بدأنا نلحظ -في الآونة الأخيرة- تركيزًا كبيرًا، من قِبل الوسائل الإعلامية والمنصات السياسية المعارضة، على موضوعين اثنين، يتمثل الأول في التحذير من احتمال تعويم الأسد دوليًا، في حين يتطرق الموضوع الثاني إلى مسار الحلول والمفاوضات الدولية؛ وكلا الموضوعين يثير حفيظة وغضب جمهور الثورة، خصوصًا عندما يتمّ تسليط الضوء عليهما. وأعتقد أن التركيز اليوم على كلا الموضوعين يُسهم في حرف الأنظار وتضييع الوقت من دون أيّ جدوى، ويؤدي ذلك إلى إهمال النقاط الأساسية التي تحتاج إلى تركيز وتعبئة وتحريض، وإلى عمل شعبي ووطني سريع.
في ما يخص إضاعة الوقت، دعونا نتفق أن جزئية التعويم والحلّ الدولي، في ظل غياب الفعل الثوري المدني أو الشعبي، مرتبطةٌ بالتوازنات والمصالح الدولية فقط، ولا يملك الشعب السوري اليوم أيّ قدرة على التأثير فيهما، قبل استرجاع دوره النضال الثوري؛ إذ إننا نجد، بالنظر إلى تجارب الشعوب الأخرى، فلسطينيًا وعربيًا وعالميًا، أن الجهود النخبوية أو الفئوية المندرجة في نطاق ممارسة ضغط شعبي وإعلامي، على المجتمع الدولي الإقليمي والعالمي، ذات مردود محدود وهامشي، لا يتعدى النجاح في تأخير القرارات والتوجهات الدولية. ولدينا دروسٌ في هذا الخصوص من التجربة السورية، وبالتحديد في المرحلة التي سبقت الثورة، حيث حاول كثيرٌ من المعارضين والناشطين ممارسةَ ضغطٍ دولي متواصل، في المرحلة التي تلت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وكذلك الأمر بعد احتلال أميركا العراق، متعلقين بوهم التحرير عبر الخارج، وأميركا تحديدًا، من دون أن تؤدي جهودهم إلى إسقاط نظام الأسد من الحسابات الدولية والأميركية والصهيونية. في المقابل، نحج صمود وإصرار الشعب السوري الأعزل، في 2011، في إجبار الرئيس الأميركي أوباما على تغيير الخطاب الأميركي تجاه الوضع السوري، في آب/ أغسطس 2011، أي بعد بضعة أشهر من بدء الشعب ثورته والإصرار عليها، عندما صرّح أوباما بضرورة تنحي الأسد. وبغضّ النظر عن عدم جدية تصريح أوباما، وعن خطأ التعويل على الخارج، أيًا يكن، ولا سيما أميركا الآن، فإن سرد هذه الواقعة هنا يهدف إلى توضيح دور وأهمية الشارع في التغيير الداخلي والخارجي، فهو القوة الوحيدة القادرة على بعثرة جميع الحسابات الإقليمية والدولية، عندما يستعيد دوره السياسي والنضالي.
من كلّ ذلك، يبدو لي أن تعبئة الشارع السوري حول هذه المواضيع، على أهميتها، اليوم هو محض عبث، لأنها تعبئة في الموضع الخاطئ؛ حيث يجب أن تكون التعبئة حول تحقيق الأهداف الثورية الوطنية، المتمثلة في تغيير البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على الرغم من تراجع الفعل الشعبي راهنًا، ومن تصاعد حدة ودور القوى الخارجية، كونه رهانًا على المستقبل، بل على المستقبل القريب أيضًا، حيث يظهر من متابعة الأوضاع السورية مدى التدهور الحاصل، اقتصاديًا واجتماعيًا، ما يُسهم في إنضاج الأجواء الثورية، وفي تهيئة مناخ التعبئة السياسية الوطنية الجذري الساعي لبناء دولة وإطار سوري جامع، يلبي مطامح السوريين وأهدافهم. وبالتالي، يجب أن تتمحور الأولوية السورية اليوم حول تقديم الرؤى الاستراتيجية الاقتصادية والاجتماعية، التي تعكس شعارات الثورة الأولى، وتحاكي الأهداف الوطنية، في بناء دولة العدالة والمساواة لجميع أبنائها، تكون متطورة ومنتجة، صناعيًا وزراعيًا، وتناقض الدولة الأسدية.
