تدرك موسكو قبل أنقرة أن القصف الجوي لطائرات قاعدة “حميميم”، في إدلب وأريافها، هو نوع من التعبير عن غضب الكرملين من مواقف تركية لا تتوافق مع سياسات موسكو، وأن تلك الهجمات تمثل نوعًا من الضغوط على صانع القرار التركي في شمال غرب سورية، وحول الموقف التركي الحاد تجاه نظام الأسد، وقد وصل القصف الجوي الروسي، في الآونة الأخيرة، إلى مناطق كانت محرّمة على الطيران الروسي، سواء في مناطق “درع الفرات” أو مناطق “غصن الزيتون”، في أرياف حلب الشرقية والشمالية والغربية التي بدأ الطيران الروسي يتناولها ببعض هجماته الجوية.
وتدرك موسكو أيضًا أن كلّ غارات قصفها الجوي التي زادت عن 150 غارة، خلال الأشهر الثلاث الأخيرة، لا تعني تمهيدًا أو تحضيرًا لاجتياح عسكري لأرياف إدلب، ولا تعني إمكانية التقدّم في قرى جبل الزاوية الذي تستهدفه معظم تلك الهجمات الجوية؛ لأن جنرالات قاعدة “حميميم” الروسية على دراية ومعرفة تامّة بأن الانتشار العسكري للنقاط التركية الـ 55 يأتي وفقًا لانتشارها الحالي على خطوط التماس والنقاط الحاكمة، ومهما حاذرت روسيا وحلفائها عدم الاصطدام معها، فلن تفلح، نظرًا لحجم القوات التركية الكبير، ونظرًا للطريقة الذكية بانتشارها وتموضعها، ومن ثم فالوجود العسكري التركي سيعيق أي تقدم لميليشيات النظام على كامل أرياف إدلب الشرقية، ومنها جبل الزاوية. ومما زاد الغضب الروسي أنباءٌ تم تداولها أخيرًا عن قيام وزارة الدفاع التركية بإدخال بعض عناصر منظومة دفاع جوي متطورة، إلى داخل الأراضي السورية، مع الاحتفاظ بالأجزاء الرئيسية منها (سطع ومتابعة وتدقيق) داخل الأراضي التركية وعلى مقربة من الحدود السورية، لتأمين الربط والمتابعة وإمكانية الاستخدام عند الضرورة، وموسكو تعلم (إذا تأكدت تلك المعلومة) أن عمل تلك المنظومة ليس موجّهًا ضد طيران “نظام أسد” الذي أوقف عملياته الجوية بطيرانه المتهالك أخيرًا، فوق شمال غرب سورية، وليس موجهًا ضد طيران حليفتها في “الناتو” الولايات المتحدة الأميركية، ولا ضدّ طيران التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي يعمل بمنتهى الحرية، وبتنسيق رفيع المستوى مع غرف العمليات العسكرية التركية في مناطق نفوذها، وخاصة طيرانه المسيّر الذي قصفت إحدى طائراته المذخرة يوم الاثنين الماضي عربة على طريق إدلب – بنش، واغتالت أحد أبرز قادة القاعدة.
خلال المرحلة السابقة، كان واضحًا أن العلاقة التي تجمع موسكو بأنقرة يمكن تسميتها بعلاقة “الأعدقاء”، نظرًا للظاهر من التنسيق والضامر من الخلافات، وهذا ما يؤكده المفكر السياسي والكاتب الروسي فييتالي نعومكين بالقول: “بالرغم من أن علاقاتهما تستند إلى أساس قوي للتعايش بين الشعبين الروسي والتركي، فإن ذاكرتهما التاريخية مثقلة بالمظالم”.
