المحتويات
ثانيًا: الخلافة وتطور شكل الدولة
ثالثًا: كيف تتحقق الوحدة الإسلامية التي يطالب بها المسلمون؟
خامسًا: الحلم الداعشي بين الواقعية والاستحالة
مقدمة
عاد الحلم بتحقيق الخلافة الإسلامية مزدهرًا في أذهان بعض الإسلاميين؛ نتيجة تصاعد حركات الإسلام السياسي في الربيع العربي، وتصدرها المشهد السياسي، ويُعدّ هذا الحلم الأولوية الأولى لدى منظري الإسلام السياسي على مدار أقلّ من قرن، منذ إعلان نهاية الخلافة الإسلامية في تركيا على يد “مصطفى كمال أتاتورك” عام 1924 الذي وجد أنها أصبحت عبئًا على الأمة التركية؛ ليعلن تأسيس الدولة التركية الحديثة.
بدأ العمل على استعادة الخلافة بعد سقوطها مبكرًا؛ فكان “حسن البنا” أول من طالب بذلك بعد تأسيسه لحركة الإخوان المسلمين عام 1928 وجعل من عودة الخلافة أهمّ استراتيجية لحركته؛ إذ قال في رسالته إلى المؤتمر الخامس للحركة: “إن الإخوان المسلمين يعتقدون أنّ الخلافة رمز الوحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية؛ يجب على المسلمين التفكير فيها؛ والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله.
ولا يزال المشروع الإخواني مشروعًا عالميًا عابرًا للوطنية لإيمانه بتحقيق الخلافة وقيادتها؛ ما يدخل أعضاءه في حرج الولاء وتناقضه عند الأزمات الوطنية المتعلقة ببلد محدد.
جاء بعده “تقي الدين النبهاني” الذي انشق عن الإخوان المسلمين؛ فأسس حزب التحرير مطلع عام 1953 بالقدس؛ ليؤدلج هذا الحلم من خلال كتابه “نظام الإسلام” فوضع قواعد تأسيس الخلافة الإسلامية المعاصرة، وجعل لها هيكلًا تنظيميًا، يتألف من 13 جهازًا؛ ليصبح حلم الخلافة على رأس أولويات الاعتقاد التحريري.[1]
ثم جاء تنظيم القاعدة بعد أحداث أيلول/سبتمبر2000؛ ليضع مشروع عودة الخلافة هدفًا لاستراتيجيته؛ كي يُعيد العدل والحق الذي يعاني من غيابهما المسلمون نتيجة استبداد حكامهم، وظلم الغرب واضطهادهم للمنطقة بقيادة الإدارة الأمريكية. ويعتقد قادة التنظيم أنّ أوان العمل لتحقيق الحلم المنشود بعد كل هذا التنظير قد حان، ولكنهم وجدوا أن هذا الحلم يحتاج إلى عدة خطوات حتى يتحقق. تبدأ من إيجاد القاعدة الصلبة التي تحدث عنها “سيد قطب” لتقاوم الاضطهاد وتثبت بقوة وإرادة؛ حتى تصل إلى تحقيق مملكة الله على أرضه، كما سمّاها سيد قطب، ونظّر لها “المودودي” في كتبه لاستعادتها في الباكستان.
هذه التنظيرات ورسم الإستراتيجيات للوصول إلى تحقيق الحلم بعودة الخلافة؛ ضربت بها “داعش” عرض الحائط، كما رفضت اتفاق علماء السنة السابقين في كونها من الفروع، لتعلن إقامتها في الواقع، وفرضها كحالة موجودة للخروج من الخلاف بين العلماء والمنظرين لتحقيقها.
أولًا: الخلافة وتحرير المصطلح
لا بدّ من تحرير مصطلح الخلافة حتى يُفهم: هل يُراد منه أن يكون هناك نظام سياسي يخضع له المسلمون في كل أنحاء العالم؟ وهل هذا ممكن؟ أم يُراد أن يكون للمسلمين مرجعية دينية تهتم وتناقش وتضع الحلول والأجوبة عن الأسئلة المعاصرة التي تواجه المجتمع المسلم في هذا العصر؟ وهل الخلافة فريضة ومن أصل الدين؟ أم أنها فرع من فروعه، ولا يُحاسب مَنْ رفضها؟
إذا كان المراد من تحقيقها التساؤل الأول، فإننا نقول إن البون غدا شاسعًا بين المسلمين في ذلك؛ نتيجة تفرقهم في الأمصار من جهة، ووجودهم في دول منفصلة جغرافيًا بعضُها عن بعضٍ من جهة أخرى، فضلًا عن الفوارق الثقافية المجتمعية التي أوجدتها ظروف العصر. وبالتالي؛ فنحن نحلم حلمًا مستحيلًا على الأقل في الوضع الراهن، حتى إن بعض المتأخرين تحدث عن مثل هذا، فالإمام الشوكاني يقول في ذلك[2]:
“وأمَّا بعدَ انتشار الإسلام، واتِّساع رُقعته، وتباعُد أطرافه، فمعلومٌ أنَّه قد صار في كلِّ قطر أو أقطار الولاية إلى إمامٍ أو سلطان، وفي القُطر الآخَر أو الأقطار كذلك، ولا ينفُذ لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قُطر الآخَر وأقطاره التي رجعتْ إلى ولايته؛ فلا بأس بتعدُّد الأئمَّة والسَّلاطين، ويجب الطاعةُ لكلِّ واحد منهم بعدَ البَيعة له على أهل القُطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القُطر الآخَر”.[3]
وأكد على وجهة النظر هذه وأيَّدها العلَّامةُ الهندي صِدِّيق حسن خان حيث قال:
“وجلُّ أهل العلم من شتَّى المذاهب قد أجازوا تعدُّدَ الأئمَّة إذا تعذَّر على إمامٍ واحدٍ حُكمُ كلِّ بلاد المسلمين لتباعُدها”.[4]
ولهذا الرأي، بات أمامنا نوعان للخلافة، يُطلق عليهما في كتب التراث: الإمامة التكوينية، الصغرى والكبرى؛ فالصغرى: مقصورة على شعب معين ذي أغلبية ساحقة مسلمة، وتسمى الإمارة، فلا تشمل بسلطانها وسياستها باقي المسلمين في العالم. وهذا ما قامت به “حركة طالبان” عندما سيطرت على كامل أفغانستان بالغلبة العسكرية؛ فأعلنت عن إمارتها عام1996 ولم تعلن الخلافة؛ وبقيت حتى أنهاها التدخل العسكري الأمريكي عام2002.
