ما كان لشهر آذار 2011 أن يشهد انفجار المجتمع السوري، بسبب محاولة بعض “المراهقين” تقليد ما حدث في كلٍّ من تونس ومصر وليبيا واليمن، أو بسبب “مؤامرة خارجية كونية” استهدفت مواقف النظام السياسية الخارجية “الممانعة”، والمتصدية للمخططات الإمبريالية والصهيونية، أو أي من هذه الروايات المبتذلة التي سوّقها النظام في محاولته للتعمية على أسبابها الحقيقية.

ما حدث ما كان ليحدث لولا أن الواقع الذي يعيشه السوريون لم يعد يمكن احتماله، وأن هناك ظروفًا موضوعية كثيرة دفعتهم لكي ينفجروا، وعلى العكس من ادّعاءات النظام، فإن هذا الانفجار تأخّر كثيرًا، لأنّ أملهم في أن يعيَ النظام السوري عمق الأزمة التي أدخل المجتمع السوري فيها كان سرابًا، وأن سنوات انتظارهم لتغيير سياساته كانت بلا جدوى، فالنظام أوغل في تحديه لحاجات المجتمع، وأوغل في قمعه ونهبه وفساده، إلى الحد الذي فقد فيه عموم السوريين ثقتهم بالنظام الذي يحكم سورية، وبالدولة التي ابتلعها.

لم يكن ما حدث في آذار 2011 إلا نتيجة حتمية لممارسات استمرت لعقود من الزمن، عمّقت كثيرًا من الفجوة التي أوجدها حكم حزب البعث، بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والمجتمع، وداخل المجتمع نفسه، والتي عمل حكم عائلة الأسد على توسيعها وتعميقها، إلى حد يكاد يستحيل جسرها، وراحت سورية، بعد أن ورث بشار الأسد موقع الرئاسة، وبعد عقدٍ من إدارته التي يغلب عليها الارتجال والصبيانية يضاف إلى عقود سبقته من القمع والفساد والنهب، تنزلق بسرعة باتجاه أزمة عميقة تشمل الدولة بكل بنيتها وبكل تفاصيلها، وتشمل المجتمع بمختلف تعبيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ.

كان يمكن لهذا الانفجار أن لا يكون عنيفًا إلى هذا الحدّ، وكان يمكن له أن يتّخذ مسارًا آخر، لو أن مؤسسات الدولة في سورية كانت تقوم بوظائفها التي حددها لها الدستور والقانون، ولو بحدودها الدنيا، لكن الدولة التي تشوهت، وأصبحت تابعة، لم تكن بوارد ضبط حدود الصراع الذي انفجر، ولا بوارد القيام بأي دور يُلزمها الدستور والقانون القيام به في مثل هذه الحالات، وهكذا ذهب النظام الذي ابتلع الدولة إلى خيار البطش العاري والمجنون والمنفلت من أي رقابة.

منذ الأيام الأولى للثورة السورية، تعمّد النظام عبر أجهزته الأمنية ممارسة القمع السافر المعلن، واستعمال الرصاص الحيّ ضد المتظاهرين المحتجين فورًا، وهو باختياره هذا إنما كان يهدف منذ البداية إلى استدراج ردّات فعل عنفية مضادة، بحيث ينقل التظاهرات من صيغتها السلمية، التي كانت واضحة في توجهها وغاياتها، وتركز على حقيقة الصراع بوصفه صراعًا بين شعب ونظام فاسد وقمعي، إلى صيغة عنفية بين مكونات المجتمع، كي يدخل المجتمع كلّه في معركة متعددة الجبهات، حينها سيجد فائض القوة الذي تستحوذ عليه مؤسسات الدولة، سواء عبر الأجهزة الأمنية أو عبر الجيش، ويتمكن من إيجاد ذريعة تبرر استخدامه ضد المجتمع، ومن ثم يحقق انتصارًا حتميًا ضد جهة غير قادرة على مواجهة الترسانة العسكرية للنظام.

ما ورد أعلاه، من حيث عجز الدولة عن القيام بدورها، ومن حيث ذهاب النظام إلى البطش العاري، هو توصيف لما مورس على الأرض بعد انفجار الثورة، لكن اختيار هذا الاتجاه لم يكن ارتجاليًّا، ولا وليد لحظته، إنما اعتُمد استنادًا إلى حقائق بالغة الأهمية، وهي حقائق مغيّبة عمدًا، ويتم تجاهلها، ولا يُسمح بظهورها، ولا بالتطرق لها، مع أنها ظهرت واضحة منذ الأيام الأولى للثورة، وفي مجمل ممارسات أطراف الصراع، وإن كان كل طرف قد عّبر عنها بصيغ مختلفة.

