إعداد: بتول حديد ونجاح عبد الحليم
إشراف د. رهف الدغلي

في 6 شباط/ فبراير، ضرب زلزال قويّ جنوب تركيا والمناطق الشمالية الغربية من سورية، مسببًا دمارًا كبيرًا غير مسبوق، وكانت ناحية جنديرس أكثر المناطق السورية تضررًا، وهي تقع ضمن الحدود الإدارية لمنطقة عفرين شمال غرب محافظة حلب، بالقرب من حدود ولاية هاتاي، وكان يعيش فيها قبل الزلزال أكثر من 100 ألف شخص، بعضهم من سكان المنطقة الأصليين (غالبية كردية)، والبعض الآخر مواطنون مهجّرون قسرًا من مناطق النظام السوري، ويغلب عليهم العنصر العربي، وقد وجد هؤلاء مع الوقت في جنديرس – عفرين مكانًا آمنًا للسكن، لبعده عن آلة القتل والتدمير التابعة للنظام السوري وحلفائه. ولا شك في أنّ التغيّر السكاني في المنطقة يعكس صورة تغيّر القوى المسيطرة عليها، إذ تتالت القوى المسيطرة على منطقة عفرين، خلال السنوات الـ 12 المنصرمة، بدءًا من انسحاب النظام السوري منها، في تموز/ يوليو عام 2012[1]، لصالح حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) الذي تولى السيطرة على المنطقة حتى مطلع عام 2018، عند انطلاق عملية “غصن الزيتون” التي قام بها الجيش التركي بحجة حماية الأمن القومي التركي [2][3]. وقد شاركت قوى الجيش الوطني السوري، التابع رسميًا لوزارة الدفاع بالحكومة المؤقتة، في عملية “غصن الزيتون”، وعقب انتهاء العملية، توزعت سيطرة الفصائل التابعة للجيش (الفيلق الأول، الفيلق الثاني، الفيلق الثالث “الجبهة الوطنية للتحرير”) على قرى ومدن منطقة عفرين، وترافق ذلك مع قدوم أكبر للمهاجرين، من عائلات مقاتلي الفصائل والمهجّرين للشمال السوري، إلى المنطقة التي تعدّ بمقياس السوريين أكثر أمانًا، لأنها أقلّ تعرّضًا للضربات الجوية.

بعد انتهاء عملية “غصن الزيتون”، أنشئ في جنديرس مجلس محلي يتبع، هرميًا ونظريًا، إلى وزارة الإدارة المحلية في الحكومة المؤقتة[4]، وتشرف عليه ولاية هاتاي التركية. ويوفر المجلس خدمات محلية من أوراق ووثائق شخصية، كما يمنح رخص البناء والعمل فيها، إضافة إلى العمل على توفير الخدمات الأساسية للمنطقة من تشغيل أفران، وتوفير خدمات الصرف الصحي وغيرها. وعُرفت إدارة المجلس المحلي في جنديرس بأنها غير فعّالة[5]، وتعمل بما يتناسب مع الدعم المقدّم للمجلس وتوجيهاته، من دون وجود أي ضبط أو تنظيم للواقع على الأرض قبل الكارثة وبعدها. وقد انتقد الأهالي المنكوبون فشل المجلس في التعامل مع الكارثة وإدارتها، خاصة في الساعات والأيام الأولى الفاصلة في حياة العالقين تحت الأنقاض[6]، وهناك من يعزو هذا الفشل إلى عشوائية إدارة المجلس، مع ضعف في قدرته التنظيمية وشحّ في الإمكانات والأدوات، في حين يبررها البعض بأن أفراد المجلس أنفسهم كانوا من ضحايا الكارثة[7].

على إثر فشل المجلس المحلي في إدارة الكارثة، تُركت عمليات الإنقاذ والاستجابة الفاعلة لقوى الدفاع المدني، ولدعم المجتمع المحلي في عفرين وباقي مناطق الشمال[8]. ولعبت بعض الفصائل الموجودة في المنطقة دورًا محوريًا في عمليات الإنقاذ والاستجابة الإغاثية، بالرغم من حالة التوتر التي عاشتها الفصائل فيما بينها، خلال الأشهر السابقة للكارثة. وهنا يظهر السؤال التالي: هل كان التوتر بين القوى الموجودة على الأرض يشكّل عائقًا أمام الاستجابة؟ وهل كان الزلزال فرصةً لتظهر بعض القوى وبعض التحالفات على حساب قوى أخرى؟ وفي حال استفادة بعض الفصائل من الكارثة، كيف سينعكس ذلك على القوى الأخرى في المنطقة؟

الوضع العسكري في جنديرس ما قبل الزلزال:

أفضت عملية “غصن الزيتون” إلى السيطرة على جنديرس من قِبل مجموعة من الفصائل المتمركزة فيها، أبرزها (فصائل الفيلق الثالث،وحركة التحرير والبناء[9]، والجبهة الوطنية للتحرير[10])، أما القرى والنواحي المحيطة بها، فتخضع لفصائل (الفيلق الأول والثاني والسلطان مراد)، في ناحية الشيخ حديد، التي تبعد عن جنديرس مسافة 22 كم. وتختلف طبيعة سيطرة الفصائل على المنطقة، باختلاف دواعي وجودها وتبعيتها الإقليمية، إذ عاشت الفصائل في جنديرس ومحيطها قبل الزلزال حالة من التوتر والاضطراب، بسبب تضارب المصالح، وغياب مركزية اتخاذ القرارات العسكرية، وأطماع الفصائل في السيطرة على المعابر. وشهدنا في تلك الفترة إنشاء تحالفات، وإنهاء غيرها، وتبع بعضَها اشتباكات مسلّحة تعكس حالة عدم الاستقرار والتخوف الواضح الذي تشعر به الفصائل.

أبرز هذه الاشتبكات اندلعت العام الماضي، في حزيران/ يونيو، بين “أحرار الشام” المدعومة من “هيئة تحرير الشام” آنذاك، و”الجبهة الشامية” المدعومة من “فيلق الشام” و”جيش الإسلام”، إثر انشقاق الفرقة 32 (جزء من الفرع الشرقي لأحرار الشام) من الفيلق الثالث للجيش الوطني[11]. وأدت هذه الاشتباكات إلى استيلاء “هيئة تحرير الشام” على بلدة جنديرس، وعدة بلدات تابعة لمنطقة “غصن الزيتون”[12]. ثم انسحبت الهيئة لاحقًا من البلدات التي سيطرت عليها، عقب مفاوضات تركية[13].

اندلع ثاني الاشتباكات في تشرين الأول/ أكتوبر، على خلفية اغتيال الناشط الإعلامي “أبو غنوم” وزوجته، في مدينة الباب شمال شرقي حلب[14]. ودارت اشتباكات على عدة محاور في الشمال السوري، أبرزها محور جنديرس[15]، حيث شرعت “الجبهة الشامية” في قتال “فرقة الحمزة”، إثر ثبوت تورط قادتها بعملية الاغتيال[16]. ونتج عن تلك الاشتباكات قيام تحالفات جديدة بين الفصائل، إذ نشأ التحالف الأول بين “الجبهة الشامية” و”حركة التحرير والبناء”، في حين ضمّ التحالف الثاني كلًّا من “فرقة الحمزة” و”فرقة سليمان شاه” و”هيئة تحرير الشام” و”فصيل أحرار الشام”. وبقيت “فرقة السلطان مراد” و”فيلق الشام” على الحياد[17]. وعقب انتهاء الاشتباكات وخروج فصائل “هيئة تحرير الشام” المسلّحة من جنديرس، اقتصر وجود “الجبهة الشامية” ضمن نقاط أمنية محددة داخل البلدة، وحافظت بعض الفصائل الأخرى، كفرقة سليمان شاه وفرقة الحمزة وحركة التحرير والبناء والسلطان مراد، على وجودها في جنديرس وريفها[18].

 لم ينته التوتر مع وقوع الزلزال وما خلّفه من وضع إنساني سيئ، بل تفاقم أكثر مع ظهور بعض الفصائل كقوة فاعلة على الأرض وقادرة على التأثير في الحاضنة المحلية الفريدة في جنديرس خلال الكارثة، ويعود ذلك لأسباب عدة، أبرزها أن الفصائل الموجودة في جنديرس لا تضمّ أبناء المنطقة ذاتها، إذا ما قارنّاها بفصائل الباب ومارع وإعزاز “درع الفرات” (على سبيل المثال)، التي تشكّلت بمعظمها من أبناء تلك المدن، وهذا ما يمنحها نقطة قوة، مقارنةً بمنطقة “غصن الزيتون” ومناطق “هيئة تحرير الشام”. من جانب آخر، أظهرت مركزية السلطة لدى الهيئة وتحركها السريع في الاستجابة للكارثة حالةَ الضعف الإداري في منطقتي “عفرين” و”درع الفرات”، اللتين تعانيان أساسًا أزمة معيشية حادة [19]، عزّزت حالة التفكك بين الإدارة المدنية والعسكرية في كلّ منهما؛ مما أدى إلى زيادة ميل وتقبّل السكان المحليين[20] للفصائل “كالسلطان سليمان شاه” و”فرقة الحمزة” التي تحركت بإيعاز من الهيئة للاستجابة السريعة، حيث أصبح السكان المحليون أكثر تقبّلًا لاحتمالية توسّع الهيئة مستقبلًا في المنطقة، إذ نجحت الفصائل المتحالفة معها باستقطاب قاعدة شعبية أوسع عقب الزلزال.

