الكاتبة: إيليف شافاق
روائية تركية وأستاذة محاضرة في مادة الدراسات والأجناس في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة.
ولدت في ستراسبورغ (فرنسا) لوالدين هما الفيلسوف نوري بيلغين وشافاق أتيمان التي أصبحت دبلوماسية في ما بعد. انفصل والداها عندما كان عمرها سنة فربتها أمها. وتستخدم اسمها الأول واسم أمها اسمًا أدبيًا توقع به أعمالها.
أمضت طفولتها وصباها متنقلة بين مدريد وعمان وكولونيا (ألمانيا) قبل أن تعود إلى تركيا، وهاجرت إلى الولايات المتحدة لتواصل دراستها أولًا، ثم بعد ذلك لتشغل منصب أستاذة محاضرة في جامعة أريزونا.
تحمل شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة الشرق الأوسط التقنية في تركيا، وتحمل شهادة الماجستير في “الجندر والدراسات النسوية” والدكتوراه في العلوم السياسية من الجامعة ذاتها.
نالت جائزة من “معهد علماء الاجتماع” عن طروحتها لنيل الماجستير في موضوع الإسلام والنساء والتصوف.
نشر لها 12 كتابًا، ثمانية كتب منها روايات باللغتين التركية والإنكليزية.
منذ ثلاث سنوات مضت وفي طريق عودتي من مطار هوغ في روتردام على الخطوط التركية وقفت أنتظر دوري لتفتيش الحقائب، كنت مرهقة ويتملكني شعور بالخوف والميل إلى الانكفاء.
كنت قد انتهيت للتو من إلقاء كلمة الافتتاح في مهرجان ثقافي عالمي عن (الخوف)؛ الخوف من العولمة، والإرهاب، واللاجئين، والتبدل البيئي وما إلى ذلك.
أمامي كانت تقف عائلةٌ مع ثلاثة أطفال: فتاتان لهما قصة شعر واحدة وترتديان ثوبين متماثلين، وفتىً يبدو كأنه صورة مصغرة عن رجل التحري (هيركل بوارو) ببزته البنية وربطة العنق المعقودة.
كانت الأم تطعم صغارها بوريك (معجنات محشوة بالجبن) بينما كان الأب الذي بدا في منتصف العمر منهمكًا في حديثٍ طويل مع مسافرٍ آخر، وفجأةً رفع المسافر يديه مستاءً وهو يقول: أوه هذا جنون، ما الذي فعلته بك؟.
لا أذكر ما الذي أثار فضولي أكثر أهي كلمة (جنون) أم الحركة الدرامية التي قام بها؟ وبدأت أسترق السمع إلى حديثهما.
كان الأب يشرح أنه في كل مرة يركض فيها الأولاد في البيت أو يصدرون أي صوت كانت المرأة الهولندية التي تسكن في الطابق السفلي تتصل على الفور بالشرطة، ولدهشته كانت الشرطة تأتي على الفور بسياراتها والأضواء تدور فوقها، وصفارات الإنذار تدوي كما لو أن هناك تهديدًا للأمن القومي.
«لو كان الأمر سهلًا لكنا بدلنا سكننا»، تابع الرجل، كنت أعود كل مساءٍ إلى بيتي منهكًا، وكان أي صوت صغير يوترني، ما من راحة بال، كنا نتحدث همسًا ونسير على رؤوس أصابعنا وكأننا لصوص تعساء.
ما بالها جارتك؟ سأل المسافر الآخر وكان رجلًا ذا عينين عسليتين وشاربٍ معقوف، وهل تتوقع منك أن تربي أولادك في حوض سمك؟.
ساد صمت، نوعٌ من تفاهمٍ متبادل، تضامنٌ صامت. قطع الرجل الآخر الصمت وهو يتمتم وكأنه يحدث نفسه: «أتدري، أنا لا أفهم أبدًا كيف أن أولادهم هادئون ومنضبطون بهذا الشكل».
(نعم) رد الأب المنزعج، وفجأةً لان صوته، وقال: «الأطفال الشقر لا يبكون أبدًا».
تقدم الصف، واستلمت حقائبي. ودفع صخب المكان والفوضى الاعتيادية التي تستقبلني في إسطنبول لدى وصولي بحديث الرجلين إلى ذاكرة هامشية.
ولكن تلك الجملة ظلت تلازمني، وصرت أقلبها في ذهني، وأحاول إدراك ما الذي كانا يعنيانه بها، وأخذت أتأمل فكرة سعادة الأطفال الشقر.
يعدّ هايدغر ([1]) أن القلق هو جزء مكمل وأساس في طبيعة الشرط الإنساني. وعبر الطيف الواسع للمشاعر والعواطف كان القلق هو الذي يعكس جوهر وجودنا، وهشاشتنا، وفنائنا. والقلق كما عرفه هايدغر يختلف تمامًا عن الخوف، فالأخير هو غالبًا خوفٌ من أحدٍ ما أو شيء ما سواء كان شيئًا ملموسًا أم فكرة لا عقلانية. والشخص الذي يعاني القلق بعكس الذي يستحوذه الخوف يصعب عليه تحديد سبب واضح لحالته الذهنية.
ولذا فالقلق هو في أحسن الحالات شعور مخادع وفي أسوأها محض مشاعر مبهمة.
يقول هايدغر: «يعطي القلق الصريح الذي يعيشه الإنسان لتجربة الوجود غموضها. تكمن القدرة على الدهشة تجاه الحياة من كون القلق يقف جنبًا إلى جنب مع الرعب من الهاوية».
يتجاوز هذا القلق الثقافات، ويكمن غموضه في صميم وجودنا في هذا العالم. ومع ذلك، فبقدر ما هو جوهري وعام يمكننا أن نفترض أن هناك مراحل في حياة الإنسان يتفاقم فيها هذا الشعور. أي بكلماتٍ أخرى «عندما يتفاقم الرعب من الهاوية».
وإذا كان الحال كذلك فإن الهجرة والابتعاد عن الوطن الأم وعن الأحبة، والانتقال إلى أمكنةٍ جديدة، والتعرض لثقافةٍ غريبة حيث كل شيء يبدو غير مألوف، البدء بحياة جديدة من الصفر، هذا كله يعرض المرء للوقوع في تلك الحالة المتفاقمة من القلق.
يقول الكاتب اللبناني أمين معلوف في مذكراته (أصول): «لطالما هاجرنا من بلادنا، ودائمًا لو اختلفت الأسباب تلازمنا مشاعر الأسف. غالبًا ما تنتاب الذين يتركون بلادهم ويهاجرون مشاعر مختلفة من الندم والحنين والتشويش والتوقع وعدم الأمان، مشاعر لا يمكن تحديد سبب واضح لها».
أدهشني دائمًا أن أجد مهاجرين من الجيل السابق هرموا بعد أن حققوا نجاحًا، وعاشوا حياة كريمة، وتأقلموا تأقلمًا كاملًا مع بيئتهم الجديدة، ولكنهم ظلوا مطاردين بتلك الحالة القديمة من القلق بعد مرور ثلاثين أو أربعين سنة. إنها حالة قد لا يشاركهم إياها أولادهم أو أحفادهم وقد يجدونها صعبة على الفهم. أذكر تمامًا صاحب دكان أرمني قابلته مصادفةً بينما كنت في سان فرانسيسكو أكتب روايتي (لقيطة إسطنبول)، تحدثنا طويلًا عما هو مشتركٌ بيننا: مطبخنا، وأمثالنا الشعبية، وتاريخنا المؤلم، وأغانينا الفولكلورية المتشابهة بألحانها الحزينة التي قد تختلف كلماتها قليلًا. وكيف أن كلًا من الأرمن والأتراك غالبًا ما يبدؤون سرد قصتهم بجملة: كان يا مكان، أو كان وما كان.