تشير مجريات الحدث السوري منذ البداية، بكل وضوح، إلى حقيقة معرفة الجميع بأن ما تحت القشرة الرقيقة التي تُخفي تناقضات المجتمع السوري -هي قشرة هشّة ومخادعة صنعتها شعارات ومظاهر زائفة، وفرضها الإرهاب الأمني الذي تمارسه أجهزة النظام- تستقرّ تصدعات وتمزقات كبيرة، تشكّل، بالرغم من كل محاولات طمسها وتجاهلها والسكوت عنها، عمقًا حقيقيًا في صلب بنية المجتمع السوري.

لم يُطلق المتظاهرون الذي ثاروا ضد النظام شعارهم الشهير (واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد)، لولا يقينهم أن هذا الشعب ليس واحدًا، ولو كان واحدًا فعلًا لما احتاج المتظاهرون إلى إطلاقه، وهم بإطلاقهم له إنّما حاولوا، بكل ما يستطيعون، استباق النظام ومنعه من الاستثمار في انقسامات المجتمع السوري الكامنة، وأيضًا استباق أطراف سياسية طائفية تريد أيضًا الاستثمار في انقسامات المجتمع، وكذلك الأمر عند إطلاق المتظاهرين لشعار وحدة الشعب والجيش، إذ كانوا يدركون أن الشعب والجيش ليسا يدًا واحدة، كما هتفوا في تظاهراتهم، وما هتافهم إلا محاولة لمنع انزلاق الجيش إلى ما يريده النظام، بوضعه في مواجهة الشعب.

ما سعى له النظام كان مختلفًا تمامًا، فهو يحتاج إلى قوة الجيش في مواجهة الشعب، وهو يريد الشعب متشظيًا ومفتتًا، وهو الذي يعرف جيدًا مدى هشاشة القشرة الواهية التي توحّد هذا الشعب، فهو الذي عزّز انقسامه، وعزّز حضور عصبياته وهوياته دون الوطنية، وهو الذي منع الباحثين والمفكرين والسياسيين عقودًا طويلة من الخوض والكتابة فيه، للحيلولة دون كشفه وتبيين مدى خطورته، كمقدّمة لا بدّ منها لوضع برامج وخطط وطنية تمكّن المجتمع من تجاوزه، وهو -أي النظام- من اتهم من طرحوا ضرورة التصدي لهذا المرض الكامن قبل انفجاره، بالخيانة والعمالة، وأودعهم السجون أو المنافي.

باختصار: لم يكن مسموحًا قط أن يتناول أحدٌ ما تحت هذه القشرة الرقيقة، التي تغلف التناقضات العميقة في بنية المجتمع، وحدها الأجهزة الأمنية التي تتبع السلطة المتمركزة بيد الدكتاتور، اشتغلت في هذا الأمر على مستويين: مستوًى معلن، يُنتج الشعارات التي تطمس هذه التناقضات، ويقمع من يحاولون كشفها؛ ومستوًى غير معلن، يعمّق من هذه التناقضات، ويربط خيوط أطرافها بيد الأجهزة الأمنية، ليصار إلى استخدامها حين الحاجة.

ولم يكتفِ النظام بمنع البحث والدراسة وتسليط الضوء على هذه التناقضات الكامنة في قلب المجتمع، إنما منع السوريين حتى من القراءة العميقة والموثقة لتاريخهم الحديث، وفتح البابَ واسعًا لسرديّات غامضة ومبهمة وغير حقيقية، في قسمها الأغلب، كي تصبح متداولة ومنتشرة بكثرة، وهذا ما يفسّر ندرة الأبحاث أو الإصدارات التي تحدثت بالوثائق عن مرحلة الاستعمار الفرنسي، مثلًا، وعن السياسات التي انتهجها الاحتلال الفرنسي لإدارة سورية، وهذا ما يفسّر أيضًا غياب المراجع والأبحاث، التي تبحث في مرحلة ما بعد الاستقلال وصولًا إلى لحظة الثورة، وكان على أي باحث أو كاتب أو مؤرخ أن يبحث عن جهات ومصادر خارجية، أو يتواصل مع جامعات ومراكز أبحاث أجنبية، كي يحصل على الوثائق التي يحتاج إليها، وعندما يصدر أيّ عمل يوثق تلك المرحلة، سواء كتبه سوريون أو آخرون، كان النظام يمنع تداول هذا العمل(1).

