نشهد نقاشًا متجددًا، منذ اندلاع الموجة الثورية الأولى في نهاية 2010، حول مرتكزات الحركة الثورية الشعبية، بين من يعتبرها ثورة ديمقراطية صرفة، أو ثورة تحقيق مجمل المهمات الديمقراطية، بما يتجاوز التغيير السياسي ليشمل تغييرًا اقتصاديًا واجتماعيًا ثوريًا أيضًا. ثم تعمق النقاش وتوتر، بعد توالي انقلابات قوى الثورة المضادة على منجزات الحركة الثورية، وقد اتخذ بعضها لبوسًا عسكريًا وسياسيًا، وأخرى تلطت خلف قوى طائفية رثة تابعة لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك، فهناك من يصرّ على أولوية النضال الديمقراطية على أي مهمة أخرى، ويلوم الشارع والقوى الشعبية على هزيمة الديمقراطية الناشئة هنا أو هناك، خصوصًا إن لم تبادر إلى مجابهة القوى الاستبدادية الصاعدة أو العائدة، فانتصار الديمقراطية السياسية في اعتقاده هو مقدمة للتغيير المجتمعي والسياسي والاقتصادي المنشود. وهو ما يستدعي مزيدًا من التدقيق، ولا سيما بعد تسارع الأحداث التونسية والسودانية ومن قبلهما المصرية، كما يحتاج إلى بعض التمعن في مرتكزات الثورة الشعبية ودوافع حركة الشعوب.
ولا ضرر في البداية من الإشارة، ولو سريعًا، إلى محركات الإصلاح الديمقراطي الذاتي، أي تحول النظام المسيطر من نظام استبدادي أمني إلى نظام ديمقراطي بفعل تناقضات داخلية، وأحيانًا خارجية، تفرض جملة من الإصلاحات السياسية الحاسمة، وهو احتمال قائم نظريًا ومستبعد عمليًا في منطقتنا، بالرغم مما مررنا به من تحولات عالمية بعد مرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن تحولات داخلية بعد اندلاع الموجات الثورية الشعبية، بنسختيها الأولى والثانية. فمن الجدير بالملاحظة في نماذج التحول الديمقراطي الذاتي أو الداخلي، أن حامل التغيير يستند إلى ائتلاف سياسي منظم أو غير منظم بشكل مسبق، يضم في طياته بعض مكونات النظام المسيطرة وقوى سياسية إصلاحية ونخب مثقفة إصلاحية وجذرية، وانتهازية أيضًا ممن يدركون طبيعة التحولات ومسارها ويسارعون إلى مواكبتها، كما لا يغيب الفعل الشعبي كليًّا عن هذا النموذج دون أن يتحوّل إلى قوة رئيسية، وفي هذه الحالات تبرز أهمية القوى والنخب الإصلاحية، بشقيها السياسي والثقافي، وغالبًا ما تلعب دورًا رئيسيًا ولو على الصعيد الإعلامي والتوعوي، وغالبًا ما تصبح جزءًا فاعلًا في العملية السياسية التي ترافق عملية التحول الديمقراطي والتي تتبعها، ولو مؤقتًا.
في حين نجد في نماذج الثورات الشعبية مرتكزات مختلفة تمامًا، إذ تلعب الكتلة الاجتماعية دورًا محوريًا شبه وحيد في هذه النماذج، ولا سيّما الكتلة المنظمة منها، وبالتالي يشكل التنظيم السياسي الثوري ركيزة رئيسية في نجاح الثورة أو فشلها، دون التقليل من أهمية دور النخب المثقفة ذات الدور غير المباشر غالبًا، وربما بشكل يسبق الانفجار الثوري. أما النخب الثقافية والقوى السياسية الإصلاحية، فغالبًا ما تتجاوزها الحركة الثورية وتعدّها عائقًا يحول دون نجاح الثورة. في حين تتحول قوى النظام، وغالب الظن نخبه المثقفة، إلى خصم الحركة الثورية الرئيسي، الأمر الذي يخرجهم أيضًا من دائرة الفعل السياسي والثقافي لفترة زمنية طويلة نسبيًا، في حال نجاح الثورة، ولو نسبيًا.
