مرّت ستّ سنوات على التدخّل العسكريّ الروسيّ في سورية، أثّرت جذريًا في سورية، حاضرًا ومستقبلًا، على المستويات كافة، إذ تسببت في منع سقوط النظام، كما تسببت في تعثّر المسار السياسي، وحرفه على المستوى الدولي، والأهم أنها أسهمت في دمار سورية وخرابها، وأبشع ما جرى خلالها هو استهلاك روسيا أسلحتها البالية فوق رؤوس السوريين، ومن ثم تحويلها للأرض السورية إلى حقل تجارب للأسلحة الحديثة وقيد الاختبار، مستثمرة أبشع وسيلة لتجارة السلاح وتطويره.
تجريب السلاح الروسي في سورية ليس جديدًا على المتابع، بل دأبت روسيا على التفاخر بهذا الإنجاز، وكان آخر إعلان رسمي روسي في تموز/ يوليو، العام الجاري، حيث صرّح سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي، بأن الجيش الروسي جرّب أكثر من 320 نوع سلاح مختلف، خلال عملياته في سورية، وأكد خلال تصريحاته الصحفية، في شركة “روست فيرتول” الروسية لصناعة المروحيات، أن الأخيرة طوّرت إحدى مروحياتها نتيجة العمليات العسكرية في سورية، وأن نسبة الأسلحة والمعدات الحديثة لدى الجيش الروسي تصل إلى 7%، متباهيًا بأن هذه النسبة من بين الأعلى بين جيوش العالم.
الوزير الروسي يظهر في وسائل إعلام منذ سنوات، ويُبشّر السوريين بأن موسكو تنوي تجربة سلاح جديد في سورية، بري أو بحري أو جوي، بطيار أو بدون، محدود التفجير أو واسعه، مسموحة دوليًا أو محرّمة، لينضم إلى مئات الأسلحة التي ما زالت تُجرّبها روسيا في حقل اختبار السوريين، كما يؤكّد في تصريحاته أن هناك ضرورة لتجريب هذه الأسلحة، للتأكد من جاهزيتها وخلوّها من الأخطاء، قبل طرحها في أسواق السلاح.
حقل اختبار لأدوات الموت:
وفق وزارة الدفاع الروسية، فإن روسيا جرّبت واختبرت العديد من أنواع الأسلحة، خلال عملياتها في سورية، من بينها طائرات مقاتلة من الجيل الخامس “سوخوي 57” التي اجتازت جميع مراحل الاختبار في سورية، ومنظومات دفاع جزي “بانتسير”، ومدرعات وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، وصولًا إلى تجريب روبوتات مقاتلة “أوران 9″، وغيرها كثير.
وفي خطوة غريبة تثير السخرية السوداء، قامت وزارة الدفاع هذا العام، بُعيد اتهام أرمينيا لها، على لسان رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشنيان، بأن صواريخ إسكندر لم تكن فاعلة في حرب كاراباخ الأخيرة مع الأذريين، ولم تنفجر أو انفجر منها 10% فقط، بنشر مقاطع فيديو لعمليات سابقة، تتضمن إطلاق صواريخ إسكندر في سورية وانفجارها على الأرض السورية، وغالبًا على أهداف حيّة، لتؤكد للأرمن أن صواريخ إسكندر سليمة ومُجربة وتعمل بشكل سليم، ودليل ذلك أنها استُخدِمت بنجاح في سورية.
لقطات الفيديو لإطلاق صواريخ إسكندر التي نُشرت مُصوّرةٌ في مطار حميميم، الذي تتخذه روسيا قاعدة لقواتها في سورية ومقرًا لإدارة عملياتها العسكرية، حيث أطلق صاروخان باتجاهين مختلفين، أحدهما نحو المشفى الوطني في شمال حلب في مدينة إعزاز، في مناطق سيطرة المعارضة السورية، والآخر نحو مدينة الطبقة في محافظة الرقة فوق منازل، وتظهر اللقطات إطلاق الصاروخين وإصابة الأهداف، حيث سيستخدمه الروس طبعًا كمادة دعائية تسويقية، من قبل لجان مبيع الأسلحة التابعة لوزارة الدفاع الروسية.
لطالما جرّبت روسيا أسلحتها في سورية، ثم عدّلتها وطورتها لتلافي الأخطاء، ثم عادت وجربتها مرة ثانية وثالثة في الساحة السورية نفسها، ولم تخفِ هذا الأمر، بل على العكس تباهت به وبأسلحتها التي صارت جاهزة للبيع ومضمونة الفعالية، بعد أن قتلت عشرات آلاف السوريين، ودمّرت مئات المنازل والمراكز الحيوية في مناطق سيطرة المعارضة السورية، حتى إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قال إن الحملة العسكرية الروسية في سورية لا تُقدَّر بثمن لتطوير القدرات القتالية للجيش الروسي واختبار أسلحة جديدة.
