عندما أعلن الرئيس الأميركي ترامب، بعد معركة “الباغوز” الشهيرة، انتصار قوات التحالف الدولي على تنظيم “داعش”؛ اعتقد كثيرون أن دور هذا التنظيم الإرهابي انتهى في سورية، خاصة بعد عملية قتل أو تغييب البغدادي وعدد من قيادات الصف الأول في التنظيم، إلا أن أحداث الأشهر الأربعة الأخيرة أكدت أن التنظيم لم يُهزم نهائيًا، وأنه استطاع -بقياداته الجديدة- إعادة إنتاج نفسه وامتلاك زمام المبادرة، عبر إستراتيجية جديدة قديمة طالما أتقنتها التنظيمات الراديكالية ومنها “داعش”، وهي حرب العصابات. ولعل السبب الرئيس لانحسار دور التنظيم وهزيمته في السنوات المنصرمة هو إستراتيجية عسكرية اتبعها بهدف تدمير المناطق التي سيطر عليها وإحداث تغيير ديموغرافي فيها، ولهذا احتلّ مناطق شاسعة من الأرض، ابتداءً من غرب العراق، مرورًا بمناطق شرق وشمال شرق سورية، وصولًا إلى أطراف مناطق فيها أقليات، منها مدن ومناطق مأهولة، وحاول الدفاع عنها من خلال حرب الجبهات التي تحتاج إلى قوات نظامية وضباط قادة ذوي خبرات قتالية إستراتيجية وتكتيكية في الحروب التقليدية، وليس تماهيًا مع نظرية المؤامرة التي تعشعش في أذهان كثيرين. وبنظرة مهنية متأنية على الأحداث التي عصفت في الثورة السورية؛ نجد أن أغلب التنظيمات الراديكالية، وعلى رأسها تنظيم “داعش”، استطاعت أجهزة المخابرات الدولية والإقليمية اختراقها والتحكم في جزء كبير من قرارها. وما رشح في الآونة الأخيرة، عن الإيميلات المنسوبة إلى وزيرة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس الأميركي أوباما، خيرُ دليل على ضلوع الدول العظمى في خلق هذه التنظيمات الإرهابية، لتخدم أهدافها السياسية، ولتثبت حكم عملائها في المنطقة، ولعل أخطر من اخترق هذه التنظيمات مخابرات الأسد التي استطاعت الزج بعدد كبير من صف الضباط والضباط المدربين تدريبًا خاصًا، في هذه التنظيمات، إضافة إلى اعتمادها على تصنيع قادة بعض هذه الفصائل، في سجن صيدنايا معقل صناعة الإرهاب وأكاديمية إنتاج قادة الإرهاب في الشرق الأوسط بل في العالم، الذين أُطلق سراحهم بُعيد انطلاق ثورة الشعب السوري على الأسد، ويمكن لأي متابع لمجرى الأمور التي حدثت وتحدث في الثورة السورية أن يلاحظ هذه الاختراقات عبر أسماء قادة فصائل نادت بدولة الخلافة، وفصائل أخرى نادت وما زالت بمشروع أمة، وثبت أن هذا مجرد ادعاءات باطلة لا علاقة لها بالإسلام ولا بالشعب السوري وثورته، بل كان هذا الشعار أحد الأدوات المهمة التي أدت إلى إقناع الغرب بنظرية الأسد التي طرحها في بداية الثورة، وادعى من خلالها أنه يحارب الإرهاب والتنظيمات الجهادية، وهذا كله ينطبق على تنظيم “داعش” جزئيًا، من حيث التحكم في قرارات التنظيم، إذ يمتلك “داعش” صنفين من القيادات:
– الصنف الأول قيادات جهادية مؤمنة بالفكر الجهادي كعقيدة راسخة، وهذه القيادات لا شك في أنها مخترَقة إلى حد بعيد، بسبب لامركزية القيادة التي ينتهجها التنظيم، حيث نشاهد تحركات التنظيم وقتاله في مناطق جنوب سورية ودمشق، بالتحديد، تختلف كليًا عن قتاله في الشرق والشمال الشرقي من سورية، وهذا يدل على أن التنظيم في الجنوب السوري مخترق بشكل كبير لدرجة أنه ينفذ علنًا أجندات المخابرات السورية، وقد هذا ظهر ذلك جليًا من خلال نقل عدد كبير ممن ادعوا بأنهم عناصر “داعش”، من مخيم اليرموك في قلب دمشق، إلى منطقة “تلول الصفا” القريبة من مدينة السويداء الخارجة جزئيًا عن سيطرة الأسد، حيث قاموا بارتكاب مذبحة بحق أبناء قرى السويداء، كانت الغاية منها تحريض أهل المنطقة على التنظيم وإعلان الحرب عليه، والاستعانة بقوات الأسد في هذه الحرب، وبذلك يعاد أهالي السويداء إلى حظيرة الأسد، وعلى الرغم من فشل هذا المخطط، فقد تكرر بطرق مختلفة، من خلال بعض فصائل درعا المحسوبة على الثورة، والتي ارتهنت للأسد والمحتل الروسي.
