تحت ضغط العالم الديمقراطي الذي هاجم سياسيوه وصحفيوه ومنظماته الحقوقية النظامَ السوري الدكتاتوري، لأنه يحتفظ في سجونه بعدد كبير من المعتقلين السياسيين “دون أن يوجه لهم تهمًا ودون أن يقدمهم إلى محاكمة”؛ قرّر حافظ الأسد في مطلع العام 1992، أي عقب تفكك الاتحاد السوفيتي وما عرف باسم المنظومة الاشتراكية، أن يصبح ديمقراطيًا في موضوع المعتقلين السياسيين، وأن يستجيب للمعايير الديمقراطية ويريح باله من ضغوط ديمقراطيي العالم، بشأن ملف السياسيين المعتقلين عرفيًا في سورية. رأسمال الموضوع هو أن يوجه تهمًا للمعتقلين ويحيلهم إلى المحاكم، أين هي المشكلة؟ ولماذا لا يفعل ذلك ويكسب راحة البال، وينال ربما بعض المديح الديمقراطي أيضًا؟ هناك بنكٌ جاهز من التهم التي يمكن لصقها على أي معتقل، وهناك محاكم استثنائية ذات أحكام غير قابلة للطعن وجاهزة للعمل.
على طريق الديمقراطية والتحرر وحقوق الإنسان، تحركت الدولة الأسدية التي تستطيع أن تكون ما تشاؤون لها أن تكون: تريدون اشتراكية نحن لها، تريدون ديمقراطية نحن أهلها، نحن أهل السلم كما الحرب، وأهل العلمانية كما الإسلامية. وكما يمكننا أن نكون أهل التوقيف العرفي، كذلك يمكننا أن نكون أهل السجن عبر المحاكم والقانون، بمقدورنا أن نجرّم المعتقلين السياسيين الذين يسميهم البعض “معتقلي رأي”، ونحيلهم إلى جناة، وفق القانون ووفق أحكام صادرة عن محاكم تحمل أسماء مهيبة.
هكذا نشطت الديمقراطية الأسدية فجأة، انطلقت سيارات ذات قضبان وشباك حديدية تنقل المعتقلين من كل السجون الموزعة في البلد، إلى المحكمة الشهيرة، محكمة أمن الدولة العليا. قضاة خدم، ومحامون عاجزون، ومتهمون بائسون، وأقفاص اتهام، وشرطة مدنية، وأهالي يلوّحون من بعيد لأبنائهم المسروقين منهم. والنتيجة أحكام “قانونية” لم تكتف بما صادره السجن سلفًا من حياة هؤلاء المعتقلين، بل صادرت ما تبقى من حياتهم، عبر أحكام الحجر والتجريد من الحقوق المدنية التي جعلت من أحيلوا إلى المحكمة في حال أسوأ من الاعتقال العرفي، ذلك أن نهاية الحُكم لم تكن تعني دائمًا نهاية الحجز، بل فتح حساب عرفي جديد، فيصبح المعتقل السياسي محكومًا وموقوفًا عرفيًا في الوقت نفسه. وعليه؛ صار يمكن لوزير خارجية الأسد (فاروق الشرع) أن يقول في المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا 1993، إنه لا يوجد في سورية أي معتقل سياسي، و”ليس في سجوننا سوى مجرمي الحق العام”.
تحوّل المعتقلون إلى مجرمين، والشرطي الذي كان يسأل المعتقل عن “تهمته” صار يسأله عن “جرمه”. هذه مثلًا إحدى ثمار الضغط الديمقراطي الذي لا يرى عمق المشكلة.
