جوان حمو
باحث متخصص في الشؤون الاقتصادية والكُرديَّة. حاصل على شهادة الماجستير في العلاقات الدولية في جامعة حلب – سورية. وعضو جمعية الاقتصاديين الكُرد- سوريا. مقيم في ألمانيا. له عدد من البحوث والمقالات الأكاديمية.
المحتويات
أولًا: سورية في الجيوسياسية الروسية
مركز انطلاق للتحكم بالبحر وبالمحيط
ورقة اختبار لقوة روسيا في الصعيد العالمي
منطقة عملياتية لضرب (الجهاديين والمتطرفين) لضمان ألا ينتشروا في روسيا
خسارة سورية جيوسياسيًا تعني بدء خسارة إيران جيوسياسيًا
ثانيًا: موقع كُرد سورية في الجيوسياسة الروسية
ملخص
ما زالت روسيا تحلم حُلم الإمبراطورية القيصرية في الوصول إلى المياه الدافئة، فبعد فشلها في الهيمنة على المياه الدافئة في منطقة الخليج العربي نجد أنَّ أنظارها الآن أشد تركيزًا على البحر الأبيض المتوسط، وبخاصة بوابتها الشرقيّة (سورية)، وتطمح بأن تحولها إلى حديقة خلفية لها، لتشكل بذلك نفوذًا لحدودٍ برية مع كل من تركيا والعراق والأردن وإسرائيل ولبنان.
سورية في جيوسياسية الفكر الروسي اليوم عبارة عن رهان للحسابات الجيوسياسية الكبرى عالميًا، وهذه الجيوسياسية قائمة على إحياء الدور الذي قام به الاتحاد السوفياتي سابقًا متمثلًا باستمرار وجود التحالف الاستراتيجي بين البلدين. فسورية في البعد الروسي تعني آخر بديل أو آخر منطقة يمكنها أن تمارس فيها نفوذها في الشرق الأوسط، من ثمّ فهي تعد أكبر وجود عسكري لها في الشرق الأوسط، ثم إنَّ الصراع في سورية يُشكّل لروسيا آخر فرصة بتقديم نفسها بوصفها ثانية كبريات القوى في العالم.
إنَّ التدخل العسكري الروسي في سورية هو لتحقيق حسابات جيوسياسية في فكرها السياسي والاقتصادي، فهي لن تتخلى عن تحقيق مصالحها في سورية.
ثم إنَّ موقع الكُرد في هذه الجيوسياسة يأتي في المرتبة الثانية من حيثُ الأهمية لروسيا، والروسيون لن يتوانوا عن كسب ود الكُرد في هذا الصراع لأسباب جيوسياسية أيضًا.
مقدمة
إنَّ القراءات الروسية للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الصعيد العالمي مِنذُ القِدم، مرورًا بانهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وحتى الآن، متركزة في إيجاد موضع قدم لها في الشرق الأوسط، وتثبيت وجودها مهما كلّفها ذلك، آخذة في حسبانها أنَّ انتشارها الواسع في أراضي الجمهوريات السوفياتية في ما سبق قد تقلّص، مما يفّرض عليها البحث عن مواطئ نفوذ أخرى.
فالحلم الروسي القديم ما يزال يراوده حتى الآن، وهو الحلم القيصري متمثلًا بـــ (بورت بوتيمكين)، هذا المصطلح الذي يشير إلى السباق الطويل إلى البحار الدافئة، وللوصول إلى نقطة على المحيط العالمي الذي بدأه بطرس الأكبر (قيصر روسيا الخامس)، وأكملته الإمبراطورة كاترين الثانية (إمبراطورة روسيا الثانية عشرة)، وهو الوصول إلى المياه الدافئة بالقرب من مضيقي البوسفور والدردنيل، ومنها إلى البحر الأبيض المتوسط.
ترى روسيا أنَّ حليفتها سورية خير دولة يمكنها أن تثبت قدمها فيها، ولا سيما أنَّ سورية أصبحت في حاجة ماسة إلى الدعمين العسكري والسياسي من أحد مراكز الثقل في العالم. وقد رأت روسيا نفسها بأنَّها مركز الثقل الذي يمكن لسورية أن تعتمد عليه. إذ يرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنَّه في الخط الثاني من غرب آسيا الذي يمثل الحاضنة الجيوستراتيجية لآسيا الوسطى، تقع كل من إيران وسورية، وهما الدولتان اللتان يعدهما بوتين (ضمانة الاستقرار في المناطق القريبة من حدودنا) على حد وصفه.