لا شكّ في أن حاضنة عفرين تحتاج إلى سلطة إدارية متماسكة، لكن هذا لا ينفي احتياجها إلى الموارد المالية، في ظل الأحوال الاقتصادية المتردية التي يعانيها الشمال السوري والتي تستغلها “الجبهة الشامية” (ذات القوة الاقتصادية الكبيرة الناجمة عن تحكّمها في المعابر التجارية مع الجوار التركي) لكسب ولاء بعض المقاتلين، وحثّهم على ترك فرقهم لصالحها، مما يزيد من رقعة سيطرتها وتوغلها في المنطقة دون أي عمليات عسكرية. وإن غياب هيكلة تنظيمية أو حوكمية واضحة في المنطقة قد يفسح المجال أمام الفصائل لخلق هيكلة تنظيمية خاصة بهم، أو ما يُعرف بـ (Rebel Governance)[21]، الذي بدوره قد يؤدي إلى تعزيز سيطرتهم أو خلق نظام سياسي جديد، وحضور إقليمي أقوى.

الاستجابة للكارثة في جنديرس:

عقب وقوع الزلزال المزدوج، في 6 شباط/ فبراير، أجمع من تحدثنا إليهم من جنديرس[22] على أن الفصائل كانت الأسرع استجابة، إذ بادرت أغلب الفصائل إلى عمليات الإنقاذ والإسعاف ورفع الأنقاض، وسارع بعضها إلى القيام بإنشاء مخيمات وملاجئ مؤقتة لمن بقي دون مأوى. غياب المركزية الإدارية وضعف التنسيق بين المجالس المحلية والمؤسسات المدنية دفع الفصائل إلى القيام بأدوار غير عسكرية أو قتالية. وسرعة استجابة الفصائل ومساهمتها الكبيرة في مساعدة المدنيين عزّزت دورهم في تلك المنطقة، وأعطتهم فرصة لإبراز أهمية وجودهم، خاصةً في ظل وجود إدارة مدنية هشّة لا سلطة لها باتخاذ القرارات المحلية دون الرجوع إلى تركيا؛ إذ لا تستطيع المجالس المحلية في النواحي التابعة لعفرين اتخاذ أي قرار دون الرجوع لوالي هاتاي[23].

اقتصر عمل المجلس المحلي في جنديرس على إعلان المدينة منطقة منكوبة، بعد يومين من الكارثة، وإصدار إحصائيات الأضرار والاحتياجات للمنطقة، بعد تشكيل فريق إغاثي وطبي وإحصائي[24]، حيث سُجل تبعًا للمجلس 1100 حالة وفاة، وأكثر من 850 إصابة بالغة، يضاف إليها نحو 4000 إصابة تراوح بين المتوسطة والخفيفة. وأشار المجلس إلى الحاجات الإنسانية الملحّة مع وجود نسبة تزيد على 60% من المتضررين يتوزعون بين الخيام ومراكز الإيواء[25]. حيث سُجل تشرد 7000 عائلة، بينهم 4000 عائلة هدم مسكنها بشكل كامل، وما يزيد على 3000 عائلة صُنفت منازلها على أنها غير قابلة للسكن، إذ يوجد في جنديرس أكثر من 270 بناءً تهدّم بشكل كامل، وما يزيد على 1000 بناء متشقق ومتصدع غير صالح للسكن.

من جانب آخر، أبدت فرق الدفاع المدني استجابة عالية في جنديرس، على الرغم من كبر حجم الكارثة. بعض من أهالي البلدة،[26] أشادوا بدور (الخوذ البيضاء) على الرغم من ذكرهم أن الفرق تأخرت بعض الشيء في الوصول، بسبب تمركزها في إدلب وقلة الآليات النوعية في رفع الأنقاض؛ إذ أخبر الأهالي أنّ فرق (الخوذ البيضاء) القادمة من منطقتي “الباب وقباسين” كانت تعمل إلى جانب فريق جنديرس بالإنقاذ، في تمام الساعة العاشرة صباحًا (بعد 6 ساعات من الكارثة)[27]. وفي صباح اليوم التالي (7 شباط)، وصلت فرق دعم من مركز عفرين وشرّان ثم راجو، ووصل عدد الفرق العاملة في جنديرس إلى 25 فريقًا[28].

