قبل التعرّض للحق في التعبير في الدساتير والقوانين السورية، نرى أن من الضروري القول إن الحق في التعبير عن الرأي والأفكار يُعدّ من الحقوق الأساسية للإنسان، وبدونه لا يمكن أن تستقيم الحياة، ولا يمكن أن يدافع الشخص عن حقه في الحياة (وهو من أسمى حقوق الإنسان) أساسًا، إن لم يكن حرًا في التعبير عن آرائه وأفكاره ومعتقداته، ولا يمكن ممارسة باقي الحقوق الأساسية للإنسان الواردة في العهود والمواثيق الدولية وفي القوانين الداخلية وفي الكتب السماوية، دون التمتع بالحق في التعبير عن الرأي بحرية، من دون خوف أو وجل من أعواد المشانق وسياط الأنظمة الحاكمة.
والحق في حرية التعبير يعدّ الحجر الأساس في التمكن من ممارسة باقي الحقوق، فكيف للإنسان أن يكون قادرًا على المشاركة في الحياة العامة، إن لم يكن قادرًا على التعبير عن آرائه بحرية؟ وكيف له أن يمارس حقه في الدفاع عن نفسه أو التنقل بحرية أو ممارسة طقوس دينه، أو أن يشارك في الجمعيات والمنظمات السلمية المدافعة عن حقوق الإنسان، أو أن يشارك في التجمعات السلمية التي تعبّر عن رفضها للسياسات الخاطئة، بهدف تطوير المجتمع وتحسين ظروفه المعيشية (كالتعليم والعمل والصحة والسكن والملكية.. إلخ، وكلها من حقوق الإنسان الأساسية)، إن لم يكن حرًا في التعبير عن آرائه وأفكاره.
ويمكن القول إن حرية التعبير تشمل حرية الرأي وحق الإنسان في تكوين رأيه الشخصي، دون أن يكون تابعًا لأحد أو مسيّرًا من قبل الغير، ودون الخوف من العواقب، كما تشمل حريةَ الإعلام والصحافة وحقّها في بحث الشؤون العامة للناس، ونقل همومهم بحرية واستقلالية وحيادية، وكشف الممارسات الشاذة للأنظمة الحاكمة، دون أن تكون خائفة من الإغلاق والمحاسبة، ما دامت تعمل ضمن معايير المهنية والحيادية المتعارف عليها دوليًا، كما تشمل الحرية في نقل وتداول المعلومات بكل الوسائل المقروءة والمسموعة والمرئية.
الحق في حرية التعبير في المواثيق الدولية:
كان لهذا الحق حظ كبير، في العديد من العهود والمواثيق الدولية التي تشكل بمجموعها القانون الدولي لحقوق الإنسان، حيث ورد في المادة 19، من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، أن لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها، بأي وسيلة كانت، من دون التقيد بالحدود الجغرافية، وسار العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر عام 1966 على المسار نفسه، وجاء في مادته رقم 19 ما يلي: “لكل إنسان حقّ في اعتناق آراء دون مضايقة، ولكل إنسان حق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين، دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها” .
وفي إعلانها الصادر في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978، أكدت منظمة (يونسكو) أن ممارسة حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الإعلام، المعترف بها كجزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، هي عاملٌ جوهري في دعم السلام والتفاهم الدولي، إضافة إلى أن ميثاق الأمم المتحدة الذي يُعدّ دستور العلاقات الدولية، وهو ملزمٌ لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، أكد في مادته الخامسة والخمسين أن الأمم المتحدة تسعى إلى أن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع، بلا تمييز، وليس ثمة من يجادل بأن الحق في التعبير عن الرأي لا يُعدّ من الحقوق الأساسية للإنسان.
كما تمّ النص على الحق في حرية التعبير والفكر في العديد من الاتفاقيات الإقليمية كالميثاق العربي لحقوق الإنسان لعام 2004 (المادة 30)؛ والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب لعام 1981 المواد (8 و9)؛ والاتفاقية الأميركية لحقوق الإنسان لعام 1969 (المادة 13)، ويتعذر علينا التطرق إلى المواد المذكورة بسبب ضيق الوقت.
