في مقاله الأحدث الذي نشره مركز حرمون، بتاريخ 1 آب/ أغسطس 2023، يتوقّف الدبلوماسي الهولندي المعروف نيكولاس فان دام طويلًا عند نقطة البداية، نقطة بدء الثورة في سورية وانطلاق التظاهرات والالتحاق بثورات الربيع العربي، موجهًا إصبع الاتهام إلى “المعارضة” التي ورّطت البلد بحمام دم وموجات تهجير، نتيجة سوء تقديرها لقوة النظام وما قد فعله.
يمكن هنا الحديث عن كثير من الأسباب التي كانت وراء خروج الثورة على النظام في سورية، لكن بقراءة واقعية للأمور، لم يكن للثورة ألا تخرج.
فقرار التظاهر لم تتخذه سلطة أو مجموعة ثورية مركزية حتى يكون باستطاعتها إعادة الناس أو إقناعهم بخطورة إزعاج النظام وتحدي سلطته، أو تعريفهم بتاريخ النظام وتشريح بنيته.
الأمل الذي ولّده انطلاق الربيع العربي والنجاحات الشعبية المبكرة دفع كثيرًا من السوريين للتظاهر، بعفوية ودون تخطيط، أملًا بإحداث تغيير وتحصيل بعض المكتسبات.
يعرف السوريون استبداد النظام، واختبروا سياساته التمييزية وعانوا بطش أجهزته الأمنية وتعسّفها لكن لا أدوات للتغيير، ولا قنوات للتعبير عن الأمل بالتغيير في سورية الأسد. فبالمنطق، الذي يرفع لواءَه فان دام، لا سبيل للتغيير في بيئة سياسية مغلقة إلا بالانفجار ومحاولة هدم جدران الخوف، وهو ما حصل في سورية عام 2011.
لِمَ لا يدرك الدبلوماسي المخضرم ما يبدو لنا السوريين بديهيات؟! ولِمَ تغيب عن دروسه مفاهيم الغضب والأمل والكرامة والتضامن والانتماء؟ خاصة أن مادة التحليل ليست مجموعة من الروبوتات أو الحواسيب، بل مجموعة غير منظمة من البشر، انتفضوا مدفوعين بظروفهم ومعاناتهم الذاتية وضمن واقع موضوعي مستجد سُمّي بالربيع العربي! قد يساعدنا في فهم مسألة عدم فهم فان دام لتلك التفاصيل أنه يتبنى المدخل الواقعي الكلاسيكي للتحليل الذي تقتصر مفرداته على مفاهيم الدولة والقوة والمصلحة والعقلانية.
بأدواتهم التحليلية البسيطة، غالبًا ما يقف الواقعيون عاجزين عن فهم دوافع وسياقات وتبعات الحركات الاجتماعية والصراعات الهوياتية والحروب الأهلية والانقسامات الطبقية، ويغيب الإنسان الفرد المواطن عن نطاق رؤيتهم، وتغيب المشاعر والروابط الأسرية والتجمعات الأهلية، مقابل حضور قوي للدولة والحكومة والجيش.
فقر الأدوات يدفع فان دام إلى وضع المتظاهرين السلميين ومقاتلي الجيش الحر والفصائل السلفية والنخب السياسية المعارضة، على اختلاف توجهاتها وأوزانها، في سلة واحدة، ليكونوا الطرف المقابل اللازم لتكتمل الثنائية الحدية البسيطة: نظام ومعارضة.
حصلت الثورة، ثم قُمعت فتعسكرت وتأسلمت، ودخلت البلاد في حرب أهلية تدخلت فيها الدول، ويتساءل فان دام ضمنًا: لِم لَم يتراجع السوريون العقلاء ويتحاوروا مع النظام ويتوبوا عن فعلتهم، حقنًا للدماء وتجنبًا للتهجير؟! لنفترض جدلًا أن الأمور كانت كما يصوّرها فان دام، وأن للثورة قيادة مركزية بيدها قرار الاستمرار أو التوقف والتوبة، فهل كان من الممكن التراجع عن التظاهر والثورة! كان ذلك ممكنًا لو أن النظام، مُمَثلًا بأجهزته الأمنية وعناصر أمنه، لم يكن يتوعّد من خرجوا بعقاب شديد، يقترب من أعتاب الموت، وكثيرًا ما يبلغه.
إذًا، الرهان على طيب خاطر النظام ورأفته بالشعب لم يكن واردًا، حتى بعد التدخل الروسي الحاسم واستعادة النظام لحلب. فالبدء بالثورة، والاستمرار فيها لاحقًا رغم الخسائر، إنما هو محاولة للنجاة، لا ينفع النظر إليها بعقلية المشاريع والخطط المحسوبة. هي مغامرة ومقامرة رهانها الحياة، أقدم عليها من هُمشوا وأُفقروا وسُدّت أمامهم طرق التعبير الأخرى. نعم رُفعت شعارات كثيرة، من إسقاط النظام، للحرية والكرامة، وحتى تطبيق الشريعة وإقامة الدولة الإسلامية، وغيرها، لكن يبقى المحرّك والدافع هو الرغبة بالخلاص، والنجاة من بطش النظام وانتقامه، إن استتب له الأمر. وذلك لا ينفي سوء أداء ورهانات الأجسام السياسية والعسكرية التي مثلت أو ادعت تمثيل الثورة، لكن إضافة إلى وجود طبقة مُرتهنة ومنتفعين من اقتصاد الحرب واستمرار الفوضى، زيت الثورة لم يجفّ يومًا، أي خوف الناس العاديين من استتباب الأمر للنظام وانتقامه.