في كتاب (بلاد الشام في مطلع القرن العشرين.. قراءة في وثائق الديبلوماسية الفرنسية)، يورد كاتبه وجيه كوثراني رأيًا لأحد المستشارين الفرنسيين في وزارة الخارجية الفرنسية، يقول فيه: “في البلاد التي كانت سابقًا جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، أدّى التعارض التاريخي المزمن، بين مفهومي الدولة والأمة، إلى نمو العقلية الفوضوية، حيث كُتبَ على السكان أن يتشكلوا في تجمعات صغيرة أقوامية (Groupes ethnigue) أو إقليمية، هذا الواقع مناسب لنا، لأنه يجعل من تعميم المعارضة أمرًا صعبًا في البلاد”.

ويختصر كوثراني منهجية السياسة الفرنسية في سورية، باعتماد ضبط المجتمع عبر التجزئة الجيوسياسية، القائمة على خصوصيات “الطوائف، وهذا يقارب إلى حد كبير منهجية النظام (2).

ببساطة، اعتمد النظام السوري المنهجية التي استعملها المستعمر في تعامله مع الشعب السوري ومع الثورة السورية، لكن بفارقين مهمّين للغاية: الأول أنّ الشعب السوري، في قسمه الأعظم، قاوم متحدًا ما خطط له المستعمر، واستطاع أن ينحّي جانبًا هوياته الفرعية واضعًا هويته الوطنية، في مواجهة هوية استعمارية، لكن هذا كان متعذرًا في حالة الصراع مع النظام السوري لأسباب كثيرة. والثاني أن فرنسا، بالرغم من صيغة وجودها الاستعماري، كانت تخطط لقيام “دولة حديثة” في سورية، وهذا ليس كرمًا، أو حرصًا على الشعب السوري، بل لأنها رأت أن مصلحتها كدولة مستعمِرة توجب عليها، لتعزيز قوتها الاقتصادية، أن تقوم بإنشاء سوق مستقر له بنية الدولة الحديثة، مع ما يتطلبه بناء هذه الدولة من تنمية، وبنية تحتية، وقانونية وغير ذلك، بينما على النقيض من ذلك، كان النظام السوري يتعمّد تدمير البوادر الأولى لصيغة الدولة الحديثة، ويمنع شروط قيامها، لأن قيامها سيتطلب بالضرورة آليات قانونية وسياسية لا تتيح له احتكار السلطة.

إذًا، عندما حاولت فرنسا وضع استراتيجية لإدارة مستعمراتها، ومنها سورية، انتهجت منهجًا علميًا، يرتكز على معطيات الواقع، وإمكانات الاقتصاد، وتركيبة المجتمع، وثقافته وغير ذلك، ولم تكن فكرة المؤامرة (التي تكاد تشكل المرجعية الأهم للعقل السياسي السوري) هي المنهجية المعتمدة في استراتيجيتها تلك، فالمسألة ليست مسألة مؤامرة، والتاريخ تصنعه عوامل متعددة، قد تكون المؤامرة جزءًا منه، وقد لا تكون، واستعمار الشعوب أو السيطرة عليها إنما تتحقق بفعل عوامل متعددة، لكنها ترتكز أساسًا على فهم البلد المراد احتلاله أو السيطرة عليه، وفهم ميزان قوى مكوناته، أو تعبيراته السياسية، وثقافته، واقتصاده، والعلاقات التي يمكن لقوى خارجية أن تنسجها مع هذه القوى (3).

يتحدث اليوم كلُّ السوريين عن حالة الانقسام المجتمعي التي تعيشها سورية، ويميل معظم السوريين لتفسير ذلك بحضور المقدّس المتعدد الأوجه، وبالموروث العنفي للعلاقة بالآخر، بالدور الذي لعبه النظام، وكمية العنف المفرط التي سكبها النظام في تفاصيل حياة السوريين، وغياب الحياة السياسية طوال عقود، وهذا كله صحيح إلا أنّ ثمة ما هو أهمّ من كلّ هذا، وهو أن السوريين لم يعيشوا بشكل حقيقي وفعّال، حتى اليوم، ما يُؤسّس لقيام مجتمع مترابط، أي ما يفكّك علاقات المجتمع التي تصنف على أنها علاقات ما قبل الدولة، ويؤسّس لعلاقات الدولة الحديثة.