التجربة السورية في حرية التعبير:
تأسست الدولة السورية بحدودها الجغرافية المعروفة حاليًا عام 1920، عندما خرجت عن الحكم العثماني بموجب معاهدة سيفر، واستقلّت لأيام، ثمّ وُضعت تحت الانتداب الفرنسي حتى عام 1946، ومع أنها كانت مرحلة احتلال أجنبي، كانت هناك خلافات حادة بين الحكومة السورية والمجلس النيابي السوري من جهة، والمفوض السامي الفرنسي (ممثل الحكومة الفرنسية) من جهة أخرى، ونتيجة ذلك عُطّل العمل بالدستور مرات عدة، وقام المفوض السامي بحلّ المجلس النيابي، وذلك بسبب رفض البرلمان إدراج المادة 116 التي كانت ستمنح المفوض السامي صلاحية تعطيل العمل بالدستور، وهذا يعني أنه كانت هناك مساحة من حرية التعبير، فكلنا يعلم أن البرلمان السوري الحالي لا يمكنه مناقشة أي قرار أو مشروع قانون يرسله إليه الرئيس أو الأجهزة الأمنية، وهذا أمرٌ مؤسف أن تمنح دولة الاحتلال للمواطن السوري حريةً أكبر من الحرية التي يمنحها النظام الحالي.
وبعد الاستقلال عن فرنسا، وعلى الرغم من كثرة الانقلابات العسكرية التي عصفت بالبلاد، وتعطيل العمل بالدساتير السابقة لكل انقلاب، كان ثمة هامش كبير لحرية التعبير عن الرأي ولحرية الإعلام، والدليل على ذلك نشوء الأحزاب السياسية ذات التوجهات المختلفة، وكذلك انتشار الصحف وتعددها وقدرتها على نقد السلطات الحاكمة، وعدم وجود ما يسمّى “حالة الطوارئ”، وكذلك عدم وجود ما يعرف بالمحاكم الاستثنائية في سورية، طوال تلك المرحلة، حيث كانت المادة العاشرة من دستور عام 1950 تحظر إنشاء المحاكم الاستثنائية، لكن بعد أن حصلت الوحدة بين سورية ومصر عام 1958، أصدر الرئيس جمال عبد الناصر، في 5 آذار/ مارس من العام نفسه، الدستور المؤقت المؤلف من 73 مادة، وبموجبه عُطّل العمل بدستور عام 1950، وفي 27 أيلول/ سبتمبر 1958، أي بعد سبعة أشهر من إعلان الوحدة، أعلنت حالة الطوارئ والأحكام العرفية للمرة الأولى في سورية، بحسب القانون رقم 162، وقد تميز هذا المرسوم بإطلاق يد رئيس الجمهورية في إعلان حالة الطوارئ، دون اللجوء إلى أي مرجعية نيابية أو حتى وزارية، كما أعطاه سلطات واسعه جدًا لتنفيذ أوامره حتى الشفهية منها، وقد وضع هذا المرسوم قيودًا على حرية الاجتماع والتنقل، وسمح بمراقبة الرسائل والاتصالات وكل وسائل التعبير، وبمصادرتها ومنعها.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1962، أعلن خالد العظم -في بيان وزارته الائتلافية- إلغاء حالة الطوارئ هذه، وعندما استولى حزب البعث على السلطة، عبر انقلاب عسكري سُمّيَ فيما بعد “ثورة الثامن من آذار”، وبالتاريخ نفسه، أصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة الأمر العسكري رقم 2 المتضمن إعلان العمل بحالة الطوارئ.
وهكذا شهدت سورية مسيرة طويلة لسياسة كمّ الافواه وتقييد الأقلام، وتجييرها لمصلحة تمجيد وتقديس السلطة الحاكمة، وفي 7 أيار/ مايو 1965، صدر قانون حماية الثورة رقم 6 الذي كان يهدف إلى تصفية الخصوم السياسيين، ومنع أي رأي مخالف لتوجهات السلطة، وهو يعاقب بالإعدام على الأفعال التي تخالف تطبيق النظام الاشتراكي في الدولة، سواء وقعت بالفعل أم بالقول أو بالكتابة، أو بأي وسيلة من وسائل التعبير أو النشر، كما يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة على القيام بالتظاهرات أو التجمعات أو أعمال الشغب، أو التحريض عليها، أو نشر البلبلة وزعزعة ثقة الجماهير بأهداف الثورة. وهكذا تم إلغاء الحق في التعبير عن الرأي في الشوارع أو المقاهي، فضلًا عن الكتابة أو إبداء الرأي أو الاعتراض على سياسة السلطة، بأي من وسائل التعبير.
