شكّل القصف الإسرائيلي قبل أيام لأهداف مختلفة، في قلب العاصمة السورية دمشق، استمرارًا لسياسة إسرائيلية معلنة منذ أعوام طويلة، باستهداف مواقع النظام السوري العسكرية، أو قواعد الميليشيات المسلحة التابعة لإيران وحلفائها، لكن الجديد فيها أن هذه الضربات أتت بعد أيام قليلة فقط من انعقاد أول قمّة جمعت رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بالرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن.
صحيح أن الخبر الرسمي الذي أعلنه البيت الأبيض لم يذكر أن القمة ناقشت السلوك العسكري الإسرائيلي في سورية، لكن هذا الأمر بات متوافقًا عليه بين المؤسستين العسكريتين في واشنطن وتل أبيب؛ فالأولى معنية بزيادة ضغوطها على طهران ضمن مفاوضات البرنامج النووي، وترى أن زيادة الاستهداف الإسرائيلي لمواقعها العسكرية في دمشق قد يزيد من أوراق واشنطن الرابحة، فيما ترى إسرائيل أنها تنفذ استراتيجية تحظى بإجماع قلّما توفّر لمنع أي وجود عسكري دائم لإيران في سورية.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية تُظهر رغبة واضحة في الانسحاب من المنطقة، وهو ما تجلّى، بصورة لا تخطئها العين، في الانسحاب من أفغانستان، فإنها في الوقت ذاته لا تستطيع منع إسرائيل من الاستمرار في تأمين حدودها الشمالية مع لبنان وسورية، وتحديدًا في هضبة الجولان التي باتت تشهد وجودًا إيرانيًا متزايدًا، سواء من خلال قوات الحرس الثوري مباشرة، أو عبر ميليشياته التابعة له.
لا يقتصر السلوك العسكري الإسرائيلي تجاه سورية على القصف الجوي فقط، في استهداف مركز باتجاه الوجود الإيراني هناك، وإن كان الطيران الإسرائيلي صاحب الذراع الطولى في الجيش الإسرائيلي هو الذي يضطلع بالمهام الأكثر تعقيدًا في الأجواء السورية، حيث إن سلاح المدفعية ينفّذ هو الآخر بعض العمليات العسكرية، لا سيّما في استهدافه لأرتال عسكرية أو تجمعات ميليشياوية في بعض المناطق الحدودية بين سورية وإسرائيل.
وأكثر من ذلك أن أجهزة الأمن الإسرائيلية ذات البعد الاستخباري تضطلع بمهام بعيدة عن الأضواء والضجيج، من حيث تنفيذ اغتيالات مركزة لكبار الضباط الإيرانيين ومساعديهم الموجودين داخل الأراضي السورية، وهو ما كشفت عنه العديد من وسائل الإعلام العالمية، ورافقه تكتم إسرائيلي وإيراني معًا في الوقت ذاته، ولكلٍّ سببه الخاص؛ فإسرائيل غير معنية بتثبيت عملياتها داخل سورية، كي لا تستدرج ردًا ما، من أيّ جهة كانت، وإيران سيشكل اعترافها بمقتل ضباطها عبر الاستخبارات الإسرائيلية إقرارًا علنيًا بوجودها العسكري في سورية، وهو ما تواصل الادعاء بعدم تحققه، بالرغم من دحض ذلك بالوقائع الميدانية اليومية.
تكشف مختلف العمليات العسكرية والأمنية الإسرائيلية ضدّ الوجود الإيراني في سورية عن مدى الاستباحة الإسرائيلية للأجواء والأراضي السورية، على الرغم من التهديدات التي يُصدرها النظام وإيران، بين حين وآخر، عن الردّ، “في الزمان والمكان المناسبين”، الذي لما يأتِ بعد، وقد شجع ذلك إسرائيل على المضي قدمًا في هذه السياسة، لاعتقادها أن النظام أضعف من توجيه ردود “حقيقية” غير “استعراضية”، في حين أن إيران ليست بصدد فتح جبهة مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وتكتفي بدلًا من ذلك بالطلب من حلفائها وأذرعها في المنطقة التحرّش بها.
إسرائيليًا، يمكن ملاحظة أن استمرار الضربات الجوية والمدفعية والاستخبارية التي تستهدف سورية، بحرًا وبرًا وجوًا، لم تتأثر بتغير المنظومات السياسية الحاكمة خلال السنوات الماضية، بالرغم مما شهدته من حالة من عدم الاستقرار والاضطراب، وما تخللها من خوض لأربع جولات انتخابية مبكرة، وتتابع أربعة من وزراء الدفاع على المؤسسة العسكرية، وقد حمل ذلك انطباعًا دقيقًا، مفاده أن الجيش وأجهزة الأمن هي من تقود السياسة المتبعة تجاه سورية والوجود الإيراني فيها.
