تصرُّ روسيا على أن الوضع في سورية بات مهيّأً ومناسبًا لعودة اللاجئين السوريين إلى سورية، وهي تستعجل عودتهم، وتسعى إلى إرغامهم على العودة إلى جحيم الأسد، بالتهديد تارة والترغيب تارة أخرى، من خلال الضغط على دول اللجوء، وتخويفها من تحوّل مخيمات اللجوء إلى مركز لنشر التطرف، وتستغل تزايد التذمّر الشعبي حيال وجود اللاجئين في دول إقليمية وغربية، خاصة مع تفاقم الحركات الشعبوية واليمنية المتطرفة في أوروبا، وتضغط أيضًا على ما يسمّى “المعارضة الداخلية” المقربة منها، كي تنخرط في دعوة اللاجئين للعودة إلى سورية، وقد تبيّن هذا من تصريح أحد أعضاء اللجنة المركزية في حوران، ويُدعى أبو أحمد، إذ ردّ على الطلب الروسي قائلًا: “كيف لنا أن ندعو المعارضة إلى إقامة مؤتمر في دمشق، ونشجّع اللاجئين على العودة، ونحن نعيش أوضاعًا اقتصادية وأمنية سيئة، والاعتقالات والاغتيالات تطال المعارضين، رغم إجراء تسويات؟!”.
أين هي الظروف المناسبة التي تتحدث عنها روسيا لعودة اللاجئين؟ وإلى أين سيعودون؟ أإلى بيوتهم التي نُهبتْ محتوياتها وهُدمتْ حتى سوّيت بالأرض؟! ومن سيُعوضهم عن نهب بيوتهم وتدميرها؟ ومن يضمن لهم توفير الحد الأدنى من المعيشة، إذا كان الأسد نفسه عاجزًا عن تأمين رغيف الخبز للناس القاطنين في مناطق سيطرته، والذين يئنون من وطأة الجوع والحرمان وانقطاع المياه والحرمان من الكهرباء ووسائل التدفئة.. إلخ، وأصبحوا بدورهم يبحثون عن طريق يساعدهم للخروج من جحيم الأسد؟ ومن هي الجهة التي ستضمن ألاّ يتعرض أيّ من اللاجئين العائدين للملاحقة والاعتقال، إذا كان السوريون الذين عقدوا مصالحات مع الأسد برعاية روسية لا يأمنون على حياتهم، من عمليات القتل والاغتيال التي استهدفت كثيرين منهم، فضلًا عن أن مجرد الكتابة على “فيسبوك” باتت تعرّض كاتبها للملاحقة والاعتقال والتعذيب؟ ومن يضمن عدم قيام نظام الأسد بسوق اللاجئين من الشباب إلى الخدمة العسكرية، لسدّ النقص الحاصل في صفوف جيشه، نتيجة عزوف كثير من الشباب الذين يعيشون في مناطق سيطرته عن المشاركة في الخدمة العسكرية، وفضّلوا الهرب خارج البلاد أو الاختباء عن أعين المخابرات أو دفع الرِّشا الباهظة؟
إن المتتبع للأوضاع الحالية في سورية يكتشف -من دون عناء- أنها ما زالت غير مهيّأة لاستقبال اللاجئين، بل إن الأوضاع تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، في ظل تفاقم الأزمة المعيشية، وعجز الأسد عن توفير رغيف الخبز حتى للموالين له، مع استمراره في سياسته الأمنية التي كانت سببًا في انتفاضة السوريين عليه، وما تزال تشكل سببًا إضافيًا في تهجير ملايين السوريين.
على مدى الأشهر الماضية، وردتني اتصالات من أصدقاء وأقرباء يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها قوات الأسد، يطلبون منّي مساعدتهم في الخروج من سورية، إلى أيّ بلد في هذا العالم.. يريدون الخروج من سورية بأي طريقة ممكنة، ليس لأنهم معارضون لنظام الأسد، أو لأنهم يتعرضون لمضايقات أمنية، بل لأنهم باتوا عاجزين عن تأمين رغيف الخبز، ولم يعد لديهم القدرة على تحمّل ظروف الحياة في سورية التي أصبحت جحيمًا لا يطاق.
صفحات التواصل الاجتماعي لسوريين يعيشون في مناطق سيطرة الأسد تتحدث، بوضوح وبعفوية، عن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأمنية في سورية، وهي تعكس بمرارة كيف يقضي السوريون أيامهم في البحث عن رغيف خبز يسدّ جوعهم إلى حين، قصص يومية مؤلمة وحكايات تُبكي من أهوالها الصخور والأحجار.. يكفي أن يطّلع المرء على صفحة الكاتبة سلوى زكزك حتى يكتشف أن سورية لم تعُد مكانًا صالحًا للعيش بل أمست جحيمًا حقيقيًا، فمن يستطيع أن يُقنع لاجئًا للعيش في الجحيم مجددًا؟
تقول السيدة سلوى زكزك، معبّرة عن إحدى مشاهداتها اليومية للجحيم السوري: “لم يعُد ممكنًا أن نشرح ونعلن بأننا جوعى ومُحزنون، فقد استوفت اللغة سقفها في التعبير.. لم يعد ذا قيمة أن نرثي أحوالنا ونعلن موتنا المعلن، فقد استولى اليباس والهمجية على كل مفاصل العيش.. ثمة حالة لا يمكن وصفها، مع أن الشعور بها غامر، إنك لا تعني شيئًا حتى لنفسك، إنك جبل المحامل الصخري الذي ينوء حتى تحت رغبته في الفرار ولا يجد اليه سبيلا”.
