصال، فإنّ اللامركزية السياسية هي أحد أشكال تهدئة مخاوف المجموعات السورية المهمّشة. وهذه الأخيرة ليست الأقليات القومية والدينية كما يُزعم فقط، مع التحفّظ على هذا التقسيم في الدولة السورية المنشودة التي يجب أن تقوم على أسس المواطنة المتساوية، بل هي الأرياف البعيدة والمدن الصغيرة والفئات السكانيّة المهاجرة إلى أطراف المدن.

إنّ منح هذه الفئات قدرًا من التمثيل السياسي سيجعلها -بكل تأكيد- أكثر تمسّكًا بالأمّة السوريّة التي ستحملها هذه الدولة الجديدة، وأكثر قناعة بمؤسساتها، كما ستعزز العلاقة الوجدانية بينهم وبين العمليّة السياسية برمّتها باعتبارها ملكهم، أو على الأقلّ باعتبارهم مشاركين حقيقييّن في صناعتها.

إنّ قدرة هذه الفئات المهمّشة من السوريين على انتخاب ممثليهم المحليين، وقدرتهم على تعيين صلاحياتهم، تعني بالنتيجة قدرتهم على مراقبتهم ومحاسبتهم في صناديق الاقتراع، وهذا يعزز قيم المواطنة من جهة، ويعزز الممارسة الديمقراطية من جهة ثانية.

اللامركزية الإدارية

هي نقل مسؤولية تقديم الخدمات العامة من الحكومة المركزية إلى وحدات إدارية محلية أو حكومات أقاليم أو حكومات محلية [12]. وتتدرّج اللامركزية الإدارية بين ثلاثة مستويات، من حيث عمقها، فتبدأ من تخفيف تركيز السلطات، ثم تنتقل إلى مبدأ تفويضها، وأخيرًا تصل إلى درجة نقلها بالكامل.

في الدرجة الأولى، يعدّ تخفيف التركيز بمنزلة توزيع جغرافي للسلطات المركزية، من خلال نشر موظفي الإدارة المركزية ومكاتبها في الأقاليم والمناطق، وفي هذا المستوى لا تتخلى الإدارة المركزية عن سلطاتها، بل تنشرها، وهي تسمّى لامركزية الوظائف الإدارية. وفي الدرجة الثانية، يتم إنشاء مستويات جديدة من الحكم، وتحصل على تفويض من السلطة اللامركزية بإقرار وتنفيذ السياسات محليًا، في ما يتعلق ببعض الوظائف دون غيرها، وتسمّى لامركزية التفويض. أمّا في الدرجة الأعمق والمتمثلة في نقل السلطات، فإننا نكون أمام مستويات متقدّمة من تولي السلطات محليًا، وهي على أشكال ودرجات مختلفة أيضًا، فقد تبدأ بحكم محلي مرتبط بالإدارة اللامركزية، وقد تصل إلى شيء من قبيل الحكم الذاتي، وهذه تسمّى اللامركزية الكاملة.

كمثال توضيحي، يمكن أن نضرب مثلًا من ألمانيا الاتحادية التي تُطبّق فيها اللامركزية بشكل كبير ضمن الاتحاد الفيدرالي بين الولايات الستة عشر. فقطّاع التعليم ليس من صلاحيات الحكومة الاتحادية، بل تستطيع كل ولاية أن تضع البرنامج التدريسي الذي تراه مناسبًا لها، ولا تتدخل الحكومة الاتحادية في هذا القطاع، بالرغم من أنها تموّله جزئيًا. يعدّ هذا الشكل من اللامركزية الإدارية عميقًا للدرجة التي نرى فيها أنّ سنوات الدراسة للمرحلة الثانوية تختلف بين ولاية وأخرى. مع ذلك، يبقى أنّ الامتحانات النهائية للشهادة الثانوية موحّدة، من حيث الأسئلة والتوقيت، فهي تُعالج على مستوى الحكومة الاتحادية.

إنّ تطبيق اللامركزية الإدارية في سورية أمرٌ في غاية الأهمية في المرحلة المقبلة، ويجب أن يكون هناك اعتبار للتهميش الطويل الذي عانته الأطراف على مدار العقود المنصرمة من عمر الدولة السورية.