أولًا: سورية في الجيوسياسية الروسية
سورية اليوم في الجيوسياسية الروسية ليست دولة نائية عن حدودها البرية فحسب، إنَّما بوابة شرق-أوسطية آيلة إلى السقوط والتفكك، وبحاجة إلى من يدعمها مقابل الوقوع التام في سلتها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. فسورية بالنسبة إلى روسيا تحمل كثيرًا من المعايير الجيوسياسية، من أكثرها أهمية ما يأتي:
– سوق اقتصادية واستثمارية لروسيا:
تعد سورية أحد أكثر الشركاء العرب التجاريين لروسيا أهمية؛ إذ تشكِّل التجارة الروسية السورية ما نسبته 20 في المئة من إجمالي التجارة العربية الروسية، ثم إنَّها تشهد تناميًا؛ إذ ارتفعت نسبة التجارة الروسية السورية إلى 1,92 مليار دولار عام 2011 بزيادة تصل إلى 58 في المئة عن عام 2010. من ناحية أخرى، تصل الاستثمارات الروسية في سورية إلى حوالى 20 مليار دولار، ثم إنَّ الشركات الروسية لا سيما في قطاع الطاقة تُعد من أبرز الشركات العاملة في سورية (بمثل شركة تانتفت، وشركة سويوز منتغاز، وبعض فروع شركة غازبروم، وغيرها). ([1])
بؤرة نفوذ شرق أوسطية
سورية في الجيوسياسية الروسية هي (بؤرة نفوذ مستقبلية) وسط منطقة نفوذ سياسية وعسكرية أميركية من الجهات الأربع. فسورية اليوم محاطة بقواعد عسكرية أميركية في العراق، وفي تركيا، وفي الأردن وفي إسرائيل، إضافة إلى تمركز الأسطول السادس الأميركي قبالة الساحل السوري. ومن ثَمّ ترغب روسيا في أنَّ تتجاور في منطقة نفوذها بسورية مع مناطق نفوذ الولايات المتحدة الأميركية. وذلك على الرغم من الوجود المحدود للقوات البرية الأميركية في الأراضي السورية في المناطق التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية، ويُشكل الكُرد أغلبيتها (مدينة عين العرب/ كوباني، مدينة الرميلان).
مركز انطلاق للتحكم بالبحر وبالمحيط
تعد سورية بالنسبة إلى روسيا نقطة الانطلاق باتجاه المياه الدافئة (مياه البحر الأبيض المتوسط)، وهي ستضمن بذلك الانفتاح البحري على جنوب القارة الأوروبية وشمال القارة الأفريقية.
ولعل إطلال سورية على البحر الأبيض المتوسط يفتح المجال أمام روسيا، فلا تُحَرم من المحيط العالمي أيضًا (المحيط الأطلنطي).
مستورد دائم للسلاح والذخيرة
سورية دولة واقعة عسكريًا وسياسيًا في السلة الروسية، فسورية بالنسبة إلى روسيا هي دولة تطلب طلبًا دائمًا معدات عسكرية من موسكو، وهذه الأخيرة لا تلبي دائمًا الطلبات السورية جميعها، لذلك ترى روسيا بأنَّ سورية دولة لا تستطيع الاستغناء عن اللوازم وقطع الغيار الروسية، ولا سيما أنَّ الجيش السوري يعتمد في أكثر من 90 في المئة من معداته على روسيا. إضافة إلى أنَّ سورية تُصنّف من الدول الخمس الأوائل في الشرق الأوسط في استيراد الأسلحة من روسيا.
أراضي حافات آسيا
عُرفت سورية ما سبق، ولا سيما في مرحلة الحرب الباردة باسم أراضي حافات آسيا (تسمية أميركية)، ولذلك ترى روسيا أنَّ اكتساب هذه الحافة لمصلحتها هو أفضل من أن يكتسبها الأميركيون. فسورية دولة مناسبة للمصالح الروسية لأنها ستستطيع من خلالها التلويح في وجه دول الغرب، لكي ترسل رسالة مفادها بأنَّها ما تزال محافظة على قوتها العسكرية، ومنزلتها السياسية، ووزنها في مجلس الأمن.
