وجّه الأسد، خلال ما يسمّى بخطاب القسم الذي ألقاه في تاريخ 17 تموز/ يوليو 2021، بضعة رسائل للمجتمع الدولي، وللسوريين بشكل عام، ولفئة جديدة أدرجها في خانة الاستهداف بشكل خاص، وهم الرماديون، الذين وصفتهم لونا الشبل (المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية) خلال حوارها التفسيري للخطاب على الإخبارية السورية بـ “رماديي المبدأ”، ووجّهت إليهم تهمة العمالة[1]، في استباق للاجتماع المشترك السوري الروسي الذي عقد في دمشق بتاريخ 26 تموز/ يوليو 2021، لمتابعة عمل مؤتمر عودة اللاجئين والمهجرين السوريين الذي عُقد في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. وهدد الأسد اللجنة الدستورية مستقويًا بما أسماه “التفاعل الشعبي الذي امتد خلال الأسابيع التي سبقت التصويت”، وسفّه تصريحات المسؤولين الغربيين الذين ما زالوا يتحدثون عن شرعية الدولة، أي شرعيته، وشرعية الدستور الحالي.
من رسائل الأسد المتعددة في خطابه، سنقف عند رسالتين؛ تتعلق الأولى باللجنة الدستورية، والأخرى بعودة اللاجئين واللاجئات.
اللجنة الدستورية
نسف بشار الأسد اللجنة الدستورية، إذ خاطب جمهوره قائلًا: “أثبتم مرة أخرى وحدة معركة الدستور والوطن، فثبتم الدستور أولوية غير خاضعة للنقاش أو للمساومات، لأنه عنوان الوطن، ولأنه قرار الشعب”، وأكد أن الشعب “فرض دستوره في الشارع وصناديق الاقتراع”. وعاد الأسد إلى “الأسابيع الأولى للحرب”، عندما حاول “الأعداء” إقناعه بتعليق الدستور القائم من أجل خلق فراغ يؤدي إلى الفوضى، وأضاف أن هذه الطروحات ما تزال مستمرة حتى الآن، ويتم العمل عليها “عبر بعض العملاء المعينين من قبلهم بواسطة تركيا […] تهدف في المحصلة للوصول إلى دستور يضع سورية تحت رحمة القوى الأجنبية، ويحوّل شعبها إلى مجموعة من العبيد والمطايا”. لكن هذه المحاولات تبخّرت، ولن يتمكّن مَن وصفهم بالأعداء “من تجاوز قرار الشعب لأنه الأقوى، ولا من القفز فوق إرادته لأنها الأعلى”[2]، وشرحت لونا الشبل فقرة التهديد هذه، بأن الشعب هدد وتحدى الخارج، من خلال نزوله إلى الشارع، حاميًا الدستور في أحد بنوده المتعلقة بالانتخابات الرئاسية، فكيف سيكون نزوله عندما يتعلق بالدستور نفسه! وأضافت أن هذا المشهد لا يمكن تجاوزه، ووصفت مشاركة النظام في اللجنة الدستورية بالتكتيك السياسي المختلف عن الحقيقة والثوابت، حتى لو انزعج الصديق (الروسي) حسب قولها، وأشارت إلى أن الوسيط الروسي بقي عامًا ونصف العام يتواصل معهم ومع الأتراك، حتى تشكلت اللجنة، وأن وفد المعارضة تركيّ الهوى، والمباحثات سورية – تركية، وليست سورية – سورية.
لم يُفاجأ غالبية السوريين، نساءً ورجالًا، بمراوغة النظام وعدم جديته بشأن الحل السياسي من جهة وعمل اللجنة الدستورية من جهة أخرى، لكن الخطاب، يدحض كل الأوهام التي بناها البعض على إنجاز عمل اللجنة الدستورية التي التف تشكيلها على التسلسل الزمني للقرارات الأممية التي تبدأ بانتقال سياسي عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي.
