تُعرف السياسة بمنطلقاتها ومساراتها وأهدافها. وسيلاحظ مراقب السياساتِ التي اتخذت انتفاضةَ الحرية لعام 2011 موضوعًا لها، افتقارَها إلى منطلقاتٍ موحدة، وتبعثرها بين اتجاهات متعارضة المنطلقات أُقحمت إقحامًا على الحراك الموحد؛ فبينما أرادها البعض سلميّةً، قرر البعض الآخر تسليحَها. وبينما رغب هذا الطرف في المحافظة على طابعها الشعبي المدني، عزم ذاك على التخلي عنه كرافعة رئيسة للثورة على النظام الأسدي، واستبداله بأنشطة منظمة تخضع لقيادات حزبية، وبدل الطوفان البشري الذي بدا عصيًا على الكسر، بدأت بعض الجهات تراهن على ربطه بها، ولو أدى ذلك إلى بعثرته موقعًا بعد آخر، ودمغه بدمغته الخاصة، يومًا بعد يوم.
هذا التطور جعل الأطراف السياسية تتعامل مع مواقع مختلفة ومتعارضة مع واقع شعبي/ مجتمعي موحد، وتُنزل خلافاتها إليه، بدلًا من تصليب وحدته بواسطة خطط وبرامج وطنية تسمو على الخلافات وتتوافق مع مطالب الشعب التي انطلقت من وحدته وربطتها بوعد الحرية التي سينالها كلّ سوري، وستحقق وحدة الشعب السوري على أسس جديدة، تنبع من حريته ووحدته. بذلك، أنزلت الأطراف السياسية خلافاتها إلى شارعٍ انخرط في حراك شامل، ليست هي من أطلقه. وحين تنافست عليه، تسلل إليه انقسامٌ ظلّ يتفاقم يومًا بعد يوم، بينما وحّد النظام حقله السياسي، بالقوة، وراءَ حله العسكري وحربه على الشعب، وعمل على تعزيز ما بدأ يظهر من نزعات صراعية، خفية وظاهرة، في رهانات الأطراف السياسية، واستغلّ افتقارها إلى القدرة على قيادة انتفاضةٍ، ستتراجع وتتبعثر إذا لم تتحول إلى ثورة، بترقيتها من تمرد مجتمعي عفوي، إلى فعل شعبي منظم وموحد، يمتلك برامج وخططًا تمده قيادة ثورية تحظى بقبول شعبي، يرى فيها مرجعية ملزمة لقطاعي الثورة السياسي والمقاوم، ينفرد دورها المرجعي في تقرير شؤون الميدانين السياسي والمقاوم، بإخضاع ثانيهما لأولهما.
أسهم غيابُ الموقف الموحد عن المعارضة السياسية في حدوث تخبّط، ما لبث أن طبع مسار الأحداث والأنشطة المجتمعية بطابعه، وأخضعه لقدر من الارتجال سهّل تدريجيًا تحوّله من السلمية إلى العنف المسلح، وأبعد الحراك عنه، وربطه أكثر فأكثر بتنظيمات تدفقت عليها جهات خارجية، لم يعرف أحدٌ من أين أتت، وترافق قدومها مع ظهور ظاهرة الإرهاب الغريبة عن السوريين وحراكهم السلمي، وصحبها تبدّل جذري في طبيعة التمرّد المجتمعي، الذي انحدر من تمرد ثوري السمات، إلى اقتتال غلب عليه طابع أهلي وطائفي، كان في الحقيقة خيار الأسدية، التي شجعته بكل الوسائل والسياسات، لتحوّل ثورة الحرية إلى نقيضها: اقتتال يُخرج من الثورة قطاعات مجتمعية واسعة معروفة باعتدالها وسلميتها، ويستبدل استبدادها السياسي الطائفي، في حال انتصر، باستبداد مذهبي/ سياسي، ضحيته الأولى والأخيرة شعب سورية.