ميدان تصفية الجهاديين
تعد سورية بالنسبة إلى روسيا ميدانًا مناسبًا لتصفية الجهاديين الشيشانيين الذين جاؤوا من القوقاز، ويقاتل كثير منهم في سورية إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية. من ثَم ترى روسيا أنَّ تصفيتهم على أرض غير روسية وتحت جنحة الإرهاب سيكون أفضل كثيرًا من تصفيتهم وهم في الداخل الروسي، ثمة تخوف روسي من المخاطر التي تنطوي عليها عودة أولئك العناصر بعد اكتسابهم خبرة قتالية في مناطق النزاع.
فقد صرح الرئيس الروسي بوتين بأنَّ «المرء ليس بحاجة لأن يكون خبيرًا في الشؤون الأمنية ليعلم أنه إذا انتصر هؤلاء في سورية، فسيعودون إلى بلادهم، ويعودن إلى روسيا أيضًا». ([2])
أوكرانيا وأفغانستان جديدة
سورية اليوم تُشكّل لروسيا أوكرانيا الأمس التي خسرتها، وأفغانستان قبل الأمس التي خسرتها أيضًا، لذلك نرى سورية بقعة جغرافية بصورة ممر للشرق الأوسط، وهي ذات أولوية في السياسية الروسية الحريصة على ألا تخسرها على غرار سابقاتها.
خزان لمصادر الطاقة
روسيا ترى اليوم أنَّ البحث عن مكمن القوة لم يعد في الترسانات العسكرية النووية وغير النووية، إنَّما هناك، حيث توجد الطاقة. لذلك ترى روسيا في حساباتها شرق-الأوسطية أن سورية ستكون منطقة نفوذ مناسبة للعمل في هذا المضمار. ولا سيما أنَّها تمتلك فيها امتيازات حصرية (25 عامًا) تسمح لها بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية السوريّة، وذلك بحسب الاتفاق الموقع بين النظام السوري والحكومة الروسية في أواخر عام 2013. ([3]) إذ وقّعت شركة سيوز نفط غاز الروسية الحكومية التي يديرها وزير سابق للطاقة في روسيا عقدًا للتنقيب عن النفط والغاز في الامتداد البحري بين بانياس وطرطوس لمدة 25 سنة.
وتجدر الإشارة هُنا إلى أنَّه في السنوات الأخيرة اكتُشفت مناطق جديدة تحتوي مخزونًا هائلًا من الغاز الطبيعي في منطقة الشرق الأوسط، ومن أكثر هذه المناطق أهمية منطقة حوض المشرق حيث اكتُشفت كميات كبيرة من الغاز الطبيعي في هذا الحوض الذي يقع في المياه العميقة في شرق البحر المتوسط، ويحتوي طبقة عميقة من الغاز طبقًا لتقديرات هيئة المسح الجيولوجية الأميركية والشركات العاملة في التنقيب عن الغاز.
ويتكون حوض غاز الشرق البحر الأبيض المتوسط من ثلاث مناطق فرعية:([4])
أ- حوض بحر إيجة قبالة سواحل تركيا واليونان وقبرص.
ب- حوض المشرق قبالة سواحل سورية ولبنان وفلسطين.
ج- حوض الدلتا قبالة سواحل مصر.