عودة اللاجئين واللاجئات
قسم الأسد السوريين/ات إلى ثلاث فئات، تضم الأولى الوطنيين، وتشمل العائلات التي أرسلت أبناءها ليقدموا أرواحهم وأجسادهم فداءً لوطنهم، ومن وقفوا مع الوطن، ومنهم من دُعي إلى حضور الخطاب؛ ووصف الفئة الثانية بأنها فئة تائهة، حسنة النية، لكنها افتقدت المسلمات، فسهل اختراقها فكريًا، وتمت السيطرة عليها نفسيًا، فتشتت فكرها وتاهت أفكارها وانحرف مسارها، ففقدت المعاني الحقيقية للارتباط بالوطن والحرص عليه، واتهمها الأسد بأنها فئة شجعت الأعداء على التدخل، وساعدت الإرهاب والفوضى على الانتشار، ووسع الأسد هذه الفئة، وضمّ لها ما اصطلح على تسميته بالرماديين والصامتين، أي “من وقف بدون موقف فاعتقد أنها حكمة، ومن أخذ مواقف ملتبسة معتقدًا بأنها حنكة، ومن مارس الانبطاح معتقدًا أنه انفتاح”، حسب قوله، واعتبر الأسد أن هذه الفئة غابت عنها المرجعية الفكرية والأخلاقية. وتوسعت لونا الشبل، خلال حوارها التلفزيوني على الإخبارية السورية[3]، بتوصيف هذه الفئة الواسعة “المُغرر بها”، حسب وصفها، واعتبرتهم “رماديي المبدأ”، ووسط بين من دافعوا عن الوطن من جهة، وداعش والنصرة من جهة أخرى، وأوضحت بأنها فئة تضم مثقفين وإعلاميين وأساتذة جامعات، ورماديين ممن استخدموا مصطلحات مثل “الله يطفيها بنوره”، و”كلّ الناس خير وبركة”، ووصفت هذه الفئة بالعملاء، فحسب قولها لا يوجد ربع عميل، فالعميل عميل. أما الفئة الثالثة فهم العملاء والإرهابيون والخونة.
ووفقًا لهذه الفئات والتقسيمات، وجّه الأسد دعوة “لكل من غُرر به، ولكل من راهن على سقوط الوطن، لكل من راهن على انهيار الدولة أن يعود إلى حضن الوطن، لأن الرهانات سقطت وبقي الوطن”، واعتبر أن التراجع عن الخطأ فضيلة، وأن الشعب سيسامحهم، وأول من سامحهم هم عائلات الشهداء الذين فتحوا أبواب المصالحات.
في واقع الحال، إن بوّابة العودة إلى سورية ما زالت تمرّ عبر البوابة الأمنية، ولهذا لا ضمان لسلامة العائدين/ات من السطوة الأمنية، فضلًا عن الشروط التي تفرضها الأفرع الأمنية على من يرغب في العودة، كـ “العمل السياسي” مع أحد عملائهم المعروفين، ولا يستثنى النشاط المدني من تلك الشروط، فمثلًا “نصح” أحد أفراد الأجهزة الأمنية إحدى الناشطات، في أثناء مراجعتها للحصول على موافقة أمنية تتيح لها السفر لحضور ورشة عمل في بيروت، بالعمل مع مدير إحدى منظمات المجتمع المدني الناشطة داخل سورية وخارجها!