ولد هذا الرجل في إسطنبول، وهاجر إلى أميركا عندما كان فتيًا في الثلاثينيات من القرن الماضي، تزوج هناك، وكانت حياته ناجحة ومزدهرة ومع ذلك فقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يتحدث عن بيته في إسطنبول، وقال لي:
«هل تعرفين لماذا لم أذهب أبدًا لزيارة مدينتي القديمة؟ لأنني لو رحتُ لما عدتُ أبدًا إلى أميركا، كنت سأبقى لأموت وأدفن هناك أحبها كثيرًا. أولادي لا يفهمون ما الذي يعنيه هذا الكلام إنهم أميركيون خُلَّص وما الذي يعرفونه عن حبٍ من طرفٍ واحد».
يبقى المهاجر سواءً كان جريئًا أم خجولًا، ممثلًا أم متفرجًا في مسرحٍ التغيير الذي يسبب الدوار، يبقى وجودًا مجزأً يحمل أشباح ماضيه حيثما يذهب. وبازدياد حدة التناقضات في مجال العمل لدى الدولة المضيفة يصبح استقبال الغرباء أكثر حِدةً وسلبيةً، ما يزيد التمزق الداخلي للوافدين الجدد.
على المهاجر أن يهيئ نفسه كل يوم لتحمل حصته من الإهانات. عليه أن يقبل أن الحياة تعامله بقلة احترام وأنه سوف يصفع ويدفع بعدم اكتراث.
إن التهجير والاغتراب يؤديان إلى مزيد من القلق.
طِوال حياته كان (كافكا) أحد الكتاب الذين استحوذتهم فكرة القلق ولد في براغ لعائلةٍ يهودية تتحدث الألمانية، كان فردًا من جماعة منفية يتقن لغتين، ومع ذلك لم يكن يشعر أبدًا بأنه ينتمي إلى وطنٍ في أي مكانٍ يذهب إليه. كان محكومًا بالحزن والأسى منذ صغره. شهد دمار الحي اليهودي في المدينة، وربما لم يشعر أبدًا بالأمان على أي أرضٍ داس عليها. يقول في رسالة كتبها بعد سنوات لمينا جيوسيسنكا:
«…. وماذا بعد، قد يكون كل منا متزوجًا، أنت في فيينّا، وأنا متزوج من خوفي في براغ، وليس أنت فقط، وإنما أنا أيضًا أحاول عبثًا تحقيق وجودنا معًا». وإذا نظرنا إلى هذا الكلام من خلال سياقٍه التاريخي فسنجد أن كلًا من الافتقار إلى الاستمرارية والاستقرار والأمان لازم تجربة المهاجر في كل مكانٍ وزمان وكان لها دورها في تفاقم قلقه.
ومع ذلك فإنه من المؤكد أن أحد أسباب الرحيل هو محاولة التقليل من القلق. فالناس ترحل إلى أرضٍ أخرى ليس سعيًا وراء المال أو العمل أو الدراسة أو الحرية فحسب، فخلف مسعاهم لتحسين حياتهم يكمن بكل بساطة الأمل بأن يكونوا سعداء. ولكن ما السعادة على وجه الدقة؟ إنه مفهومٌ تعريفه ليس بالسهل، ويستحيل قياسيه قياسًا موضوعيًا.
في كتابه (قلق الحضارة) يفسر فرويد «أن السعادة مسعى مشترك لدى كل الناس» ما الذي يطلبونه من الحياة ويتمنون إنجازه فيها؟. الجواب على هذا السؤال لا يمكن أن يكون موضع شك. إن الناس تسعى وراء السعادة إنهم يريدون أن يكونوا سعداء وأن يبقوا كذلك ومع أن الرغبة في أن يكون المرء سعيدًا، وأن يكون أولاده سعداء هي سمة مميزة للبشر، فإننا لا ننجح جميعًا بأن نشعر فعلًا بالسعادة ولو حتى ضمن الأوضاع نفسها.
لكل منا عتبة مختلفة للسعادة، وبحسب ما تقول (سيمون دبوفوار) في كتابها الجنس الآخر: إنه ليس من الواضح تمامًا ما الذي تعنيه كلمة سعيد، وأقل وضوحًا القيم الحقيقية التي تكمن وراءها. ليس هناك إمكان لقياس سعادة الآخرين، ومن السهل دائمًا أن نفترض أن أحوال الآخرين أكثر سعادة. ما يهمني في هذه الدراسة ليس معيار السعادة، وإنما مفهوم السعادة وتحديدًا المفهومات الثقافية. وعلى وجهٍ أدق فإن كل ما يحفزني هو الظن بأن الغربيين هم عمومًا أكثر سعادة من غير الغربيين.
قيل وكتب كثير حتى يومنا هذا عن الأسباب الاقتصادية التي تكمن وراء تفاقم الهجرة في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وحُللت بعمق المظاهر الدينية والاجتماعية والسياسية. أقلياتٌ تهرب من التمييز والتعصب، أفرادٌ يبحثون عن لجوءٍ سياسي، عمالٌ بحاجة إلى عملٍ وسكن، إضافة إلى هذه العوامل هل يمكن «لسعادة الشعوب الشقر» أن تكون دافعًا لهجرة مستمرة واستنزافٍ للعقول وقاعدةً لها؟ هل يمكن لاختلاف مستويات السعادة في أماكن عدة من العالم أن يسهم في الرحيل والاستقرار الذي يجري اليوم؟.
خلال سفري شرقًا وغربًا غالبًا ما واجهت اعتقادًا سائدًا بأن سكان عالم الغرب هم عمومًا إن لم يكونوا أكثر سعادة وأكثر حظًا فهم على الأقل يعانون مشكلات أخف وطأة مما يعاينه سكان الشرق. إن حالةً مشتركة من الرفاهية سواءً كانت حقيقية أم متخيلة مقترنةٌ بالناس في أوروبا وكندا والولايات المتحدة. فهم بدايةً غير مضطرين إلى التعامل مع الحروب الأهلية أو مع ملوك الحروب أو النزاعات القبلية أو الفقر أو الفساد أو انتهاك حقوق الإنسان أو الاستبداد أو الجفاف والهزات الأرضية الكبرى. إذا كان للحياة والقدر دور بحسب ما تقول الادعاءات فإن الحياة في الغرب تعدّ أكثر بساطة والقدر أقل قسوة.
هناك من جهة أخرى ادعاءٌ معاكس وراسخ بعمق: وهو أن الحياة في الشرق هي أكثر صدقًا وأقل زيفًا وانحلالًا مما هي في الغرب، وبأن المجتمعات الغربية شديدة الفردانية ومتفرقة بحيث إنهم يفتقرون إلى الروابط الاجتماعية والعلاقات العائلية الكافية لدعم الإنسان عند حاجته إلى الآخر. هذا أيضًا جدلٌ منتشر اليوم في كلٍ من وسائل التواصل الاجتماعي ولغة الخطاب اليومي. التقيت في الأردن في أواسط عام 1990 بسيدةٍ متزوجة نصف تركية ونصف شركسية أخبرتني أنها تشفق على النساء في الغرب لأنهن تحولن إلى محض غرضٍ للجنس، وتابعت تقول: «ولهذا هن يخفن كثيرًا من كبر السن، فهن عندما يخسرن جمالهن يخسرن كل شيء». وعندما سألتها عن رأيها بالعائلة في الغرب أجابت: «إنهم يطردون أولادهم من البيت في سن الرابعة عشرة، لا عجب أن هؤلاء الأطفال سيتحولون إلى مدمني مخدرات وما إلى ذلك. نحن لسنا كذلك. العائلة هي كل شيء بالنسبة إلينا. نحن نموت لأجل عائلاتنا. ولذا وعلى عكسهم لا ينتهي الأمر بنا إلى الكآبة».