يصعب حصر جميع الأسلحة التي جرّبتها روسيا في سورية، وبعضها سرّي، غالبًا إما لأنه في طور التجريب ومرحلة السرّية، وإما لأنه محرّم على النطاق الدولي، ومن بين هذه الأسلحة مقاتلات سوخوي 35 و 57، والقاذفة توبوليف 160، والقنابل الذكية وأنظمة الدفاع الجوي، وطائرات بدون طيار، ومدرعات لإزالة ألغام، وصواريخ بحر – أرض بعيدة المدى من نوع (كاليبير) أُطلقت من بحر قزوين لتقطع نحو 1500 كم نحو سورية.
كذلك جرّبت روسيا صواريخ حرارية، ذات وميض هائل، جُرّبت في ريف حلب عام 2016، ووفق الخبراء تأتي هذه الصواريخ بالمرتبة الثانية بالقوة الانفجارية والتدمير، بعد القنابل النووية، وأيضًا جرّبت المروحيات القتالية ك 52، و”بذة جندي المستقبل – راتنيك”، والصواريخ المضادة للدبابات (بي تي أو إر – شتورم”، والمنظومة المضادة للدبابات “فيخر”، وصواريخ جو – أرض “أكس-25″، وأسلحة ليزرية، وقنابل عنقودية جوية، وغيرها الكثير.
جرّبت روسيا أسلحتها في سورية في بيئة مناخية شبه صحراوية وصحراوية جديدة على القوات الروسية، وفي تضاريس أرضية تتطابق مع أرض المعارك، لا تشبه ما اعتاد الجيش الروسي عليه، واكتسب مقاتلو الجيش الروس خبرة مهمّة للمستقبل، على حساب السوريين، وتباهت باعتدائها هذا وتحويلها للأرض السورية إلى حقل تجارب للموت.
التفاخر الروسي:
من دون تأنيب ضمير، وبكثير من اللا إنسانية، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عام 2019، إنه بفضل العمليات العسكرية في سورية تم الكشف عن عيوبٍ في الطائرات والمروحيات الروسية، وإن روسيا حسّنت إنتاج هذا السلاح وصححت أخطاءه، لأنه كان من المستحيل الكشف عن هذا أثناء الاختبارات في ميادين التدريب العادية.
وقال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو(*): إن الحرب السورية وفّرت لشركات السلاح الروسية مراجعات ميدانية لتعديل عدد من الأسلحة، بعد اكتشاف عيوب بعضها من خلال تجريبها على أرض الواقع في سورية، فيما قال نائبه، يوري بوريزوف، عام 2017، إن بلاده لا تُبالغ إذا أكدت أن خبراء المجمع الصناعي الحربي كانوا بجوار الجيش الروسي في سورية، وقاموا بتحديد العيوب، وإدخال تعديلات في تصاميم الأسلحة والمعدات.
وقال الفريق إيغور ماكوشيف، رئيس اللجنة العلمية العسكرية التابعة للجيش الروسي، عام 2016، إنه لأول مرة في تاريخ القوات البحرية الروسية جرى إطلاق سلسلة صواريخ (كاليبر) المجنحة، من غواصة مغمورة بالمياه، لإصابة أهداف في سورية تبعد 1500 كم، وقال كيريل موروزوف، المهندس العسكري الروسي، إنه من الصعب إدراك كثير من التفاصيل الصغيرة في المصنع، ولهذا فضّلت روسيا الأرض السورية للتجريب.
وقال الإعلام الروسي: إن العملاء المحتملين للسلاح الروسي زادوا كثيرًا خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وباتوا يثقون بالسلاح الروسي، بعد أن تم تجريبه واختباره ضد السوريين، وأثبت فعاليته على أرض المعركة في سورية، وقال مصدر من هيئة الصادرات العسكرية الروسية: إن روسيا حقّقت هدفين في سورية، الأول الإثبات بأن روسيا تتمتع بقدرات قتالية عالية وتكنولوجيا عسكرية متطورة؛ والثاني اختبار أكثر من نصف الأسطول العسكري الروسي، في ظروف قتالية صعبة.