– الصنف الثاني قيادات جهادية محلية، من أبناء الثورة السورية الحاملين للفكر الإسلامي المعتدل، وقد انضمت إلى التنظيم نتيجة فقدان الثقة بقيادات فصائل الثورة والقيادة السياسية للثورة، وقد فضّل جزء كبير من هذه القيادات، بعد هزائم “داعش” وفقدانها السيطرة على أغلب الأراضي والمناطق التي احتلتها منذ إعلان إنشاء دولة العراق والشام “داعش” في “2014”، الخروجَ عن التنظيم، والانكفاء عن العمل المسلح، بل خرج كثير منهم إلى دول الجوار، ووصل بعضهم إلى أرجاء المعمورة، أما المتبقي من هؤلاء المقاتلين والقادة الذين حافظوا على اتصالاتهم مع قادة الصف الثاني والثالث للتنظيم، فقد اتخذوا السلسلة الشرقية لجبال تدمر الوعرة (التي لا يمكن الوصول إليها بسهولة) مقار لهم ومنطلقًا لعملياتهم التي تركزت، في الأشهر القليلة الماضية، حول هذه الجبال ابتداءً من منطقة “السخنة” ومنطقة “هريبشه” ومناطق غرب مدينة “دير الزور”، وامتدت عملياتهم إلى غرب وجنوب غرب مدينة تدمر. وقد استهدفت هذه العمليات أحد الجنرالات الروس، وأرغمت روسيا على إعلان الحرب على التنظيم، فزجّت بكثير من قوات الأسد والميليشيات الإيرانية في المنطقة.
إن عودة تنظيم “داعش” للظهور في منطقة البادية الشامية بالتحديد، ويمكن أن تمتد عملياته في المرحلة المقبلة إلى ريف مدينة الرقة الجنوبي الذي تطلّ عليه هذه الجبال، يدلّ بوضوح على أن هذا التنظيم ما زال على قيد الحياة، وأنه يعمل على إستراتيجية واضحة المعالم تعتمد بشكل أساسي على حرب العصابات وعلى تكتيك تنفرد به مثل هذه التنظيمات، ألا وهو العمل بالوحدات الصغرى التي لا يتجاوز عددها خمسة أشخاص، إضافة إلى استخدام الخلايا النائمة في المناطق المحررة، هذا الأسلوب الناجع لا يمكن مقاومته بالطرق القتالية التقليدية، لكونه يحتاج إلى أساليب قتالية تعتمد بشكل كبير على المعركة القريبة، ويتمثل جزء منها في “الكمائن” والإغارات” والتتبع الاستخباراتي للخلايا النائمة بين السكان المحليين، وهذا يمكن أن تنفذه وحدات خاصة من الجيش، ولكنها تحتاج إلى زمن طويل إذا أراد من يحارب “داعش” القضاء نهائيًا على تحركاته وعملياته، ولا شك أن عمليات المراقبة الجوية الإلكترونية والبصرية المستمرة يمكن أن تحدد بصعوبة بالغة مواقع التنظيم وأوكاره، نظرًا لحجم التمويه والإجراءات التقليدية البدائية التي يستخدمها التنظيم، من حيث قلة استخدامه تكنولوجيا الاتصالات الحديثة إلى حد بعيد.
إن أسلوب الأعمال القتالية الذي يستخدمه تنظيم “داعش” يُنذر بحرب طويلة الأمد، مع هذا التنظيم الذي يمكن أن يخدم بقاء الأسد وعصاباته، بشكل أو بآخر، ولهذا قامت أجهزة مخابرات الأسد بتجهيز مجموعات خاصة ترتدي لباس “داعش”، وتعمل من خلال تكتيك عمله، لتزج هذه المجموعات المدربة من عناصرها وضباطها في منطقة ما زالت خارج سيطرتها، لإخضاعها، وهذا ما يجري الآن في حوران، خاصة بعد أن أطلقت هذه الأجهزة عددًا من قادة التنظيم الذين قبضت عليهم سابقًا في درعا والقنيطرة، إذ نشاهد عمليات اغتيال كثير من كوادر الثورة الذين رفضوا الخروج من ديارهم، بعد إعادة سيطرة الأسد على المنطقة، وهذا أحد الأساليب التي يمكن أن نعتبرها نتاج وجود هذه التنظيمات الإرهابية وأداة استخدمها ويستخدمها الأسد وحلفاؤه لوأد ثورة شعب نادى بالحرية وكسر قيود العبودية، فحولوا ثورته إلى حرب على الإرهاب من خلال بازارات سياسية تخدم أجندات الأسد ومشغليه.