وأما الكبرى: فتشمل الشعوب المسلمة كلها؛ فتسمى خلافة، ويدين لها المسلمون في كل مكان.
ولا تناقض أو تعارض بين الاثنين؛ إنما المسألة تكاملية، فالكبرى تحدد الصغرى؛ أي أنّ الخليفة يحدد الإمارات التي تقع تحت سلطانه، ويعين أمراءها، من دون إلغاء أي دور لكل منهما، مع بقاء القرار الاقتصادي والعسكري والسياسي لسلطة الخليفة المركزية، وهي أشبه بالفدرالية في عصرنا الحاضر مع فارق المستجدات المعاصرة لبنية الدولة الحديثة.
وغالبًا ما يتحدث الفقهاء عنها تحت مسمى الإمامة؛ وقصدهم الخلافة مستدلين بآيات قرآنية -تحدثت عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم- على مشروعيتها الدينية. وإني لأخالفهم في المسمى؛ فالإمامة التي تحدث عنها القرآن الكريم في آياته، لا تمتلك سلطة الأمر والنهي القهرية على المجتمع؛ لأنها وجدانية عبادية غير قهرية دنيويًا. ويمكن أن نسميها التبعية الأيديولوجية الاعتقادية. أما الإمارة والخلافة فتمتلكان سلطة الأمر والنهي القهرية على المجتمع، ولديهما جهاز تنفيذي لذلك، وهذا غير متوافر في إمامة الأنبياء.
ولكن الشيخ “علي عبد الرازق” خالف الجميع في كتابه الشهير “الإسلام وأصول الحكم” الذي شغل العالم الإسلامي وعلماءه حين صدر عام 1925 لما بدأ التفكير بعودة الخلافة وإحيائها، حتى ولو كان عربيًا من خلال مَلِك مصر آنذاك. ذهب علي عبد الرازق، إلى أنّ الخلافة كانت نكبة على المسلمين، وأن الإسلام لم يدعُ إلى دولة حتى قال في كتابه المذكور: “الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل، ويشهد به التاريخ قديمًا وحديثًا أن إقامة الشعائر الدينية لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء “خلافة” ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس “خلفاء” والواقع أيضًا أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس لنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا دنيانا، إنما كانت الخلافة نكبة على الإسلام وعلى المسلمين […] فمعاذ الله أن يجعل عز هذا الدين وذله منوطًا بنوع من الحكومة، وتحت رهن الخلافة، ورحمة الخلفاء”.
تقوم فكرة كتابه على تفسير الإسلام بما يتفق مع تطور مفهوم الدين وعلاقته بالدولة، فرسالة النبي ما هي إلا رسالة روحية ليس فيها إلا البلاغ لوجود “آيات متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني السلطان”. فهي رسالة لا تتضمن سلطة حكم، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم: “رسولًا لدعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة” إنما أحدث ذلك المسلمون من بعده، وكانت الحكومة التي أقامها الصحابة من بعده حكومة دنيوية ليست من أحكام الإسلام.
وأكد عبد الرازق، أن الإسلام لا علاقة له بالدولة، وأنه دعوة ليس من شأنها الدخول في مضمار السياسة؛ ما أثار نقاشًا حادًّا بين المؤيدين لفكرته والمخالفين لها، ولايزال هذا النقاش قائمًا حتى يومنا هذا! حيث دعا في كتابه إلى تأسيس دولة حداثوية قائلًا: “لا شيء يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى، في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم، على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.
ثانيًا: الخلافة وتطور شكل الدولة
بغض النظر عما سبق ذكره، تبقى المسألة الأهم والمتمثلة بتطور شكل الدولة، فالدولة كالكائن الحي تمر بأطوار تحول وتطور ونمو، وهذا ما غاب عن أذهان أغلبية المسلمين؛ فلم يقبلوا الاعتراف به حتى يومنا هذا، وبالتالي، فإنّ شكل الدولة خاضع لصيرورة الانتقال وسيرورة التحول.
