لعلّ قسمًا كبيرًا من النقاشات الدائرة، حول مسألة اللجنة الدستورية، يُظهر بوضوح تبلور وجهتي نظر متباينتين، حول مشروعية هذه اللجنة وجدواها، وآثارها سلبًا أو إيجابًا، على القضية السورية. ولكن ما ينبغي التأكيد عليه أن هذا التباين لم يكن يتمحور حول المُنتَج الذي ندعوه بـ (اللجنة الدستورية)، بقدر ما هو خلاف حول المسار السياسي الذي أثمر هذا المُنتَج، لذلك نجد أن أي مقاربة جدية لمسألة اللجنة الدستورية توجب علينا الإحاطة -ولو بعجالة- بأبرز المفاصل والأحداث التي ساهمت في إنتاجها، وفي تكريسها.

في اللقاء الرابع من مفاوضات جنيف، بتاريخ 23 شباط/ فبراير 2017، طرح المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا فكرة السلال الأربع، المتمثلة بـ (هيئة حكم انتقالي، الدستور، الانتخابات، والسلة الرابعة -الإرهاب- بناء على رغبة حكومة الأسد)، وقد حظي هذا الطرح بموافقة هيئة التفاوض، باعتباره يجسّد جدولةً لعملية التفاوض، وكذلك باعتباره يجسد مسعًى جديًا للوسيط الدولي، من أجل إيجاد حالة من كسر الجمود، أو إحداث خرق ما في مسار التفاوض، وقد بررت هيئة التفاوض قبولها بهذه الجدولة -آنذاك- بأنه كان مشروطًا بتزامن العمل على السلال كافة، وليس على مسألة الدستور فحسب، إلّا أن سياق الأحداث أظهر، فيما بعد، أن القبول بالجدولة التي اقترحها ديمستورا لم يكن سوى بداية انحدارٍ لم يعد بمقدور هيئة التفاوض التحكم في إيقافه، وذلك بموازاة نجاح بوتين بإيجاد مسار أستانا، في مطلع عام 2017 ؟

يمثل السوريين في مسار أستانا مزيجٌ من شخصيات معارضة -من قادة فصائل عسكرية وشخصيات سياسية- وتشرف على سيرورته الدولُ الراعية الثلاث (روسيا، تركيا، إيران)، ويتجاوز أصحاب هذا المسار الحديث عن عملية الانتقال السياسي، باعتبارها أضحت صعبة المنال في ضوء الممكنات الراهنة، ويدعو إلى انتهاج “سياسة واقعية”، تتمثّل بتشكيل لجنة دستورية تقوم بصياغة دستور للبلاد، تعقبها عملية الدخول في انتخابات رئاسية، والشرط الضامن لنجاح عملية الانتخابات هو “البيئة الآمنة”، وفقًا لأصحاب هذا المسار، ولن تتحقق هذه البيئة إلا بتفكيك المنظومة الأمنية لنظام الأسد، وإعادة هيكلة الجيش، وإزالة جميع أشكال القمع والإرهاب، والقضاء على سطوة الميليشيات ذات الجنسيات المختلفة التي تقاتل إلى جانب النظام على الأرض السورية، بل طردها جميعها من سورية، وكذلك تستدعي هذه العملية توفير المراقبة الدولية لعملية الانتخابات، داخل سورية وخارجها. ولعلّ المراهنة على قبول النظام بالامتثال أو الاستجابة لمتطلبات هذه البيئة الآمنة (المُفترضة) يشبه الرهان على قبول بشار الأسد بالاعتذار من الشعب السوري عن إجرامه في مرحلة لاحقة.

ما يجب التأكيد عليه، في هذا السياق، هو الخطاب المختلف لوفدي جنيف وأستانا، الأول يؤكد تزامن العمل على السلال الأربع، والثاني يصرّح علنًا بالتمسك بسلتين فقط، هما الدستور ثم الانتخابات.

ثمة إجابة مشتركة لدى مفاوضي جنيف وأستانا معًا، وهي تكرارهم القول: إننا -مهما تشعّب مسار التفاوض- لن نوقّع على أيّ تفاهم يجافي القرارات الأممية. ولكن واقع الحال يشير إلى أن نظام الأسد، ومن خلفه الروس وإيران، لم ولن ينتظروا أي توقيع من أحد، لقد أخذوا ما يريدون أخذه، وكان يكفيهم أن تكون المعارضة السورية شاهدة محايدة على اجتياح الغوطة ودرعا وحمص، ومن ثم الإجهاز على إدلب وريف حماة الشمالي، تحت بند (خفض التصعيد)، كما كان يكفيهم استدراج المعارضة بالإقرار بمسار أستانا، كـ (مطبخ روسي لصنع القرار)، وليتحوّل مسار جنيف إلى مجرّد مسرح لعرض ما طُبخ في أستانا.

حين يتمكن الروس من حيازة الأرض، والتحكّم في هندسة مسارات التفاوض، فإنهم بذلك، يمهّدون الطريق لتجسيد ما يريده الأسد من وراء العملية التفاوضية، وهي المسألة التي لا يعترف بسواها، وأعني مسار (المصالحات والتسويات المحلية) وفقًا لما صرّح به رأس النظام أكثر من مرة.