وأيضًا قابلت طالب في الثانوية بأنقرة خلال أمسية أدبية قال الشيء نفسه وإنما بطريقةٍ مختلفة قليلًا:
«إذا كنت شابًا فمن الأفضل أن تعيش في الغرب، أما إذا كنت كبيرًا في السن فمن الأفضل أن تكون في الشرق، لأننا نحترم كبار السن بينما هم لا يفعلون. رأيت في أوروبا نساءً عجائز يشترون قطعة كوسا واحدة وجزرة واحدة وقطعة بندورة واحدة وحزمة بقدونس. هل سبق ورأيت امرأة مسلمةً تفعل ذلك؟. لا! نحن دائمًا نشتري كيلو على الأقل إن لم يكن أكثر لأننا نطهو للعائلة بأكملها».
بينما كنت أكتب روايتي الأخيرة (شرف) حالفني الحظ بلقاء عائلات تركية وكردية مهاجرة في مدنٌ أوروبية عدة. وتحدثت مع أفرادٍ من الجيل الأول والثاني والثالث، تفهمت قصصهم، واحترمت كونهم يتحفظون على ذكر بعضها، مع أنني كنت مندهشة في الوقت نفسه من الكم الذي شاركوني به. لقد تبدلت بنية عائلاتهم كثيرًا، وكان لديهم جميعًا شيء مشترك وهو الرغبة في التواصل، والحاجة إلى الكلام، وإحساسٌ عام بأنهم قد أُسيء فهمهم، وأنهم وضعوا في المكان الخطأ.
بينما يبقى مستقبل المهاجرين في الغرب قضيةً سياسية، والحماس لتعدد الثقافات في تضاؤلٍ مستمر، فإنه لمن المفاجئ أن ترى كم من المهاجرين يؤمنون بأن قصصهم جديرة بأن تروى، وبأنه هناك من يهتم بالاستماع إليها.
هناك تقدير بأن العرب والأتراك والأكراد والباكستانيين والإيرانيين والبنغلاديشيين والماليزيين المسلمين بمن فيهم الوافدين الجدد والمولودين في بلد الهجرة يشكلون 5 في المئة من تعداد السكان في أوروبا. في فرنسا حيث توجد أكبر أقلية مسلمة يبلغ تعدادها أكثر من أربعة مليون ونصف المليون نسمة، في بريطانيا يبلغ الرقم حوالى 1.6 مليون. إن نسبة الولادات العالية في التجمعات المسلمة يضاف إليها التزايد المستمر للهجرة يشير إلى أن عدد الأوربيين المسلمين سيرتفع خلال العقود القادمة ارتفاعًا كبيرًا. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يصبح الأطفال المسلمون أكثرية في مدارس عدة في أوروبا، بينما ما زال آباؤهم وأجدادهم اليوم يعرفون أنفسهم بدينهم بوصفهم مسلمين قبل أي هوية أخرى، كأن يقولوا مثلًا بريطاني أو نرويجي أو حتى أوروبي. وهناك عدد من المسلمين الذين لا يمارسون شعائر الدين وهم مسلمون بالهوية فحسب، ولديهم مع ذلك شعور بالتضامن مع جماعتهم خصوصًا عندما يجدون أنهم مبعدون أو مستخفٌ بهم من الأكثرية.
وما يلفت النظر أن حتى كلمة (مهاجر) صارت تحمل مفهومًا دينيًا أكثر منه ثقافيًا أو اقتصاديًا، ويزداد ذلك يومًا بعد يوم. عندما يتحدث السياسيون أو الصحافيون أو الدارسون عن (المهاجرين في أوروبا)، فإنهم في الحالات معظمها يشيرون إلى (المسلمين في أوروبا)، وعندما يناقشون الشتات المسلم في أوروبا فغالبًا ما يكون الأمر متعلقًا بموضوعات ساخنة، وبحسب ما كتب طارق رمضان في المجلة الألكترونية (مجلة العلوم المسيحية):
«خلال العقدين الأخيرين صار الإسلام مرتبطًا بمشكلات عدة –العنف، التطرف، حرية الكلمة، التمييز بين الجنسين، الزواج بالإكراه- ومن الصعب بالنسبة إلى مواطن عادي أن يواجه هذا الوجود الإسلامي الجديد بوصفه عنصرًا إيجابيًا».
إن هجوم 11 أيلول/ سبتمبر في 2001، وتفجير محطة القطارات في مدريد في عام 2004، وتفجير لندن 2005، وحادثة الكرتون الدانماركية في عام 2006، واغتيال فيو فان كوخ، والحملة المعادية للإسلام التي قام بها عضو البرلمان الهولندي جيرت وايلديرس، والجدل حول منع الحجاب في فرنسا والمآذن في سويسرا، والحرب في أفغانستان والعراق، وأخيرًا قتل 85 شخصًا من متطرفين يمينيين في النرويج الذين كانوا معادين معاداة صريحة لتعدد الثقافات، ذلك كله أكد أن المسلمين يشكلون تهديدًا لأسس الثقافة الأوروبية.
خلال السنوات القليلة الماضية عمقت مأساةٌ في إثر أخرى، وتوترٌ في إثر آخر، وحربٌ في إثر أخرى الصدع بين المهاجرين والجمهور الأوروبي، وخلقت جوًا من القلق الدائم على كل جانب من جوانب هذا الصدع، وتشكلت غيتوات (شرانق اجتماعية) تضم المتشابهين في التفكير، كانت حواجز سيكولوجية تفصل بين الناس.
وفي ما يبدو، ولكي يربّوا أولادهم في أوساط أكثر أمنًا، ولتجنب فوضى المدن الكبرى، أو لأسباب أيديولوجية فحسب، ازداد عدد الناس الذين يتجنبون المدن الكبيرة، وحتى في الحالات التي لم يتمكنوا فيها الابتعاد عنها اختاروا بكل بساطة أن يختلطوا بأقرانهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف يمكن للمسلمين وغير المسلمين أن يتعايشوا جنبًا إلى جنب في ديمقراطية متوازنة وسليمة؟ هل يمكن للرموز والطقوس الإسلامية أو طقوس الديانات الأخرى أن تسود بحرية؟ وإذا كان الأمر كذلك فإلى أي مدى؟ وتحت اسم حرية التعبير هل يسمح لأي كان بمن فيهم المسلمين الراديكاليين بتنظيم مسيرات أو احتجاجات؟ كيف يمكن للمبادئ والممارسات الإسلامية من مثل الذبح الحلال والاحتفالات الدينية وتقاليد الدفن والحجاب وما إلى ذلك أن تدخل في مجتمعاتٍ ليبرالية متعددة؟.
وبنظرة نحو الداخل يمكن لهذه الغيتوات أو الشرانق أن تعطي إحساسًا بالأمان والاستقرار لأفرادها، ولكنها لن تسهم بالضرورة في نمو مساحة سياسية عامة سليمة. يمكن لهذه المساحة أن تزدهر فقط حيث يوجد تنوع وشمولية وتهجين واندماج. أي بكلمات أخرى حيث يمكن للناس من ثقافات متعددة ومختلفة أن تتفاعل في صعد عدة، بحيث تنتج قيمًا واهتماماتٍ ومستقبلًا مشتركًا. إذا أمكن تشجيع عدد كبير من الناس من آراء وأولويات متباينة على الإسهام في تشكيل الخطاب العام المشترك، وإذا جرى توسيع النطاق الفرعي المتداخل بين الثقافات؛ يمكن أن ينتهي هذا بنتائج إيجابية ليس على الناس المعنيين فحسب بل على المجتمع كله.
لا تعتمد الديمقراطية الحقيقية القوية بكل ما في الكلمة من معنى على الأحزاب السياسية وحدها أو على السياسيين والبرلمانيين، ولا تأتي من الرقابة والمحاسبة فحسب، وإنما تحتاج احتياجًا أكثر جوهرية إلى ناس يؤمنون بها، مواطنين يثقون بأن آراءهم لهما قيمة، وبأنهم والآخرين راغبون في الإسهام بصنع مستقبل أفضل.