الانزعاج الروسي الأكبر من مواقف أنقرة كان بارزًا في إدلب، حيث كانت هناك رغبة من جنرالات قاعدة “حميميم” في أن يكون الانتشار القتالي للنقاط التركية الموجودة في إدلب، أو النقاط الثمانية المنسحبة من مناطق سيطر عليها نظام الأسد أخيرًا، شمال الأوتوستراد الدولي (إم فور) وليس جنوبه، كما فعلت أنقرة وقياداتها العسكرية، وأيضًا سمعنا كثيرًا من الانتقادات الروسية لأنقرة، حول عدم التزامها بتنفيذ تعهداتها في اجتماعات “آستانا”، أو من خلال التفاهمات التي انبثقت عن القمة الروسية التركية في الخامس من آذار/ مارس 2020 التي تطالب تركيا بالعمل على التخلّص من التنظيمات الموضوعة على قوائم الإرهاب، وأهمها “هيئة تحرير الشام”، وتصريح الوزير لافروف الأخير كان يعكس هذا الانزعاج، عندما انتقد عدم تنفيذ تركيا لاتفاق إدلب المبرَم بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان، وقد استدعى ذلك ردًا من وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، قال فيه: إن “هناك اتفاقيات تم توقيعها بعد محادثاتنا مع روسيا. نحن نلتزم بها وأوفينا ونفي بمسؤولياتنا، وننتظر من محاورينا الالتزام بهذه الاتفاقيات وبمسؤولياتهم، وأهمّها وقف إطلاق النار المهمّ لأمن وسلامة الناس هناك، وكذلك لمنع موجة جديدة من هجرة السوريين”. وحديث الوزير التركي عن الهجرة والتهجير أمرٌ غاية بالأهمية للأوروبيين، وهذا ما أرادت تركيا الغمز له، بالرغم من أن الموقف الأميركي والأوروبي كان ولا زال داعمًا قويًا لسياسة الأتراك في شمال غرب سورية.
في الآونة الأخيرة، كان بارزًا مدى الانزعاج الروسي من ازدياد حجم التنسيق بين أنقرة وواشنطن بملفات عديدة، بدءًا بسورية مرورًا بأفغانستان وحتى ليبيا، وهو ما أكده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في أثناء افتتاح المبنى الجديد للبيت التركي في نيويورك، الذي يقع مقابل مقر الأمم المتحدة، حيث تحدث عن عمق العلاقة التي تجمع بلاده مع الأميركان، وخاصة ضمن حلف “الناتو”، وعن عمق العلاقات الاقتصادية كثالث دولة، من حيث التبادل التجاري مع تركيا، وتوقع أن يزيد حجمها ليصل إلى (25) مليار دولار قريبًا.
أيضًا، كان هناك انزعاج روسي من تنسيقات وضغوط أميركية – تركية، على حلفائهم في (مسد) والائتلاف الوطني، بمحاولة لتنقية العلاقة بينهما، وربما لإيجاد تحالف من جديد يجمعهما، وهذا الأمر يقلق موسكو ويعكّر صفو مخططاتها في شرقي الفرات، لذلك أرسلت موسكو رسالة (إعلامية) إلى أنقرة بلقاء “بوتين – الأسد”، عندما قال بوتين: “أصبحنا معًا نسيطر على 90% من الأراضي السورية”، معتبرًا المناطق التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” من ضمن الحصة الروسية التي يتشاركها مع نظام الأسد في سورية، وكانت سبقتها رسالة روسية حاولت من خلالها خلق الشك وزرع خلاف بالعلاقات الأميركية – التركية، عندما تحدث الإعلام الروسي، نقلًا عن مسؤولين روس، بأن موسكو وأنقرة في طور الإعداد لصفقة صواريخ دفاع جوي جديدة من منظومة (إس 400)، لكن أنقرة سارعت -عبر أحد مسؤوليها- إلى نفي الخبر جملة وتفصيلًا.