تعمل فرق الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء” عادةً في المناطق التي تتلقى الضربات الجوية والمدفعية التي ينفذها النظام السوري وحلفاؤه، وتتركز بنسبة كبيرة في الشريط الغربي من المناطق الخارجة عن سلطة النظام، والخاضعة لسيطرة الهيئة، ويضاف إليها مراكز أنشئت حديثًا كمركز جنديرس[29]. وأشار أحد عناصر (الخوذ البيضاء) إلى حجم الدمار الضخم وغير المعتاد، بالمقارنة مع عمليات القصف (التي لا يزيد عدد الأبنية المهدمة فيها عن 20 بناء)، فكارثة الزلزال كانت من أريحا حتى صوران وجرابلس، حيث انهار أكثر من 500 بناء في وقت واحد، موزعة بين 108 مواقع، إضافة إلى انهيار أكثر من 1500 بناء بشكل شبه كامل. وكان من الضروري وجود أجهزة تقنية متطورة تستعمل في عمليات البحث والإنقاذ، لكن الاعتماد الأساسي كان على المعدّات الخفيفة المتوفرة، من مطارق هوائية وكهربائية وأدوات يدوية، مع بعض أدوات الرفع الهيدروليكية والوسائد الهوائية، والتي كانت قليلة جدًا مقارنة بحجم الكارثة.

من جهة أخرى، بدأت المنظمات التي تمتلك وجودًا دائمًا على أرض جنديرس مباشرةً بالاستجابة الإغاثية، عبر فرق الإغاثة الموجودة في البلدة، كفريق منظمة (بهار) ومنظمة (شفق) وهيئة الإغاثة الإنسانية (IHH)، حيث باشروا بالإغاثة تبعًا للإمكانات المتاحة لديهم، والمتمثلة بالإيواء، وتقديم الوجبات الغذائية والمبالغ المالية. ولمُس على الأرض تجاوب سريع من أهالي المناطق المحيطة بجنديرس وعفرين، وصولًا إلى دير الزور، حيث ظهر التعاضد المجتمعي بين السوريين في الشمال، إذ تمكنت الاستجابة المحلية في الأيام الأولى من سدّ فجوة الاحتياجات التي تضاعفت مع مرور الوقت، ومع تقاعس المجتمع الدولي والأممي في أداء واجبه الإنساني تجاه المدنيين في سورية، بكل من فيه من منظمات إغاثة دولية على رأسها الأمم المتحدة[30]، التي لم تقم بأي دور، في الأيام الأربعة الأولى. إذ لم يصل إلى المدينة إلا قافلة مساعدات واحدة كانت مجدولة للدخول إلى الشمال السوري قبل الزلزال[31]. أولى القوافل الإغاثية التي دخلت إلى الشمال عامة، وجنديرس خاصة، لمساعدة متضرري الزلزال، كانت قوافل المساعدات القطرية والسعودية، في 11 شباط/ فبراير[32]، وبعد 8 أيام من حدوث الزلزال، عقد مجلس الأمن جلسة للتصويت على إدخال المساعدات لشمال سورية، ليأخذ العمل الإغاثي حينها صفة العشوائية وعدم التنظيم، بسبب غياب الإدارة المدنية المنظمة[33].

لماذا تضررت جنديرس بهذا الشكل الكارثي؟

عقب الكارثة، تحدث البعض عن عدم سماح النظام قبل 2011 ببناء أكثر من طابقين في جنديرس، لأنها تعتبر منطقة زلازل، وأرجع آخرون السبب إلى طبيعة التربة. وقد نقض رأس النظام السوري، في خطابه الأخير حول الزلزال،الافتراضَ الأول، إذ قال: “سورية لم تكن منطقة زلازل مدمّرة على امتداد قرنين ونصف.. فلا المنشآت والأبنية، ولا المؤسسات والمعدّات محضرة للكوارث الطبيعية بأنواعها”[34]. وأرجع المركز الوطني للزلازل في سورية الملحق بوزارة النفط والثروة المعدنية[35]، وجود المركز لأجل “استخدام التسجيلات الزلزالية، لمعرفة المكامن تحت الأرضية وتركيب البنية الجيولوجية للأرض، والمساهمة في تحسين أدوات الكشف عن النفط والغاز”[36].

أما عن طبيعة التربة، ففي 2011، صدر القرار رقم 785 لوزارة الإدارة المحلية في سورية، المتعلق بالبناء في الأراضي الزراعية، الذي يتيح بناء طابقين فقط على الأرض الزراعية، وفق شروط تتعلق بالمساحة ونوع التربة[37]. حيث تعتبر أرض جنديرس غير صالحة للبناء[38]، فهي تمتلك تربة ذات مياه جوفية، لقربها من نبع الشيخ عبد الرحمن ونبع جنديرس”الناتج عن تجمّع مياه الأمطار”[39]، وفي حال البناء فيها، فستتأثر الخرسانة بالمياه، وسيحدث مع الوقت هبوط بالأساسات مع عدم تماسك التربة وتملّح في الجدران؛ ولذلك خضعت هذه المنطقة لشروط خاصة، تتطلب فحص البلدية للأرض قبل منح رخص البناء الزراعي فيها، ويصل البناء في أحسن حالاته إلى طابقين، هذا إن مُنحت الرخص.