والدولة عبر تاريخها، مرت بتلك الصيرورة والسيرورة؛ حيث كانت ذات شكل إمبراطوري، الناس فيها على دين ملوكهم، ولما تشكلت دولة الإسلام راعت ذلك، حتى بعد تطورها وامتدادها الجغرافي والسكاني، لم تخرج عن هذا النمط العالمي، وعَمِلت به، إلا أن هذا الشكل للدولة انتهى بنهاية الحرب العالمية الأولى، حيث أُعلن عن بدء عصر الدولة القومية ونهاية الإمبراطوريات. حدث تحول آخر في شكل الدولة بعد الحرب العالمية الثانية، لينهي الشكل القومي للدولة، ويعلن الشكل الآخر المتمثل بالدولة الوطنية، حتى جاء النظام العالمي الجديد، ليبدأ عصر دولة المواطنة؛ حيث الدولة فيه حيادية تجاه كل مواطنيها، مهما تنوعت أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم.
هذا التحول في شكل الدولة، لا يسمح مطلقًا بعودة الخلافة الإسلامية في الشكل الذي هو في أذهان المسلمين، ويجب علينا أن ندرك متطلبات عصرنا، ومصلحة شعوبنا. وأنّ فرض الخلافة الإسلامية قهرًا، إنما هو استبداد باسم الدين، والدين براء من الاستبداد. والخلافة كما نريدها في الشكل الإمبراطوري التاريخي، غير ممكنة في ظل سيادة مفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان.
هناك تساؤل آخر يُولَد من رحم التساؤل الأول: مَنْ الذي يقود دولة الخلافة هذه؟ فكتب التراث تقول: “يجب أن يكون قرشيًا”. فأين ذاك القرشي؟ أم سيقودها الأتراك الذين يرى بعضهم أنهم الأحق بها، ومنهم قد انتُزعت انتزاعًا؟ أم الإخوان المسلمون الذي نظّروا لها عبر قرن من الزمن تقريبًا، وضحّوا كثيرًا من أجلها؟ أم حزب التحرير الذي جعلها أولى أولوياته؛ ونظّر لها، حتى باتت من أصول تفكير أعضائه، وأول همومهم؟ أم إيران المتشيعة التي تريد استعادة حلمها الفارسي من خلال استرداد آل بيت النبوة حقهم الإلهي الذي سُلب منهم نتيجة “مؤامرة سقيفة بني ساعدة” كما يقولون؟ أم السلفية الجهادية التي ترى نفسها الأولى من الجميع، وتدعي أنها ذات الاعتقاد الأصح، وهي من يدافع عن المسلمين ضد الغرب؟ أم “داعش” التي ترى أنها سبقت الجميع فأوجدتها في الواقع، ودافعت عنها، وجعلت لها جغرافية وجيشًا، وصكت باسمها نقودًا؟ وكيف نتعامل مع غير الإسلاميين في دولة الخلافة، كالعلمانيين مثلًا الذين يطالبون بفصل الدين عن السياسة في ظل مفاهيم حقوق الإنسان، وكذلك القوميين والوطنيين والديمقراطيين الذين يشكلون الشريحة المثقفة في المجتمع، فضلًا عن الملل والنحل الأخرى؟ وما حكمهم الشرعي في ظل دولة الخلافة؟
أما في إجابتنا عن التساؤل الثاني: هل يُراد اليوم من الخلافة الإسلامية أن يكون للمسلمين مرجعية دينية تهتم بشؤون دينهم؟ فهذا ممكن، بل لابد منه، وقد تحقق شيء كهذا من خلال مؤسسات كثيرة، لكن ذلك لم يرضِ طموح كثيرٍ من الإسلاميين، ولن يحقق حلمهم الموعود، على الرغم من وجود مجمعات فقهية كبيرة، ومؤسسات إغاثية كذلك، وحملات وبرامج دعوية.
ثالثًا: كيف تتحقق الوحدة الإسلامية التي يطالب بها المسلمون؟
حتى يصبح هذا الكلام ممكن التطبيق لابد من تحريره، وإلا فنحن نتكلم بمثالية إيديولوجية ذات ثمن باهظ وعن وهم وحلم مستحيل التحقق، أو ما يُسمى بالدولة المستحيلة، والمشاريع السياسية لا تتحقق بالمثاليات؛ إنما تقوم على الوقائع الممكنة؛ فهناك دائمًا فرق بين الوحدة التكليفية والوحدة التكوينية
أما الوحدة التكليفية فهي دينية وحسب، تهتم بشؤون المسلمين في دينهم بشكل ما، من حيث الفتوى والدعوى والتوجيه، وقد أشرنا إلى بعضها آنفًا.
أما الوحدة التكوينية؛ فتتعلق بالقضايا السياسية، وأن يرتبط المسلمون أفرادًا وجماعات وأقطارًا بقرار سياسي واحد. وهذا مستحيل التحقق في أيامنا هذه؛ فالدول الإسلامية باتت متفرقة في التبعية السياسية، ومتباعدة جغرافيًا، والدولة المعاصرة دولة حيادية تجاه مواطنيها على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم، ومهمتها إدارة شؤون المجتمع لتحقيق التنمية والخدمات والأمن والأمان، إضافة إلى الشؤون السياسية.