في أهم أسباب حالة الانقسام المجتمعي، يأتي دور الدولة، ومدى حضورها، وصيغة هذا الحضور، وسأحاول في هذا المقال التحدث فقط عن دور الدولة في حالة الانقسام المجتمعي، رغم أن هناك عوامل أخرى متعددة، لكننا في حديثنا عن الدولة، ودورها، ووظيفتها في المجتمع، إنما نستبطن الحديث عن عوامل أخرى، نظرًا لكون الدولة انعكاسًا لمجموع عوامل عديدة أخرى.

يرى كارل ماركس أن علاقات الإنتاج المادية هي التي تحدد إلى حد كبير الشرط السياسي، والاجتماعي والعقلي للمجتمع، أي أن فعل الاقتصاد، وفعل قواه الفاعلة، يحددان الصيغة القانونية والسياسية للعقد الاجتماعي الذي على أساسه تنشأ الدولة، وهذا ما سوف يظهر جليًّا في بنية الدولة (4).

ما فعله الاستبداد، وخصوصًا منذ الوحدة مع مصر 1958 وما بعدها، هو تحطيم أهمّ ركائز البنية الاقتصادية التي كانت قائمة في المجتمع السوري، عبر سياسات التأميم وشعارات الاشتراكية ومعاداة البرجوازية، وبالتالي فإن شكل الدولة التي كانت تتأسس على نحو ينسجم مع واقع علاقات الإنتاج وآفاق التطور الاقتصادي الذي كانت سورية تنحو باتجاهه تمّ إيقافه، وصار الدفع باتجاه سياق آخر أوصل سورية -بعد عقود من الزمن- إلى دولةٍ ريعية تسلطية، توزع ريعها وفق معايير سياسية وطائفية ومناطقية، الأمر الذي ساهم في إنهاء دور الدولة الجامع لأفراد المجتمع، وعزّز تقسيم المجتمع وفكّكه طائفيًّا وإثنيًا ومناطقيًا.

لم تفقد الدولة في سورية وظيفتها التي قامت من أجلها بحكم الفساد وحدَه، بل لعلّ العامل الأهم في تحولها إلى عامل تقسيم هو بنيتها، وطريقة بنائها التي كرّسها حكم البعث أولًا، ثم فاقمت فترة حكم عائلة الأسد من مسخها، فأصبحت ببنيتها غير مؤهلة للعب دورها أولًا، ولحيازة ثقة أفراد المجتمع كلهم ثانيًا. ومع كل المثالب التي أصبحت أصيلة في بنية هذه الدولة، مثل انعدام المساواة، وتغييب القانون، والتعسف الإداري، واعتبارات الولاء والطائفية و المناطقية، وغير ذلك من الأمراض العميقة، أصبحت الدولة عاملًا رئيسيًا في تقسيم المجتمع.

تعمّد حافظ الأسد، ومن بعده ابنه، هدم ثقة المجتمع بالدولة ومؤسساتها، فحرصوا كل الحرص على منع الدولة من القيام بالوظائف التي قامت من أجلها، وأوكلت هذه الوظائف لأجهزة موازية خارجها، كالأجهزة الأمنية، أو قيادة حزب البعث، أو القصر الجمهوري، أو موظفين في الدولة يأتمرون بأمر جهات خارجها، وهكذا تحولت الدولة إلى واجهة لما يريده “القصر الجمهوري” وأذرعه الأخرى، وأصبح على كل مواطن يريد الحصول على خدمات الدولة أن يبحث عن أحدٍ ما، لكي يتوسط له في الحصول على هذه الخدمة، وتسابق الجميع في نهب إمكانات الدولة، هذا كلّه أسس ثقافة سائدة في المجتمع السوري، تتلخص باعتبار الدولة جهة من أجهزة السلطة وتتبع لها، ومصدرًا لتعقيد حياة المواطنين، ففقدت الدولة احترام المواطن، وفقدت عموميتها وحياديتها، ولذلك لم يعد الحرص على ممتلكاتها ودورها يشغل بال المواطن، بل اعتُبر نهبُها أو سرقتها شطارة وذكاء.