اليوم، أيضًا يدفع السوريون ضريبة الصورة الديمقراطية المطلوبة. كالعادة، كل البضاعة الديمقراطية متوفرة، تعدّد مرشحين؟ موجود. صور مرشحين في الشوارع؟ موجود. شعارات للحملات الانتخابية؟ موجود. إقبال جماهيري؟ موجود، ليس فقط في سورية بل في لبنان أيضًا وفي دول المنفى، السوريون يتركون البلد ولا يتركون الأسد. احتفالات ودبكات؟ موجود. ماذا بعد؟
العالم الديمقراطي لا يريد من دكتاتور أن يقول أنا دكتاتوركم فاقبلوني، الأفضل أن يقول أنا دكتاتوركم فانتخبوني. على هذا، يوظف ثقل الدولة المتاح كاملًا لرسم الصورة.
ما قبل السلطات “التقدمية” كان للصوت الانتخابي ثمن يتقاضاه الناخب، وكان يؤخذ هذا على تلك الديمقراطية، اليوم أصبح الصوت الانتخابي بلا ثمن، أصبح على السوري أن يدفع صوته الانتخابي لتلافي الأسوأ، ولدرء مخاطر التهديدات المعلنة. مهما ساءت الحال، هناك دائمًا ما هو أسوأ. أصبح الصوت الانتخابي مصيبة فعلية على السوري، ليس داخل مناطق نظام الأسد فقط بل خارجها أيضًا. بات التهديد بالعواقب الوخيمة لعدم المشاركة هو البديل عن شراء الأصوات، أي أصبحت فترة شراء الأصوات في الأيام الخوالي ما قبل بروز ظاهرة السلطات “التقدمية”، فترة مشتهاة في هذه المرحلة، مرحلة ديمقراطية الترهيب.
في لبنان، يُهدَّد اللاجئون (من قبل حلفاء “الوريث” الذي يقيم الديمقراطية بمهارة تضاهي مهارته في حرق البلد) بتسويد عيشهم وحرق خيمهم ومنعهم من “حق العودة” وبهدلة من تبقى من أهاليهم في سورية.. إلخ، ما لم يشاركوا في “العرس الديمقراطي”. وحين يذهب هؤلاء، يسوقهم الخوف والرعب، كي يدفعوا الضرر عن أنفسهم، يقعون في معركة غير منتظرة مع لبنانيين من خصوم الوريث، ممن لا يدركون المأزق الذي يعيشه هؤلاء اللاجئون، فتبدو لهم الصورة هكذا: (إذا كنتم تحبونه وتريدونه، فانقلعوا لعنده). وتكون النتيجة تكسيرًا وجرحى ومهانين ومتوفى واحدًا، كما نقلت الأخبار. كل هذا خدمة للصورة الديمقراطية التي ينبغي عرضها. لا يهمّ إذا كانت الصورة مرسومة بالدم والقهر والدموع وعذاب الأرواح والنفوس. المهم رسم الصورة وعرضها، ثم استخدام تعبير الرئيس المنتخب بدلًا من الرئيس المفروض أو القسري أو الدكتاتور أو الإجباري أو الغاصب أو أي صفة من هذا النوع.
الحقيقة إنه يمكن للدول النافذة في العالم أن تفرض أنظمة حكم دكتاتورية، وأن تقوض أنظمة ديمقراطية ناشئة، لكن الخارج لا يمكن أن يفرض ديمقراطية على بلد، وفي حالات كثيرة، كالتي عشناها ونعيشها في سورية مع نظام عائلة الأسد، يحول النظام الضغط “الديمقراطي” الخارجي إلى عبء إضافي على الناس.
أفضل لأيّ شعبٍ يحكمه دكتاتور، أن يعلن هذا أنه دكتاتور صراحة، من أن يكون دكتاتورًا ويريد أن يظهر ديمقراطيًا ومنتخبًا ومهتمًا بمعايير الديمقراطية. أما في سورية فنحن أمام حالة أشدّ تعقيدًا، فالشخص الذي ورث السلطة ثم دمّر البلد شرّ تدمير، وتسبب في تمزيق المجتمع السوري وتشريد السوريين وانهيار الاقتصاد السوري، يريد أن يقول للعالم إنه يحكم بإرادة السوريين!! إلى الانحطاط السياسي، يضاف انحطاط أخلاقي مشين.