لذلك، فإنَّ تكثيف الوجود العسكري الروسي في المنطقة الساحلية السورية قد تعدّه موسكو بمنزلة إجراء احترازي ضروري لتوفير الحماية اللازمة للاستثمارات الروسية، وتشير التقارير معظمها إلى أنَّها ستكون ضخمة وعملاقة في مضمار استخراج كميات الغاز الهائلة المختزنة تحت قاع البحر المتوسط بمحاذاة الشريط الساحلي السوري. إذ تتحدث دراسات عن اكتشاف حقل (قارة) سيحقق حوالى 400 ألف متر مكعب يوميًا لسورية، إضافة إلى 560 برميلًا مكثفات في اليوم. وإن مساحة التركيب الحاملة للغاز تقدر بـنحو 25 كيلومترًا مربعًا، ويقع هذا التركيب في حوض الدو في المنطقة الوسطى حيث اكتشف عدد من التركيبات، أكثرها أهمية تركيب أبو رباح وشمال الفيض وقمقم، ووضعت في الإنتاج في عام 2009 باسم مشروع جنوب المنطقة الوسطى، ويقدر الاحتياطي القابل للإنتاج في هذا التركيب بـحوالى 47 مليار متر مكعب غاز، إضافة إلى 21 مليون برميل مكثفات. واكتشف عدد من التركيبات الجديدة في هذا الحوض، في مناطق صدد والبريج وقارة ودير عطية وفرقلس، إذ يقدَّر الاحتياطي القابل للإنتاج في هذه التركيبات بـحوالى 24 مليار متر مكعب، إضافة إلى 22 مليون برميل مكثفات، ويقع في هذا الحوض تركيب الرشيفة الذي يتبع شركة إيبلا، وتركيب جهار الذي يتبع شركة حيّان للنفط. ([5]) وهو ما يجعل سورية في المرتبة الأولى في منطقة المتوسط، فهذه الاكتشافات جعلت سورية محط طمع جهات خارجية عدة، ترغب في الهيمنة على إمكانات الطاقة السورية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا.
إضافة إلى ذلك كله، فإنَّ الرغبة الروسية في احتكار مصادر الطاقة (النفط والغاز) في سورية سيضمن لها سيطرة فعلية على الأراضي السورية وبالتالي ستضمن إفشال خط الغاز القطري الذي يفترض مروره في حلب للوصول إلى الأراضي التركيّة وضمان الاستحواذ على الغاز المستخرج من الساحل السوري وتوجيهه بعد ذلك إلى أوروبا. ([6])
والصورة الآتية تبين لنا المسار المفترض لخط الغاز المار في سورية وفق الرؤيتين الروسية والأميركية: ([7])
إذ تُعد سورية منطقة مهمة لعبور الغاز من مناطق عدة إلى أوروبا، فبعد أن تمكنت الاستراتيجية الروسية من إفشال خط (نابوكو) المدعوم من طرف الولايات المتحدة الأميركية، وأرادت بطريقه إضعاف الهيمنة الروسية على سوق الغاز الأوروبية، بنقل الغاز من آسيا الوسطى، وتمريره عبر الأراضي التركية إلى أوروبا، ومن ثم أصبح التمسّك الروسي بسورية أكثر فأكثر.
ورقة اختبار لقوة روسيا في الصعيد العالمي
ترى روسيا بأنَّ نجاحها في حل الأزمة السورية سوف يبين للعالم فشل الولايات المتحدة الأميركية في حرب العراق وليبيا، إضافة إلى فشلها في إقامة أنظمة ديمقراطية وليبرالية، ومن ثَمَّ ستتوجه أنظار العالم إليها بوصفها قوة ذات قدرة حقيقية وفاعلة في حل مشكلات الدول. وستتراجع ثقة العالم بالولايات المتحدة الأميركية بوصفها قطبًا وحيدًا للنظام العالمي.
عنصر أمن لإسرائيل
ترى روسيا أنَّ وجودها في سورية سيشكل عنصر أمن لإسرائيل، إذ يرى المحللون أنَّ وجود قاعدة عسكرية روسية داخل منطقة علوية يسيطر عليها النظام السوري قد يؤدي إلى زيادة الاستقرار في المنطقة، ومنع مواجهة بين المحور الشيعي بقيادة إيران وإسرائيل. فبحسب صحيفة (يسرائيل هيوم): «هناك توافق تام بين روسيا وإسرائيل على الحاجة إلى إلحاق هزيمة بالجماعات الإسلامية العاملة في سورية، على اعتبار أنَّها ستهدد استقرار المنطقة بأسرها «.([8]) ومن جهة أخرى فإنَّ الوجود الروسي في الأراضي السورية، ومجاورتها حدوديًا الحليف الأول للولايات المتحدة الأميركية (إسرائيل)، سيكون رهانًا، ووسيلة ضغط على الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل مستقبلًا في القضايا التي قد تُثار في المراحلة المقبلة.