وهذا يعني بحسب وجهة نظرنا أن الوحدة التكليفية ممكنة من خلال ما ذكرنا، أما الوحدة التكوينية التي تصل بالمسلمين للخلافة فهي وهٌم لا حلم. وبيع الوهم كبيع الغَرر لا يجوز شرعًا! على الأقل في ظل النظام العالمي الموجود حاليًا، وأما المستقبل فهو بيد الله سبحانه وتعالى، على الرغم من قناعتي أن تطور شكل الدولة لم يعد يسمح بذلك.
السلفية الجهادية من خلال “داعش” ذهبت إلى تحقيق الوحدة التكوينية بالقوة والإكراه، والتمرد على الحاكم، ومارست الإلغاء الفيزيولوجي والأيديولوجي للآخر، حتى أصبح أقصى حلم مَن يقطن تحت إمرتها الفرار من تحت سيطرتها مهما كان الثمن؛ نتيجة قسوتها وتوحشها في التعامل مع أبناء المجتمع، وكذلك عمليات القصف التي تقوم بها قوات التحالف.
الطريقة التي أسست بها “داعش” خلافتها، خالفت فيها مرجعها الأساس؛ الذي تعتمد على آرائه وأقواله وفتاواه (ابن تيمية) في معاشها ومعايشها وأيديولوجيتها إذ قال:
“وأما أهل العلم والدين والفضل؛ فلا يرخّصون لأحدٍ فيما نهى الله عنه: من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه، كما قد عُرِف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا، ومن سيرة غيرهم”.[5]
ويقول أيضًا: “فلهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة: لزوم الجماعة، وترْك قتال الأئمة (الحكام) في الفتنة، وأما أهل الأهواء – كالمعتزلة – فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم”.[6]
ويقول الإمام النووي: “وأما الخروج عليهم وقتالهم؛ فحرام بإجماع المسلمين –وإن كانوا فسقة ظلمة– وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق”.[7]
وبهذا تؤمن، وتُفتي، السلفية الجديدة بجميع تياراتها ومدارسها، ولم يخالفها في ذلك إلا السلفية الجهادية للأسباب التي ذكرناها في دراستنا عن الجهاد العالمي، والمثلث السلفي وأسباب الخلاف معهم.
ولكنْ ليست السلفية الجهادية من يذهب هذا المذهب كما وضحنا، بل دعاة الإسلام السياسي ومنظروه المعاصرون، كالإخوان المسلمين وحزب التحرير وغيرهما، كلٌ بطريقته، حتى توهموا في ظل فوضى الربيع العربي، أنّ الخلافة باتت حلمًا ممكن التحقيق، ولذلك وضعت السلفية الجهادية إستراتيجية، تتمثل بخريطة طريق من خلال الكتاب الذي يرسم لهم سياسة تحقيق الحلم، وهو “إدارة التوحش”.
تمَّ أدلجة ثقافة “الطائفة المنصورة” الواجبة الاتباع، التي سينصرها الله على أعداء الدين؛ لتحقق الخلافة على منهاج النبوة، وفي الأيديولوجيا السلفية الجهادية الطائفة المنصورة إذا عُرفت وجب اتباعها والانقياد لها! فإنْ اجتمع عليها المجاهدون، واختاروا لها خليفة، وأصبحت لهم شوكة؛ لم يعد مسموحًا الخروج عنها أو الاختلاف معها؛ لأنها تحرس الدين والدنيا، وإنْ اختلف في ذلك العلماء والفقهاء وأهل الرأي على قيامها؛ فالمرجح في اختلافهم هو رأي أهل الثغور (المجاهدين) وإلى هذا ذهب “سيد قطب” في تفسيره لقوله تعالى:
“وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”. (سورة التوبة:122)[8]
منظّرو ذلك قالوا: “هذه الخلافة كي تتحقق واقعًا لابد أن يتخلّق لها جيل فريد مخلص مؤمن قوي الإرادة؛ ليكون القاعدةَ الصلبة، فالقاعدة الصلبة عندما تضع الأيديولوجيا المناسبة والصحيحة لذلك الحلم من خلال إستراتيجية، يجب العمل بها وعليها بجد وإخلاص ومثابرة من دون كلل أو ملل، حتى تحقيق الحلم المنشود بالخلافة، ليسود الدين الصحيح العالم كله؛ لذلك نرى أن نشوء تنظيم القاعدة لم يكن عبثيًا؛ فهو الخطوة الأولى في تحقيق ذلك الحلم، والخطوة الصحيحة في اتجاه الخلافة الإسلامية ليكون الدين كله لله ــكما يعتقد أتباعهاــ فتحقق العدل والعدالة لأهل التوحيد كما تقول أدبياتهم. ولقد نظّر لذلك سيد قطب، عندما قال:
“يجب توجيه الحرص كله لإقامة القاعدة الصلبة من المؤمنين الخلص، الذين تصهرهم المحنة فيثبتون عليها والعناية بتربيتهم تربية إيمانية عميقة تزيدهم صلابة وقوة ووعيًا ذلك مع الحذر الشديد من التوسع الأفقي قبل الاطمئنان إلى قيام هذه القاعدة الصلبة الخالصة الواعية المستنيرة. فالتوسع الأفقي قبل قيام هذه القاعدة خطر ماحق يهدر وجود أية حركة، لا تسلك طريق الدعوة الأولى من هذه الناحية، ولا تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي الذي سارت عليه الجماعة الأولى”.[9]