اللامركزية المالية

وهي تعني منح الموارد والمسؤولية عن خدمات معينة إلى الحكومات المحلية، كي تتمكن هذه الأخيرة من أداء وظائفها بفاعلية، دون أن تصبح عالة على الحكومة المركزية في الموارد[13].

إنّ مناط اللامركزية هو تقديم الخدمات والتمثيل السياسي، وكلاهما لا يقومان بدون تمويل، والتمويل المحصور بيد المركز يغلق أبواب العمل أمام المناطق والمحليات. لذلك، ولأجل تطبيق لامركزية سياسية وإدارية، لا بدّ من وجود لامركزية مالية تقيمهما على أسس ثابتة.

كل مسؤولية عن تحقيق خدمة تفترض مقابلها تكاليف لا بدّ من تأمينها، وهذا يسمّى باب الإنفاق في الإدارة المالية. وفي اللامركزية، يكون من مسؤولية الحكومات المحلية تأمين القضايا الخاصة بالمناطق مثل الرعاية الصحية والتعليم والمواصلات، بينما يترك للمركز تأمين القضايا الوطنية، كالدفاع والتمثيل الخارجي.

لتأمين هذه المسؤوليات المحلية، لا بدّ من تأمين الموارد اللازمة، وهذا يفترض قدرة الإدارات المحلية على تأمين جزء منها ذاتيًا، فيجب أن يكون بمقدورها جباية الضرائب وفرض الرسوم المحلية مثلًا، وهذا يسمّى باب الإيرادات في الإدارة المالية.

إنّ الفرص المتاحة لتأمين الموارد المحلية للإدارات اللامركزية في سورية كبيرة، وسيتمّ التطرّق إليها لاحقًا في سياق هذا البحث.

اللامركزية وقضايا التنمية العادلة في المناطق والمحليات في سورية

سيكون من فوائد تطبيق اللامركزية في سورية، تحقيق تنمية عادلة ومتوازنة في المناطق والمحليات المختلفة. وسيكون بمقدور أهالي كل منطقة تحديد أولوياتهم من جهة، وأساليب تلبية احتياجاتهم من جهة ثانية، والموارد اللازمة لذلك من جهة ثالثة. لن يعود بمقدور المركز معاقبة الأطراف والمناطق من خلال التحكم في التمويل والإنفاق العام، لأنّ اللامركزية العميقة ستمكّن هذه الأطراف من إيجاد مطارح ضريبية ومشاريع استثمارية تعود عليها بالريع المستدام دون تحكم من المركز.

قضايا اللغة الرسمية واللغات الوطنية

إذا اعتبرنا أنّ اللغة الرسمية للبلاد هي اللغة الواجبة الاستعمال في الإدارات والمحاكم والبرلمان وكل الدوائر الرسمية، فيجب أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية. ليس لأنّ العرب يشكلون أكثرية سكان سورية فحسب، بل لأنّ الغالبية العظمى من سكان سورية يستطيعون التكلّم بها أولًا، ولأنّ إغراق الدولة ببضع لغات رسمية يعني أنّها ستكون بحاجة إلى ترجمة دستورها وقوانينها وجميع أوراقها الرسمية وقرارات محاكمها وإداراتها إلى كلّ اللغات الرسمية المعتمدة، ثانيًا. فلو عدّدنا اللغات القومية في سورية لوجدناها كثيرة، التركمانية، الكردية، الشركسية، الأرمنية، السريانية والشيشانية، وجعلها جميعًا لغات رسمية يعني أنّ أوراق الدولة كلها يجب أن تكتب بهذه اللغات جميعها. سيكون من شأن ذلك إغراق الدولة بتكاليف هائلة وزيادة الأعباء البيروقراطية وتعقيد الأمور بشكل هائل، فمن أين ستتوفر الكوادر البشرية المتخصصة لكل ذلك، على سبيل المثال؟

تُحلّ هذه الإشكالية باعتماد العربية لغة رسمية وحيدة في سورية، وباعتبار باقي اللغات المختلفة لغات وطنية. هذا التصنيف سيمكّن الناطقين بهذه اللغات من استعمالها في حياتهم اليومية وفي الآداب والفنون والعلوم، وتعلّمها وتعليمها وكلّ ما من شأنه حمايتهم وحمايتها. يمكن كذلك استخدامها في الدوائر الرسمية المحلية إلى جانب اللغة العربية، في المناطق التي يقطنها أهلها. اللغة الرسمية كالعَلَمْ، ولا يكون للدولة سوى علمٌ واحد، بينما اللغات الوطنية كالرموز والشعارات الأخرى، ويمكن أن يوجد في الدولة العديد منها.