ومما زاد في الحد من حرية التعبير، أو بالأحرى قتل هذا الحق، إنشاءُ المحاكم الاستثنائية ذات الصلاحيات الواسعة، وغير المقيدة بأي قانون يحكمها، كمحاكم الميدان العسكرية التي أنشئت بموجب المرسوم 109 لعام 1968، والتي كانت تحاكم المدنيين والعسكرين على السواء، في أي وقت كان (في الحرب أو السلم) بموجب التعديل الذي أجراه الأسد الأب على المرسوم عام 1980، وكذلك محكمة “أمن الدولة العليا” التي أنشئت بموجب المرسوم 147 لعام 1968، وذلك بناء على قرار القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث العربي الاشتراكي، وعلى الرغم من أن هذه المحكمة قد ألغيت بموجب المرسوم رقم 53 لعام 2011، نتيجة الاحتجاجات والتظاهرات التي عمت البلاد، فإن النظام الحكم سرعان ما خلق بديلًا عن هذه المحكمة، وذلك بإصدار القانون رقم 22 لعام 2012 المتضمن إنشاء المحكمة الخاصة بالنظر في قضايا الإرهاب، ومن سخريات القدر أن جميع تلك المحاكم غير مقيدة بالقوانين وأصول المحاكمات النافذة في البلد، كما أن الغالبية العظمى من الأحكام الصادرة عنها تُعدّ مبرمة وغير قابلة للطعن.
حرية التعبير في الدساتير السورية:
حقيقة كانت الدساتير فقيرة إلى حد كبير في صيانة الحق في التعبير، فدستور عام 1920 لم يتطرّق إلى هذا الحق مطلقًا، وقد أورد فقط ضمان عدم التعرض لحرية المعتقدات والأديان (المادة 13)، أما دستور عام 1930، فقد كان أكثر تطورًا في هذا الموضوع، حيث ذُكر أن “حرية الفكر مكفولة. ولكل شخص حق الإعراب عن فكره بالقول والكتابة والخطابة والتصوير، ضمن حدود القانون” (المادة 16)، وكان النص الأكثر وضوحًا بهذا الخصوص هو نصّ المادة 14 من دستور 1950، حيث نصّت على أن “تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل سوري أن يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير، ولا يؤاخذ الفرد على آرائه إلا إذا تجاوز الحدود المعينة في القانون”. ولم يختلف دستور عام 1973 عن دستور عام 1920 كثيرًا بهذا الخصوص؛ حيث تم التركيز على حرية الاعتقاد واحترام الأديان (المادة35)، وعلى الرغم من أنه قد أعطى المواطنين الحق في الاجتماع والتظاهر السلمي، لكن طوال السنوات التي مرّت تحت حكم هذا الدستور، لم تشهد سورية تظاهرة واحدة، اللهم، إلا تلك المسيّرات القسرية التي كانت تهتف بحياة الرئيس، وتضفي عليه نوعًا من القداسة، إلا أن دستور عام 2012 الذي تمّ وضعه نتيجة الاحتجاجات والتظاهرات التي عمّت سورية عام 2011، كان أكثر وضوحًا (من الناحية الورقية) بهذا الخصوص، حيث نصّ على حرية التعبير عن الرأي، بحرية وعلانية، بالقول أو الكتابة وبوسائل التعبير كافة، كما نص على حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام، كما منح المواطنين حق الاجتماع والتظاهر سلميًا، وحق الإضراب عن العمل في إطار مبادئ الدستور، وكذلك حرية تكوين الجمعيات والنقابات ( المواد 42و43و44و45).
وعلى الرغم من النص على الحق في حرية التعبير في دستور 2012، فإن النصوص الموجودة، في كثير من القوانين السابقة واللاحقة لهذا الدستور، تتعارض مع مواد الدستور، وهي التي تطبق في الواقع العملي، أما نصوص الدستور فقد وضعت على الرف، ولم تكن إلا نصوصًا تجميلية تزيّن أوراق الدستور، مع أنه من المفترض قانونًا أن مواد الدستور تسمو على جميع القوانين الداخلية، وفي حال تعارض أي قانون أو مادة أو مرسوم مع الدستور، يجب قانونًا، وفقًا لمبدأ تدرج القوانين، أن يطبّق الدستور، ويهمل النص أو القانون المناقض للدستور، ومن المفترض أن يكون من مهام المحكمة الدستورية العليا النظر في مدى توافق أي قانون أو مرسوم مع الدستور، لكن لم يسبق لهذه المحكمة النظر في أي موضوع مماثل، ولم تصدر أي قرار بهذا الخصوص، وذلك لأن تركيبة هذه المحكمة وطريقة تعيين قضاتها كفيلة بأن يكون أعضاء هذه المحكمة أدوات طيّعة بيد السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية، وذلك لأن تسمية قضاتها تتم من قبل رئيس الجمهورية.
وكشاهد على كلامنا، بوجود قوانين ونصوص مقيدة وخانقة لحرية التعبير، نذكر -على سبيل المثال- قانون حماية الثورة الذي أشرنا إليه سابقًا، وكذلك القانون رقم 49 لعام 1980 الذي يفرض عقوبة الإعدام على كل من ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، أي أن مجرد الانتماء، من دون القيام بأي فعل، يجعل الشخص عرضة للإعدام، وهذا يخالف حرية التعبير والرأي، وكذلك قانون مكافحة الإرهاب رقم 19 لعام 2012 الذي تضمن العديد من النصوص التي تفرض عقوبات مشددة على كل من يعارض النظام، حيث نجد أن أحكامه وردت بصورة فضفاضة، حيث إن أي نشاط عملي أو فكري بالقول أو الكتابة، يمكن اعتباره فعلًا من قبيل تمويل الإرهاب، أو ترويجًا لوسائل أو أعمال الإرهاب، كما في المادة الثامنة التي تعاقب بالأشغال الشاقة، من يوزع المطبوعات أو المعلومات المخزنة بقصد الترويج للإرهاب، ولمن أدار أو استعمل موقعًا إلكترونيًا لهذا الغرض، وبما أن النظام يعدّ كل من يعارضه، وإن كان بالرأي، شخصًا إرهابيًا؛ فإن أحكام هذا القانون تناله.
ونذكر أيضًا قانون الإعلام رقم 108 لعام 2012 الذي حاول النظام، من خلال بعض النصوص التجميلية، تصويره لمؤيديه بأنه قانون حديث يأتي استجابة لمطالب السوريين بالمزيد من الحرية، إلا أن الاستثناءات والمحظورات التي وردت فيه تجعله عديم الأثر، بل سيفًا مسلطًا على رقاب الإعلاميين والمؤسسات الإعلامية، فقد تمّ حظر أي محتوًى يمس بالوحدة الوطنية والأمن الوطني أو إثارة النعرات الطائفية أو المذهبية، فهذه عبارات فضفاضة يمكن تفسيرها على هوى السلطة لمعاقبة الإعلاميين، ومنعهم من العمل بحرية، إضافة إلى حظر المعلومات والأخبار المتعلقة بالجيش والقوات المسلحة، وحظر كل ما يمسّ برموز الدولة، وهذا يعني منع الحديث عن كل ما يتعلق بتصرفات الجيش والأجهزة الأمنية، باعتبار الأخيرة جزءًا من القوات المسلحة، ولا يجوز في هذه الحالة -مثلًا- التحدث عن الاعتقال أو التعذيب أو القتل داخل المعتقلات، كما أن عبارة رموز الدولة مفهوم غامض، ويمكن للسلطة أن تعدّ رئيس الدولة رمزًا للدولة، وهي حقيقة تعدّه كذلك.
ومن أفضل ما قرأته، حول الحريات العامة في سورية، ما كتبه جان حبيش في تقرير لـ “مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية”، وجاء فيه
يقوم الدستور بتقسيم المواطنين، بشكل يشبه إلى حد ما التقسيم اليوناني القديم، فكما كان دستور الأثينيين يقسم الأحرار في أثينا، إلى أربع طبقات، بحسب دخلهم السنوي، وكانت وظائف الحاكم والقائد والخازن مقتصرة على أفراد الطبقة الأولى، ومن الطبقة الثانية كان يتم اختيار الفرسان في الحرب، ومن الطبقة الثالثة المشاة ذوي الأسلحة الثقيلة، ومن الطبقة الرابعة الجنود والبحارة العاديين؛ فإن الدستور السوري يقسم المواطنين السوريين، بحسب انتماءهم السياسي إلى: فئــة أولى: هم البعثيون، ومنهم حصرًا يرشح رئيس الجمهورية، ويتم اختيار قادة الدولة والمجتمع. وفئـة ثانـية: هم الجبهويون، ومنهم يتم اختيار بعض الوزراء والنواب والمسؤولين من الدرجة الثانية. ويمكن أن نضيف بشيء من الكاريكاتيرية، فئـة ثالثـة: هم المستقلون، وهم الرعيّة الذين لا حول ولا قوة لهم. أما الفئـة الرابعـة: فهم المعارضون، وهم المطرودون من رحمة السلطان إلى السجن أو القبر.