فهل اسم تنظيم القاعدة مستوحى من إشارة قطب هذه؟ الله أعلم. لكنني وجدتُ في كتاب “إعلام الأنام في ميلاد دولة الإسلام” ما يؤكد ذلك؛ إذ يقول مؤلفه مؤكدًا على هذه المسألة: “أقول لكم كما قال الشيخ عبد الله عزام رحمه الله سبعين سنة وأنتم تدعون إلى قيام دولة الإسلام وتجربون السبل، وتحدثوننا عن القاعدة الصلبة التي تربونها وتنطلقون بها، وها هي حُجة الله قد قامت عليكم، هذه أرض العراق الآن تتهيأ لمشروع إسلامي كبير، هذه قضية العصر، دولة الإسلام المنتظرة”.[10]
ويثني كثيرًا قبل ذلك على أسامة بن لادن، ويصفه بالوالد وكذلك يتابع الثناء على أيمن الظواهري، مؤكدًا أن هذا الإعلان جاء بناءً على دعواتهم لإيجاد هذه الخلافة التي تحرس الدين والدنيا.[11]
عندما توجد هذه القاعدة الصلبة؛ وتبدأ جهادها، يبدأ الإيمان بها كمخلص للمقهورين من نير الاستبداد، وتعلن عن نفسها من خلال عمليات نوعية، تؤلم الاستكبار العالمي -أحداث أيلول بأمريكا في عام 2001 وتفجيرات مدريد 2004 ولندن 2005 وباريس وبروكسل هذا العام- سيجعلها مُرحبًا بها في أوساط المجتمع الإسلامي المتضرر من السياسة المنحازة إلى الإدارة الأمريكية؛ وسيتعاطف معها حتى غير الإسلاميين؛ كما حصل إبان حوادث أيلول/ سبتمبر 2001.
ولا بدّ حتى تثبت صدقيتها من زعماء يتحدثون باسمها، ويتمتعون بكاريزما من نوع فريد، لا يستطيع أحد أن يتهمهم بالبحث عن السلطة أو المال، لذلك كان على رأس تلك القاعدة الصلبة الملياردير الثائر أسامة بن لادن، الذي سخّر ثروته لهذه الإستراتيجية، وتحدى العالم من أجلها، وشغله كله برسائله المرئية.
ثم تتربص القاعدة الصلبة بالوضع العربي الإسلامي؛ فإنْ حدثت فوضى لسبب ما في قطر مسلم؛ تتغلغل هذه القاعدة فيه، مستغلة غياب السلطة المركزية عنه؛ لتقوم بإدارة التوحش، حتى إذا تحققت لهم الجغرافيا الممكنة؛ اتخذت مركزًا لخلافتها يكون محميًا من خلال فضاء جغرافي (الرقة أنموذجًا)، من الصعب الوصول إليه؛ لتعلن عن خليفتها الغامض في تاريخه ونشأته، حتى لا يكون محلّ، ومحور، نقد عند أتباعه الجاهلين بشخصيته وتاريخه. وهذا ما حاولوا فعله في الصومال وفشلوا، وفي أفغانستان وفشلوا، وفي العراق وفشلوا، حتى جاءتهم الفرصة في سورية من خلال الربيع العربي، الذي جعله الإسلام السياسي خريفًا متعبًا، إضافة إلى عوامل أخرى خارجية ساهمت في ذلك التحويل.
ففي سورية تحققت لهم الجغرافيا الآمنة، والممتدة بين قُطرين شهدا خلافات سياسية حادة طوال نصف قرن، جعلت من حدود سايكس/بيكو بينهما سورًا منيع التجاوز، وأبعدت وقسمت العشيرة الواحدة -المنتشرة في البلدين- إلى نصفين، فلما تحققت الخلافة وحطمت حدود سايكس/بيكو ووصل أتباعها جغرافيا العراق بالشام، لتمتدّ الخلافة من الرمادي في العراق التي تعادل مساحتها ثلث مساحة المملكة المتحدة؛ ثم تضم الموصل ومنها إلى سورية لتأخذ أكثر مناطقها خصوبة وثروات على نهر الفرات (الرقة ودير الزور) حتى حدود حلب.
ولو حولنا ما نقوله في هذا الأمر إلى سيناريو يبدأ من عام 1990 لحظة ولادة السلفية الجهادية، حتى لحظة إعلان الخلافة في حزيران/ يونيو 2014، لتبين لنا أن ذلك السيناريو المرسوم للوصول إلى الحلم المستحيل، يتم العمل على تنفيذه من دون كلل أو ملل من قبلهم.
رابعًا: الخلافة حُلم أم وهم؟
غالبًا ما ارتبط مفهوم الخلافة في العقل المسلم بشكل النظام العادل الذي يحقق العدالة الاجتماعية للجميع، ويخلص المستضعفين من الاستبداد والظلم ـــعلمًا أن الخلافة الإسلامية أيام الأمويين والعباسيين وصولًا إلى العثمانيين بحسب رأيي لم تكن كذلك باستثناء ومضات لا تعادل زمنيًا مراحل القهر والاستبداد فيها، ويرتبط، كذلك، مفهوم الخلافة عند المسلمين بالسيادة العالمية، كما كانت منذ الأمويين حتى العثمانيين.
ودائمًا يرتبط مفهومها بالفرد المخلص العادل؛ لأن عقليتنا لا تزال تفكر فرديًا، واليوم العقل والعمل في العالم كله بما فيه السياسة والقيادة السياسية مؤسّساتي.