صحيح أن النظام السياسي السائد في إسرائيل يُخضع المنظومتين الأمنية والعسكرية للمستوى السياسي، لكن التعامل مع التهديدات الأمنية المحدقة والمحيطة بالدولة يساعد في توسيع صلاحيات تلك المنظومتين على حساب الساسة، الذين لا يشهدون استقرارًا في مواقعهم، مما يفسح المجال للتنسيق العسكري، على أعلى المستويات، بين الجنرالات الإسرائيليين والأميركيين، وربّما مع الروس، ولذلك نشأت غرفة عمليات للتنسيق بين ضباط تل أبيب وموسكو، للحيلولة دون وقوع حوادث أمنية تعكّر صفو علاقاتهما.
يأخذنا هذا إلى ما شهدته الأيام الأخيرة من صدور جملة تقييمات إسرائيلية متزايدة، حول إمكانية حدوث تغير في الموقف الروسي من استمرار الهجمات الجوية على المواقع الإيرانية في سورية، حتى إن بعض التقديرات ذهبت باتجاه أن الروس ربما سمحوا للضباط السوريين باستخدام منظوماتهم التسلحية الخاصة بالدفاعات الجوية، للتصدي للطائرات الإسرائيلية، في محاولة من موسكو لكبح جماح نشاطات تل أبيب في قلب دمشق.
بدا من الصعوبة بمكان “شراء” هذه البضاعة، على اعتبار أن هناك مصلحة روسية إسرائيلية في الحد من النفوذ الإيراني، وربما التخلص منه نهائيًا، فموسكو تريد الاحتفاظ وحدها، وحصريًا، بالقرار السياسي والعسكري داخل سورية، بمعزل عن إيران والنظام السوري معًا، أما إسرائيل فتسعى لعدم تكرار نموذج الحزام الأمني في جنوب لبنان أو قطاع غزة، ولكن في هضبة الجولان هذه المرة، بعد أن شكل لها جنوب لبنان وغزة، طوال سنوات، استنزافًا عسكريًا وبشريًا.
في الوقت ذاته، يمكن التوقف عند الأبعاد الاقتصادية للتقديرات الإسرائيلية المتعلقة بتصدي الدفاعات الروسية للطائرات الإسرائيلية، بمعنى أن موسكو ظهرت معنيّة بالترويج العالمي والدولي بأن لديها منظومات دفاعية تتصدى للطائرات الإسرائيلية، الأفضل في المنطقة، وقد يكون لذلك أثرٌ واضح في إقبال عدد من دول العالم على شراء هذه المنظومات، من دون أن يكون للأمر تبعات عسكرية بعيدة المدى على السلوك الإسرائيلي داخل سورية.
هذه المصلحة المشتركة بين موسكو وتل أبيب، لإقصاء نفوذ طهران في دمشق، تُبدد كثيرًا مما قد يُقال حول جهود روسية للحد من العمليات العسكرية الإسرائيلية في سورية، إلا إذا قدّرت موسكو أن هذه العمليات إنما تأتي بتنسيق أميركي إسرائيلي مشترك، للضغط على إيران في مفاوضاتها حول البرنامج النووي، بالرغم من أن الروس قد لا يكونون معنيين بامتلاك طهران سلاحًا نوويًا، ولا سيّما عسكريًا.
مع العلم أن تكثيف الضربات الإسرائيلية في قلب سورية قد يحمل رسائل “ملغومة” إلى إيران، مفادها أن هناك إمكانية لاستنساخ هذه الهجمات داخل حدودها ذاتها، لا سيّما باتجاه المنشآت النووية، صحيح أن الوضعين الإيراني والسوري مختلفان، لأسباب عديدة، لكن إسرائيل تسعى لجس نبض الإيرانيين في “محدودية” ردّات أفعالهم على استمرار الهجمات الإسرائيلية على مواقعهم وقواعدهم داخل سورية.
وبينما يزداد التجاذب الأميركي الإيراني، حول مفاوضات الاتفاق النووي المزمع إنجازه، من المتوقع أن تشهد الأراضي السورية مزيدًا من تصفية حساباتهما، وهو ما جرت عليه العادة منذ بدء توافد القوات الإيرانية إلى سورية، والميليشيات التابعة لها، وإن تزامن هذه الضربات الإسرائيلية داخل سورية، مع التوترات الداخلية التي يشهدها لبنان حيث يسيطر “حزب الله”، قد يُسفر عن مفاجآت غير متوقعة لدى دوائر صنع القرار في تل أبيب، لا سيما على صعيد ردود “جديدة” على استمرار هجماتها داخل سورية.
الخلاصة التي تكشفها الهجمات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة، على أهداف في قلب سورية، تُعطي مؤشرات واضحة بأننا أمام استئناف لهذه الضربات التي توقفت بعض الوقت، لا سيّما أننا أمام حكومة يمينية جديدة، تواصل سياسة الحكومات السابقة في تبديد أيّ خطر على حدودها الشمالية، وتقوم بتنفيذ ضرباتها باتجاه سورية، وسط تنسيق كامل مع واشنطن، ولكلٍّ منهما أهدافه الخاصة.