وعلى الرغم من خصوصية أرض جنديرس وعفرين، فإن مخالفات البناء ظهرت في المنطقة قبل الثورة، وهي مخالفات تتّسق مع منظومة الفساد والمحسوبيات المعهودة عن نظام الأسد وبنيته. واستمرت المخالفات المتعلقة بزيادة المساحة المسموحة بالإعمار، على حساب بعض الأراضي، عقب انسحاب النظام من جنديرس وانتقالها للسيطرة الكردية[40]. ومع قدوم الكتلة البشرية الضخمة المهجرة قسرًا من المدن المعارضة[41]، بدأ توسع البناء المخالف والعشوائي يأخذ منحى آخر. حيث بدأ المهجرون يبحثون عن سكن بديل، عند انتهاء عملية “غصن الزيتون”، دون مراعاة لشروط البناء في المنطقة. ونشطت هذه الحركة بوضوح خلال العامين الأخيرين، خاصة مع توجّه متعهّدي البناء في المنطقة المرتبطين ببعض الفصائل (كفصيل “الزنكي” على سبيل الذكر لا الحصر) إلى عفرين “الأكثر استقرارًا” [42]. يضاف إليها مشاريع بناء المساكن للمهجرين التي نشطت في الآونة الأخيرة، والتي تقودها المنظمات والجمعيات الإنسانية[43].

الخاتمة والتوصيات:

لو أنّ هذا الزلزال ضرب المنطقة قبل 13 عامًا، ما كنا لنرى هذا الدمار والخسائر الهائلة بجنديرس، حيث كان التعداد السكاني الأصلي معقولًا، ولم تكن البيوت القديمة في المنطقة تتعدى الطابقين بالارتفاع. أما ما نحن أمامه اليوم فهو جريمة تسبب فيها نظام الأسد الذي شرّد ملايين السوريين من منازلهم، وأجبرهم على إيجاد بديل آمن، وفاقم من تأثيرها فشلُ الحكومة المؤقتة والمجالس المحلية بإدارتها، إذ لم تتمكن من فرض قانون بناءٍ يُلزم الجميع بتطبيقه حتى المحسوبين على فصيل أو جهة (محلية أو إقليمية) معيّنة.

قد يكون النظام السوري أكثر المستفيدين من الكارثة، إذ تهدف دمشق إلى إعادة العلاقات لطبيعتها مع دول المنطقة، بعد العزلة السياسية للأسد على مدى أكثر من عقد على الحرب[44]. وقد تلقّى الأسد العديد من الاتصالات من قادة دول المنطقة، وشهدت المطارات في سورية هبوط أكثر من 120 طائرة، نصفها من دولة الإمارات[45]. ووجدت الدول الراغبة في تطبيع علاقاتها مع الأسد فرصةً لفعل ذلك، إذ زار وزيرا خارجية الأردن[46] ومصر[47] دمشقَ، الشهر الماضي، للمرة الأولى منذ بدء الثورة السورية، وذلك عقب اتصال هاتفي بين الأسد والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأول مرة[48].

من جانب آخر، خلق الزلزال فرصةً لهيئة تحرير الشام وزعيمها أبو محمد الجولاني، لتعزيز دورهم في المنطقة، حيث شدد رجال الجولاني على نبذ التفرقة، وضرورة اتحاد الشمال السوري ككل. وحاول شرعيُّ الهيئة، عبد الرحيم عطون، تأكيد انتقال الهيئة إلى اعتماد الخطاب الوطني[49]. ويأتي ذلك بالتزامن مع زيارة الجولاني لجنديرس، مع أنها لا تخضع لسيطرة قواته، في سياق الجولات المتفرقة التي أجراها على المناطق التي ضربها الزلزال بريف إدلب، في الفترة ما بين 7 و10 من شباط/ فبراير الماضي[50]. حيث انتشرت تسجيلات مصوّرة تظهر الجولاني برفقة “أبو ماريا القحطاني” في البلدة[51]. وتسعى حكومة الإنقاذ (الذراع السياسية للهيئة) لأن تُظهر نفسها لاعبًا أساسيًا على الأرض، يؤدي دورًا محوريًا في إدارة الكارثة في جنديرس؛ إذ دأبت “الإنقاذ” على نشر صور وتفاصيل عن مساعداتها، إضافة إلى تغطية زيارات مسؤوليها للبلدة المنكوبة.