كما أنّ العقل المسلم لا يزال حاقدًا على ما فعلته اتفاقية سايكس/بيكو بالجسد العربي، عندما قطعته جغرافيًا إلى قطع صغيرة متجاورة ومتناحرة، فعندما تأتي الخلافة لتنهي قدرية التسليم بـ سايكس/بيكو، وهذا ما حُسب لداعش بين أنصارها؛ عندما أسست خلافتها في منطقة جغرافية حساسة جدًا، فدحرت واقعية سايكس/بيكو بطريقة ذكية معتمدة على الديموغرافية السكانية لتلك المنطقة، من حيث القرابة العشائرية، وكراهيتها للأميركان والمشروع الإيراني.
خامسًا: الحلم الداعشي بين الواقعية والاستحالة
يوضح ذلك المسؤول الشرعي لتنظيم دولة العراق الإسلامية في عهد أبي عمر البغدادي “عثمان بن عبد الرحمن التميمي” في كتابه الشهير الذي يعدّ المرجع في الاحتجاج على صحة إعلان الخلافة الداعشية ورسم الطريق الى الخلافة؛ حيث يتحدث في كتابه “إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام” في الفصل الثاني منه عن مشروعية قيام الخلافة، يقدمها كواجب لاحتضان المجاهدين وجمعهم في جغرافيا واحدة محددة، وما لذلك من أثر نفسي إيجابي عند الشارع المسلم، ثم يتحدث عن كيفية اختيار الخليفة. فيعتمد مشروعية البيعة بقياسه على بيعة أبي بكر الصديق، وهو أسلوب يقرّ به كثير من المسلمين والعلماء وحتى المنظرون، لكنه يجيز شرعية الخليفة بالوصاية من السابق مستدلًا على ذلك بوصية أبي بكر لعمر بن الخطاب، وهذا ليس دقيقًا، ولكنه ليس مدار بحثنا هنا. ثم يطرح نوعًا ثالثًا ويتمثل بولاية المتغلب عند حلول الفتن وخلو الزمان من إمام؛ حيث يشرع حينها لمن تغلب بالسيف وأظهر الشوكة “القوة” ومَلَكَ الأتباع أن يكون خليفة للمؤمنين، والأمثلة الثلاثة المذكورة آنفًا يراها “الدواعش” تنطبق على خليفتهم المزعوم البغدادي. فهو مبايع من قبل أهل الحلّ والعقد، ولديه بيعة عامة من أنصاره؛ وموصّى بخلافته من قبل أبي عمر البغدادي، كما أنه متغلب وذو شوكة نظرًا لأن الزمان خلا من إمام. وأغلبية علماء المسلمين السابقين والمعاصرين يقولون بمشروعية ولاية المتغلب (الانقلاب في العصر الحديث) خوفًا من الفتنة، ولتجنيب المجتمع المسلم الخراب والدمار في مثل هذه المعارك السلطوية.
كما رسموا خطة استراتيجية لتحقيق ذلك؛ تمثلت في كتاب “إدارة التوحش” الذي يعدُّ دستور “داعش” في إدارة الحكم لتحقيق الخلافة لمؤلفه الغامض “أبي بكر ناجي” الذي صدر عام 2008، ونظرًا لأهمية الكتاب قامت الإدارة الأمريكية بترجمته وتوزيعه على مؤسساتها الأمنية لدراسته.
هذا الكتاب يمثل خريطة الطريق لقيام الخلافة الإسلامية من قبل السلفية الجهادية متمثلة بداعش؛ إذ يضع مؤلفه ثلاث مراحل للوصول إلى الخلافة: الأولى: شوكة النكاية والانهاك، والثانية: إدارة التوحش، والثالثة: التمكين وقيام الدولة.[12]
1- المرحلة الأولى: شوكة النكاية والانهاك
في هذه المرحلة يحتاج الأمر إلى تيار إسلامي جهادي موجود في المنطقة التي ستقوم فيها الخلافة، وتخرج عن سيطرة الدولة المركزية المستبدة؛ لتأتي القاعدة الصلبة، فتدخل متغلغلة في تلك المنطقة في هدوء، معتمدة على وجود ثوار ذوي روح إسلامية جهادية؛ فتبسط سيطرتها على تلك المنطقة حتى يصير لها الأمر والنهي ، وتقوم هذه القاعدة الصلبة بعمليات عسكرية نوعية بين الفترة والأخرى، تؤلم، وتوجع، النظام الحاكم والكتائب الثورية؛ فتنهك الطرفين النظام والمعارضة، وهذا بالضبط ما قامت به “داعش” في دير الزور والرقة، فيأتي دور المرحلة الثانية.
2- المرحلة الثانية: إدارة التوحش
تتم إدارة التوحش من خلال الصدمة والترويع؛ حيث تزرع في قلوب خصومها من كل الأطراف رعبًا مخيفًا، يجعلها تنتصر في معارك كثيرة من دون جهد يُذكر، وتعاقب بشدة وقسوة على أبسط المخالفات، وتلغي فيزيولوجيًا وبشكل مطلق كل مَنْ لا يتطابق معها في أيديولوجيتها. حتى تصبح مُهابة ومرعبة عن بعد؛ لتنتصر على خصومها من دون الدخول في معارك حقيقية. وكلنا نتذكر ما فعلته بثوار “أحفاد الرسول” وقد كنتُ موجودًا يوم استطاع أحد عناصرها أن يتسلل بشاحنة في الرقة إلى مقرِّ قيادة أحفاد الرسول ليفجر الشاحنة؛ وفي اليوم التالي تبخر عناصر أحفاد الرسول؛ ولم نعد نسمع بهم حتى يومنا هذا، وإدارة التوحش هذه قامت بها ضد كتائب ثورية مختلفة؛ لتبسط سيطرتها الكاملة على المنطقة الموجودة فيها، حتى إذا ما استفردت بها تمامًا أعلنت عن مشروعها في الخلافة.
وهذا ما يجيبنا عن تساؤل شغلنا كثيرًا: لماذا توجه طاقتها ومعاركها (داعش) ضد الثورة وليس النظام؟ ثم بعد ذلك تدخل في معارك شبه محسومة مع النظام المركزي؛ لتحقق نصرًا يتحدث عنه الناس؛ عجز عنه الثوار لشهور طويلة، كما حدث في معركتها مع الفرقة 17 في الرقة، ومعركة مطار الطبقة وسواها من المعارك، بعد أن أنهك الثوار عناصر النظام بحصار قبل حسمها من جانب داعش استمر أكثر من سنة، لتأتي “داعش” وتقطف الثمرة بذكاء. عندئذ تتحقق لها جغرافيا مقبولة ومعقولة، ليبدأ العمل في المرحلة الثالثة؟
وهذا ما فعلته طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان مع رفاق السلاح والجهاد والثورة، كجماعة حكمتيار وأحمد مسعود وسياف وغيرهم من بقية الفصائل الجهادية في أفغانستان.
3- المرحلة الثالثة: التمكين وقيام الدولة
بعد المرحلتين الأولى والثانية، يحصل التمكين (السيطرة) بشكل كامل على المنطقة، لتبدأ بوضع برامجها للتنفيذ في جميع المجالات التربوية والتعليمية والضريبية والعسكرية…إلخ. وتعلن قيام الدولة دولة الخلافة؛ لتتصرف كما لو أنها دولة حقيقية، لها برامجها الخاصة، وعملتها المخصصة، وتعاملات مع الدول الإقليمية.
سادسًا: هل الخلافة من أصول الدين أم من فروعه؟
المشكلة أن الفقهاء جميعًا اتفقوا على أنها من الفروع، ثم عادوا ليقولوا بوجوبها، فكيف يكون الفرع واجبًا؟ واستدلّوا على ذلك بالقاعدة الفقهية التي تقول: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” فعدّوا قيام دولة تقوم بحراسة الدين هي من الواجبات، في حين أن حراسة الدين تبدأ من الفرد المؤمن نفسه، وكذلك من خلال مؤسسات دينية مهمتها المحافظة على هذا الدين.
ولقد ذهب إلى أنها من الفروع الفقهاء المعتمدون والمراجع في المذاهب الإسلامية، وليست بواجبة فالعلامة “سيف الدين الآمدي” 551 -631 هـ صاحب المكانة المرموقة عند العلماء يقول:
“واعلم أنّ الكلام في الإمامة (الخلافة) ليس من أُصول الديانات، ولا من الأُمور “اللا بدِّيَّات” حيث لا يسع المكلَّف الإعراض عنها والجهل بها.[13]
وإلى ذلك ذهب الإمام عضد الدين الإيجي وهو قاضٍ ومتكلم وفقيه ولغوي، إذ قال:
“وهي عندنا من الفروع، وإنّما ذكرناها في علم الكلام تأسيًّا بمن قبلنا”. [14]
وكأنّ الإيجي يقول: “إنها مسألة لا تستحق البحث إنْ تكلمنا في أصول الدين وثوابته وأساسياته” وإلى ذلك ذهب حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزّالي بقوله:
“اعلم أنّ النظر في الإمامة أيضًا ليس من المهمات، وليس أيضًا من فنّ المعقولات، بل من الفقهيات.[15]
وردّ بأدب على من قال إنها من الأصول الإمام سعد الدين التفتازاني (722هـ – 792هـ) وهو عالم مسلم وفقيه متكلم وأصولي نحوي بقوله: “لا نزاع في أنّ مباحث الإمامة، بعلم الفروع أَليق”.[16].