لا حاجة إلى التأكيد أن المشكلة ليست في مراجعة أداء وخطاب “الثورة السورية”، وإنما المشكلة تكمن في أن فان دام لا يناقش أخطاء الثوار، أو كيف كان يجب عليهم التخطيط والتصرف، بل اختار لوم الناس على البدء بالتظاهر والاحتجاج على النظام من حيث المبدأ.
وأثناء ذلك، يرتكب فان دام عددًا من المغالطات، فهو يرى -بتحليله الواقعي التبسيطي- أن هناك معارضة خرجت على سلطة حاكمة قمعية في لحظة تاريخية غير مناسبة، مع إقراره بنفس الوقت أن لا لحظة مناسبة للخروج على نظام كنظام الأسد. تبعًا له، السبيل الوحيد للتغيير هو انقلاب داخلي ضمن معسكر النظام، أو عبر تدخل عسكري خارجي حاسم، مع تشكيكه أيضًا بنجاعة تلك السبل. إذًا من الطبيعي أن نسأل: ما المطلوب من السوريين فعله في ظل ذلك الانسداد!؟ يغلق فان دام جميع الأبواب بإصرار على إظهار أن الاستبداد قدر لا مفر منه، ما يستدعي للأذهان النظرة الثقافوية الاستشراقية التي تصور الشرق أرضًا خصبة للاستبداد، وأن استبداد الشرق ليس مشكلة سياسية، بل هو في جذره مشكلة ثقافية واجتماعية مزمنة. فتجذُّر وثبات ثقافة استبدادية لقرون من الزمن يرفد السياسة في الشرق بأدوات الاستبداد، ويجعله من صفاتها الثابتة. من الصعب النظر إلى دروس فان دام خارج ذلك المنظور الاستشراقي، فلا يبدو من قراءته أن نظام الأسد متميز بسلوكه، ولا أن عليه مسؤولية أكثر من غيره، ولا أن من الممكن استبداله ببديل أقل سوءًا واستبدادًا وشمولية، وإنما السوريون ضحايا القدر والتاريخ، ومحاولتهم للهروب من قدرهم انتحار ومغامرة لا عقلانية يستحقون اللوم عليها!
نجاح الحراك الشعبي مبكرًا بتغيير شكل وأداء النظام كان ليكون معجزة لو حدث، أما تعنّته واستمراره في حلّه الأمني ورفضه إجراء أي تغيير، فكان دومًا الأرجح والسيناريو الأكثر اتساقًا مع بنيته وتاريخه، لكن ما حدث لاحقًا بعد انطلاق الثورة هدد فعليًا سلطة النظام، وفي بعض المراحل جعل منه الطرف الأضعف والأقل سيطرة.
فخارج ثنائية النظام والمعارضة، طرأت عوامل مهمة، لم يكن من الممكن الجزم بحدوثها أو تحديد مسارها، كعودة تنظيم الدولة الإسلامية للحياة وتمدده في سورية عام 2013، وانخراطه بمواجهة مفتوحة مع الغرب وبعض الأطراف الإقليمية، وتحوّل مكافحة الإرهاب إلى أولوية في السياسات الخارجية للدول. أيضًا، حدثت على امتداد سنوات الصراع تدخلات إقليمية ودولية، من الصعب التنبؤ بها، فلا أحد كان يدرك إمكانية تراجع إدارة أوباما عن معاقبة النظام على تجاوزه خط الكيمياوي الأحمر، ولا كان من السهل معرفة مدى التدخل العسكري الروسي، ولا ما سيكون موقف الدول الغربية من ذلك التدخل. أيضًا، اكتفت مجموعة الدول المسماة “أصدقاء الشعب السوري” بتقديم نصف دعم للمعارضة، فلا بقيت حيادية وتركت الأمور تتفاعل وتتقدم وفق سيرورتها الطبيعية، ولا تدخلت بشكل حاسم وبأهداف واضحة وخطط عملية منسقة، ما أدى في النهاية إلى إدامة الصراع وتعقيده.
ختامًا، يعلم المتابعون لسياق الأحداث وحيثياتها أن الدروس التي تُقدّم اليوم على أنها بديهيات ليست سوى “أستذة” واستعلاء، واستعراض للقدرات التحليلية والتنظيرية الرجعية التي عادةً ما تظهر بعد أن يستقر الغبار وتتضح النتائج. ومن المتوقع أن يزداد عدد هذه الأصوات وهذا النوع من القراءات، ما يجعل من الذاكرة السورية ساحة الصراع الجديدة، وما يزيد من أهمية التوثيق وحماية السردية الثورية، وإظهار تعقيد الصورة، لمواجهة محاولات التسطيح والتبسيط والتبرير.