مسائل التعليم وبرامجه

أوردنا أعلاه مثالًا عن قطّاع التعليم في ألمانيا، ويمكن أن يكون في سورية ما يشبه هذا النظام لتجاوز قضايا الخصوصيات المحلية. فعلى سبيل المثال، يمكن للمناطق ذات الأكثرية التركمانية أو الكردية أو الأرمنية أن تضمّن مناهجها التعليمية موادّ تتعلق بالتاريخ والعادات والقيم الخاصّة بهم جنبًا إلى جنب مع القضايا الوطنية السورية.

وإذا كان من حق المواطنين من أصول عربية أو الناطقين بالعربية أن يدرجوا التاريخ العربي في البرامج الوطنية، فيجب أن يكون من حق غيرهم من أتباع القوميات الأخرى المطالبة بذلك، وينطبق الأمر ذاته على الأديان.

قد يكون من الأفضل الإبقاء على دور للمركز فيما يتعلّق ببعض الجوانب الإجرائية في القطاع التعليمي، مثل التقسيم الخاص بالمراحل الإلزامية والثانوية، ومثل مواعيد الامتحانات للشهادات الانتقالية، وكذلك الأسئلة المركزية الموحدة لجميع الشهادات.

شكل قوى الأمن المحلي وصلاحياتها

عند الحديث عن قوى الأمن الداخلي في المحليات والأقاليم، يجب أن يتمّ التركيز على أنّ وظيفة هذه القوى هي تحقيق أعلى مستوى من الأمن للمواطنين، وليس قمعهم، كما كانت عقيدة أجهزة الأمن السورية على اختلاف أشكالها طوال عقود خلت.

إنّ قوى الأمن المحلية ضرورة لا غنى عنها، وتمكين المحليات من اختيار قادة هذه القوى وعناصرها من بين أهالي المنطقة، سيمكنهم من تعزيز الدور المجتمعي لهذه القوى من جهة، كما سيمكنهم من زيادة مستويات الرقابة والمساءلة على أفرادها وأدائهم.

ويجب أن تكون هذه المحليات قادرة أيضًا على تدريب عناصر قوى الأمن المحلي في مناطق عملهم، كما يجب أن يكون لديهم تدريبات عامّة على المستوى الوطني الشامل، كي يكونوا قادرين أيضًا على تطبيق القوانين الوطنية وإدارة المرافق الأمنية الوطنية عند اللزوم. وهذا يستدعي بكل تأكيد قدرة هذه الإدارات اللامركزية على تأمين الموارد اللازمة للإنفاق على هذه القوى الخدمية بطبيعتها، وهذا يعيدنا إلى مسألة اللامركزية المالية المحكي عنها سابقًا.

الموازنات المحلية وجباية الضرائب

ثمّة تنوّع كبير في سورية بمطارح تأمين الإيرادات المحلية، فعلى سبيل المثال، يمكن للمناطق الساحلية أن تفرض رسومًا محلية على الاستيراد والتصدير عبر الموانئ، ويمكن للمناطق الحدودية البرية أن تفرض ضرائب على حركة القادمين والمغادرين وعلى حركة النقل البري، كما يمكن للمناطق الزراعية تأمين إيرادات كافية من ضرائب المحاصيل، وفي المناطق السياحية، يمكن القيام باستثمارات محلية تدرّ كثيرًا من الإيرادات.

طبعًا، يجب ألا يغيب عن البال أنّ الموانئ والمعابر البرية والمطارات هي منافذ الدولة السيادية، وبالتالي لا يمكن أن تحتكر الإدارات المحلية وحدها الرسوم والضرائب، فلا بدّ من توازن ما مع اختصاص الحكومة في المركز.