قاعدة شرق-أوسطية لروسيا
تُعد منطقة الساحل السوري في الجيوسياسية الروسية منطقة استراتيجية كثيرة الأهمية، ولا سيما القاعدة العسكرية في طرطوس، إذ تقع طرطوس في قلب ثلاثي مشكل بالنسبة إلى روسيا، فالميناء هو محوري في التعاون البحري الثنائي الروسي السوري، ويشارك في إعادة بناء النفوذ الروسي في البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وأخيرًا، هو جزء من منطق شامل، وعلى المدى الطويل مكان مناسب للاستثمار في المحيط العالمي من البحرية الروسية.([9]) وتجدر الإشارة إلى أنَّ الوجود الروسي في سورية لا يقتصر على قاعدة طرطوس بل يشمل التزويد بالأسلحة والمعدات الثقيلة والخبرات العسكرية المتنوعة في كثير من المناطق الأخرى.
إذ تُعد قاعدة طرطوس مرفقًا روسيًا استراتيجيًا طويل الأمد. وبموجب اتفاق بين البلدين عام 1971، يستضيف ميناء طرطوس قاعدة روسية للإمداد والصيانة من المرحلة السوفياتية، شُيدت في أثناء زمن الحرب الباردة، لدعم الأسطول السوفياتي في البحر الأبيض المتوسط. وقد وافق رئيس النظام السوري بشار الأسد عام 2008 على تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة ثابتة للسفن النووية الروسية في الشرق الأوسط. ومنذ 2009 ظلت روسيا تُحدث القاعدة وتوسع الميناء حتى يستطيع استقبال سفن عسكرية أكبر حجمًا. ([10])
منطقة عملياتية لضرب (الجهاديين والمتطرفين) لضمان ألا ينتشروا في روسيا
من الوجهة الدينية ترى روسيا (ولا سيما الكنيسة الأرثوذكسية) أنَّ حماية المسيحيين في سورية أمر واجب، وبخاصة أنَّ تنظيم داعش أعّدَمَ في أكثر من مرة مواطنين مسيحيين سوريين، ونقلت إدارة الصحافة في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية عن بطريرك موسكو وعموم روسيا؛ البطريرك كيريل، مباركته لقتال القوات الروسية في سورية قائلًا إنَّه يأتي بهدف «حماية الشعب السوري من العلل التي جلبها تعسف الإرهابيين»، مضيفًا أنَّ ما وصفه بـ (الشعب الأرثوذكسي) لاحظ «عددًا من حوادث العنف ضد المسيحيين في المنطقة». ونقلت قناة (روسيا اليوم) الحكومية الروسية عن مصدر رفيع المستوى في الكنيسة هو فسيفولد شابلين قوله إنَّ القرار الروسي يأتي «لحماية الضعفاء، مثل المسيحيين في الشرق الأوسط، الذين يتعرضون لحملة إبادة» على حد قوله مضيفًا: كل حرب ضد الإرهاب هي حرب تتمتع بميزة خلقية، ويمكن حتى تسميتها بحرب مقدسة على حد قوله.([11]) إضافة إلى ذلك لا تخشى موسكو من الجهاديين في تنظيم داعش فقط داخل سورية، بل تخشى وصولهم إلى المسلمين في بلادها، حيثُ تصل نسبة المسلمين الآن في روسيا إلى20 في المئة من سكان روسيا البالغ عددهم 140 مليونًا، ثم إنَّ عدد المساجد في روسيا وحدها ازداد عشرة أضعاف من 500 في ثمانينيات القرن الماضي إلى ستة آلاف عام 2015. ([12])
وهُنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ روسيا لا تفرّق بين الجهاديين والإرهابين ولا بين المسلحين والمدنيين، فالضربات الجوية التي تنفذها الطائرات الروسية منذُ تدخلها في سورية، وحتى الآن، لم تفرّق بينهم، وما حدث مؤخرًا في مدينة حلب وريفها أكبر دليل على ذلك، من حيثُ عدد الضحايا المدنيين، وحجم الدمار الهائل للمباني والمستشفيات.
كابح لجماح الطموحات التركيّة
سورية في الجيوسياسية الروسية هي منطقة لكسر الرغبة التركيّة (جارتها على البحر الأسود) في إنشاء منطقة عازلة شمالي سورية، وهذا ما لا ترضاه روسيا التي تستغل الورقة الكُرديّة للضغط على تركيا.
