تشهد محافظة درعا ولا سيّما مدينتها عددًا من مظاهر الاحتقان والغضب والصراع، مع قوى النظام وحلفائه الإيرانيين بشكل أساسي ومع الروس بنسبة أقلّ، منذ توقيع اتفاق المصالحة مع النظام بوساطة روسية. الأمر الذي ما زال يعكس إصرار سكان المحافظة وأبنائها على تحقيق أهدافهم التي رفعوها منذ 2011، وعلى رأسها رحيل النظام ولا سيما رئيسه. وهو ما يوضح أن توقيع وجهاء المحافظة وقادة فصائلها المسلحة، على اتفاق المصالحة في 2018، كان كالشرّ الذي لا بد منه، أي أن الاتفاق لا يعكس دلالة اسمه أبدًا، فهو لم يكن اتفاق مصالحة، بقدر ما كان اتفاق هدنة أُجبر النظام وحلفاؤه من جهة، والمحافظة وأبناؤها من جهة أخرى، على توقيعه والالتزام به، ولو نظريًا، حيث نقض النظام كثيرًا من بنود الاتفاق منذ يومه الأولى وصولًا إلى اليوم.
وبعيدًا عن تتبّع جميع الحالات التي نقض فيها النظام اتفاقه مع وجهاء المحافظة وقادة كتائبها، حتى ما حصل في الآونة الأخيرة من حصار المدينة والضغط على أبنائها من أجل تسليم أسلحتهم وغيرها من الشروط الأخرى؛ نلحظ أن مجمل هذه الحالات تدلل على جوهر الصراع السوري، كصراع نظام مافيوي في مواجهة الكتلة الاجتماعية السورية المستغَلة. وهو الصراع الذي تحاشته وتجنبته مجمل الاتفاقات الموقعة داخليًا وخارجيًا، أي تلك الموقعة تحت اسم “اتفاقات المصالحة”، أو نظيرتها المعلنة وغير المعلنة الموقعة بين الدول النافذة في الشأن السوري، كاتفاق آستانا ومناطق خفض التصعيد التي تقلصت حتى انحصرت في منطقة إدلب ومحيطها. كما نلحظ أيضًا تعقّد الوضع السوري وتشابكه، بحكم تزايد القوى المعادية لأهداف الكتلة الاجتماعية السورية الثائرة من أجل بناء دولة الرفاه الاجتماعي والتقدّم والتطور الحضاري والصناعي والاقتصادي، دولة القانون والديمقراطية، إذ بات هناك صراع مع جميع قوى الاحتلال الخارجي الإيرانية والروسية والتركية والأميركية، وطبعًا الصهيونية، بما يتضمن الميليشيات المحلية وغير المحلية التابعة لهذه القوى والممثلة لمصالحها.
وعلى ذلك؛ باتت الكتلة الاجتماعية الثائرة في السورية أمام صراع متعدد الأقطاب، تعدّه غالبية المحطات الإعلامية المعارضة، وكذلك غالبية قوى المعارضة السياسية والعسكرية، صراعًا متتابعًا يخضع لتراتب معين، ويضع مواجهة النظام على رأس القائمة ثم حليفه الأقرب إيران، ومن ثم تختلف القراءاة حسب الاصطفافات السياسية، بين من يضع مواجهة الروس ثالثًا، وبين من يضع الإدارة الذاتية ثالثًا، إلى أن يشمل الترتيب غالبية قوى الاحتلال، دون أن يشملهم جميعًا غالبًا. وهنا تجدر الإشارة إلى ملاحظة صغيرة لكنها محورية، تتمثل في أن هذا المنطق التتابعي هو أحد مبررات اتفاقات المصالحة واتفاقيات خفض التصعيد، بل أحد أهمّ مرتكزاتها، إذ انطلق الموقعون من أولوية تفكيك النظام السوري، وثانوية مواجهة قوى الاحتلال الأخرى الآن، الأمر الذي دفعهم إلى قبول اتفاق يعزز سيطرة روسيا أو إيران أو تركيا وتحكمها، وفق المنطقة والظرف وتوزع السيطرة بينهم. فالمهم في هذه الاتفاقيات، وفقًا لهم، أن لا تساهم في عودة سيطرة النظام، حتى لو كان الثمن تعزيز سيطرة قوى احتلالية خارجية أخرى بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال أذرعها المحلية والإقليمية التابعة لها.