ولكن هناك فارقًا مهمًا، وهو أن الضرائب لدى الأثينيين كانت تتناقص مع الانتقال من طبقة أعلى إلى طبقة أدنى (12% للطبقة الأولى، 10% للطبقة الثانية، 5 % للطبقة الثالثة، ولا شيء للطبقة الرابعة) أما لدى السوريين فإن الضرائب -بأنواعها- تزداد مع الانتقال من الفئة الأولى إلى الفئة الثانية فالثالثة، وصولًا إلى الفئة الرابعة التي تصل ضرائب أعضائها إلى حد الحرية والحياة..
خلاصة القول:
يمكن القول، بدون تردد، إن الحق في حرية الرأي والتعبير، وعلى الرغم من أنه يعدّ من الحقوق الأساسية للإنسان، ولا يمكن الاستغناء عنه ولا التنازل عنه ولا انتهاكه، فإن المواطن السوري لم يتمكن يومًا من ممارسة هذا الحق بحرية، ومن تجرأ على ذلك كان مصيره الموت تحت التعذيب أو الاعتقال سنين طويلة، وقد يصل الأمر إلى أن يقضي ذلك الذي مارس هذا الحق ما تبقى من حياته في غياهب السجون، وما حصل للسوريين طوال السنوات السابقة، من قتل وتعذيب وتهجير وتدمير للممتلكات ونهبها، ليس إلا نتيجة تجرؤ السوريين على المطالبة بالحرية والكرامة، ومن ثم المطالبة بإسقاط النظام، هذا النظام الذي باع الكثير من سورية ومقدراتها للآخرين، مقابل حمايتهم ودعمهم له للبقاء على كرسي الحكم، وإن كان لا يحكم فعليًا.
لذلك؛ لا بد من النصّ على هذا الحق وغيره من الحقوق الأساسية للإنسان، بوضوح، في الدستور القادم، مع شيء من التفصيل، ومع التأكيد على ضرورة إلغاء القوانين التي تتعارض وتتناقض مع الممارسة السليمة لهذا الحق، وكذلك النص في الدستور على ضرورة سمو العهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية على القوانين الداخلية، ولا سيّما تلك التي صادقت عليها سورية، ولا بد أيضًا من إعادة النظر في طريقة تشكيل المحكمة الدستورية العليا في سورية، بحيث تكون ضامنة لعدم تجاوز أو تناقض أي قانون سابق أو لاحق، لا للدستور الجديد ولا للعهود والمواثيق الدولية المذكورة، مع ضرورة وضع قانون عصري للإعلام في سورية، يكفل حرية التعبير والرأي، مع ضمان عدم التعسف في استخدام هذا الحق، حيث إن حرية الرأي والتعبير تمنح الحق في نقد الآخرين وكشف الممارسات الخاطئة للسلطات الحاكمة دون الإساءة إلى أحد، فحرية التعبير لا تعني أبدًا التشهير بالآخرين وسمعتهم والإساءة إليهم، حتى إن المادة 29 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 قد أكدت ضرورة الاعتراف الواجب لحقوق الآخرين وحرياتهم واحترام سمعتهم، وهنا لا بد من التأكيد أن وجود القضاء المستقل والمحايد والمتحرر من تسلط السلطة التنفيذية وأجهزة المخابرات هو القادر على ضمان توفير حرية الرأي والتعبير، وعلى الفصل في تحديد الرأي الذي يبديه الشخص، بأي وسيلة كانت، أهو ممارسة طبيعية لحق التعبير أم أنه إساءة إلى سمعة الآخرين وكرامتهم.
__________
(*) بحث مقدم إلى ندوة “تجارب سورية الدستورية” التي عقدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة في مدينة إسطنبول في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2019.