خسارة سورية جيوسياسيًا تعني بدء خسارة إيران جيوسياسيًا
تستند الحسابات الروسية في دعم النظام السوري إلى قراءات وحسابات جيو- استراتيجية، إذ ترى موسكو أنَّ إسقاط نظام الأسد يعدّ مقدمة لإسقاط النظام الإيراني، وهو خسارة استراتيجية كبرى لروسيا، بحيثُ تفقد حليفتيها الوحيدتين في منطقة الشرق الأوسط. وسيؤثر ذلك في الدور الذي تطمح روسيا إلى الاضطلاع به من جديد، بوصفها قوة رئيسة في التوازنات الدولية الجديدة. ([13])
ثانيًا: موقع كُرد سورية في الجيوسياسة الروسية
لا يخفى على المحللين ومتابعي التغيرات الميدانية السورية موقع الكُرد في الجيوسياسة الروسية، فالمناطق الشمالية من سورية معظمها اليوم بيد قوات سورية الديمقراطية، وتعد وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة ذات الأغلبية الكُرديّة عمادها في التحرك ومواجهة تنظيم داعش.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ كُرد سورية موزعون في ثلاث فئات:
1- المستقلون.
2- أحزاب المجلس الوطني الكُردي المنضوية تحت سقف الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، يحضرون المؤتمرات الدولية (الآستانة، جنيف)، ولا يتمتعون بعد بسيطرة فعلية على الأرض.
3- حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتمتع جناحه العسكري (قوات حماية الشعب، وقوات حماية المرأة) بسيطرة فعلية على الأرض، وتصر روسيا على حضورهم الاجتماعات والمؤتمرات السياسية، وهم نفسهم الذين تدعمهم قوات التحالف الدولي.
فروسيا اليوم تنظر إلى كُرد سورية (بخاصة الفئة الثالثة) في تعاملها معهم بوصفهم قوة لا يمكن تجاهلها أو الاستهانة بها في معادلة الصراع السوري انطلاقًا من عدة استراتيجيات أكثرها أهمية ما يأتي:
أ- في حال قسمت سورية (فدرالية)، فإنَّ المناطق الخاضعة للسيطرة الكُرديّة ستكون بالتأكيد مناطق مجاورة وملاصقة لمنطقة الساحل السوري. فمنطقة الساحل ستكون لروسيا البوابة الشرقية، والمناطق الخاضعة للسيطرة الكُرديّة ستكون البوابة الغربية.
ب- المناطق الخاضعة للسيطرة الكُرديّة تشكل طريقًا آمنًا يمكن من خلاله الاستفادة من النفط والغاز في المناطق الشمالية الشرقية بخط أنابيب يمتد من الأخيرة باتجاه الساحل السوري للتصدير، ولا سيما أنَّ كُرد سورية يشكلون جزءًا مهمًا من معادلة حرب الطاقة. حيثُ تقع معظم الاحتياطات السورية من النفط (تقدر بـ 2.5 بليون برميل) في الشمال الشرقي الذي يسيطر الكُرد على جزء منه، إضافة إلى ذلك فإنَّ مناطق نفوذ الكُرد تتقاطع مع المناطق المحتملة لعبور خطوط النفط والغاز منها مستقبلًا. ونظرًا إلى الموقع الجغرافي المهم الذي يحتله الكُرد، فإنَّ أهمية التفاوض معهم لا تقل أهمية عن مصير نظام الأسد نفسه، ولا سيما أنَّ نموذج كُردستان العراق بتجاربه في مجال الطاقة تلوح في الأفق. ([14])
ج- القوات الكُرديّة المقاتلة في المناطق الشمالية هي أكثر القوات قبولًا عند روسيا بعد قوات النظام السوري. ثم إنَّها قوة غير دينية وغير جهادية، لذلك فهي تلقى القبول من روسيا. ومن هنا ثمة محاولات روسية عدة للتقريب بين حليفها (النظام السوري) والكُرد، فوجود قوتان مواليتان لروسيا سيعني لها سيطرة كبرى على الوضع السوري. فقد قال وزير الخارجية الروسي لافروف في حديث لصحيفة (إزفيستيا)، مجيبًا عن سؤال حول توسط روسيا بين الحكومة السورية وأكراد سورية؛ قال إنَّ 4 جولات من الاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين دمشق والأكراد أجريت بالوساطة الروسية، في ما بين حزيران/ يونيو وكانون الأول/ديسمبر من العام 2016.