يجب أن يكون للإدارات المحلية القدرة على تأمين نسب كبيرة من إيراداتها محليًا، لكنّ موازنتها يجب ألّا تقتصر على ذلك، فمن واجب الحكومة في المركز أن تخصص المناطق بإيرادات تساعدها في القيام بواجباتها وتقديم خدماتها. سيكون من شأن هذا الدعم من المركز توفير البنية المساعدة على التنمية المتكافئة، خاصّة أنّ من الطبيعي وجود تفاوت بين المناطق في مستويات الدخل والموارد والطاقات البشرية والثروات الطبيعية.

إنّ قدرة الإدارات المحلية على وضع الموازنة في مناطق حكمها، وقدرتها على تنفيذها دون عوائق، مرتبطان بكثير من العوامل التي ورد ذكرها في سياق هذا البحث، لكن يبقى أهمها بلا شك البنية التشريعية التي تحفظ لها هذا الحق دون إعاقة من السلطة في المركز.

البرلمانات المحلية واختصاصاتها وصلاحياتها

يَفترض تطبيق اللامركزية السياسية والإدارية والمالية الكاملة، بأوسع أشكالها وأعمقها، وجود برلمانات محلية قادرة على تمثيل القوى الحزبية المحلية، وتعزيز التجربة الديمقراطية في المناطق والنواحي الخاضعة لمستويات متعددة من الحكم.

إنّ ممارسة الديمقراطية عبر الترشح والانتخاب في البرلمانات المحلية هي جزء من ممارسة المواطنين حقوقهم وواجباتهم العامة، وهذا الأمر يشكل مع الممارسة والاستمرار أداة للتطوير السياسي والمجتمعي والثقافي.

تضطلع البرلمانات المحلية بدورها الرئيس في سنّ القوانين والتشريعات المحلية الضرورية لتسيير شؤون المحليات هذه؛ فالبرلمان يصادق على مشاريع القوانين المقدّمة من الحكومات المحلية، أو يسنّ قوانين بعد تقديمها من عدد معيّن من أعضائه أو من لجانه المختصّة.

يجب أن يكون من اختصاص هذه البرلمانات التشريع لكلّ ما يتعلق بالشؤون المحلية، خاصّة في قضايا الخدمات المحلية التي يتمّ رسم حدودها في الدستور بشكل واضح، بحيث لا يكون هناك ازدواجية بينها وبين البرلمان الوطني، وبحيث لا يكون هناك ثغرات في الاختصاص.

يقع على عاتق البرلمانات المحلية أيضًا دور رقابي على أعمال السلطات المحلية التنفيذية، فيراقب عمليات الإنفاق وتنفيذ الموازنات المحلية وتحويلها إلى مشاريع، كما يحق لهذه البرلمانات مراقبة أداء الحكومات المحلية.

الدستور وتنظيم اللامركزية شكلًا للدولة

الدستور هو القانون الأسمى في الدولة، وهو الحامل للعقد الاجتماعي بين أفراد ومكونات أي شعب، وبسبب مكانته السامية هذه، يجب أن يتضمّن بين جنباته كلّ ما من شأنه أن يرسّخ أسس الدولة الجديدة المنشودة.

من هنا، نعتقد أنّ النصّ على اللامركزية بأكبر قدر ممكن من التفصيل في الدستور السوري الجديد، سيكون عامل حماية لها من تغوّل السلطة في المركز من جهة، وسيمنع استخدامها والالتفاف عليها من قبل الأحزاب المتنافسة أو مجموعات الضغط وأصحاب المصالح من جهة ثانية.

“يمكن العثور على الأساس القانوني للامركزية في البلدان الموحّدة في دساتيرها أو قوانينها الأساسية أو الاثنين معًا. وعلى الرغم من أن أكثر الحالات شيوعًا في الدول الفيدرالية هو تعيين صلاحيات حكومات الأقاليم والمناطق في الدساتير، فإن دساتير البلدان الموحّدة غالبًا ما تنص على أساس للامركزية يتجاوز حدود إعلان المبدأ. وبما أن تغيير الدساتير أصعب من تغيير القوانين العادية، فإن وصف نطاق الحكومات المحلية وسلطاتها في الدستور يحميها من التغيرات المفاجئة التي قد تحد من سلطتها أو تنزعها. غير أن الدساتير تفتقر إلى المرونة، تحديدًا بسبب صعوبة تغييرها. ونتيجة لذلك، آثرت بعض الدول ألا تنص في الدستور إلا على المبادئ العامة للامركزية، تاركة التفاصيل للتشريعات اللاحقة، وعلى الرغم من أن الاتجاه اليوم هو تضمين الدستور مزيدًا من التفاصيل، فإن البلدان تنص على مختلف جوانب اللامركزية في دساتيرها بمستويات متفاوتة من التحديد”[14].