إن مساحة سياسية عامة متجانسة ومتناغمة هي من المتطلبات المسبقة لاستمرار الديمقراطية إذا أخذنا بالحسبان تحديات هذا العصر.
إن تشجيع عددٍ كبير من الناس من آراء متباينة وأولوياتٍ مختلفة على الإسهام في تشكيل الخطاب العام المشترك وتوسيع المناطق المتداخلة بين الثقافات الفرعية يمكن أن ينتهي بفوائد جمة ليس للناس المعنيين بالأمر فحسب، وإنما للمجتمع عمومًا.
يواجه صانعو السياسة الأوروبية اليوم مشكلةً سياسية شائكة. فمن جهة هناك حاجة واضحة لدمجٍ اجتماعي – اقتصادي، وتأكيدٍ أقوى على تبادل الثقافات والديانات، ولكن ليس هناك أي فكرة واضحة عن كيفية حدوث ذلك أو تحقيقه.
من جهة أخرى ليس هناك مجال للشك سواء كان شكًا ظاهرًا أو كامنًا حول أزمة وجود الإسلام في المجتمع الأوروبي، ويظهر غياب الارتياح من هذا الوجود بين مدةٍ وأخرى إما بسبب مواقف بعض السياسيين المتعصبين ذوي الشعبية أو منظّرين من اليمين المتطرف. ولقد أسهم كل من التعصب ورهاب الأجانب والغلو في الوطنية الشوفينية والإرهاب المحلي والعالمي في تفاقم هذه الأزمة.
نشهد في الوقت الحاضر نهاية النماذج السياسية السابقة في ما يتعلق بالهجرة. ففي ألمانيا جرى التخلي عن مفهوم تعدد الثقافات والمجتمعات المثالية التي يعيش فيها المهاجرون والمحليون جنبًا إلى جنب من دون أن يختلطوا بالضرورة أو أن يتخلوا عن هوياتهم التي تميزهم. في هولندا وفنلندا والدنمارك ومؤخرًا النرويج كان هناك جدلٌ حاد حول المدى الذي يمكن أن نذهب به في عملية الاندماج. في بريطانيا سبَّب الاضطراب المالي والاقتطاع من الميزانيات قلقًا اجتماعيًا حول البطالة، وبدوره أعطى للجدل حول قضية الهجرة شكله.
في فرنسا أثار قرار منع الحجاب في المدارس الحكومية والمؤسسات العامة كثيرًا من النزاعات وبدت أوروبا أكثر وأكثر إناء يغلي وتشكلت لدى عامة الناس والإعلام قناعة بأن المجتمع صار أقل أمنًا. ولم ينسَ أحد بأن تفجيرات لندن قام بها مسلمون بريطانيون من (هنا)، ولم تقم بها القاعدة التي تعمل عن بعد من (هناك). وكثرت الأحاديث عن العدو من الداخل، وتضاءلت هذه الثقة التي صارت حتمًا غير كافية لانقشاع الضباب الذي يمنعنا من رؤية كل منا للآخر في ضوءٍ جديد. لقد اختطف القلق إمكان الحوار حول قضية المسلمين في أوروبا.
في ظل هذا الجو المضطرب ما هو احتمال وجود هوية أوروبية تتجاوز الوطنية وتستوعب الهويات الأخرى، هوية يمكن المحافظة عليها في المدى الطويل؟.
كيف يمكن تشجيع الأقليات العرقية والدينية الثقافية والجنسية على الإسهام في انفتاحٍ أكثر للانخراط في الخطاب السائد؟ وكيف ستتمكن الجماعات المسلمة الاندماج والتكيف داخل هذه الصورة الكبرى؟.
ما الأوروبية على وجه التحديد؟ أين تبدأ وأين تنتهي؟ هل طبيعة المشكلات التي تسود أذهان السياسيين هي نفسها التي تسود أذهان الفنانين والكتاب؟ أو بصورة أخرى: هل تنطبق الحدود السياسية في أوروبا على الحدود الثقافية؟.
تجعل العولمة اليوم، والاعتماد على تداخل الثقافات التي نتج منها، من غير الممكن لأي مجتمعٍ أو ثقافة أو أقلية أن تبقى معزولة تمامًا.
نحن نعيش في عالمٍ يمكن لتعاسة شخص يعيش في الباكستان أن تؤثر بصورة مباشرة في شخص آخر يعيش في كندا. نحن جميعنا متصلون بعضنا ببعض. ربما كنا هكذا دائمًا، ولكن اليوم أكثر من أي وقت مضى. والجانب المضيء من هذا الحال هو أن أي تغيير إيجابي أو تطور نحو الأفضل في منطقة ما سيكون له صدى على نطاقٍ جغرافيٍ أوسع، أما الجانب السلبي فهو أنه من الآن وصاعدًا بحسب ما يقول ميلان كونديرا: «لا شيء يمكن أن يحدث على الكوكب ويمكن اعتباره بأنه أمرٌ محلي، فالعالم كله معني بالكوارث».
ولدت في استراسبورغ في وقت اهتزت فيه فرنسا بموجة بعد أخرى من موجات الحركات الطلابية، وكان (سارتر) قد قطع العلاقات مع نظام كاسترو بصورة علنية. كان والداي يساريين، نموذجان للطلاب المثاليين الأتراك الذين يتابعون دراساتهم في الغرب. وكان زواجهما مهدد منذ البداية، وبعد ولادتي بقليل اختاروا شيئًا لم يكن واردًا بالنسبة إلى أهلهم أو إلى الجيل الذي قبله: الطلاق.
وعندما بلغت السنة والنصف من عمري أُعِدتُ إلى أنقرة، وقامت امرأتان بتربيتي: امرأة مثقفة، معاصرة، علمانية، نشأت في المدينة، وتحمل عقلية متأثرة بالغرب، أمٌ عزبة تناضل من أجل حقوق المرأة، وجدة تقليدية روحانية شرقية عاطفية بشدة ومتطيرة بلا حدود.
كان عالم الطفولة عالمًا سلسًا، دائم التغيير. وبخلاف بقية الأطفال في ما حولي لم أكن أنحدر من عائلةٍ، الأب فيها هو مركز السلطة بلا منازع. وإنما كنت محوطة بشخصيات مخترعة خيالية، وتعويذات سحرية، كنت أمضي يومًا بكامله حين تكون أمي في عملها أقرأ قصصًا أو أستمع إلى حكايات جدتي وهي ترويها بحماسٍ وفرحٍ كبيرين. وأنا أحلم وأتمنى أن أحط من على بساط الريح على جبلٍ خلف البحار السبعة حيث الأشياء الخيالية كلها. أول إحساس لي بالانتماء والأهم حتى هذا اليوم كان أرض الحكايات، أرض عالم الحكايات.
كانت بوابات عالم الحكايات مصنوعة من خيطان الحلوى، بيضاء وهشة بحيث تُفتح مع نسمة هواءٍ ولا تترك أحدًا خارجها. ولم تكن جنسيتك أو عرقك أو دينك الذي تنتمي إليه تهم أبدًا في عالم الخيال هذا. فمرة تتجول في شوارع لندن مع أوليفر تويست وتختلط بالنشالين، ومرة أخرى تجد نفسك في فرنسا قرب جون فالجان بشخصيته الجذابة هاربًا من الشرطة. وقد تجد نفسك بعد بضعة أيام تتناول الشاي مع آنا كارنينا والثلج يندف في باحة البيت.
ساعدتني الروايات في اكتشاف حيوات واحتمالات أخرى، أعطتني حس الاستمرارية والمركزية والتماسك في الحياة.
لم أستطع تجنب الاعتقاد أنه غالبًا ما كانت الشخصيات الخيالية القصصية هي أكثر حقيقية من الناس الذين كنت أراهم في الحياة اليومية.