4- كُرد سورية ورقة إقليمية للضغط على تركيا؛ تحاول روسيا استخدام الورقة الكُرديّة في البعد الإقليمي للصراع وتحديدًا مع تركيا التي أعلنت مرارًا رفضها إقامة أي كيان كُردي في شمال سورية، فهذه الورقة موجعة لتركيا، ما لم تقدم تركيا على تنازلات لروسيا في الحرب السورية التي أصبحت قضية استراتيجية للسياسة الروسية في الشرق الأوسط. إذ تكمن قوة العلاقات بين روسيا والقوات الكُرديّة في العداء المُشترك لتركيا، وتأجج ذلك العداء مع روسيا، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، في إثر إسقاط تركيا طائرة روسية (اخترقت المجال الجوي التركي) بحسب الرواية التركيّة التي نفتها روسيا، وهو العداء المُشتعل في الأساس بين تركيا والأكراد، وبدأ مُنذ حوالي أربعة عقود.
النتائج
في ضوء قراءتنا السابقة يمكن أن نبرز مجموعة من النتائج فيما يأتي:
1- سورية في جيوسياسية روسيا هي ثمرة سياسية واقتصادية وجغرافية لا بد من الاستفادة منها، وهي ليست وليدة سنوات الأزمة السورية، إنَّما ذلك يعود إلى العلاقات التبادلية لعقود من الزمن.
2- تستغل روسيا التوتر والاضطراب في علاقة سورية بالولايات المتحدة، فتسعى إلى تسجيل نقط قوة جديدة، وتحقيق موطئ قدم لها في سورية البعيدة عن الخندق الأميركي.
3- ليس بمقدور روسيا وحدها العمل على حل الصراع في سورية، فموسكو بحاجة إلى التنسيق مع واشنطن وعواصم إقليمية تمتلك جزءًا من مفاتيح الحل السوري.
4- أيًا يكن الهدف الحقيقي من الوجود العسكري الروسي المباشر في سورية، وبغض النظر عن طبيعة الدور الذي تؤديه موسكو، فإنَّ الأمور ذاهبة باتجاه مزيد من التعقيد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى حسابات الدول الإقليمية المنخرطة في سورية.
5- الدعم الروسي لسورية لا يأتي كيفما اتفق، إذ إنَّه ناشئ عن صراع سياسي وأيديولوجي حاد، لتحديد أسس اللعبة الدولية.
6- إنَّ التدخل العسكري الروسي في الصراع السوري خارج إطار الأمم المتحدة له نتائج كارثية على الأطراف المتحاربة جميعها في سورية، ونتيجتها أكثر فظاعة على الشعب السوري، وبخاصة أنَّ القصف الروسي لا يميز أبدًا بين المدنيين والإرهابيين، ولا بين المعارضة وتنظيم داعش، فتجدر الإشارة إلى أنَّ ثلث الضربات الجوية الروسية يشمل مناطق نفوذ داعش، في حين إن ثلثي الضربات يشمل مناطق سيطرة المعارضة السورية.
7- التدخل العسكري الروسي له نتائج خاضعة للتغيرات الميدانية والعسكرية والسياسية، ثم إنَّ كُرد سورية أمام تحديات جديدة بدخول الصراع مرحلة التدخل الروسي المباشر، فهم لا يستطيعون تجاهل روسيا، ولا يستطيعون تجاهل أي قوة أخرى تقاتل على الأرض السورية، إلا أنَّه لا بد من الإشارة إلى أنَّ روسيا ستحاول التقرب من الكُرد لإبعادهم عن مظلة قوات التحالف الدولي قدر الإمكان. وهنا يترتب على الكُرد أن يكونوا على وعي تام وحذر بألّا يتحولوا إلى أوراق في اللعبة الدولية فحسب، سواء من الطرف الأميركي أم الطرف الروسي. ثم إنَّ ضرورات المرحلة الحالية تفرض عليهم الابتعاد عن الصراعات الجانبية، والتركيز في توحيد القوى السياسية والعسكرية الكُرديّة كافة، لتحرير ما تبقى من المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم داعش.
الخاتمة
أظهر النظام السوري للعالم بأنَّه أكثر أنظمة الدول العربية قربًا من روسيا، لذلك ترى روسيا أنَّه لا بد من توظيف هذا القرب توظيفًا يحقق لها مصالح استراتيجية في الشرق الأوسط، ولا سيما أنَّ سورية الآن أصبحت في مفترق طرق.