وكذلك قال يوري بوريسوف، نائب وزير الدفاع الروسي، إن العملاء بدؤوا الاصطفاف من أجل الأسلحة التي أثبتت نفسها في المعركة في سورية، وقال سيرغي سميرنوف، مدير مصنع “شكالوف نوفوسيبيرسك” للطائرات الحربية، إن العمليات العسكرية الروسية في سورية شجعت الجزائر على شراء أسلحة من سورية.
وقال بوريس أوبسونوف، رئيس مؤسسة الصواريخ التكتيكية الروسية، إن الحملة السورية، بالنسبة إلى مؤسسته، أصبحت اختبارًا جادًا، واعترف بأنه قبل سورية، لم يكن ممكنًا اختبار الأسلحة الروسية، وقال يوري بوريسوف، المسؤول في وزارة الدفاع الروسية، إن الزبائن بدؤوا يصطفون للحصول على الأسلحة الروسية التي أثبتت نفسها في الصراع السوري.
إلى ذلك، قال أندريه بوجينسكي، الرئيس التنفيذي لشركة “هيليكوبتر الروسية”، إن شركته أجرت عشرات التعديلات المتعلقة بتصميم الطائرات وأسلحتها، خلال الحملة العسكرية في سورية، فيما قال سيرغي كاراجانوف، المستشار السابق في الكرملين للشؤون السياسة الخارجية، إن أحد الأسباب الرئيسية للتدخل الروسي في سورية هو تدريب القوات العسكرية، واستعادة قدرة روسيا على الرد، وأن ذلك يُعدّ رسالة قوية للمشترين المحتملين، مفادها أن الأسلحة الروسية تعمل بشكل مثالي.
تقول بعض التقديرات إن روسيا أجرت أكثر من 14 ألف تجربة، لمختلف أنواع السلاح الروسي في سورية، منذ بدء التدخل العسكري المباشر لروسيا في سورية، في أيلول/ سبتمبر 2015، هدفها تطوير السلاح الروسي وتأهيله ليُنافس في سوق السلاح العالمي، ولتسجيل ابتكارات في مجال السلاح، كذلك، وفق التقديرات، قامت روسيا بنحو 45 ألف طلعة جوية في سورية، منذ ذلك التاريخ، قامت خلالها الطائرات الروسية بنحو 125 ألف هجوم ضدّ أهداف في مختلف المناطق السورية، ووفق المصادر الروسية الإعلامية، فقد شارك في الحرب السورية 98% من طاقم النقل الجوي الروسي، و90% من طواقم الطيران الحربي الروسي، وكذلك 60% من الطيارين للعمليات بعيدة المدى، فيما شارك أيضًا نحو 30% من المختصين بالدفاع الجوي.
تجارة الموت:
صادرات الأسلحة في روسيا تجارة مهمة وأساسية، وقد جرّبت روسيا أسلحتها في سورية، بالطبع لدعم النظام ومنع سقوطه من جهة، وللترويج للصناعة الحربية الروسية وتطويرها وإثبات جدارتها وإيجاد أسواق جديدة لها، من جهة ثانية، وتُسيطر روسيا على نحو 25% من صادرات الأسلحة عالميًا، وتعدّ آسيا من أهم أسواقها (60%)، ثم أفريقيا (30%)، ثم أميركا اللاتينية (5%)، وتُمثّل الطائرات القتالية نحو نصف المبيعات، والأسلحة البرية 30% منها، والدفاع الجوي 20%.
تجريب روسيا لأسلحتها في سورية، وجرائم الحرب التي ارتكبتها خلال هذا التجريب، والجرائم ضد الإنسانية، تؤكد من جديد أن نظام روسيا يشبه النظام السوري، الذي قبِل أن تتحول بلاده إلى حقل تجريب لسلاح الغير، وتؤكد أن روسيا لا تأبه بالقوانين الإنسانية الدولية، ولا حتى بأخلاقيات الحروب وقوانينها، والغاية، بالنسبة إليها وإلى النظام السوري، تُبرر الوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية والاقتصادية، ولا تأبه بمطالب الشعوب التي تسعى وتُناضل من أجل الحرية، وإن هذا المؤشر وحده كفيلٌ بأن تتوقف المعارضة السورية كثيرًا أمام أي استراتيجية أو خطة أو مبادرة تتقدّم بها روسيا تمسّ القضية السورية، في المدى القريب والمتوسط، على أقل تقدير.
(*) جميع التصريحات الواردة على لسان شخصيات روسية، منقولة عن مواقع عربية، ترجمتها ونقلتها هذه المواقع عن مواقع روسية رسمية أو شبه رسمية.