وأعتقد أننا بحاجة إلى إعادة فهم صراع الكتلة الاجتماعية السورية الثائرة مع مجمل قوى الاستبداد والنهب والاحتلال المحلية والخارجية، وفق منظور مختلف، ينطلق من توازي الصراع معها، أي بتوازي الصراع مع قوى النظام المسيطر الأسدي والميليشيات الجهادية والعصبوية الأخرى من ناحية، والصراع مع قوى الاحتلال الباقية روسية وإيرانية وتركية وأميركية وصهيونية من ناحية أخرى. فجميع هذه القوى تعادي أهداف الكتلة الاجتماعية السورية الثورية المشار إليها سابقًا، وتعمل فيما بينها، بتنسيق معلن أو خفي، من أجل إدامة تخلّف وتقسيم وتبعية المجتمع والأرض السورية، ما يسهل عليها نهب واستغلال ثروات سورية الطبيعية والبشرية. وقد أثبتت تجارب السنوات الماضية التي أعقبت توقيع اتفاقات المصالحة وخفض التصعيد، أن وساطة كل من روسيا، إيران، أميركا، تركيا، لا تُسمن ولا تغني عن جوع، إذ استمرت الاعتداءات على المدنيين، كما استمر انتهاك حقوقهم من قبل النظام الأسدي، ومن قبل مجمل القوى المسيطرة داخلية وخارجية، أي تم تكثيف الاعتداءات وتنويع المعتدين، فأحيانًا نجدها مسؤولية روسية، وأحيانًا إيرانية أو تركية أو أميركية، أو مسؤولية “الإدارة الذاتية” إلى ما هناك من قوى احتلالية مسيطرة على الأرض السورية.
وهنا لا بدّ من التساؤل: هل يمكن لأهالي درعا المقيمين فيها مواجهة كل هذه القوى في وقت واحد، وبخاصة القوى المهيمنة على المحافظة ومحيطها، الروسية والإيرانية والأسدية والجهادية؟ وكيف لدرعا مواجهتهم مجتمعين، ودرعا -كغيرها من مناطق سورية- لم تتمكن من هزيمة النظام سابقًا!! طبعًا قد يبدو السؤال السابق منطقيًا وواقعيًا لدى البعض، لكنه في الحقيقة على عكس ذلك تمامًا. أولًا لأن عقد مصالحات أو اتفاقيات خفض التصعيد، بوساطة خارجية أو دولية أو إقليمية، لم يحمِ هذه المناطق من اعتداءات النظام، ولم يحمِها من اعتداءات مجمل القوى المحتلة والمسيطرة، كما ذكرنا سابقًا، وبالتالي لم يؤدِ إلى تنحية إيران وتركيا وروسيا وأميركا عن الصراع، بل بالعكس أسهم في تخفيف الضغط العسكري والأمني والإعلامي عن مجمل قوى الاحتلال الخارجي، بل عن النظام أيضًا، وساعدهم ذلك في تصعيد اعتداءاتهم النوعية، أي أدى إلى تخفيف الضغط على قوى النهب والسلب والاستبداد والاحتلال بشكل واضح وكبير، بينما لم يخففه عن المناطق الثائرة، وإن تراجعت وتيرته، أو بالأصح خفّفه بنسبة طفيفة فقط، ما يدفع هذه المناطق إلى الغضب والمواجهة بشكل متكرر، إلى أن تنتصر وتُنهي الصراع كليًا، أو تُهزم ويتمكن منها النظام وحلفاؤه، كما حصل في أكثر من منطقة.
فما المخرج من هذه الدائرة المغلقة أو شبه المغلقة؟ إنّ المخرج من ذلك يحتاج إلى توفر عاملين؛ الأول يجب التعامل مع جميع قوى الاحتلال والاستبداد والنهب، وفق نهج نضالي واحد من دون أي تمييز يذكر، وهو مواجهتها شعبيًا؛ ويتمثل الثاني بإعادة الصراع إلى جوهره الرئيسي، كصراع مجمل الكتلة الاجتماعية السورية الثائرة، في مواجهة مجمل القوى الاستبدادية والنهبية والاحتلالية المسيطرة. أي إعادته كصراع مجمل مناطق وتجمعات السوريين العازميين على بناء سورية الجديدة، مع جميع القوى التي تتعمد إفشال الثورة. وهو ما يحوّل الصراع من صراع مناطقي في درعا أو إدلب أو السويداء أو القامشلي ودير الزور، إلى صراع مجمل سورية مع مجمل ناهبيها ومستبديها، من دون أي تمييز، في جميع المناطق السورية.