لقد كانت اللامركزية في سورية على الدوام أشبه بتماثيل الشمع التي يجب أن تبقى في المتاحف، فما إن تخرج النصوص الناظمة لها سواء في الدستور أو القانون إلى حيّز التطبيق العملي، حتى تذوب وتتبخّر تحت حرارة وضغط المركزيّة الشديدة والمكثّفة للإدارة السياسية في البلاد. إنّ اللامركزية عنصر مهدّدٌ للدكتاتورية، فهي تقوم على أساس واضح من توزيع السلطة، بعكس التركيز الشديد لها بيد حزب أو طغمة عسكرية أو فرد، كما هو حال سورية منذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970 واستلامه الحكم في البلاد.

ولا يعني تضمين اللامركزية بتفاصيلها قدر الإمكان في الدستور الجديد -حسب وجهة نظرنا- أن يتمّ تطبيقها بشكل فوري وكامل فور الانتقال السياسي في سورية، لأنّ من شأن ذلك إفشال التجربة وتهديم أسسها بسبب العوائق الهائلة أمام التطبيق العملي لها. من ضمن هذه العوائق، على سبيل المثال لا الحصر، انعدام التجربة السابقة، ومن ثم نقص الخبرات والكفاءات والكوادر المؤهلة. هناك أيضًا عيوب البنية الفوقية للدولة، أي مجموعة الأنظمة التشغيلية القانونية والاقتصادية والمالية والمصرفية، وغيرها من بُنى غير مؤهلة بسبب الفساد والتكلّس ضمن أطر المركزية الشديدة خلال العقود السابقة. هناك عوائق تتعلق برسم الحدود الجغرافية للمناطق والمحليات، وعوائق تتعلق بقضايا التوزيع العادل للثروة والموارد.

يمكن النصّ على التطبيق المتدرّج والمتفاوت للامركزية في الدستور ذاته أو ضمن الأسباب الموجبة له أو بموجب إعلان مستقل تصدره الجمعية التأسيسية السورية التي ستكتب الدستور، يمكن إيجاد طريقة مناسبة لحل هذه الإشكالية.

الفيدرالية

ثمّة تعريفات مختلفة للفيدرالية، وسنورد بعضها أولًا، ثم سنتعرّض للسياق التاريخي التي ظهرت به شكلًا للدولة، ثم سنمرّ سريعًا على الواقع السوري لنفحص حالة الفيدرالية أهي مناسبة الآن أم في المستقبل.

شكل الدولة الفيدرالية أو الاتحادية يأتي مقابل شكل الدولة الموحدة والدولة الأحادية، ومن هذه الأشكال، يمكن أن تُطبّق اللامركزية في الدول الاتحادية والدول الموحدة، باعتبار جوهر اللامركزية يقوم على تعدد مستويات الحكم بين المركز والأطراف، بعكس الدولة الأحادية التي يكون فيها مستوى واحد من الحكم فقط.

الفيدرالية هي إذن مفهومٌ لنظام حكومي تتخلى فيه الكيانات المتّحدة مع بعضها عن جزء من سيادتها للحكومة الاتحادية، من أجل تحقيق مستوى أكبر من التقدّم والازدهار، وبموجب ذلك يخضع المواطنون فيها لمستويين من التنظيم الحكومي، أولّهما مركزي مقره العاصمة الاتحادية، وثانيهما محلي أو إقليمي أو مناطقي.