لم تعد مقولة إزاحة الأسد كافية في إقناع السوريين بقدرتها على حلّ أزمات البلد المتلاحقة، وإن كانت شرطًا لا بدّ منه، بقدر ما بتنا بحاجة إلى طرح متكامل، يضع نظام الأسد في موقعه الطبيعي والحقيقي، كنظام قمعي وإجرامي لا يدّخر فرصة من أجل نهب ثروات سورية والسوريين، ويهمل قضاياهم اليومية والمعيشية والاستراتيجية. حيث تسهم ممارسات الأسد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في فتح نافذة ثورية جديدة، أو في إعادة فتح النافذة الثورية الوطنية، وهذا ما يمنح القوى الثورية فرصة جديدة، لتدارك الظرف الذي أتاح لقوى الثورة المضادة التحكم في مسار الصراع مع السلطة، ويعيد الأمل في استعادة الصوت الثوري الذي صدحت به حناجر السوريين قبل عقد من الزمن، ويفسح لها المجال لتوحيد المجتمع السوري سياسيًا؛ إذ لا يدخر نظام الأسد أي فرصة من أجل نهب المال العام والخاص، ولنا في عشرات القوانين والإجراءات مثال على ذلك، وعلى رأسها قرار البنك المركزي القاضي باعتماد سعر السوق السوداء من أجل دفع بدل الخدمة العسكرية، وكذلك من خلال فرض رسوم على السوريين الراغبين في الزيارة أو العودة إلى سورية. ولا يتوانى النظام عن التنكيل بأي صوت ينتقد النظام، بغض النظر عن موقعه الجغرافي وعن موقفه من نظام الأسد. وهذا يؤكد طبيعة النظام النهبية والقمعية المتأصلة، على اختلاف الزمان والمراحل والظروف، كما يؤكد طبيعة نقيضه وبديله، اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا. إذ لا يعني السوريين اليوم الحديثُ عن بديل ديمقراطي يتيح لهم الموت جوعًا بصخب، أو أن يملؤوا الساحات العامة صراخًا قبل موتهم مرضًا وسقمًا، بقدر ما تعنيهم الحياة الحرة والكريمة، الحياة التي انتفض جزءٌ من الشعب السوري من أجلها في 2011، وحان الوقت اليوم، أو في المدى المنظور، لاستكمال مشروعها، مشروع الحياة لا الموت، وهذا يقتضي التعمّق في هذه الجزئية وشروطها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.
بناء على ذلك؛ نقول إن الجوهر الأساسي اليوم هو توضيح التناقض الجذري، بين نظام الموت قمعًا أو جوعًا أو مرضًا من ناحية، وثورة الحياة الكريمة اقتصاديًا واجتماعيًا والحرة والعادلة سياسيًا، ولذلك لا بدّ من تقديم أفكار ورؤى وبرامج، تتحدث عن حلّ مشكلات سورية الاقتصادية والاجتماعية، بما يتجاوز الأسطوانة المشروخة التي دأبت قوى المعارضة على تكرارها حول الديمقراطية، وكأنها أزمة السوريين الوحيدة، طبعًا الديمقراطية شرطٌ جوهري في طبيعة النظام الوطني مستقبلًا، نظام ما بعد نجاح الثورة، لكن يجب إعادتها إلى موقعها الطبيعي، كجزء من كلٍّ أوسع وأشمل، يتناول طبيعة العلاقات الاقتصادية وموقع الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وماهية الحقوق الفردية الاقتصادية والاجتماعية، دون إهمال الحقوق السياسية طبعًا. وهو موضوع كبير وشائك، لن أخوض فيه الآن كي لا يطول الحديث، على أن أعود إليه قريبًا، وسأكتفي بالإشارة إلى ضرورة التمييز بين دور الدولة السياسي ودورها الاقتصادي والاجتماعي؛ فالأول يجب ضبطه وتقييده وإخضاعه لسلطة الشعب والسلطات التشريعية والقضائية المستقلة والفاعلة، في حين يحتاج الثاني إلى استعادة لمفهوم الدولة ومسؤولياتها تجاه مواطنيها وسكانها، ضمن حدود وأطر دستورية ومحاسبية، تَحول دون طغيان المصلحة والرغبة الفردية على حساب المصلحة الوطنية العامة، وتضعها في خدمة استراتيجية تنموية وتطويرية وطنية بعيدة المدى. هنا لبّ الموضوع وجوهره الذي يمكّننا من استعادة روح الثورة، ويزيد زخمها ويوسع قاعدتها الاجتماعية، ويمنحها قوة تنظيمية وسياسية افتقدتها كثيرًا على امتداد العقد المنصرم.