بغياب دور الدولة التي تشكّل حيزًا أو مساحة التقاء مصالح مجموع أفراد المجتمع؛ غاب العامل الأهم في ترابط تصنيفات المجتمع على تنوعها؛ فالدولة بصفتها حامية الدستور والقانون، وبصفتها الطرف الوحيد المخوّل باستعمال العنف، وصاحبة المؤسسات الأساسية في استقرار أيّ مجتمع، مثل القضاء والأمن والتعليم والصحة وغير ذلك، هي التي تعزّز -بحكم وظيفتها واتفاق الجميع عليها- الروابطَ الأساسية التي تربط أفراد المجتمع والتي على أساسها أُقرّت الدولة، لكنها عندما تنخر بالفساد، وتصبح مؤسساتها مسخّرة لمجموعة دون باقي أفراد المجتمع، فسوف تنعدم ثقة المواطنين بها، وسوف ينسحبون من الحيّز العام، ويبحثون عن مساحات أخرى، الأمر الذي يتسبب في انقسام المجتمع، وفي إيجاد روابط أو عصبيات معادية للدولة، ومسببة لانهيارها.

بانعدام الثقة بين المواطن والدولة، وبتغوّل السلطة عبر أدواتها القمعية على التفاصيل الحياتية اليومية للمواطن، وبغياب أي دور للأحزاب السياسية، أو أي فعل لشريحة المثقفين والمفكرين المستقلين، لم يجد المواطن السوري، عندما راحت سورية تهتز على وقع انفجار ثورتها، أيّ ملاذ يمكنه أن يلجأ إليه سوى ارتباطاته التي ورثها من الدين أو العشيرة أو المنطقة، وكان طبيعيًّا، بانهيار الدولة الجامعة المحايدة، أن تنهار الروابط الهشة التي صنعتها الشعارات، وأن تتكشف الصدوع الكثيرة والمتشعبة التي تنتشر في بنية المجتمع السوري.

بإنهائه للحياة السياسية في سورية، وبإلحاقه الدولة بالسلطة ثم العائلة، وبإمساكه بكامل القرار في سورية، لم يتسبب حافظ الأسد بانهيار الدولة فحسب، بل تسبب أيضًا بتفتيت المجتمع، فلم يعد في سورية ما يشكل ملاطًا يجمع السوريين سوى القمع، وعندما انتفض السوريون ضد القمع ومؤسساته، كان التشظي والانقسام أمرًا واقعًا، وبذلك نكون أمام سؤال بالغ الأهمية، يتعلق بمدى أهمية اتفاق السوريين على صيغة الدولة القادمة، فهذه الصيغة ستحدد مدى انصهار السوريين وتوحّدهم في دولتهم القادمة.

من العقبات الكبيرة التي ستواجه السوريين ما بعد مرحلة حكم عائلة الأسد، مسألة إعادة ثقة المجتمع السوري بالدولة، وبكامل مؤسساتها، بدءًا من الجيش والأجهزة الأمنية، مرورًا بالتعليم والصحة و.. و.. وانتهاءً بالقضاء، وبالقانون والدستور، ويمكن في حال استطاع السوريون أن يعيدوا للدولة دورها، ووظيفتها، واحترامها لدى أفراد المجتمع، أن يعيدوا كثيرًا من علاقات ترابط المجتمع السوري، فالانتقال السياسي وحده، والذي يرى معظم السوريين أنه الحل الأنسب للخروج من الكارثة السورية، لن يؤدي إلى استعادة المجتمع لبنيته المتماسكة، ما لم يكن هذا الانتقال مفتوحًا على تأسيس دولة قادرة على أن تكوّن حيزًا عامًا تتلاقى فيه مصالح وحاجات وتعبيرات كل السوريين.

من هنا، يصبح النقاش بصيغة الدولة، ووعي أهمية دورها على صعد عدة، أهمّها إعادة ترابط النسيج السوري، أمرًا بالغ الأهمية، وهو ما سوف يؤسس فعلًا لمستقبل سورية، وإن أي حل سياسي يصاغ دون الانتباه جيدًا إلى أهمية بناء الدولة على أسس تنسجم مع حاجة المجتمع السوري راهنًا ومستقبلًا، قد يكون بمثابة اللغم الذي سينفجر آجلًا أو عاجلًا.