ثم إنَّ روسيا اليوم باتت رقمًا صعبًا في معادلة الصراع السوري، وبات من المستحيل تجاهلها، فقد فرضت روسيا على كل من يريد أن يتحدث عن الشان السوري، أو يتدخل فيه أن يزور عاصمتها موسكو. فالأزمة السورية باتت على قمة جدول أعمالها اليومية، وهي تحرص على الرصد والمتابعة والتحرك على صعيد الشأن السوري.
إنَّ التدخل الروسي في سورية من شأنه إطالة أمد الحرب السورية، ولا سيما أن هذا التدخل يأتي منفردًا ومتعارضًا مع مصالح كثير من الدول الضالعة في الحرب السورية، وكانت نتيجته أن عانى الشعب السوري أكثر فأكثر.
ما تزال أطراف النزاع في سورية تحصل على الدعم والتمويل اللازمين لاستمرار صراع كل منها مع الآخر، فهناك تورط أميركي وخليجي وإيراني وتركي وإسرائيلي وروسي في الحرب السورية، ولكل من تلك الدول أجندتها الخاصة.
وبهذا التصرف العسكري الروسي إلى جانب التصرفات الإقليمية والعالمية اللامسؤولة سيكون لزامًا على الشعب السوري أن يتحمل فصلًا جديدًا من المعاناة.
([1]) وليد عبد الحي، «محددات السياستين الروسية والصينية تجاه الأزمة السورية»، مركز الجزيرة للدراسات، الرابط الإلكتروني:
http://studies.aljazeera.net/reports/2012/04/20124314543996550.htm
([2]) «داعش أعلن معاداته لروسيا منذ زمن طويل»، روسيا اليوم، الرابط الإلكتروني:
([3]) «تقرير: حدود التدخل العسكري الروسي في سورية.. وآفاقه»، موقع العربي الجديد، الرابط الإلكتروني:
([4]) عبد الرزاق بوزيدي، «التنافس الأميركي الروسي في منطقة الشرق الأوسط: دراسة حالة الأزمة السورية 2010- 2014»، أطروحة ماجستير في قسم العلوم السياسية، (الجزائر: كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة محمد خيضر، 2014- 2015)، ص 81.
([5]) وزارة النفط تعلن عن اكتشاف جديد للغاز في منطقة قارة بإنتاج حوالى 400 ألف متر مكعب يوميًا، أخبار النفط والغاز السوري، الرابط الإلكتروني:
وزارة النفط تعلن عن اكتشاف جديد للغاز في منطقة قارة بإنتاج نحو 400 الف متر مكعب يوميا
([6]) معتز علي محمد علي، «الصراع الأميركي الروسي في سورية، الأبعاد والأهداف»، مدونات الجزيرة، الرابط الإلكتروني:
([7]) Die Energieversorgung Europas soll in Zukunft über Syrien führen, web: https://goo.gl/IxnjRQ>
([8]) تقرير ساسة بوست، «كيف استفادت إسرائيل من التواجد الروسي بسورية؟»، موقع ساست بوست، الرابط الإلكتروني:
http://www.sasapost.com/russia-israel/
([9]) صلاح نيوف، «الشراكة العسكرية الاستراتيجية الروسية السورية: قاعدة طرطوس»، المركز الكُردي الألماني للدراسات، الرابط الإلكتروني: https://goo.gl/jVmN3G.
([10]) «المصالح الروسية في سورية»، الجزيرة نت، الرابط الإلكتروني: https://goo.gl/ntsxO1.
([11]) «الكنيسة الأرثوذكسية الروسية: الجيش الروسي يخوض حربًا مقدسة في سورية لحماية المسيحيين»، صحيفة شؤون خليجية، الرابط الإلكتروني:
([12]) Islam to become Russia’s predominant religion by 2050? Pravda.ru, The web: https://goo.gl/g7TmVr.
([13]) Margaret Klein, Russia’s Policy on Syria: On the Way to Isolation?, PDF Doc, The web:https://www.scpss.org/libs/spaw/uploads/files/Policy/03-30-2012_Russia’s_Policy_on_Syria_Klein.pdf
([14]) تامر بدوي، «ماذا تعني سورية بالنسبة لإيران جيو – استراتيجيًا؟»، نون بوست، الرابط الإلكتروني: