شهد فجر يوم الاثنين الموافق 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021 انقلابًا عسكريًا جديدًا في السودان، يضاف إلى سلسلة من الانقلابات التي سبقته في السودان وفي مجمل المنطقة، ما دفع الكتلة الاجتماعية السودانية إلى التظاهر في الميادين والساحات السودانية، رفضًا للانقلاب ولسيطرة العسكر على مفاصل الدولة والحكم، الأمر الذي يجعل -وفق المعطيات الميدانية- نجاحَ الانقلاب أمرًا صعبًا وشائكًا، أو على الأقل أمرًا غير مضمون، في ظل حيوية الشارع السوداني وحسن تنظيمه وتمرسه على النضال الاجتماعي والسياسي السلمي، منذ اندلاع ثورة 2019 التي أطاحت بحكم البشير حتى الآن.
طبعًا، لم يكن انقلاب المجلس العسكري بقيادة البرهان مفاجئًا للغالبية العظمى من السودانيين ومن المتابعين للحدث السوداني، لا سيما مع اقتراب مدة تسليم رئاسة المجلس الانتقالي للمكون المدني، وبعد تصاعد الخلاف بين المكونين المدني والعسكري في مجلس السيادة الانتقالي، وبحكم تصاعد خطاب المكون العسكري الاتهامي والتخويني تجاه المكون المدني في المجلس السيادي وفي الحكومة، برئاسة الحمدوك؛ إذ حاول المجلس العسكري تصعيد التناقضات الاجتماعية مع الحكومة المدنية في الأشهر الأخيرة، بغرض تحميل الحكومة وتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير مسؤولية سوء الظروف المعيشية السودانية، محاولًا وضعهم في مواجهة مباشرة مع الكتل الاجتماعية المحتجة، على أمل سلب الأخيرة قوتها الأساسية وربما الوحيدة المتمثلة في قدرتها على تحريك الشارع وتنظيمه وقيادته في جولة نضالية ثورية جديدة، تحاكي دورها في إبّان ثورة 2019، وهو ما فشل فيه المكون العسكري حتى اللحظة.
توحي صور التظاهرات المدنية السودانية، قبل الانقلاب وبعده، بقدرة قوى إعلان الحرية والتغيير ولجان المقاومة السودانية وتجمّع المهنيين السودانيين على قيادة الشارع حتى اللحظة، أو على الأقل بقدرتهم على تحريكه، وهو ما يجعل من نجاح الانقلاب مسألة غير مضمونة، بالرغم من دعم المنقلبين دوليًا وإقليميًا بشكل غير مباشر، كما توحي بعض التسريبات الصحفية الصهيونية، وكما يوحي توقيت الانقلاب بعد نهاية زيارة المبعوث الأميركي فيلتمان، في ظل تحالفات المكون العسكري الإقليمية مع الإمارات والدولة الصهيونية، ودوره في جعل السودان واحدة من دول اتفاقيات أبراهام، على الرغم من قدرات المكون العسكري العنفية ممثلًا بالجيش وأسلحته النظامية والميليشيات غير النظامية الخاضعة لقيادة الجيش، ومن قدراته الاقتصادية أيضًا في ظل سيطرة الجيش أو مجلسه القيادي على تصدير الذهب وغيره من السلع الإنتاجية بسريّة واستقلالية مطلقة تعفيهم من دفع الضرائب ومن مراقبة أجهزة الدولة المدنية المالية والتشريعية.
يحظى الجيش السوداني بجميع أدوات السيطرة تقريبًا المتمثلة بالدعم الإقليمي والدولي والقدرات الاقتصادية والأدوات القمعية، لكنه يفتقد أحد أهم عناصر السيادة والسيطرة الكامنة في حد أدنى من التأييد والدعم الشعبي، فقد فشل قادة المجلس العسكري في خلق حاضنة شعبية تدعم قراراتهم حتى التي أعلنوها قبل الانقلاب، كما أسهم الانقلاب في خسارتهم مزيدًا من رصيدهم الشعبي الضئيل أصلًا. في المقابل، أثبتت الاحتجاجات والتظاهرات التي عمّت السودان، قبل الانقلاب وبعده، قدرة الطرف المدني، وبالتحديد قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة السودانية وتجمّع المهنيين السودانيين، على قيادة كتلتها الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة. وهو ما يجعلنا أمام مواجهة طاحنة بين الكتلة الاجتماعية الثائرة والقوى الأمنية والعسكرية، لن تُحسم في أيام معدودة، كما يصعب حسم نتائجها منذ الآن، فالأمر عائد إلى قدرة كلا الطرفين على إدارة الصراع وتنظيمه الأول شعبيًا، والثاني عسكريًا وإقليميًا، حيث نعلم من التجربة السابقة امتلاك قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة السودانية وتجمع المهنيين السودانيين حصيلة نضالية تنظيمية مميزة، كانت قد مكنتهم من إجبار المجلس العسكري على الإقرار بدورهم الثوري والقيادي، في أعقاب الإطاحة بحكم البشير. غير أن الخلافات والاختلافات التي تصاعدت داخل قوى الحرية والتغيير، وبالتحديد مع لجان المقاومة السودانية وتجمع المهنيين السودانيين، قد تلعب دورًا سلبيًا، إن لم تتراجع قوى الحرية والتغيير عن أخطائها، وقبولها بإفساح المجال أمام قيادة لجان المقاومة وتجمّع المهنيين تنظيميًا وسياسيًا، كجزء من تصحيح المسار الثوري الذي حادت عنه قوى الحرية والتغيير، بعد اتفاقها مع المجلس العسكري على تشكيل مجلس سيادة انتقالي مشترك.
فرض المنقلبون من العسكر اليوم على الكتلة الاجتماعية الثائرة، وعلى قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة السودانية وتجمّع المهنيين السودانيين، مواجهة حاسمة وجذرية لا تقبل القسمة على اثنين، الأمر الذي يدفعني إلى الاعتقاد بصعوبة تجاوز الانقلاب سياسيًا، عبر اتفاق جديد بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير، وكأننا أمام احتمالين لا ثالث لهما، إما نجاح الانقلاب الذي يتبعه تداعيات أمنية صعبة وقاسية سوف تطيح بقيادات ثورة 2019 المعروفين، وإما فشل الانقلاب والإطاحة بالمجلس العسكري وبسيطرته الأمنية والعسكرية والاقتصادية، الأمر الذي سوف يُخرج الجيش كليًا من دائرة الفعل السياسي في السودان في المرحلة الأولى. ومن ثم، سوف تمتد تداعيات فشل المنقلبين وتقويض قدرات الجيش وإعادته إلى ثكناته إلى خارج السودان، لتشمل جميع أطياف قوى الثورة المضادة إقليميًا، كما سوف تجني ثماره المعنوية والسياسية الكتل الاجتماعية الثائرة في مجمل منطقتنا العربية، من مصر إلى لبنان والعراق وربما سورية وليبيا واليمن وسائر دول المنطقة أيضًا.
طبعًا، لا يمكن استبعاد احتمال تدويل الصراع في السودان، كشكل من أشكال دعم المنقلبين من قبل المجتمع الدولي، غير أنه أمر مستبعد اليوم، نظرًا لفشل المكون العسكري في اجتذاب كتلة اجتماعية وازنة إلى صفه، وعجزه عن جرّ البلاد إلى ما يشبه الحرب الأهلية، كما نجح نظراؤه من الأنظمة العسكرية والأمنية المنقلبة على الثورات أو تلك المتشبثة بكرسي الحكم، كما في النموذجين المصري والسوري على التوالي. وعلى ذلك؛ قد تصبح السودان نموذجًا ثوريًا رائدًا في المنطقة، انطلاقًا من قدراتها التنظيمية العالية والفريدة حتى اللحظة، واستنادًا إلى نجاح القوى الثورية الاجتماعية والسياسية في تفكيك منظومة السلطة الاستبدادية السياسية والأمنية كاملة، أولًا عبر الإطاحة بالبشير، وثانيًا عبر الإطاحة بالمنقلبين. لكنها سوف تواجه تحديًا جديدًا في حينه، لا يقلّ أهمية وصعوبة عن التحدين المذكورين سابقًا، يتمثل في قدرتها على تغيير البنية والهيكلية الاقتصادية المسؤولة عن غالبية مشكلات ومتاعب ومصاعب الشعب السوداني، فدون تفكيك البنى الاقتصادية الريعية والنمط الاقتصادية التابع للمراكز الاقتصادية الكبرى، ودون بناء اقتصاد منتج زراعيًا وصناعيًا، يرفد خزينة الدولة ويستوعب طاقات وإمكانات السودان البشرية والطبيعية، لن تنتهي الحركة الثورية، ولن تحقق أهدافها المنشودة، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، حتى بعد نجاحها المأمول اليوم في هزيمة المنقلبين وحلفائهم الإقليمين والدوليين.