كانت شخوص الكتب ممتلئة بالتناقضات والصراعات، فهم يرتكبون أخطاء تافهة ويتعذبون ويفرحون، يحبون بشغف وتتحطم قلوبهم وهم ينتقلون من مغامرة إلى أخرى. كانوا حساسين وأقوياء، خجولين وجريئين، كانوا أشياء عدة في آنٍ معًا. مخلوقات في طور التطور والتفاعل، مركبة تركيبًا أخّاذًا، تتطور وتتقدم باستمرار سعيها، صيرورتها لا تتوقف، غير مكتملات ومبتدئات دائمًا. وغالبًا ما شبهت هذه المخلوقات بقطع الحلوى المتنوعة التي كانت جدتي تصنعها مزينة بمختلف الألوان والأشكال، وتدور تحت السطح.
لا يمكن للناس في الحياة اليومية العادية أن يتبدلوا لأنهم أصبحوا ما هم عليه، أكانوا آباء أو معلمين أو مديرين أو بقالين أو عمالًا أو أصحاب ملك أو مستأجرين … أي إنهم ليسوا في طور بناء شخصياتهم. أو هذا ما أرادوا أن يظهروا عليه. لو كان أوليفر تويست أو جون فالجان أو آنا كارنينا، لو كانت تلك الشخصيات جملة لانتهت هذه الجمل بنقاط ثلاث صغيرة في نهايةٍ مفتوحة. لو كان مديرُ مدرستي الابتدائية أو مالك بيتنا العجوز أو الرجل النكد صاحب الدكان جملًا، لانتهوا بنقطةٍ واحدة.
التحقت أمي بالسلك الدبلوماسي عندما كنت في حوالى العاشرة من عمري، وأرسلت إلى مدريد. لحقت بها بعد بضعة أشهر، هناك وجدتُ أن الانتقال إلى بلدٍ لا أعرف لغته ولا عاداته مربكًا أكثر منه مخيفًا. في أول مرة قُدم لي فيها القريدس كنا في حفل عشاء، خبأت الكائنات البشعة المخيفة التي لم أكن أعرف أي شيءٍ عن طعمها تحت الفوطة وحين اكتشف مضيفنا الإسباني أمري في أثناء تبديل الصحون كان حرجي كبيرًا. من عالم جدتي الروحاني انتقلت إلى مدرسة تضم أطفالًا من الجنسيات كافة، وصادف أنني كنت التركية الوحيدة. كنا وكأننا نموذج مصغر عن الأمم المتحدة، كل منا يمثل البلد التي جاء منها. وترتب على ذلك أنه في كل مرة يحدث فيها مشكل في بلدٍ من البلدان التي ننتمي إليها كان هذا المشكل ينسب إلى الطالب، وكأنه هو المسؤول عنه، ما يعني أنه كان يمكن أن يتعرض للاستهزاء والسخرية والتسفيه من الآخرين، وقد تعرضت لذلك في مناسبات عدة. ففي المرحلة التي ترددت فيها على تلك المدرسة تعرض البابا لمحاولة اغتيال من مواطن تركي، وكان نتيجة ذلك أن تركيا لم تحصل على أي نقاط في مسابقة الأغاني الأوروبية آنذاك. وحدث انقلاب عسكري في المرحلة نفسها في بلادي، وبدأ الأطفال الآخرون يسألونني عن فيلم قطار منتصف الليل السريع الذي لم أشاهده قط، أو ما إذا كنت أدخن سرًّا، إذ ظنوا أن الأتراك كلهم يدخنون بكثرة، وكانوا يسألونني دائمًا متى سأرتدي الحجاب؟ وهكذا واجهت الكليشيهات العالمية الثلاث حول تركيا التي تتعلق بالسياسة والتدخين والحجاب.
بدأت أتعلم شيئًا فشيئًا كيف تبنى الشخصية الدولية، وكيف تعمم ويجري استيعابها بوصفها مكتسبًا جديدًا حديثًا.
هؤلاء الذين يسكنون في القصص ينتمون إلى مكانٍ يتدفق بحرية ومرونة وبنهايات مفتوحة على الاحتمالات كافة، بينما تتطلب الهوية الجمعية صلابة ودقة وقاعدة ثابتة، وتتطلب بالضرورة قدرة على الإقصاء لأننا بالتعريف نعتمد على التمييز ما بين (نحن) و(هم).
هناك شجرة خرافية أسطورية في الفلسفة الصوفية اسمها توبا. شجرة مثل غيرها من الأشجار، ولكنها مقلوبة رأسًا على عقب، مثمرة وخضراء على الدوام جذورها تمتد في الفراغ الواسع نحو السماء الزرقاء. أحب تلك الصورة، وأجدها مريحة، فهي تساعدني على التأمل، وتقبل فكرة احتمال بأنه يمكن أن يكون للمرء جذور من دون أن يزرعها في أي مكان.
بعد مدريد سكنت في منازل عدة في أنقرة وعمان وكولن ثم انتقلت لأعيش وحدي في إسطنبول المدينة التي طالما عشقتها. في أول ليلة لي في تلك المدينة الكبيرة والفوضوية حيث مكثت في غرفة تتسلل إليها أشعة شمس شاحبة عبر نوافذ عارية سمعت صوت أحدهم يشتم بانفعال، ألقيت نظرة من النافذة كان هناك امرأة متحولة جنسيًا تترنح في الطريق وكعب حذائها مكسور، كانت تعرج بغضب صاعدة وهابطة كموج البحر نصف نهار ونصف ليل، نصف رجل ونصف امرأة، سكرانة وكئيبة، كانت تضيف الحزن على الجو، وتتفوه بكلمات لم أتمكن من استبيانها، كانت تتلعثم، وفجأة انتبهت إلى وجودي، وجه فضولي يراقبها من النافذة، توقفت وقطبت. حييتها بخجل أدارت وجهها بعيدًا ثم ما لبثت أن نظرت إلي إما بدافع الفضول أو الأدب ثم رفعت يدها بطريقة غريبة إما لتقول لي «اغربي عن وجهي» أو «مرحبًا»، كان من الصعب التحديد، ولكن لا يهم على أي حال. تجلى غضبها واستياؤها واستسلامها وملامح إنسانيتها كلها في ذلك الجزء من الثانية. كان ذلك أول انطباع شكلته في تلك المدينة التي يسكنها عشرة ملايين روح، وتعيش عشرة ملايين صراع.
كنت قد كتبت أول رواية لي في أنقرة وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، أما الروايات الثلاثة التاليات فقد أكملتها في شققٍ في مناطق مختلفة من إسطنبول. ولدى نشر كل كتابٍ كانت دائرة قرائي تتوسع، ويزداد اهتمام وسائل الإعلام التركية بي. وظل الشعور بأنني أمتد في الفضاء، وبأنني أعيش مقلوبة بشكل ما يلازمني. انتقلت إلى بوسطن حيث كتبت روايتي التالية (قديس الحماقات الأولى) بالإنكليزية، تبعها في عام 2005 زيارتي لميتشيغان بدرجة كرسي الأستاذية وأستاذٍ دائم في أريزونا، وفي السنة نفسها تزوجت صحافيًا تركيًا في برلين. دخلنا إلى سفارة تركيا وطلبنا أن يعقد قراننا على الفور إذا كان ذلك ممكنًا. كان الكاهن رجلًا طيبًا دافئًا، وشعر بالأسف والحرج الشديدين لأننا لم نكن نرتدي بزة رسمية، ولم نجلب قالب حلوى، ولم يكن حولنا ضيوف أنيقون ولا حتى شهود. وعندما حاولنا سحب رجلين متشردين إلى السفارة وجدنا أنهما لا يتحدثان الإنكليزية ونحن لا نتحدث الألمانية. وسأل الكاهن وهو محمر الوجه ما إذا كنا نقبل به شاهدًا، فقلنا له يشرفنا ذلك بكل تأكيد. بعد مدّة وجيزة من الزفاف طار زوجي إلى إسطنبول وعدت أنا إلى أريزونا التي ظللت أسافر منها وإليها.