وقد عرّف الدكتور عبد الوهاب الكيالي، في الموسوعة السياسية، الفيدرالية بأنها: (نظام سياسي يقوم نتيجة ترابط بين دولتين أو أكثر بقصد التقارب والتوحيد، وينتج عنه إذابة الشخصية القانونية للدولة المستقلة عند الأطراف المعنية، لتقوم مكانها شخصية قانونية جديدة، تحتكر السيادة في الدولة المعنية الجديدة داخليًا وخارجيًا)[15].

وهذا هو المفهوم الأصلي للفيدرالية، لأنها أتت من خلال تجميع دول عدّة أو مقاطعات أو إمارات أو دويلات فيما بينها، كما حال الولايات المتحدة الأميركية والإمارات العربية المتحدة والاتحاد السويسري.

ما يميّز الفيدرالية عن المنظمات الدولية هو الدستور الناظم للعلاقة بين الدول المتحدة فيما بينها، التي تشكلت من اجتماعها الدولة الاتحادية. فالعلاقة بين هذه الدول لا تخضع للقانون الدولي وقواعده، بل للدستور الاتحادي. يترتب على هذا التصنيف نتائج مهمّة، فالنزاعات المسلحة بين أقاليم الدولة الاتحادية، على سبيل المثال، لا تُصنّف في معرض تطبيق القوانين الجنائية الدولية كنزاعات دولية مسلحة، بل كنزاعات داخلية مسلحة أو كحروب أهلية.

“في النظام الفيدرالي، ليس لسلطات الأقاليم حقّ إبطال القرارات التي تتخذها السلطات الفيدرالية المركزية، بل في حال الخلاف يتم اللجوء والاحتكام إلى القضاء عبر المحكمة الدستورية العليا والمحكمة الاتحادية العليا”[16].

كذلك ثمّة ميزة أخرى تنتج عن الاتحاد، وتتمثل في غياب صفة الدولة الكاملة عن الدول المندمجة، لأنها تتنازل طوعًا عن التمثيل الخارجي والدفاع لصالح الدولة الاتحادية التي تمثّل سيادة الدولة. لا يمكن إذن أن يتمّ التعامل مع الدويلات أو المقاطعات أو الولايات المشكلة للاتحاد إلّا بوصفها وحدات إدارية يمثلها خارجيًا المركز. فلا سبيل لولاية بافاريا أو نيدرزاكسن أو غيرها من الولايات الألمانية، أن تعقد معاهدة دفاع مشترك مع إيطاليا أو فرنسا، أو أن تتبادل معها التمثيل الدبلوماسي، فهذه من صلاحية المركز في برلين، أي من صلاحية الحكومة الاتحادية، وليست من صلاحيات حكومات الولايات.

لقد كانت الفيدرالية نموذجًا مناسبًا، في العديد من المجتمعات، للجمع بين التنوّع والتمايز من جهة، وبين إرادة العمل الموحد والمشترك من جهة ثانية. لم يُطبّق النظام الفيدرالي بشكل متماثل في جميع الدول التي أخذت به، فهو كالديمقراطية يجب أن يأخذ بالحسبان الخصوصيات المحلية والظروف التاريخية لكل مجتمع. فعلى الرغم من القواسم المشتركة والقواعد الأساسية للأنظمة الفيدرالية، فإنّ لكل دولة تطبيقها الخاص الذي يتناسب واحتياجاتها وظروفها ومكونات مجتمعها. “غير أنّ ذلك لا يمنع من وجود فهم عام مشترك لكل من الديمقراطية والفيدرالية، رغم خصوصية التطبيق. فمراعاة الخصوصية يجب ألا تتجاوز الأسس العامّة لكل من الفيدرالية والديمقراطية، وإذا كان حكم الشعب وسيادة القانون وفصل السلطات ووجود دستور يكفل الحقوق والحريات العامة وإقرار التعددية السياسية هي مفاهيم مشتركة لكل نظام ديمقراطي، فإنّ الاعتراف بالآخر ومراعاة خصوصيته وتوزيع السلطة أفقيًا، أي الأخذ باللامركزية السياسية ووجود دستور يحدد صلاحيات كل من المركز والأطراف، هي من المفاهيم المشتركة لكل نظام فيدرالي”[17].