إذًا، بات واضحًا أن حجم التصعيد الروسي والأسدي المتزايد في أرياف كلٍّ من إدلب وحلب والساحل ليست غايته التمهيد لاجتياح عسكري أو هجوم بري، وإن كانت مطالب الروس لم توقف هدفها بالوصول إلى الأوتوستراد (إم فور)، إلا أن قصف إدلب حاليًا يمثل ضغوطًا روسية موجهة نحو شرقي الفرات، مع معلومات عن مفاوضات بدأت خلف الجدران، بين مسؤولين أتراك وبعض القيادات السياسية لمجلس (مسد)، أو عبر الخطاب الإعلامي العقلاني الذي بدأه رئيس الائتلاف د. سالم المسلط، فردّ عليه سريعًا الرئيس المشترك لـ (مسد) الشيخ رياض ضرار، وكلاهما طالب بفتح الحوار الذي يحقق وحدة الصف، لإدراكهما معًا أنه مهما يكن حجم التنازلات للطرف الآخر فإنها ستكون أقلّ بكثير من الخيارات الأخرى المتمثلة بخسارة (مسد) فيما لو خضعت لنظام أسد، أو خسارة الائتلاف والمعارضة لـ 25% من الجغرافية السورية تسيطر عليها (قسد) والتي ستؤول إلى النظام، بما تحويه من نفط وغاز وقمح وقطن ومياه وكهرباء، عدا ضعف الموقف السياسي والعسكري لشمال غرب سورية، إذا أصبحت 90% من الجغرافية السورية تحت سيطرة الأسد، كما قال الرئيس بوتين.
لطالما رددت قيادات “قوات سوريا الديمقراطية” أنّ الروس عادةً ما يضخّمون لنا مخاطر الأتراك، ويضخمون لنا مخاطر الاقتراب من الجيش الوطني، ويسرّبون لنا سيناريوهات قاتلة ومميتة قادمة من الأتراك والمعارضة، آخرها منذ أيام، ما سرّبته صحيفة (نيزافيسيمايا غازيتا) الروسية، عن تحضيرات وتجهيزات تركية، لشنّ عملية عسكرية ضخمة، إلى جانب فصائل المعارضة في شمال شرق سورية، وقيادات شرقي الفرات تقول: “إن التسريبات الروسية ليست حبًّا فينا وبمصالحنا، إنما تهدف إلى جرّنا نحو نظام الأسد، وجعله خيارًا وحيدًا لا مناص منه”.
في شرقي الفرات، باتت معظم الأوراق مفضوحة، وبات اللعب بين اللاعبين الدوليين والمحليين على المكشوف؛ فالولايات المتحدة الأميركية أعربت أكثر من مرة عن رغبتها في إعادة جنودها للوطن والانسحاب من سورية، والروس يعدّون الوجود الأميركي مخالفًا لشرعة الأمم المتحدة، وعينهم تنصبّ على ما سيتم تحقيقه (إذا انسحب الأميركان من شرقي الفرات) من مزايا اقتصادية، لو تمت السيطرة على السلة الاقتصادية السورية الموجودة شرقي الفرات، والأتراك يعلمون اليوم أن فكرة الانفصال لم تعد مطروحة لدى قيادات (قسد)، وأن قوات سوريا الديمقراطية بدأت -بضغوط أميركية- بإبعاد حزب PKK عن مناطق نفوذها، وتركيا تعلم أيضًا أنها لو استطاعت خلق تفاهمات وانسجام بين “الجيش الوطني” وقوات (قسد)، بما يضمن متطلبات الأمن القومي التركي، وهي القادرة على ذلك، فستكون ضربت عصفورين بحجر: الأول تحقيق مطالبها واستعادة الثمن الذي دفعته تركيا لتحقيق تلك المطالب، والثاني الإيفاء بالالتزامات التي قطعتها على نفسها للحليف بالثورة السورية.
فهل ينجح الدب الروسي في تحقيق أهدافه عبر جبروته العسكرية؟ أم تتغلب الحنكة السياسية لدى أنقرة وتسحب البساط من تحت أقدام الروس في شرقي الفرات؟ أم يتفق (الأعدقاء) على توزيع التركة الأميركية بما يتناسب مع مصالحهما، ويخرج السوريون من المولد بلا حمص؟!