الحقيقة هي أنني افترضت بأن الزواج سيساعدني على الاستقرار، ولكنه لم يفعل. الجميع نصحوني بأن الأمومة ستضع نهاية لحياة التنقل المجنونة، ولكن العكس تمامًا هو ما حدث. ولم يغير كوني أمٌ لطفلين أي شيء. وارتابت جدتي بأن السبب في ذلك هو أنني ارتكبت خطأً حين كنت طفلة صغيرة، إذ شاركت فتاة غجرية حصتي من حلوى الحليب والأرز حيث رأيتها تبحث بين النفايات أمام منزلنا، فركضت خارجةً إليها تحدثت معها، وشاركتها الحلوى بملعقتي ووعائي نفسه، وخلقنا بذلك نوعًا من السحر أو ربما النحس، بحسب مجريات الحوادث، وبذلك أعطيت شيئًا من قدري لتلك الفتاة، وأعطتني هي بدورها شيئًا من حظها. ولكنني لا أتذكر أي شيء عن ذلك الحدث السريالي، وأظن بأنه ككثيرٍ من قصص جدتي كانت هذه القصة مدروسة ومتوازنة ومحبوكة بدقة على خطٍ غير مرئي ما بين الحقيقة والخيال.
قديمًا في زمن الإمبراطورية العثمانية كانت العتبات تعدّ مسكنًا للجن كما في قصر (توب كابي). خارج جناح المحظيات المفضلات كانت هناك منطقة اسمها (مكمن الجن). وبخلافنا نحن البشر خلق الجن من نارٍ لا دخان لها كما يرد في القرآن {وخلقنا الجن من مارجٍ} *الرحمن 15*.
والجن مخلوقات لا يمكن رؤيتها أو الإحساس بوجودها، ومن الجن ما هو صالح ومنهم الطالح، ولكنك لا يمكن أن تثق بجني أبدًا. وليس من المفاجئ أن عتبة الدار في الثقافة الإسلامية تعدّ مكانًا غامضًا غموضًا يصعب تفسيره. لطالما أحببت عتبات البيوت، ولم تكن تخيفني حتى عندما كنت طفلة على الرغم من تحذيرات العجائز المسلمات اللواتي كن حولي بألا أدوسها أبدًا أو أقترب منها سواء عندما أدخل البيت أم أخرج منه أم أدخل شقة أو غرفة، كان عليّ أن أكون في غاية الحذر عندما أتجاوز العتبة، لأن الجن يجتمعون ويحتفلون هناك، وبخاصة في الليل. وإذا صادف ودست أحدهم خطأ، فإنك ذكرًا كنت أم أنثى ستلقى عليك تعويذة قد تفقدك النطق أو تصيبك بالجنون. وعندها عليك الذهاب إلى مزار (لوكم بابا) لتضيء شمعة مع عشرات الآخرين الذين أصيبوا بحالة مشابهة لحالتك، وأن تصلي من أجل خلاصك. وإذا آمن القديس الذي تصلي له بأنك صادق، فإنه سيساعدك من قبره، وإلا فإنه عليك أن تذهب إلى الطبيب أو إلى المشفى باحثًا عن علاج. الأمر الذي يعرفه الجميع بأنه لن يفيد أبدًا لأن رجال الطب لا يؤمنون بالمخلوقات فوق الطبيعية، وكيف يمكنهم أن يشفوا مرضًا لا يعترفون به أصلًا؟.
لقد كبرت مع هذه المعتقدات وكان هذا يعني أن أصاب بالهلع في كل مرة أذهب فيها إلى الحمام ليلًا. كنت أسير على رؤوس أصابعي في العتمة محاولة تقدير المسافة الدقيقة بين أول العتبة وآخرها، وإذا حدث ووضعت قدمي على بلاطة حيث يوجد الجني كان عليّ أن أكرر صلواتي بالعربية أولًا، ولم يكن يهم أنني لم أفهم العربية، لأن الجن يخافون من الكلمات، وهذا شيء أستطيع فهمه بسهولة، فقد آمنت بأن للكلمات سحرها.
ربما تكون العتبات هي المكان الذي ينبغي علينا نحن الكتّاب أن نكمن فيه، فنحن نحتاج إلى الغموض والتغيير بقدر ما نحتاج إلى النظام والتفاني. نحتاج إلى ألا نكون واثقين من الأرض التي تحت أقدامنا، أن نكون أحرارًا من أي عقيدة أو حتى أي معتقدٍ راسخ أو انتماء. نحتاج إلى أن نُبقي قدمًا واحدة على العتبة في مكان ما وسطي نتراوح بين الثقافات والناس، قريبين من الأطراف كلها، ولكن وحيدين وحدة غير قابلة للشفاء.
ما زلت حتى هذا اليوم أتردد ما بين لندن وإسطنبول مع أولادي، فبالنسبة إلى أشخاص مثلي كشجر التوبا أو النباتات الهوائية التي لا جذور لها في الأرض ساكني اللمبو أو (اللا يقين) بين الحضارات، فإن أسوأ شيء بالنسبة إلينا هو أن نُسأل أو بالأحرى أن نضطر إلى اختيار بين وطنين، إذ يترتب علينا من ثم أن نلتزم بهذا الاختيار إلى الأبد. كانت جدتي تقليدية ولكنها علمانية جدًا. والدتي كانت متأثرة بشدة بالثقافة الغربية، ولكنها شرقية تمامًا حين يتعلق الأمر بالموسيقى والفنون إضافة إلى أشياء أُخَر. كان التهجين في كل مكان من حياتنا، كان في قلب وجودنا.
هناك غنىً وتنوع في أسلوب الحياة بين المسلمين، والقصص الشخصية متنوعة ومهمة، ولكن بعض هذه القصص هو ما يصل إلى مسمعينا، وغالبًا ما تكون القصص الأكثر إشكالًا. نادرًا ما نسمع عن مسلمين سعداء وخصوصًا نساء مسلمات سعيدات. جرائم الشرف مراسم التطهير للنساء، زواج الفتيات الصغيرات، الحجاب، التمييز بين الجنسين، غياب الحرية، ومشكلات الجنس هي الموضوعات الأهم التي يتجلى ويتبلور فيها ما يسمى صراع الحضارات. وليس مصادفة أن عددًا كبيرًا من الكتب المتعلقة بالإسلام تحمل صور نساءٍ على غلافها، تبدو النساء في معظمها إن لم يكن كلها حزينات صامتات معذبات بصمت وتحت ستار. نساء إما فمها مغطىً أو تنظر من خلف الحجاب أو نساء محنيات الرؤوس ببؤس. ولا ننكر هنا بأي شكلٍ من الأشكال خطر الحالات الصعبة التي تواجهها كثيرات من النساء المسلمات اليوم. تحقيق العدالة بين الجنسين أمرٌ لا يمكن تأجيله أو الإقلال من أهمية الحاجة إليه. وما أريد قوله هنا أن هذه القصص الحزينة يجب أن توضع ضمن السياق العام والكبير الذي يتسع فيه المكان أيضًا لقصص القوة والنجاح والروح العالية للمرأة في العالم الإسلامي.
لم تضع أمي غطاءً على رأسها، وأظن أن الفكرة لم ترد في ذهنها أبدًا. أما جدتي فقد كانت تضع منديلًا على رأسها عندما شاخت، وكانت غرتها تظهر دائمًا من تحت حجابها. جيراننا وأقاربنا وأصدقاؤنا من النساء، والنساء المثقفات، والنساء المتوسطيات (نسبة إلى البحر الأبيض المتوسط)، والأوروبيات والأميركيات كن خليطًا مدهشًا. صادقت نساء عاليات الثقافة والتعليم، عصريات، ومع ذلك فقد تبنوا قيم المجتمعات الذكورية إلى درجة أنهن كن يطلبن من الله أن يهبهن صبيًا عندما تكتشف الواحدة منهن أنها حامل، وكنَّ يبتئسنَ عندما لا يستجاب دعاؤهن.