وفي سورية، كما في غيرها من الدول العربية، وخاصّة تلك التي شهدت صراعات مسلّحة إثر ارتدادات الثورات المضادّة للربيع العربي، يتجذّر الخوف من الفيدرالية باعتبار الطرح الحالي لها يذهب إلى الاتجاه العكسي، أي نحو تقسيم الدول الموحدة لا نحو توحيد الدويلات والإمارات المنفصلة. ثمّة خلط بين الفيدرالية والتقسيم، فالفيدرالية أتت بالأصل من فكرة التوحيد لا من فكرة التقسيم. لكنّ إنشاء وحدات فيدرالية، في ظل الظروف الراهنة في سورية، لن يكون بكل الأحوال خاليًا من مخاطر التقسيم. إنّ بناء الفيدرالية على أسس قومية أو عرقية أو دينية سيزيد من تشرذم المجتمع السوري، وسيؤدي إلى تفتت الدولة.

إنّ بناء الدولة العصرية القوية يحتاج إلى مراعاة عدد كبير من الشروط، ومنها توزيع السلطة. لكنّ ذلك لا يمكن أن يتمّ في ظلّ ظروف الحرب والصراع المسلّح والاستقواء بقوى الاحتلال أو بالدول الأجنبية، لأنّ من شأن ذلك أن يعمّق الشروخ المجتمعية، وأن يمزّق الهُويّة الوطنية.

إنّ تطبيق الفيدرالية واللامركزية، بأشكالها الثلاثة، يحتاج إلى استقرار أمني وسياسي واقتصادي، كما يحتاج إلى ثقافة المواطنة والانتماء وقبول الآخر، وهذه جميعها لا تتوفر في المجتمعات التي ما تزال تخوض الحروب أو الخارجة منها للتوّ. لذلك قد يكون من الأنسب في سورية الجديدة أن يتمّ تطبيق نظام لامركزي، مع شيء من المركزية المخففة، في بداية عهد الانتقال السياسي، لكن مع الحذر من إعادة إنتاج الدكتاتورية. ثم يتمّ توسيع اللامركزية تدريجيًا، حتى تتمكن من تمثيل كل المناطق والشرائح الاجتماعية، من دون أن تؤدّي إلى التشرذم والتفتت.


[1] – محمد جمال باروت، المؤتمر السوري العام 1919 – 1920 – الدستور السوري الأول، مجلّة تبيّن، العدد 3- ص 36

[2] كاظم حسن الربيعي، مجلة كلية مدينة العلم الجامعة، المجلد 2، العدد 2، عام 2010- ص 61

[3] المرجع السابق – ص 61

[4] الدكتور سليمان الطماوي، (شرح نظام الإدارة المحلية الجديدة)، دار الفكر العربي، القاهرة سنة 1961 – ص 12

[5] د. عبد العزيز عبد الرحمن آل سعود، (دور الإدارة المحلية في تعزيز الأمن الوطني)، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد 20، عام 1423 هجري ص 302

[6] المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، دليل عملي لبناء الدساتير، الفصل السابع، نظام الحكم اللامركزي – ص1

[7] ماركوس بوكونفورديه، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، دليل عملي لبناء الدساتير، نماذج الحكم اللامركزي – ص 3

[8] المرجع السابق – ص 4.

[9] اللامركزية في الدول الموحدة، أطر دستورية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مركز العمليات الانتقالية الدستورية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – ص 28

[10] ماركوس بوكونفورديه، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، دليل عملي لبناء الدساتير، نماذج الحكم اللامركزي – ص 18

[11] اللامركزية في الدول الموحدة، أطر دستورية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مركز العمليات الانتقالية الدستورية، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي – ص 54

[12] المرجع السابق – ص 23

[13] المرجع السابق ص 24

[14] المرجع السابق- ص 30

[15] – د. عبد الغفور علي و أ. خضر رسول، (الفيدرالية، ملاحظات قانونية وموضوعية عامة)، مجلة جامعة كركوك للدراسات الإنسانية، العدد 1، المجلد 4 السنة الرابعة 2009

[16] – د. سعدي كريم سلمان، (الفيدرالية والديمقراطية)، المجلة السياسية والدولية ص 4

The International and Political Journal2008, Volume , Issue 8, Pages 131-140

[17] – المرجع السابق – ص 7