انتهت “داعش” عسكريًا، أو هي تنتهي، بعد أن انكمشت من “دولة” إلى جيوب مبعثرة، فيما تجتهد “جبهة النصرة” الجهادية في التحوّل -برنامجيًا وسياسيًا- إلى تنظيم غير جهادي، ينسجم مع المعايير السياسية العالمية، ويكون قابلًا للاندماج في مستقبل سورية والمنطقة.
ذهبت ريح “الدولة الإسلامية” قبل وقت غير قصير من معركة الباغوز الأخيرة (آذار/ مارس 2019)، ويكاد يطويها النسيان اليوم. المبدئية الجهادية الصارمة التي كانت السبب في صعود “الدولة”، في فترة المد الجهادي، كانت السبب في تحطمها العسكري وأفولها اللاحق. أما “جبهة النصرة”، على العكس من تنظيم البغدادي، فقد وضعت نفسها، منذ البداية، على سكة أكثر مرونة، وقد ساعدها ذلك في عبور المراحل والبقاء إلى اليوم. على هذا، تعرِض “النصرة” سبيلًا آخر، غير السبيل العسكري، لتراجع التيار الإسلامي الجهادي في سورية، وتحوّله الفكري والسياسي عبر سنوات الصراع التسع الماضية.
بدأ مسار “النصرة”، منذ آب/ أغسطس 2011، حين أرسل البغدادي تلميذه الجولاني ليمهّد له في الشام، فلم يشأ الأخير أن يكون نسخة عن الأول، وبنى الجبهة ببعد سوري، من حيث ميدان النشاط، مركزًا على البيئة المحلية، وعلى قتال “العدو القريب”. وانفصل الجولاني عن تنظيم البغدادي، في نيسان/ أبريل 2013، مستغلًا محاولة الأخير الاستقلال عن القاعدة. هكذا أصبحت “النصرة” فرعَ التنظيم العالمي (القاعدة) في سورية. بعد أكثر من ثلاث سنوات بقليل، تموز/ يوليو 2016، يبتعد الجولاني أكثر عن النمط الجهادي العالمي، ويعلن انفصاله عن القاعدة. وإذا كان التزامه بالقاعدة قد فتح له باب الدعم، بالمال والكوادر والأنصار الجهاديين العالميين؛ فإن الجولاني خفف من آثار انفصاله الذي كان يمكن أن يتسبب في انشقاقات واسعة، سواء لمصلحة “الدولة” أو لمصلحة تنظيم آخر تعتمده القاعدة فرعًا لها في سورية، بأن أنجز انفصالًا وديًا جاء على شكل توجيه أو إذن من المركز بالانفصال، تغليبًا لمصلحة المجتمع على الأفراد، و”بما يحفظ مصلحة الإسلام والمسلمين ويحمي جهاد أهل الشام”، كما جاء على لسان أحمد حسن أبو الخير، نائب الظواهري في قيادة القاعدة.
على هذا الخط، تحوّلت “النصرة” إلى تنظيم إسلامي محلّي، على غرار التنظيمات السورية الأخرى، لا يكف زعيمه عن التأكيد أنه ليس على علاقة بأي جهة خارجية، وأنه لا يستهدف المصالح الأميركة خارج سورية، وجعله ذلك يتطلع إلى رفع اسم تنظيمه عن لائحة الإرهاب. غير أن مرونة التنظيم الفكرية والسياسية كانت تسمح له بالتعامل، حتى مع الدول التي تصنفه على قائمة الإرهاب. ومع تراجع المد الجهادي في سورية، تجد “النصرة” لديها ما يكفي من المرونة والقدرة للتماشي مع الطلب العالمي المتزايد على “الاعتدال”. هكذا أصبح الجولاني يتكلم بلغة التحرر الوطني والاستقلال، دون أن ينسى استثناء أميركا من قائمة المحتلين لسورية. الجولاني اليوم رجل آخر لا يشبه ذاك “الجهادي” الخطير الذي يخفي وجهه، ويضع نفسه وتنظيمه في وجه العالم، فقد بات يخرج إلى السوق بلباس عصري ويلاعب الأولاد ويشارك البائعين في أعمالهم، وربما لا يكون بعيدًا ذلك اليوم الذي نجد الجولاني فيه بلا لحية أو بلحية عصرية على الأقل.