يمكن للسوريين أن يحاذروا مطبّات البنية المفخخة لأسس دولتهم القادمة، إذا قرؤوا جيدًا ما حدث في تجارب دول مجاورة، مثل لبنان والعراق، فكلا البلدين يتقاطع بتجربته إلى حد كبير مع التجربة السورية، وها هي تجربة العراق تبيّن لنا أنه بعد ما يقرب من عقدين على سقوط النظام البعثي العراقي، وستة عشر عامًا على إعدام رئيس ذلك النظام، لم يستطع العراق، حتى اللحظة، إنهاء الانقسام داخل المجتمع، بل يمكن القول إنّ ما كان عند سقوط النظام انقسامًا يسهل استعادة وحدته، أصبح اليوم أكثرَ صعوبة، وقد ساهمت عوامل كثيرة في تعزيز هذا الانقسام، كان أهمّها دور الأطراف الخارجية في منع قيام الدولة العراقية الحقيقية.

ويمكننا أيضًا قراءة تجربة لبنان، بعد أن تغوّلت الدويلة التي أسّسها “حزب الله” على الدولة اللبنانية، وتعززَ انقسام المجتمع اللبناني بفعل هذا التغول، وتمكّنت الصيغة الطائفية من تغييب دور الدولة الحقيقي، ومن تعميق الانقسامات المجتمعية في لبنان.

إن رهن الدولة لأطراف خارجية في أي حل سياسي قادم، أو تأسيسها على أي صيغة من صيغ التحاصص، سوف يزج سورية وشعبها في مأزق شديد الخطورة قد يودي بالدولة السورية إلى نهايتها.

الهوامش:

(1)- في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه (بلاد الشام في مطلع القرن العشرين … قراءة في وثائق الدبلوماسية الفرنسية)، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – بيروت 2013- يقول وجيه كوثراني: (أتذكر هنا أن كتاب “بلاد الشام” كانت الرقابة السورية قد منعت دخوله إلى مكتبات سورية، لأن فيه حديثًا عن الطوائف! وهو حديث ممنوع رسميًا، وإن كان فيه فضح للسياسة الاستعمارية، وصيغ تعاملها الوظيفي مع هذه الطوائف).

(2)– في المصدر السابق، في مقدمة الطبعة الثالثة لكتاب (بلاد الشام في مطلع القرن العشرين … قراءة في وثائق الدبلوماسية الفرنسية) يقول كوثراني: (وهنا أيضًا تكمن المفارقة، حين نقارن استخدام السياسات الاستعمارية الطوائفَ “علنًا” لبناء إدارات ودويلات تابعة وملحقة، واستخدام أنظمة الاستبداد لها “جسرًا” لبناء دولة ريعية تسلطية، توزع الريع وفقًا لزبونية سياسية، من شأنها أن تقسم المجتمع وتفككه طائفيًا، وإثنيًا، ومناطقيًا، وتحت يافطة “وحدة” معلنة في الخطاب الأيديولوجي والسياسي، لكنها مفروضة فرضًا في التدابير الأمنية والبوليسية على حساب الاندماج الوطني، وعلى حساب التأسيس للمساواة في المواطنة وحقوقها).

(3)-غالبًا ما نميل في قراءتنا للحوادث التي تحدث لنا ولا نقوى على إيجاد تفسير منطقي لها، إلى إحالة الأمر إلى نظرية المؤامرة، التي تغنينا عن البحث في الأسباب العميقة والحقيقية لما حدث من جهة، وتغطي تقصيرنا وعيبنا من جهة أخرى، ولذلك تكثر في منظومة أفكارنا، وفي أحاديثنا عند استحضار تاريخنا المعاصر، سرديات اللقاءات الغامضة، والتسريبات مجهولة المصدر، والوقائع اللغز، ونبتعد عن رؤية الوجه الآخر، الذي يوضح ويفسّر من أين تأتي قدرة الآخرين على العبث بنا، وبأوطاننا.

(4)-في مقدمة كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)، الذي صدر 1859، يقول كارل ماركس: “في إنتاج الناس الاجتماعي لحياتهم، يدخلون في علاقات محددة، ضرورية ومستقلة عن إرادتهم، وهي علاقات إنتاج تطابق درجة معينة من تطور قواهم الإنتاجية المادية، ويشكّل مجموع علاقات الإنتاج هذه، البنيان الاقتصادي للمجتمع، أي يشكّل الأساس الحقيقي الذي يقوم فوقه صرح علوي، قانوني وسياسي، وتتماشى معه أشكال اجتماعية، فأسلوب إنتاج الحياة المادية هو شرط العملية الاجتماعية، والسياسية والعقلية للحياة بوجه عام. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم”.