ويمكن القول: إن تاريخ (30 كانون الثاني/ يناير 2018 ) شهد انعطافة مهمّة، من حيث الإخراج الجديد لمسعى المسارين معًا، وأعني بذلك لقاء سوتشي الأول الذي دعا فيه الروس أعدادًا كبيرة ممن يمثلون النظام والمعارضة معًا، وطرحت حكومة بوتين -حينذاك- فكرة صياغة دستور جديد لسورية، بالتوافق بين جميع الأطراف، ولعلّ هذا الطرح الروسي قد عزّز رغبة ديمستورا -آنذاك- بالدفع نحو العمل على سلّة الدستور، من بين السلال الأربع، وفي الوقت الذي كانت تشير جميع المعطيات الميدانية والسياسية، وكذلك المواقف الدولية والإقليمية، إلى اختزال القضية السورية بمسألة كتابة دستور جديد فقط، وتجاوز جوهر العملية السياسية (إنشاء هيئة حكم انتقالي) وفقًا لمرجعية جنيف، و(حكم غير طائفي ذي مصداقية) وفقًا للقرار 2254 .

إذا انتهت خارطة الطريق الأولى، بتكريس مخرجات سوتشي كأساس للتفاوض، وهو الأمر الذي يحاول فرضه الروس، ولا يقبل بسواه نظام الأسد، فهل ستكون المرحلة التالية بحاجة إلى خارطة طريق ثانية، تتضمن خطوات إجرائية موازية للمرحلة المقبلة؟

لقد أنهت اللجنة الدستورية لقاءها الأول الذي انعقد، في الثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وكذلك لقاء اللجنة المصغرة (45 شخصًا يمثلون التيارات الثلاثة في اللجنة) المنبثقة من الهيئة العامة للاجتماع في الخامس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، فيما هناك جملة من التساؤلات المشوبة بالقلق، بدأت تظهر لدى السوريين من أنصار الثورة، عمّا ستسفر عنه أعمال تلك اللجنة، وما هي المآلات المرتقبة لعملها.

لعلّ الإرهاصات الدالّة على العديد من تلك التساؤلات بدأت تتوضّح، سواء من خلال الأحاديث الإعلامية الصريحة لمسؤولي هيئة التفاوض، أو الناطقين باسمها (حديث إعلامي لرئيس هيئة التفاوض، ليلة العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر على تلفزيون سوريا)، أو من خلال المعطيات الميدانية التي باتت ملموسة على الأرض، ولعل من أبرز هذه المعطيات:

أولًا: لا يوجد ضامن حقيقي وفعلي لأي نتائج أو مخرجات للجنة الدستورية، وكذلك لا ضامن حقيقيًا للعودة إلى العمل على تنفيذ البند الذي يتضمن إنشاء هيئة حكم انتقالي، موازاةً مع العمل على البنود الأخرى، وكل ما ورد من مواقف إيجابية بهذا الصدد لا يتجاوز مستوى الوعود الشفهية، سواء من المسؤولين الأمميين أو من سواهم.

ثانيًا: ليس ثمة إرادة دولية للضغط على نظام الأسد، من أجل الإفراج عن المعتقلين السوريين في السجون، وعلى الرغم من جميع الجهود المبذولة من جانب هيئة التفاوض واصطدامها بعدم الاستجابة، فإن ثمة قناعة بدأت تتعزز لدى الطرف السوري المعارض بأن قضية المعتقلين مرهونة بإيجاد حل سياسي شامل. ما هو واضح من الكلام السابق أنه لن تكون قضية المعتقلين عائقًا أمام استمرارية عمل لجنة الدستور، بل يمكن تجاوز هذه القضية.

ثالثًا: لا قدرة لأحد -دوليًا أو إقليميًا- على ردع العدوان اليومي الروسي الأسدي، على المدنيين السوريين، وما يجري من قصف مستمر على أرياف إدلب وبقية البلدات والمدن السورية، موازاة مع عمل اللجنة الدستورية، بات أمرًا واقعًا، ما يؤكّد أن استمرار العدوان لن يكون عائقًا أمام عملية التفاوض (الدستوري).

ما يلفت النظر أن الصراحة الواضحة والإقرار بافتقاد أوراق القوة أو الضغط عند الجانب السوري المعارض، تبدو شديدة التلازم مع العبارات التي تؤكد الالتزام بثوابت الثورة، وعدم التفريط بأيٍّ من حقوق السوريين.

فإذا كانت فجائع السوريين، بمئات الآلاف من المعتقلين الذين يموتون مئات المرات كل يوم داخل مسالخ الأسد، ما تزال مستمرة، وإذا كان الموت الذي تحمله الطائرات الروسية ما يزال ينهمر فوق رؤوس المدنيين يوميًا، وإذا كانت العملية التفاوضية برمتها تمضي في مسار مجهول، ولا ضامن فعليًا لمخرجاتها، فما الذي يأمله السوريون بعدُ؟ وما الذي ينتظرونه في موازاة الموت اليومي والتشرّد والنزوح؟ وما الذي يخشى عليه السوريون -حيال ما يجري- إذا ذهبت العملية التفاوضية إلى الجحيم؟ ثم ما الذي لم يُفرِّط به -بعدُ- مفاوضو المعارضة؟ وما هو الخير المُضمر الذي يَعِدون به الشعب السوري؟ أهو دستور يحقن دماء السوريين، أم صياغة دستور يُستثمر كغطاء لاستمرار القتل والإجرام؟! فهل نحن أمام (خارطة طريق) خاصة بتنفيذ القرار 2254؟

في ضوء موازين القوى الراهنة، ربما جاز التنازل او التغاضي عن تحصيل أي حق سياسي، مقابل تحقيق شروط إنسانية (وقف القتل، الإفراج عن المعتقلين، إلخ)، كما يمكن العكس، على سبيل الافتراض، التغاضي عما هو إنساني مقابل مكسب سياسي، ولكن ما يحصل هو عدم الحصول على الاثنين معًا.

__________

(*) بحث مقدم إلى ندوة “تجارب سورية الدستورية” التي عقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019.