أخيرًا، يمكننا القول إن الزلزال أتاح فرصة لجميع الفصائل الموجودة على الأرض، على اختلاف توجهاتها وتبعياتها الإقليمية، لإبراز دورهم وتوسيع رقعة سيطرتهم وإعادة الهيكلة التنظيمية والإدارية بما يتناسب مع أهدافهم ورؤيتهم للمنطقة.

  • من الضروري إعادة تفعيل دور المجالس المحلية ورفدها بأصحاب الخبرات، بعيدًا عن المحسوبيات والانتماءات، ومنحها الصلاحيات الكاملة في هدم أيّ مبنى مخالف، والحصانة الكاملة بعدم التعرّض للمجلس وأعضائه في حال تعارضت قراراتهم مع نفوذ الفصائل أو أذرعها الاقتصادية. حيث أظهرت الهياكل الحوكمية في جنديرس وباقي مناطق الشمال السوري نوعًا من عدم الفاعلية في العمل المؤسساتي، خاصة في الأمور التي تضع حياة السوريين على المحك.
  • كان تحرك المجتمع المحلي داعمًا حقيقيًا في العمل الإغاثي، إلى حين وصول المساعدات الدولية، ولكن عدم القدرة على تنسيق الجهود والتوزيع شكّل عائقًا أمام عدالة إيصال المساعدات إلى مستحقيها، في جنديرس وفي مناطق الشمال السوري ككل. ويمكن لوجود جهة سورية مستقلة غير ربحية، تعمل على وضع خريطة توزع المحتاجين للإغاثة، أن يكون أداة فعالة في تلافي هذه الإشكالية، لأن وجود جهة كهذه سيقوم بتوجيه المنظمات الإغاثية الخارجية إلى القطاعات (المناطق، المدن، مراكز الإيواء) التي لم تحصل على المساعدات، حيث إن هناك عوائل ومناطق متضررة لم تحصل على أي شكل من الإغاثة، في حين حصلت المناطق التي تم تسليط الضوء عليها إعلاميًا على تدفقات متكررة منها.

[1] أكراد سورية: بين ماضٍ مضطّربٍ ومستقبلٍ غير مؤكّد، مقال تحليلي، جوردي تيجل، مركز مالكوم كارنيغي للشرق الأوسط، النشر 16/10/2012، الزيارة 3/3/2023، الرابط https://carnegie-mec.org/2012/10/16/ar-pub-49704

[2] أعلن مجلس الأمن القومي التركي في آب من 2016 إطلاق عمليات العسكرية في الشمال السوري، وذلك تبعًا للمادة رقم 51، من الفصل السابع في ميثاق الأمم المتحدة (انظر: https://www.un.org/ar/about-us/un-charter/full-text)، التي تسعى من خلالها لحفظ أمن الحدود التركية، من داعش وحزب العمال الكردستاني؛ وبناء عليه، أنشئ في العمق السوري بين عامي 2016 و2019 ثلاث مناطق (كانتونات) تابعة بإدارتها إلى تركية تبعًا لـ 3 عمليات منفصلة هي منطقة درع الفرات 2016، منطقة غصن الزيتون 2018 (والمنطقتان متلاصقتان) ومنطقة نبع السلام 2019.

[3] “غصن الزيتون”.. معركة لاستعادة عفرين، موقع الجزيرة، النشر 22/1/2018، الزيارة في 3/3/2023، الرابط: https://2u.pw/DACn1B

[4] تأسيس مجلس محلي في بلدة جنديرس بعفرين السورية، وكالة الأناضول، النشر 19/4/2018، الزيارة 10/3/2023، الرابط: https://bit.ly/3ZDC3kA

[5] من مقابلات أجريت مع أهالي مدينة جنديرس في تاريخ 5/3/2023

[6] المصدر السابق.

[7] المصدر السابق.

[8] جنديرس.. آلاف العائلات المتضررة بالزلزال تعاني نقص المأوى والطبابة، عنب بلدي، النشر 26/2/2023، الزيارة 9/3/2023، الرابط https://www.enabbaladi.net/archives/630781#ixzz7vSuM0Ld4

[9] في شباط / فبراير 2022، صُهرت فصائل أحرار الشرقية، جيش الشرقية والفرقة 20 مع صقور الشام في تشكيل عسكري جديد، يُسمى حركة التحرير والبناء، يقوم على 7 آلاف مقاتل، وانطوى كتشكيل تابع للجيش الوطني، (انظر: “حركة التحرير والبناء.. اندماج جديد تحت مظلة “الجيش الوطني”، عنب بلدي، نشر في 15/2/2022، آخر زيارة في 6/3/2023 https://www.enabbaladi.net/archives/547940