أنتج هذا المسار ظاهرةً خطيرة، تكفلت بتقويض ثورة الحرية، عبر فصلها عن حاملها المجتمعي العريض من جهة، والقضاء على الجيش الحر كمدافع عنه، عبر القضاء على نواته الاحترافية التي رفض ممثلها المقدّم حسين هرموش تسليح المدنيين، فتمّ تسليمه إلى المخابرات الأسدية، وانتشر السلاح بين أيدي تنظيمات ظهرت كالفطر، في كل قرية وبلدة وحي، كان من المنتظر والطبيعي أن لا تخضع لقيادة مركزية مهنية، أو لمدونة عسكرية وطنية وقانونية، ونشأت ظاهرة أمراء الحرب، التي أسعد ظهورَها الأسد، لأن معظمهم رفض الحرية، كهدف أجمع عليه السوريون ومثّل تحدّيًا وطنيًا ودوليًا خطيرًا لنظامه، واستبدله بهدف نقيض هو “الدولة الدينية”، بذريعة أن الثورة هي لـ “أهل السنّة والجماعة”، وأن الأحداث كشفت حقيقة أن الشعب السوري ليس واحدًا، بل هو طوائف متناحرة، و “مُشركة” أو “كافرة”. من هذه اللحظة، بدأ تلاشي ثورة الحرية، واستعادت الأسدية المبادرة، وأعادت ما خسرته من مناطق سورية، ووقع تبدل دولي إيجابي تجاهه، عززه بروزُ تنظيمي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية”، وما قام به ثانيهما من هجمات في عواصم غربية فبررت موقفها الذي ازداد سلبية من الثورة، وخوفها على إسرائيل، من سقوط النظام الأسدي الذي قدم لها ولواشنطن من الخدمات ما جعل التخلي عنه انتصارًا للإرهاب.
لم يعرف التاريخ، ولن يعرف، ثورةً انتصرت ببرنامجين متناقضين: أتباعُ أحدهما مسلحون، وأتباع الآخر عزّل، وتعرضوا لذبح منظم على يد تنظيمات احتوى إرهابيوها ثورتهم وجوّفوها واحتلّوها من داخلها، وفتكوا بالمخلصين لها، بأساليب أسدية، بدا معها وكأنهم ينافسون سفّاح دمشق على إرهابه.
والآن، بعد أن ترسخ وعي السوريين بالنتائج المدمرة التي ترتبت على إحلال هدف مذهبي محلّ هدف الحرية، وتبيّن أن الهدف المذهبي لن يوصلهم إلى غير الموت المجاني والدمار، وأنه لا يخدم غير الأسدية؛ ألمْ يحن الوقت لممارسة سياسة تستبعد هذا الهدف عن خيارات ومواقف المعارضة، وتواجه أنصاره عبر معركة يعيد خوضُها الشعبَ إلى السياسة والثورة، بما أنها ستخاض بدلالة الحرية ومن أجلها، وستمكنه من المشاركة في اجتثاث السرطان المذهبي، ومن تغليب وعيه بالحرية كخيار نهائي ووحيد، يرتبط به نجاح السوريين في إزاحة كابوس الأسدية عن صدورهم، والابتعاد عن حافة الهاوية!
لم تتعيّن سياسات المعارضة بهدف الحرية، ولو تعيّنت به لحماها ذلك من الانقسام، ولأسقطت بسالةُ الشعب السوري منظومةَ الأسدية منذ أعوام الثورة الأولى. واليوم، إذ لم يبق للأصولية والمذهبية غير تقمّص الإجرام الأسدي في المناطق الخاضعة لها، حيث يعلن الشعب المقهور تمسّكه ببرنامج ثورته الأصلي، كلما أتيحت له فرصة التعبير عن نفسه؛ لم يعد ممكنًا ممارسة سياسة تتعين بغير هدف الثورة: الحرية، للشعب السوري الواحد.