رأيت نساءً تقليديات جاهلات كنَّ المسيطرات بلا منازع في منازلهن، ولهن الكلمة الأخيرة في أي قرار. وهناك حالات كانت فيها الأمهات توافقن على قرار ارتكاب جريمة شرف لأن ابنتها لوثت شرف العائلة. ثم هناك أمهات أخريات يفعلن كل ما يستطعن لكي تتابع بناتهن تعليمهن، ويكرسن حياتهن لهذا الهدف كما حدث عندما عادت أمي إلى أنقرة، وهي تحمل طفلة رضيعة موسومة بعار كونها مطلقة. كانت جدتي هي التي وقفت إلى جانبها ترد كلام الناس. ولم يحدث أبدًا خلال تلك المسيرة أن ضغطت على أمي لكي تتزوج ثانية وتدع رجلًا غريبًا يعتني بها وبطفلتها. قد لا تكون حالتنا عامة، ولكنها حتمًا لم تكن استثنائية. هناك عدد لا يحصى من النساء المسلمات العنيدات المسيطرات والمستقلات، وأجرؤ أن أضيف بأنهن سعيدات.
لم يكن العالم الإسلامي أبدًا عالمًا متجانسًا، وهو ليس ولم يكن أبدًا عالمًا راكدًا. لطالما فُهمت المسيحية من وجهات نظر متعددة. واليوم أيضًا يتسع نطاق الإسلام ويعاد فهمه، من السعودية إلى تركيا، ومن ماليزيا إلى المغرب العربي، من المرتدين إلى الإسلام وحتى المهاجرين إلى أوروبا، نحن أمام طيفٍ واسع من الممارسات والمعتقدات. علاوة على ذلك، وكما برهن الربيع العربي حتى المجتمعات التي بدت منكفئة على ذاتها كانت في الواقع في طور التحول. ولكن من الخطر رؤية هذا التنوع من خلال السياسة فحسب، لأن السياسة تلغي الفوارق والتعقيدات والتركيبات الاجتماعية وتشجع على التعميم. واكتشاف نجاح المهاجرين المسلمين وفشلهم، أفراحهم وأحزانهم من وجهة نظر ثقافية وفلسفية، فنية أو أدبية سوف يكشف عشرات آلاف القصص. بعضها قصص صراعات وحتى عداء، ولكن عددًا منها ستكون قصصًا عن التعايش السليم والاستثمار لمستقبل مشترك.
حين نركز على السياسة اليوم من دون أي شيء آخر فلن نرى أمامنا سوى العداء. تقول إحدى المقولات التركية الوطنية الرديئة المتطرفة «إما أن تحبه أو أن تتركه»، وهدفها حجب أنواع النقد الداخلي كافة. ومن تداعيات تلك المقولة أنه إذا انتقدت بلدك أو دولتك فإنك تبدي قلة احترام أو لا وطنية أو ضعف في الحس الوطني، ويفضل في هذه الحالة أن تترك هذا البلد. وينتج من ذلك أنه إذا انتقدت بلدك فأنت قليل الولاء أما إذا أردت أن تبقى فعليك أن تحب وطنك ويجدر بك ألا تعبر عن أي آراء نقدية تجاهه. هذه العقلية عقلية إما أسود أو أبيض هي عائق في وجه التطور الاجتماعي. وما يشحنها ليس الوطنية التركية المتطرفة فحسب، وإنما أشكال الخطاب الإقصائي والراديكالي المتطرف كافة. وهي خطابات اختزالية بطريقة متشابهة ومحشوة بالتكرار. والمقاربتان كلتاهما تضعان المرء أمام أحد خيارين، والخياران كلاهما ينكران عليه أن تكون له انتماءات عدة أو جذور عدة أو أكثر من حب. مع العلم أنه غالبًا من خلال التعداد والمرونة نجد الحل لعدد من مشكلات هذا العصر. في عصر ملايين الناس تعلموا فيه أن يعبروا عن أنفسهم بأكثر من لغة، ولم يعد حلمًا أن نتحدث عن انتماءات عدة. إذ يمكن للمرء أن يكون مثلًا من قبرص التركية مسلمًا سنيًا، ومساندًا قويًا للعلمانية، وأوروبيًا، ويحمل روحًا عالميًا، وروحانيًا ومعجبًا بحزب العمل، وهناك أيضًا من يشعر أنه غربي في الشرق وشرقيٌ في الغرب، هناك كثير من الناس يشعرون بذلك وسيزداد عددهم أكثر في القرن القادم.
إن الناس اليوم على مفترق تقاطع الحضارات، المتنقلون بالفطرة يتصلون بأماكن وثقافات وتقاليد مختلفة، ويسعون للتغلب على الأحكام المسبقة على الأصعدة كافة، ينقلون الذاكرة من ضفة إلى أخرى. يمكنك أن تكون أوروبيًا بعناصر شرقية من ماضيك وراسخة في شخصيتك لأن الشرق والغرب يتوقفان عن أن يكونا تصنيفات خصوصية حالما نكف عن النظر إليهما بوصفهما نفطًا وماء. عندما تختطف السياسة المناقشة والجدل حول الشتات المسلم في أوروبا، فإنها تهمل التركيبات كافة، وتعقيدات المسألة، وتحول الأفراد إلى تصنيفات. لا يحتمل كل من المتطرفين الإسلاميين ومعادي الإسلام من اليمين المتطرف الواو .. و .. و .. في حياتنا.
في نظام سياسي يعيش فيه الناس ملتزمين بهوية واحدة محددة وثابتة من دون أن يكون لديهم الخيار بإمكان ارتباطات مفتوحة ومتعددة، سيكون من الصعب إيجاد أرض مشتركة تجمع الناس.
في استبيان لمركز أبحاث (بيو) حول المسلمين في بريطانيا أجري في عام 2006، سئل المسلمون ما إذا كانوا يعدّون أنفسهم بريطانيين أو مسلمين بالدرجة الأولى، فأجاب 81 في المئة منهم بأنهم مسلمون أولًا، ويبدو أن 19 في المئة فقط يعدّون أنفسهم بريطانيين بالدرجة الأولى، وقد قاد هذا الاستبيان بعض خبراء الإعلام إلى الاستنتاج بأن انتماء المسلمين البريطانيين إلى قيم المجتمع الذي آواهم ضعيف، ومع ذلك عندما قامت محطة (سكاي نيوز) باستبيان طرحت السؤال نفسه إنما بصيغة مختلفة، سئل المسلمون المهاجرون هل أنتم مسلمون بالدرجة الأولى أم بريطانيون؟ أجاب 46 في المئة منهم بريطانيون مسلمون، وأما عندما وضعوا أمام الخيار بريطاني أو مسلم فقد قام معظمهم باختيار مسلم، ولكن عندما سمح لهم بأن ينتموا إلى أكثر من جهة أي بريطاني مسلم اختلفت الإجابة.
ما أريد أن أقوله هنا هو أنه يمكن للمرء أن يكون له أوطان عدة بدلًا من وطنٍ واحد ثابت. ويمكن للمرء أن ينتمي إلى مدن عدة وثقافات وشعوب بغض النظر عن الطريقة التي فصلت فيها السياسة المعاصرة هذه الأوطان. لقد حان الوقت في عصر الهجرة والتنقل والزمن الذي بدأ يحلم كثيرون منا فيه بأكثر من لغة، حان الوقت للتخلي عن الهوية السياسية من أصلها. فهي لم تعد تفيدنا بشيء بل إن كل ما تفعله لنا هو خلق مزيد من العداوات وخلق قلق أكثر عمقًا. إن ما نحتاج إليه بدلًا منها هو (ارتباطات مرنة) روابط حب وذكريات والتزام بحالة تدفق دائم نشكلها ونعيد تشكيلها إلى ما لا نهاية.