قرصة الأذن الروسية
أتى خطاب القسم وهجوم النظام والميليشيات الإيرانية على “درعا البلد”، تقويضًا للأهداف السياسية التي تسعى إليها موسكو، بعد نصرها العسكري وتعويم النظام، والمتمثلة بالإصلاح الدستوري وعودة اللاجئين وإعادة الإعمار، وتجلت إشارات استياءها، بالامتناع عن توفير غطاء جوي، حتى الآن، للهجوم المدفعي والصاروخي الذي شنه النظام على “درعا البلد”، وتنسيق روسي لمنع التصعيد، وتصريحين، غير رسميين[4]، لمستشار وزيري الخارجية والدفاع الروسيتين: رامي الشاعر، تساءل في الأول عن جواز حشد جيش السلطات السورية لاقتحام مُدن يُقدر عدد سكانها بحوالي 50 ألف نسمة، وهي التي لا تستطيع تأمين الحد الأدنى من مقومات عيشهم، “لمجرد أنهم جميعًا غير راضين عن الأوضاع ونظام الحكم”، وأقرّ بأن “التوتر وعدم الاستقرار ومشاعر الرفض لا تقتصر على الجنوب، وإنما تمتد لتشمل غالبية المدن والمناطق السورية”. وأشار إلى أن سيادة الدولة السورية على ترابها “لا تتجسد في فرض نظامها وقوانينها الأمنية، بل بتأمين مقومات الحياة الأساسية للمواطنين […] وتوفير الإحساس للمواطن بالأمن والاستقرار وضمان حقه بالتعبير عن رأيه بحرية تامة”[5]. أما التصريح الثاني للشاعر[6]، فقد انتقد “قيادات دمشق”، بتحويل أعمال اللجنة الدستورية المصغرة إلى “منصات للتنظير في أصول المفاهيم ومعاني الكلمات”، وأشار إلى أن تجاهل الأسد للجنة الدستورية في خطاب القسم، أو مهاجمتها في بعض مواقع الخطاب، تتعارض مع إرادة “غالبية الشعب” وإرادة المجتمع الدولي، في “دعم حق الشعب السوري في حرية تقرير مصيره واختيار نظام حكمه استنادًا إلى تعديل دستوري”.
وانتقد خطاب الأسد عندما تحدث عن “انتماء (الأغلبية) التي انتخبته في اقتراع يفتقد اتساع الجغرافيا واستقرار المجتمع، من دون أن ينتبه إلى (شعب) آخر يوجد خارج البلاد، وغيرهم (شعب) داخل البلاد تحت حماية قوى أجنبية، وهم مواطنون سوريون يخشون بطش القيادة وانتقامها […] وغير أولئك وهؤلاء هناك (شعب) ثالث ورابع لا يشاطر السلطة الراهنة رؤيتها السياسية في مستقبل البلاد، بل يرغب في تغيير هذه السلطة بالطرق السياسية السلمية المشروعة، التي نصّ عليها قرار مجلس الأمن رقم 2254، إلا أن السلطة تصرّ على تجاهل ذلك، وتطلّ علينا بثوب 2011، في انتظار نتائج جديدة!”، أما عن الحملة الواسعة النطاق التي شنها الأسد في خطاب القسم على غالبية الشعب، مستثنيًا مواليه، فأشار الشاعر إلى أن “الحديث عن بعض مكونات الشعب السوري بوصفهم (عملاء) أو (خونة)، والتعامل مع بعض فئات المعارضة، بوصفهم أعداء للشعب وللوطن، لا يخدم القضية السورية، ويؤدي إلى تفاقم الوضع الهش بالأساس”. واعتبر أن وصف الأسد للشعب السوري بالمغرّر به، “وكأنه طفل ساذج ضحل الثقافة أو جاهل، يحتاج إلى (أب) حنون عاقل يقوم برعايته وإرشاده”[7]، يمثّل إهانة للشعب السوري.
بالتزامن مع ما سبق، صرح رئيس منصة موسكو قدري جميل[8]، بأن حصيلة نتائج عمل اللجنة الدستورية صفرية، حتى الآن، و ضم رأيه إلى رأي العديد من آراء سياسيين وناشطين، نساءً ورجالًا، الذين استشرفوا فشل عملها قبل الانتقال السياسي وإنشاء هيئة الحكم الانتقالي، وبأهمية التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن 2254 حسب تسلسله الزمني، وأشار إلى أنه منذ البداية تنبأ بأن مؤتمر سوتشي وما سيخرج منه لن يعطي أي نتائج عملية، ما دامت النقطة الأولى لم تطبق، وأفاد بأنه حضر المؤتمر بعد تردد، وتحدث عن إيجابية واحدة للمؤتمر، وهي منع إدخال العملية السياسية في غرفة الإنعاش المركز، وهو الأمر الذي لم يعد كافيًا الآن، ويجب العودة إلى النقطة الأولى من قرار 2254، أي المرحلة الانتقالية التي لا بد منها، مستندًا في قراءته هذه، كما قال، إلى حديث لافروف خلال لقائه مع بيدرسون الأخير، بأنه يجب تنفيذ جميع جوانب قرار 2254.