وبهذا يخالف علماءُ السنة المذهبَ الشيعي القائم على أن الامامة من دون تمييز بين دلالاتها المتعددة أصل من أصول الدين، وهنا تتوافق السلفية الجهادية مع الشيعة في ذلك. ويستدلون على ذلك بمرجعهم (ابن تيمية) الذي يتعاملون مع فتاواه بطريقة انتقائية؛ مستدلّين بقوله عن الخلافة:
“يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لحراسة الدين من رأس”.[17]
ولكن لو قبلنا بمذهبهم هذا؛ فلابد أن يتوافر شرط آخر في الخليفة، قرره علماء أهل السنة؛ إذ اشترطوا إجماع الناس عليه. فهل الخليفة البغدادي يحقق هذا الشرط؟ مخرجهم من ذلك الإحراج جواز ولاية المتغلب عند أغلبية علماء المسلمين قديمًا وحديثًا؛ ونجد “ابن تيمية” يقرّ بشرط الإجماع؛ ولكنه يستدرك بجواز ولاية المتغلب؛ ما يجعلهم مستندين إلى رأيه؛ إذ يقول:
“بل إنَّ الإمام أحمد رحمه الله نُقل عنه –في إحدى رِوايتيه– أنَّها تنعقد بالإجماع، فقال: “مَن وَلِي الخلافة، فأجمع عليه الناسُ ورَضُوا به، ومَن غلبهم بالسَّيف حتى صارَ خليفةً، وسُمِّي أميرَ المؤمنين، فَدَفْعُ الصَّدقاتِ إليه جائزٌ، بَرًّا كان أو فاجرًا”.[18]
وعلى الرغم من الخلاف في وجوبها من عدمه؛ إلا أن علماء السنة اتفقوا بلا خلاف على أن تنصيب خليفة قضية اجتهادية لا نصية. وهذا يعني أن الاجتهاد في الأمر ذاته قابل للنسخ باجتهاد آخر، نظرًا لتغير الزمان والظروف وشكل الدولة كما أسلفنا من قبل. بل أضاف العلماء أن القضية لا يجوز تكفير المخالف فيها، وما طرحه الحنابلة وغيرهم من وجوب وجود خليفة للمسلمين -لا يخلو الزمان منه للقيام بأمر الدين والدنيا؛ هذا اجتهاد ورأي- كان صوابًا أيام الدولة الإمبراطورية، وليس اليوم في ظل دولة المواطنة، وحيادية الدولة، وتنوع أفراد المجتمع في مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم. والله أعلم.
خلاصة
إنّ أهم معوقات إسلام الدعوة هو إسلام الدولة؛ فالإكراه على الإسلام قضية يرفضها القرآن، والدين يتمدد بالحكمة والعقلانية والإنسانية؛ لا بالسيف والذبح والتفجير، ولا بالسلطة.
ونحن اليوم أمام تحٍد حقيقي؛ فإمّا أن نبقى نصفق لهؤلاء المتشددين في حربهم مع العالم كله، خائضين في حمامات الدم والذبح والتفجير باسم الاسلام، أو نجري مصالحة عقلانية واقعية بين الإسلام والمعاصرة، من خلال مفاهيم باتت ضرورة كالديمقراطية والمواطنة والمجتمع المدني وحيادية الدولة، وندع ثقافة الوصاية الدينية على العالم؛ فالخلق كلهم عيال الله؛ أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله.
وما بين ثابت الدين ومتغير الحياة؛ هناك سوء فهم؛ فلا يمكن للمتغير الحياتي أن يثبت؛ ولكن يمكن لثابت الدين أن يُجتهدَ فيه؛ وهذا ما قام به عمر بن الخطاب في بداية عصر الإسلام. فإن لم نفعل ذلك سنبقى في دائرة الاحتراب مع العالم من جهة، ومتخلفين في شؤون الحضارة من جهة أخرى، والإسلام أطهر وأعقل من أن يقبل لنا هذا وذاك. والله أعلم.
[1] ـ حزب التحرير هو تجمع سياسي إسلامي عالمي أنشئ مطلع عام 1953 على يد تقي الدين النبهاني المتوفى عام 1977، ويدعو إلى إعادة إنشاء دولة الخلافة الإسلامية وتوحيد المسلمين جميعًا تحت مظلة دولة الخلافة. تسمى القيادة السياسية في حزب التحرير بـ “الإمارة” يتولاها “أمير الحزب” الذي يتم انتخابه داخليًا طبقًا لآليات حزبية معينة وتكون مدة إمارته غير محدودة، وإمارته عالمية.
[2] ـ الإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني، الملقب بـبدر الدين الشوكاني، أحد أبرز علماء أهل السنة والجماعة وفقهائها، يعدّ مجدد القرن الثاني عشر؛ ومن كبار علماء اليمن ولد في هجرة شوكان في اليمن 1173 هـ ونشأ في صنعاء، وولي قضائها عام 1229 هـ، ومات حاكمًا فيها في سنة 1250 هـ.
[3] ـ الإمام محمد بن علي الشوكاني، السيل الجرار: (4/512).
[4] ـ العلامة صدّيق حسن خان، إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة، ص125.
[5] ـ ابن تيمية، مجموع الفتاوى: (35/12).
[6] ـ ابن تيمية، كتاب الاستقامة: (2/215).
[7] ـ الإمام النووي، شرح صحيح مسلم: (12/432).
[8] ـ راجع ما قاله سيد قب في تفسيره (في ظلال القرآن) حول ذلك.
[9] ـ سيد قطب، في ظلال القرآن (3/1587).
[10] ـ عثمان بن عبد الرحمن التميمي، إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام، ص: 82.
[11] ـ سنأتي على الحديث عن هذا الكتاب المرجع (إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام) في الفقرات المقبلة من هذا البحث.
[12] ـ راجع ما كتبه أبو بكر ناجي. إدارة التوحش، ص16.
[13] ـ سيف الدين الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص 363.
[14] ـ عضد الدين الإيجي، المواقف في علم الكلام، ص395.
[15] ـ أبو حامد محمد الغزّالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 23.
[16] ـ الإمام سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد: 2/271.
[17] ـ ابن تيمية: السياسة الشرعية، ص 165.
[18] ـ ابن تيمية، منهاج السُّنة: 1/526.