[10] تأسست الجبهة الوطنية للتحرير التي نراها في 2022 في تموز/ يوليو 2018، وضمت بين صفوفها حركة أحرار الشام، الزنكي، وجيش الأحرار وصقور الشام وتجمع دمشق الذين انضموا إلى تجمع الجهة الوطنية الاسبق المتشكل في أيار/ مايو من 2018 عبر توحد 11 فصيلًا (جيش إدلب الحر، فيلق الشام، الجيش الثاني، جيش النخبة، لواء شهداء الإسلام، لواء الحرية، الفرقة 23، وغيرهم)، (انظر: 5 فصائل تنضم لـ”الجبهة الوطنية للتحرير” وتشكل أكبر كيان عسكري في سوريا، الدرر الشامية، النشر 1/8/2018، الزيارة 6/3/2023، الرابط https://eldorar.com/node/124517)

[11] Seven dead clashes erupt in northern Syria, The New Arab, 19/6/2022. Available at: https://2u.pw/7K5Zhq

[12] Factional rivalry and infighting | Tahrir Al-Sham and Ahrar Al-Sham control several areas in “Olive Branch” areas amid negotiations to restore the status quo ante, SOHR, 19/6/2022. Available at: https://2u.pw/9XwOP8

[13] Suleiman Al-Khalidi, Truce ends clashes among Turkey-backed rebels in northwest Syria, REUTERS, 20/6/2022. Available at: https://2u.pw/SsYpih

[14] اغتيال الناشط محمد أبو غنوم وزوجته في مدينة الباب شرقي حلب، تلفزيون سوريا، النشر 7/10/2022. الرابط: https://2u.pw/6pqdLa

[15] اتساع الصراع في الشمال السوري: صدام مشروعين أم مصالح، العربي الجديد، النشر 13/10/2022. الرابط: https://2u.pw/jB1bEk

[16] اقتتال الجبهة الشامية والحمزات، أورينت، النشر 12/10/2022. الرابط: https://2u.pw/lRBYBd

[17] اتساع الصراع في الشمال السوري: صدام مشروعين أم مصالح، العربي الجديد، النشر 13/10/2022. الرابط: https://2u.pw/jB1bEk

[18] مقابلات مع أشخاص في جنديرس. أجريت ما بين 28/2/2023 و 5/3/2023.

[19] شمالي سورية… الأزمات المعيشية وسوء الخدمات يفجران الغضب الشعبي، عدنان الإمام، العربي الجديد، النشر 5/6/2022، الزيارة 6/3/2023، الرابط https://2u.pw/af6xLA

[20] من مقابلات مع مدنيين ومقاتلين في منطقة جنديرس أجريت ما بين 28/2/2023 و 5/3/2023.                                                

[21] للمزيد، انظر: Rebel Governance – Constructing a Field of Inquiry: Definitions, Scope, Patterns, Order, Cause https://2u.pw/t6VO0J

[22] مقابلات مع أشخاص في جنديرس. أجريت ما بين 28/2/2023 و 5/3/2023.

[23] خير الله الحلو، عفرين بعد السيطرة التركية: تحولاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، Medirections، النشر 10/7/2017، الرابط https://2u.pw/RezhSc

[24] جنديرس.. آلاف العائلات المتضررة بالزلزال تعاني نقص المأوى والطبابة، عنب بلدي، مرجع سابق.

[25] المجلس المحلي في جنديرس يعلنها مدينة “منكوبة”، بلدي نيوز، النشر 8/2/2023، الزيارة 10/3/2023، الرابط https://2u.pw/MTju2x

[26]  مقابلات مع بعض من أهالكي جنديرس أجراها المركز بين 28/2/2023 و5/3/2023.

[27] مناطق ثائرة منذ البدايات تتعرض للقصف وفيها فرق دفاع مدني ذات خبرة وتعاملت مع حالات الهدم ورفع الأنقاض.

[28] من إجابة أفراد من متطوعي (الخوذ البيضاء) على أسئلتنا.

[29] افتتح مركز الدفاع المدني في قطاع عفرين في أيار/ مايو من 2015، وقام على 22 متطوعًا تركز عملهم على الإنقاذ وتقديم الإسعافات الأولية، ولكن القوى المسيطرة على الأرض حينها قامت في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه بإغلاق المركز، تم تفعيل المركز في سنة 2018 مع تغير السيطرة، وأسست 3 مراكز جديدة في جنديرس وشران وراجو، تقوم بأعمال البحث والإنقاذ والإطفاء والإنقاذ المائي والتوعية والخدمات وغيرها من الأعمال. المصدر: مقابلة مع الخوذ البيضاء.