وفي مشهد مأساوي، يعبّر عن الحال التي وصل إليها القاطنون في مناطق سيطرة الأسد، تصف لنا السيدة زكزك، في إحدى مشاهداتها كيفَ أن السوريات والسوريين انتقلوا من مرحلة محاكاة أنفسهم إلى محاكاة قوت يومهم.. تقول زكزك: “اليوم بكراجات حلب، رجلٌ يحاكي ربطة الخبز، ويقول لها بعد أن ألصقها بصدره: بتستاهلي يا قاسية خمس ساعات وقفة عقصب رجلي؟ سيدة في سوق الطبالة للخضار بعد أن أحصت عدد الخيارات التي يتألف منها الكيلو.. أمسكت خيارة، وقالت لها بحدة بالغة طلع حقك مية يا معوّدة.. معقول القرطة منك بخمسين ليرة؟!”.
المحامي ناهل المصري كتب من دمشق على صفحته، معترضًا على عقد مؤتمر عودة اللاجئين في دمشق: “أنا عندي مشكلة وحيدة مع المؤتمر، مشكلتي أنه سينعقد في دمشق، دمشق اليوم غير مؤهلة لاستضافة المؤتمرات، لأسباب نعرفها جميعًا، وغير مؤهلة لعودة أحد، مو حلوة تنقطع الكهرباء أربع ساعات على المؤتمرين، ما عندهم وقت، بدهم يرجعوا على بلادهم وبلاد اللجوء، وماذا سنفعل بالبطاقة الذكية ودور الخبز والغاز والبنزين والمازوت لو عاد اللاجئون؟! لو عقد مؤتمر عودة اللاجئين السوريين في دولة أجنبية، وقُدِّرَ أن أُدعى إليه، لحضرته فورًا ودونما تردده، وألقيتُ خطبة عصماء أدعو بها كلّ أبناء بلدي للعودة.. وعند انتهاء المؤتمر، سأطلب اللجوء في الدولة التي جرى فيها”. وفي منشور آخر يسأل المصري: “كيف نقنع الموجودين في سورية بعدم مغادرتها واللجوء لدولة أخرى، إن سنحت لهم الفرصة بذلك؟”.
السيد فوزي هايل عريج كتبَ أيضًا من دمشق معلقًا على منشور المحامي ناهل المصري: “مؤتمر ماذا؟ وعن أي عودة يتحدثون؟ وإلى أين سيأتون؟ وإلى أي مصير أسود يسيرون؟ هيئوا لنا نحن القابعين هنا فوق أرض الوطن وتحت سقفه سبلَ العيش الكريم، ثم اعقدوا ما شئتم من مؤتمرات”.
إن عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم هي حقٌ لهم، لا يجادلهم فيه أحد، لكن حلّ قضيتهم لا يتم إلا من خلال تنفيذ القرارات الدولية، وفي مقدمتها بيان جنيف والقرار 2254، وليس من خلال روسيا التي ساهمت في تشريد السوريين وتدمير ممتلكاتهم، ولا يمكن فهم استعجال روسيا اليوم لعودة اللاجئين السوريين إلا باعتباره محاولة منها للفصل بين مسار اللاجئين من جهة، والعملية السياسية التي نص عليها القرار 2254 من جهة أخرى، أيّ قلب العملية السياسية التي نصّ عليها بيان جنيف 2012 وجميع قرارات مجلس الأمن، وصولًا إلى القرار 2254، رأسًا على عقب، وتحويل الإنجازات العسكرية التي حققتها الآلة العسكرية الروسية إلى قبول سياسي، وتبييض صفحة النظام وتلميع صورته وإعطائه صك براءة، وإعادة تأهيله من جديد، وكأن شيئًا لم يكن، تمهيدًا لفتح الطريق أمام ملف إعادة الإعمار.
ما لم تتغيّر طبيعة الحكم وسلوكه، فإن اللاجئين السوريين لن يعودوا، وليس هناك من طريق لعودة اللاجئين كل اللاجئين إلا الإصرار على تنفيذ القرار الدولي 2254 كما هو، لا كما تريد روسيا، هذا القرار الذي يشدد على قيام عملية انتقال سياسي حقيقي، وفقًا للخطوات التي نصّ عليها بيان جنيف، تبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية وتشكيل حكومة انتقالية تنحصر مهمتها بتهيئة الظروف الملائمة لعودة اللاجئين، كتأمين أماكن سكن بديلة ولائقة، ومنحهم التعويضات المناسبة عن بيوتهم التي نُهبت وهُدمت، وتوفير الخدمات الأساسية من أمنٍ ومأكل وملبس وماء وكهرباء وتدفئة، وضمان حرّيتهم في الرأي والتعبير والتنقل، دون أي عوائق، وإطلاق سراح المعتقلين والمختفين قسريًا، والبدء بعملية إصلاح وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والجيش والقضاء وإلغاء القوانين والمحاكم الاستثنائية، وفي مقدّمها محكمتا الميدان العسكرية ومحكمة الإرهاب، وصياغة قانوني أحزاب وانتخابات جديدين، وصولًا إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين السوريات والسوريين، على أساس مبدأ المواطنة المتساوية، بصرف النظر عن آرائهم ومعتقداتهم وأجناسهم وألوانهم.