مرآة جدتي الفضية هي أحد الأشياء التي أتذكرها جيدًا من طفولتي، كانت مرآة قديمة مزينة من الخلف برسومات أنيقة لورود نضرة وعصافير تغني. كانت جدتي تمشط شعرها الكستنائي الطويل ولا ترفع عينها أبدًا عنها. كل مرآة كانت ممرًا إلى عالمٍ آخر. هكذا كانت تقول جدتي: عندما تتأمل بعمق في شيء ما فإنه يفتح ممرًا إلى روحك. من وقت إلى آخر كانت جدتي تقول: حان الوقت لهذا الممر أن يغلق ويرتاح قليلًا. إن تحديق الإنسان في صورته طوال الوقت ليس بالأمر السليم «كانت تضيف من باب التفسير».
في تلك الأيام كانت المرايا كلها في البيت تدار، وكنت أذهب إلى المدرسة من دون أن أعرف كيف يبدو شعري. بعد سنوات عدة، لا يمكنني إلا أن أتحسر على خسارة تلك الحكمة القديمة. لعلنا نحملق أكثر مما ينبغي وكثيرًا جدًا في انعكاساتنا، بمعنى أننا بصورة عامة نتعامل مع الناس الذين يفكرون مثلنا وينتخبون من ننتخب ويتكلمون كما نتكلم ونوعيتهم من نوعيتنا. إذا سئلنا ما إذا كان لدينا أي شيء ضد هؤلاء الذين هم خارج شرنقتنا الثقافية فعلى الأغلب سيكون جوابنا الصادق: لا. طبعًا نحن لسنا متحيزين ومتعصبين. وطبعا ليس لدينا أي شيء ضدهم بل بالعكس نحن نرحب بدرجة من التنوع العرقي.
هناك البقال الإيراني الذي يفتح دكانه في أيام الآحاد ويبيع الزعفران من النوع الممتاز، وصاحب المطعم التركي حيث يقدمون الشاي في كؤوس صغيرة، ومكتب السفريات في زاوية الشارع الذي يبيع التذاكر رحلات على الخطوط البنغلاديشية بأسعار معقولة، هؤلاء كلهم يشكلون محيطنا، ولكننا غير مستعدين لإقامة علاقات اجتماعية معهم. لسوء الحظ هذا الهرب الخفي من عملية التهجين يتجلى في مستويات عدة: بين الأغنياء والفقراء، بين المحافظين والليبراليين، بين الشرق والغرب. نحن نميل إلى أن نشكل حيّزًا مريحًا لوجودنا يقوم على أساس التشابه، ثم نسمح لأنفسنا بإطلاق آراء عامة وكليشيهات (عبارات مبتذلة) حول الآخرين الذين لا نعرف عنهم في الواقع إلا القليل. عندما يتوقف الناس عن الكلام مع بعضهم، يصبحون أكثر ميلًا إلى إطلاق الأحكام. فكلما عرفت أقل عن سكان منغوليا مثلًا كان الوصول إلى أحكام عنهم ونتائج أكثر سهولة وثقة. لو كنت أعرف مئة منغولي مختلفي الشخصية ويحملون وجهات نظر متعارضة، فسأكون أكثر حذرًا إذا كنت سأطلق حكمًا عامًا على الناس ذوي الجنسية المنغولية، لأنني أعرف بأنه على الرغم من أنهم يتشاركون ملامح ثقافية واحدة إلا أنهم لا يشكلون وحدة متماثلة من الأفراد.
بوصفي روائية، فأنا أقل اهتمامًا بالتعميمات مما بالفروقات الصغيرة والخفايا التي قد لا تكون مرئية لأول وهلة، ولكنها موجودة وهي تكمن تحت السطح، وهي قوية ومميِّزة.
في بداية هذا البحث كتبت بأن تجربة الهجرة تؤدي إلى القلق، ولكن العكس يمكن أن يكون صحيحًا تمامًا. يقول إدوارد سعيد: «إن المرء القادر على ترك وطنه الثقافي قادر على الحكم عليه وعلى العالم أجمع فمعه يأتي الانعتاق الروحي والسخاء الضروريان لرؤية صادقة».
هناك قصة في مثنوي جلال الدين الرومي تذكرني بذلك. في يوم من الأيام كان هناك حكيم يسير في الغابة فرأى غرابًا ولقلقًا يسيران جنبًا إلى جنب، تفاجأ الحكيم، فهذان الطائران هما من نوعين مختلفين، فكيف يمكن أن يترافقا؟ اقترب منهما بهدوء ولطف، فلاحظ أن الاثنين كانا يعرجان. لا بد أنهما بشكل ما وفي مكان ما انفصل كل منهما عن جماعته وتأخر عن اللحاق بها، إذ عجز عن مجاراة الآخرين، وبدأ يطير مستقلًا، وخلال هذه المسيرة التقى طريقهما، لقلق وغراب، وأصبحا رفيقي طريق. العالم الذي نعيش فيه ممتلئ بالطيور العرجاء التي دبرت أمرها لكي تطير معًا. وصارت تتشارك في كثير ما عدا الشكل.
الكوزموبوليتانية –لقاء مختلف الأنواع والعلاقات الطيبة والصداقات التي تنتج منها– يمكن أن تكون نعمة كبيرة. المدن المتقدمة ثقافيًا واقتصاديًا هي اليوم أماكن فيها اختلاط دينامي للأعراق والقوميات. سيدني، نيويورك، لندن، أمستردام، برلين … إن انصهار هويات عدة هو حتمًا ليس بالعملية السهلة، ولكنها تحمل إمكانات خلق عالم جديد. نحن دائمًا بصدد تعلم شيء جديد في هذه الحياة، ونتعلمه من هؤلاء الذين يختلفون عنا، فنتيجة تقاطع الأفكار والثقافات والآداب والعادات والتقاليد والفنون والطهي وتلاقيها وجدت الإنسانية أرضًا خصبة للنمو.
من المؤسف أن التركيز على مظاهر الاختلاف بين المسلمين وغير المسلمين في أوروبا يزداد بينما يتضاءل التركيز على ما يتشاركون فيه أو ما يمكن أن يتشاركوا فيه في المستقبل، جرى التركيز بشدة على الأخطار المحتملة للهجرة بينما كان الاهتمام بفوائدها ضئيلًا. ليس علينا أن نكون عاطفييين ولا حتى أن نكون متفائلين، ولكننا نحتاج إلى رؤية الصورة الكبيرة. إن القلق المتكرر هو وقود لحلقة مفرغة تنتشر على نطاق العالم، المتعصبون ينتجون مزيدًا من المتعصبين في كل مكان. إن الخطاب المعادي للإسلام في البرلمان الفرنسي يولد مشاعر معادية للعرب في ضواحي لندن المسكونة بالمهاجرين، والخطاب المعادي للغرب ضمن التجمعات المغربية في برلين يعزز العبارات المبتذلة المعادية للإسلام في ذهن المتطرفين السويديين أو الدانماركيين. ويستمر التأرجح في مستنقعِ من دون الإدراك كيف أن خوفنا يخدم في تعزيز الشيء ذاته الذي نخاف منه، اليوم لا يمكن ترك الحوار بين أوروبا والإسلام للسياسيين أو الدبلوماسيين وحدهم، ولا للمتطرفين من الجهتين. ومع أننا بوصفنا بشرًا لا نستطيع أن نتحرر تمامًا من قلقنا لكننا نستطيع أن نتوقف عن جعله دليلنا أو الموجه الأساس لسلوكنا وعلاقاتنا مع الآخر.
وأخيرًا لا بد من التنبيه إلى سعادة كل من الشعوب الشقر والسمر هي سعادة متداخلة، وليست منفصلة أبدًا.