[30]فيديو: الأمم المتحدة تعترف بتقصيرها في إيصال المساعدات إلى شمال غربي سوريا، قناة العربي، النشر 13/2/2023، الرابط https://youtu.be/WIm6n8ZkthQ

[31] أول قافلة مساعدات تدخل شمال غربيّ سورية بعد الزلزال، العربي الجديد، النشر 9/2/2023، الزيارة 8/3/2023 الرابط http://bit.ly/3YCgy2e

[32] فيديو: دخول أول قافلة للمساعدات السعودية للمتضررين في ريفي حلب وإدلب، تلفزيون سوريا، النشر 11/2/2023، الرابط https://youtu.be/hW5xFRVxxZk

[33] بعد 8 أيام من الزلزال.. جلسة أممية ودعوة لتصويت فوري على إدخال المساعدات، موقع الجزيرة مباشر، النشر 13/2/2023، الزيارة 10/3/2023، الرابط http://bit.ly/3ZOLg9K

[34] الأسد يتوجه بكلمة عن تداعيات الزلزال الذي ضرب سورية، سانا، النشر 16/2/2023، الزيارة 6/3/2023، الرابط: https://www.sana.sy/?p=1842472

[35] القانون رقم 54 لعام 2004 القاضي بإحداث المركز الصادر بتاريخ 6/12/2004، انظر نص القانون على الرابط https://bit.ly/41NEy5n

[36] صفحة المركز الوطني للزلازل في سورية على فيسبوك، النشر 23/7/2022، الرابط: https://2u.pw/L8Xo3z

[37] القرار 785 لعام 2011 المتضمن الشروط الخاصة لبناء البيوت الزراعية، موقع محاماة، الزيارة 7/3/2023، الرابط: http://bit.ly/3mzDZfB

[38] مهندس مدني من أبناء المنطقة عمل سابقًا في إحدى بلديات عفرين.

[39]الدخيل، مناف: دراسة لمحة عامة عن الطبيعة الجغرافية والبشرية لـ عفرين ومصادر المياه الجوفية والسطحية فيها، منشور في موقع الخبرات الأكاديمية السورية، النشر 16/1/2021، الزيارة 8/3/2023، الرابط: https://sae-afs.org/ar/afrin-lands-33/

[40] مقابلة أجريت مع مهندس مدني من أبناء جنديرس.

[41] عفرين وجهة نازحي الشمال والشرق، عنب بلدي، النشر 5/16/2016، الزيارة 9/3/2023، الرابط https://www.enabbaladi.net/archives/83148

[42] ازدياد مخالفات البناء في مدينة عفرين، Syria Report، النشر 11/5/2021، الزيارة 9/3/2023، الرابط http://bit.ly/3J5Cqxu

[43] عفرين.. منظمة إنسانية تنفي بناء تجمعات سكنية غير قانونية، عنب بلدي، النشر 22/9/2022، الزيارة 9/3/2023، الرابط https://www.enabbaladi.net/archives/605788#ixzz7vS7ALjXs

[44] النظام السوري يرحب بعودة العلاقات مع دول المنطقة بعد عزلة على الأسد، إندبندنت عربية، النشر 10/3/2023، الرابط https://2u.pw/uZ9DGy

[45] الأسد يشكر “الأشقاء العرب” على مساعداتهم إثر الزلزال، فرانس 24، النشر 16/2/2023، الرابط https://2u.pw/eg2tFX

[46] لأول مرة منذ 12 عامًا، وزير خارجية الأردن يزور سوريا ويلتقي الأسد، DW، النشر 15/2/2023، الرابط https://2u.pw/YXiGCW

[47] وزير الخارجية المصري يزور دمشق لأول مرة منذ أكثر من عقد لـ “نقل رسالة تضامن” بعد الزلزال، فرانس 24، النشر 27/2/2023. الرابط https://2u.pw/vLC2uf

[48] السيسي يتصل بالأسد لأول مرة.. ويوجه بتقديم “كافة أشكال الإغاثة الممكنة” بعد الزلزال، سي إن إن، النشر 6/2/2023، الرابط: https://2u.pw/XPsTAL

[49] عزام القصير، هيئة تحرير الشام وارتدادات الزلزال، النشر 20/2/2023. الرابط: https://2u.pw/JZ5p4j

[50] مستغلة ظروف الزلزال.. “تحرير الشام” تعبّد الطريق نحو شمالي حلب، عنب بلدي، النشر 26/2/2023، الرابط https://2u.pw/hg1qKb

[51] فيديو تلغرام لزيارة الجولاني ورجاله إلى جنديرس.