إذًا؛ تلعب الكتلة الاجتماعية الثورية وقواها التنظيمية الدور الرئيسي والمحوري في عملية التغيير الثوري، وتعتبر خط الدفاع الأول عنه من أي انتكاسة قد تفتح الباب أمام عودة قوى النظام القديم أو أمام سيطرة قوى الثورة المضادة. وهي المهمة غير المكتملة اليوم بنظر البعض، أي مهمة الدفاع عن التغيير الثوري، في العديد من دول المنطقة، بداية من مصر وسورية واليمن وليبيا، وصولًا إلى تونس، إذا ما استثنينا السودان الذي يشهد فاعلية شعبية مميزة تعمل على حماية منجزات الثورة، وربما استكمالها؛ حيث أسهم تقاعس القوى الاجتماعية الثورية، عن حماية المسار العملية الديمقراطي خصوصًا والتغيير الثوري عمومًا، في نجاح انقلاب قوى النظام القديم وقوى الثورة المضادة، بأقل التكاليف الممكنة، الأمر الذي يطرح عشرات الأسئلة عن أسباب هذا التقاعس، لا سيما بعد اتضاح تبعات التجربة المصرية الكارثية على الكتلة الاجتماعية، وعلى الدولة وعلى التحول الديمقراطي وعلى القوى أو الحركات الثورية. وهو ما يوجب التمعن في ثلاث مسائل متكاملة، هي أسباب الانفجار الثوري؛ مرتكز الحركة الثورية؛ الوعي الشعبي.
لا تعود أسباب الانفجار الثوري الشعبي بغالبيتها العظمى لعوامل سياسية بحتة، بقدر ما تعود إلى جملة من العوامل والأسباب الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية، وبالتالي لا تسعى الحركة الثورية الشعبية إلى حل سياسي منفرد بمعزل عن جملة العوامل الأخرى. وهو أحد أسباب تفاوت الفعل الشعبي بين فترتين زمنيتين: الأولى هي فترة الانفجار الثوري، والثاني هي الفترة المعروفة إعلاميًا بالانقلاب على المسار الديمقراطي، فالكتلة الاجتماعية الشعبية تنفجر من أجل البحث عن مخرج واضح لمجمل المشكلات والعقبات التي تواجهها في حياتها اليومية، أو على الأقل من أجل تبصر بداية طريق الخلاص، كما تجلى في الموجتين الثوريتين الأولى والثانية، واللتين تبعهما في بعض دول المنطقة مسار ديمقراطي منفرد ومنعزل عن مجمل القضايا الأخرى. حيث أيقنت الكتلة الاجتماعية، من تجربتها الثورية وما تبعها من مسار ديمقراطي وليد، أن المسار الديمقراطي المنفرد عاجز عن تلبية مطالبها وآمالها، بل لقد أثبتت هذه التجربة عجز (أو ربما تجاهل) غالبية النخب السياسية والثقافية عن مقاربة مجمل مشكلات الشعوب وقضاياها اليومية، حتى بات المسار الديمقراطي المنفرد ومستقبل النخب والقوى المشاركة فيه أمرًا لا يعني غالبية الكتلة الاجتماعية.
وتوضح تجربة منطقتنا مع الحركات الثورية الشعبية منذ نهاية العام 2010 طبيعة مرتكزات الحركة الثورية، حيث لم يقتصر نجاح الحركة الثورية على حجم الكتلة الاجتماعية المنتفضة أو الثائرة، بقدر ما ارتبط كذلك بقدرتها التنظيمية النضالية والسياسية، كما في حالات تونس ومصر والسودان، التي ترافقت بدور تنظيمي نقابي في الحالة التونسية، وشبابي في الحالة المصرية، وسياسي في الحالة السودانية، فيما عانت سائر الحركات الثورية الأخرى من صعوبات جمّة، حالت دون تحقيق مكاسب ملموسة، منها إزاحة رأس النظام المسيطر. وعلى ذلك؛ فالعامل التنظيمي الميداني والسياسي عامل رئيسي مهم، كما تجلى دوره سودانيًا في أعقاب انقلاب المجلس العسكري بقيادة البرهان، وبالتحديد في دور لجان المقاومة الشعبية وتجمع المهنيين السودانيين في تحريك الشارع وتمثيل مصالحه قبل الانقلاب وبعده، إذ كانت مجمل مواقفهم واضحة وحاسمة منذ مدة طويلة، تجاه المجلس السيادي بمكونيه المدني والعسكري، وتجاه مجمل الاتفاق الموقع بينهما وطبعًا تجاه الانقلاب والمنقلبين. في حين خسرت مجمل القوى التنظيمية التي شاركت في نجاح الثورتين التونسية والمصرية مجمل رصيدها الشعبي، أو جزءًا كبيرًا منه، بحكم تقاعسها عن تمثيل مصالح الكتلة الاجتماعية، بعد الإطاحة برأس النظام، كما في حالة اتحاد الشغل التونسي الذي انسحب أو شبه انسحب من الحياة السياسية، أو بحكم عجزها عن حل مشكلات البلدين كما في تجربة سائر القوى السياسية والتنظيمية التونسية والمصرية، وعلى رأسهم حركة النهضة التونسية والإخوان المسلمين المصريين الذين شاركوا في العملية السياسية الوليدة، وطبعًا في ظل غياب هياكل تنظيمية جديدة مرتبطة ومعبرة عن مصالح الكتلة الاجتماعية الشعبية تعوض فشل القوى التقليدية، وهو ما أسهم في انفكاك الكتلة الاجتماعية الشعبية عن قواها السياسية، وفي فقدانها الثقة بمجمل النخبة السياسية والثقافية الفاعلة أخيرًا، حتى باتت في نظر الكتلة الاجتماعية بمنزلة قوى ثورة مضادة لا تختلف كثيرًا عن قوى النظام القديم، لذا لم تعد الكتلة الاجتماعية معنيّة في خوض صراع حقيقي دفاعًا عنها أو دفاعًا عن ديمقراطية سياسية سوف تكرّس سيطرتها ولو مؤقتًا.