رسائل الأسد المكررة
أسس بشار الأسد، منذ خطابه الأول بعد الثورة في 30 أيلول/ سبتمبر 2011[9]، لخطاب الكراهية وللانقسام الحاد والعنيف في المجتمع، من خلال ثنائيتي الموالي الوطني، والخائن، وحدد بأنه “لا مكان لمن يقف في الوسط”، وبث التلفزيون الرسمي (الإخبارية السورية) في أيلول/ سبتمبر 2017 تهديدًا مباشرًا لـللاجئين/ات، أطلقه قائد قوات الحرس الجمهوري عصام زهر الدين: “من هرب ومن فرَّ من سورية إلى بلد آخر، أرجوك لا تعود، لأن الدولة إن سامحتك، فنحن عهدًا لن ننسى ولن نسامح، نصيحة من هالدقن لا حدا يرجع منكم”[10].
في واقع الأمر وطوال العشر سنوات الماضية، لم يترك الأسد فرصة إلا وألصق تهمة الخيانة بمعارضيه، وبمن يشك في ولائهم التام، نساءً ورجالًا، وأمعن في قمعهم ومحاصرتهم وقتل كثيرين منهم، حتى اعتقد أنه، و”كرئيس أبدي”، غير مضطر إلى أن يعد الخاضعين لسيطرته بأي تحسين لظروف حياتهم المعيشية القاسية، كما عبّرت عن ذلك المستشارة الخاصة لرئاسة الجمهورية[11].
عمليًا، لا يمكن قراءة الإشارات الروسية إلا كقرصة أذن، فخطاب الأسد وسلوكه، يقوّض مساعيهم أمام المجتمع الدولي، في طيّ صفحة النزاع، عبر عودة اللاجئين، وإصلاح دستوري يمهد لتسوية سياسية، تكسر عزلة الأسد ونظامه، وتؤمن مساعدات تُسهم في إعادة الإعمار، متجاهلين أن الانتقال السياسي الحقيقي الذي يمهّد لتفكيك الاستبداد ومحاسبة مجرمي الحرب وإعادة هيكلة قطاع الأمن، من خلال عدالة انتقالية تحولية، هو ضمانة ضد تفتت سورية، كيانًا وشعبًا.
[1] – YouTube، “حوار مع لونا الشبل المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية السيدة على الإخبارية السورية”، 19 تموز/ يوليو 2021، الدقيقة 26,00 شوهد في 3/8/2021، في: https://bit.ly/3xg5PNu
[2] – “الرئيس الأسد يؤدي القسم الدستوري”، سانا، 17/7/2021، شوهد في 30/7/2021، في: https://bit.ly/37cqkQp
[3] – مصدر سابق، “حوار مع لونا الشبل المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية السيدة على الإخبارية السورية”.
[4] – وردا ضمن حوار معه، ومقال كتبه في صحيفة (زافترا) بصفته محللًا سياسيًا.
[5] – “فيصل القاسم يحاور رامي الشاعر”، ملتقى العروبيين، المجموعة السورية للتواصل الدولي، 6 آب/ أغسطس 2021، شوهد في 8/8/2021، في: https://bit.ly/3xrrIcM
[6] – “انزلاق دمشق نحو الأوهام يبدأ بخطوة واحدة”، RT، زافترا، 21/7/2021، شوهد في 9/8/2021، في: https://bit.ly/3lKiuGo
[7] المصدر السابق نفسه
[8] – “المداخلة الافتتاحية لـ د. قدري جميل، يوم أمس الاثنين في الندوة التي استضافته فيها ريا نوفوستي”، 27 تموز/ يوليو 2021، شوهد في 10/8/2021، في: https://bit.ly/3yEzL7i
[9] – “خطاب الرئيس الأسد في مجلس الشعب”، شبكة فولتير، 30/3/2011، شوهد في 11/8/2021، في: https://bit.ly/3jIwnlM
[10] – يوتيوب، “عصام زهر الدين يتوعد اللاجئين الهاربين وينصحهم بعدم العودة” قناة الجسر الفضائية، 11 أيلول 2017، شوهد في 12/8/2018، في: https://youtu.be/PDbWKyl8uJE
[11] – مصدر سابق، “”حوار مع لونا الشبل المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية السيدة على الإخبارية السورية”.