مع هذه التحولات، كان التنظيم يتخلص من الكوادر والعناصر الأكثر تشددًا الذين سوف يجمعهم تنظيم صغير “حرّاس الدين”، يكون فرعًا لـ “قاعدة الجهاد في الشام”، التنظيم الذي يأتي إلى “الجهاد” في سورية، فيما الناس عائدة منه.
مع اقتراب نضج مشروع الحل السياسي في سورية، يخفّ الطلب على الجهاديين، ويكثر الطلب على المعتدلين التسوويين. هذا الدرس يفهمه الجولاني، ويستجيب له في المرونة السياسية من جهة، وفي تعزيز حضوره عبر زيادة السيطرة على الأرض، على حساب التشكيلات الأقل قوة، وعبر تعزيز قواه الأمنية وتوفير قوته العسكرية، بتجنب الاشتباكات المكلفة من جهة أخرى. خط تحول النصرة، والحال هذه، هو الانتقال من كونها عنصرًا في عملية تغيير، إلى كونها عنصرًا ملائمًا للانخراط في “نظام”.
لم يعد الإسلام الجهادي (الذي تجسد سابقًا في “النصرة” و”داعش” ويتجسد اليوم بتنظيمات أقل قيمة بكثير) هو الحاضر الأبرز في سورية. ومع ذلك، لم يخرج الصراع من عبثيته وتشتته عن محوره الرئيسي، بوصفه صراعًا لاستعادة الدولة السورية وتحريرها من التماهي مع السلطة الحاكمة. التراجع الجهادي لم يواكبه تقدم أو زيادة في وزن القوى التي تعبر عن الوطنية السورية ذات العمق الديمقراطي، كما لم يواكبه تحرر من الوهم الذي غزاه نظام الأسد بأنه يحارب الإرهاب والتطرف الإسلامي.
كان الإسلام الجهادي ذريعة النظام، في شن حرب شاملة ضد كل معارضيه، وكان أيضًا السبب المعتمد كتفسير لضعف فاعلية الوطنيين والديمقراطيين السوريين. غير أن الصراع السوري لم يتبلور، بالرغم من تراجع حضور الجهادية الإسلامية في الميدان، بوصفه صراعًا ذا وجهه وطنية عامة، فلا حضور مؤثرًا لطرف وطني سوري عام في الصراع السوري اليوم.
من ناحية أخرى، لم يغيّر التراجع الجهادي من الموقف الدولي إزاء الصراع في سورية. قبول نظام الأسد، على خلفية رفض الشبح الجهادي المتنامي في فترة ماضية، حلّ محله مساندة نظام الأسد، كجزء من صراع قوى دولية ذات حلفاء محليين. وفي محل القوى الجهادية التي ضعفت، وباتت في طريقها إلى الزوال، حلت قوى محلية بلا منظور وطني، وفارغة من الفكر والسياسة، وتستمد حضورها من كونها تتبع ليد خارجية.
قد يقول قائل: إن القوى الجهادية، حين حُطّمت عسكريًا أو أُجبرت على خلع ثوبها الجهادي، كانت قد دمّرت كل ما هو ثوري في الثورة؛ أو يقول إن الجهادية ما كانت لتتمكن في الأصل، لولا الهشاشة في بنية الثورة نفسها وفي وعيها لذاتها؛ أو يقول إن المشكلة ليست في الجهادية ولا في غيرها، بل في وحشية النظام في دفاعه عن نفسه واستخدام كل ثقل الدولة لسحق أعدائه، وهذا لا يترك مجالًا لتبلور قطب وطني سوري في أي حال؛ أو يقول إن بنية المجتمع، بتخلفه الاقتصادي وفقره وتشتت نخبه في ظل استبداد مديد، لا تحتمل تغييرًا ديمقراطيًا، وكذلك يمكن أن يقول إن التكوين السياسي العالمي المتصلب والمأزوم عاجزٌ عن استيعاب تغييرات ديمقراطية في محيطه.
ولكل الأقوال السابقة ما يسندها، لكن ما يمكن استنتاجه أن ضعف التكوين الوطني والديمقراطي، في الثورة السورية، لا يعود أساسًا إلى سيطرة الإسلاميين، ولعل العكس أقرب إلى الصواب.