أخيرًا، في ما يخص الوعي الشعبي، نجد أن الوعي الملموس قد دفع الكتلة الاجتماعية نحو الانفجار الثوري، الذي تمثل برفض كل تجليات النظام القديم، ومنها الشكل السياسي الاستبدادي والحزبي، لذا يمكن وصف الوعي الشعبي بأنه وعي الرفض الذي لم يكتمل أو ينضج حتى يدرك شكل النظام البديل، فقد تم رفض الحكم الأمني والاستبدادي، وغياب أو تراجع دور الدولة الخدمي طبيًا وتعليميًا وبنيويًا، وتم رفض نهج النظام القديم الاقتصادي الذي رفع نسب البطالة، ومنها بطالة المتعلمين، وخلق فوارق طبقية صارخة، ورفع نسبة المفقرين والمعدمين اقتصاديًا. لذا عوّلت الكتلة الاجتماعية على قدرة الجسم السياسي الجديد، ممثلًا بالقوى الممثلة برلمانيًا وحكوميًا وسياديًا، على رسم ملامح مرحلة جديدة، تفرز واقعًا جديدًا يطابق أحلام وآمال الكتلة الاجتماعية، بغض النظر عن ماهية هذه الاستراتيجية، أولًا بسبب وعي الرفض السائد شعبيًا، وثانيًا بسبب تجاهل سائر القوى الفاعلة، في المرحلة التي أعقبت الانفجار الثوري، طرح برامج متكاملة سياسية واقتصادية واجتماعية، وتقصيرها في ممارسة دورها التوعوي أيضًا، الأمر الذي لم يُسهم في إنضاج الوعي الشعبي وإدراكه حيثيات مسار التغيير المنشود. بالحصيلة؛ استمرت مشكلات الكتلة الاجتماعية بالسوء الذي كان سائدًا في المرحلة السابقة للانفجار الثوري، وكأنه واقع ثابت غير قابل للتغيير، وما زالت الكتلة الاجتماعية عاجزة عن تحديد البديل الجذري، وعليه؛ فهي لا تملك خيارًا ثالثًا مغايرًا لعودة قوى النظام القديم، أو استمرار عبثية القوى السياسية الصاعدة بعد الثورة (جزء من قوى الثورة المضادة)؛ كي تناضل من أجله وتتجاوز الصراع الحاصل اليوم، سواء كان صراعًا على السلطة فقط أم صراعًا على شكل الحكم الديمقراطي الذي لم يقدم أو يؤخر شيئًا بما يخص أوضاع الكتلة الاجتماعية صاحبة وحاملة مشروع التغيير، وهو ما سوف يُسهم في دفع الكتلة الاجتماعية نحو البحث عن بدائل خارج ثنائية عسكر – قوى تقليدية سياسية، التي تم تكريسها في السنوات السابقة، كما سوف يدفعها نحو مزيد من البحث والتحري التوعوي الساعي إلى إدراك طبيعة النظام المنشود اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا.
من كل ذلك، تبدو صورة المشهد الراهن في نظر الكتلة الاجتماعية الشعبية أقرب إلى صراع بين طرفين منعزلين عن الشارع، أي أصبحت معارضة الانقلاب دعمًا للطرف الآخر، أي الإخوان في مصر، والنهضة بتونس، الذين ثبت فشلهم، لذا وقفت الكتلة الاجتماعية بغالبيتها على الحياد في هذا الصراع، حتى في أشد لحظات غضبها من المنقلبين، ثم تابعت المشهد من بعيد، بالرغم من قسوة نيرانه التي تشملها، وكأنها تبحث عن مسار ثوري جديد، لا يختزل الثورة بعملية انتخابية دورية تحت مسمى الثورة الديمقراطية، بل مسار متكامل يعمل على إنجاز مجمل المهمات الديمقراطية ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي تعكس أحلام وتطلعات وآمال الكتلة الاجتماعية الثائرة والمنتفضة، فهل نشهد تعبيرًا سياسيًا وثقافيًا وتنظيميًا عن ذلك، في المرحلة القادمة؟