أمام المدرّج الروماني وقلعة بصرى الشهيرة، وعلى أنغام موسيقى النشيد الوطني السوري ونشيد “بلاد العرب أوطاني” ونشيد “موطني”، وبحضور الجنرال ديمتري، قائد الشرطة العسكرية الروسية في الجنوب، أُقيم الثلاثاء الماضي 28 تموز/ يوليو 2020، باستعراض عسكري كبير، حفلُ تخرّج 1200 مجنّد من أبناء حوران، بعد خضوعهم لمعسكر تدريبي في المنطقة الشرقية من محافظة درعا. ومما زاد في تعقيدات المشهد، بل وسورياليته، اللافتات الكبيرة التي رُفعت حاملةً شعارات واضحة الدلالة، مثل: “سورية لأهلها وليست مزرعة لأحد، المعتقلون طلّابُ حريّة وليسوا إرهابيين، لا مساومة على وحدة واستقلال الأراضي السورية”، وكذلك هتافات الخرّيجين الصاخبة بعد انتهاء الحفل، التي أكّدت المؤكّد بقولها: “سورية لينا وما هي لبيت الأسد، عاشت سوريّة ويسقط بشار الأسد”.
صدمت تلك الاحتفاليّة كثيرًا من الجهات، وسنحاول في هذه الأسطر قراءة المشهد من وجهات نظر مختلفة. جاءت ردّة فعل النظام السوري على هذا الحدث مرتبكة بشكل واضح، فلم يُعلن أيّ موقف على مستوى القيادة السياسية، كما لم يؤتَ بأي تصرّف، ولم تُتخذ إجراءات أمنية أو عسكريّة ضدّ هذا الجمع، على الأقل حتى تاريخ كتابة هذه السطور. والروس الذين حضر قائد شرطتهم العسكرية هذا الحفل لم يخفَ عليهم هذا الغليان الشعبي الذي ترجمته أصوات أكثر من ألفي شخص مدنيّ من الحضور، علاوة على العسكريين ممن شاركوا بالعرض، وكان وقع الهتافات على أسماع ممثلهم كوقع الصاعقة.
على الصعيد الشعبي، انقسم جمهور الثورة أقسامًا عدة، فمنهم من عدّ هذا الأمر مجرّد تلميع لقائد فصيل “شباب السنّة” السابق، السيد أحمد العودة، الذي يُعدّ، الآن، القائد الفعلي للواء الثامن التابع للفيلق الخامس المدعوم من روسيا، ينطلق أغلب هؤلاء من اعتبارات الخلافات السابقة مع هذا الفصيل وقائده أيّام الجبهة الجنوبية، وقبل عودة الجنوب إلى سيطرة قوات نظام الأسد صيف عام 2018.
هناك قسم آخر وقف حائرًا في تفسير هذه الخلطة الغريبة العجيبة، وهؤلاء أغلبهم من الثوّار الذين لم ينخرطوا ضمن اصطفافات الفصائل السابقة للجيش السوري الحر، ويقول بعضهم إنهم لا يستطيعون تصنيف هذا الحدث على أنّه امتداد للثورة أو متابعة لها، لأنه لم يكن تحت علم الثورة ورمزها، ويحاجّون بأنّ هدف الثورة ليس مجرّد إسقاط رأس النظام فحسب، بل هو التخلّص من البنية الحاكمة بأكملها، ويخشى هؤلاء من أن يكون الأمر خطوة باتجاه إعادة ترميم النظام، لكنّهم لا يستطيعون أن يقفوا معه بقوّة، ولا أن يقفوا ضدّه في الوقت ذاته، معتبرين أنّ ما يجري في مدينة بصرى الشام، والمنطقة الشرقية عمومًا، حالة مميّزة عن الوضع في المناطق الأخرى في الجنوب السوري. هناك فئة أخرى من السوريين من غير أبناء المحافظة، ومن الذين لا يعرفون كثيرًا عن هذه التحزّبات والاصطفافات، وهؤلاء يسألون أقرانهم من أبناء المحافظة محاولين فهم ما جرى، هذا القسم الثالث من أبناء الثورة اتخذ بأغلبيّته موقف المناصرة والتأييد لهذا الحدث، وله في ذلك مبرراته وأسبابه التي لا تخرج في النهاية عن الانحياز إلى ذلك الفصيل أو إلى قائده.
إنّ الانقسام الشعبي مردّه إلى انقسام أيديولوجي، إن صحّ التعبير، فالتيارات التي سيطرت على الحراك الثوري في سورية عمومًا، بدءًا من انتهاء المرحلة السلمية والانتقال إلى العسكرة والعمل المسلّح، كانت تراوح بين اليمين والوسط، طبعًا، مع استثنائنا التنظيمات الإرهابيّة التي لا أحد يقبل تصنيفها ضمن مجاميع الثورة السورية.
لا أحد يستطيع التكهّن بمآلات تطوّر الأحداث في الجنوب بعد ما حدث في بصرى الشام، وقد يكون للشعار الذي كُتب على إحدى اللافتات: “لا مساومة على وحدة واستقلال سورية”، ولإبرازه في هذا الاستعراض، معانٍ كثيرة.
بسبب انعدام التمايزات الدينية والطائفية والمذهبية بين جمهور الحراك الثوري في محافظة درعا -باعتبار أنّ الغالبيّة الساحقة من هذا الجمهور من العرب المسلمين السنّة- ظهر الاختلاف بانقسام بين إسلاميين وعلمانيين، أو هكذا سُوّق له، عند البعض على الأقل، على الرغمّ من أنّه، في الحقيقة، لا وجود لتيار يمكن أن نطلق عليه صفة العلماني بالتعريف الأكاديمي في هذه المنطقة وفي تلك المرحلة، فالجميع من منبت اجتماعي وديني وفكري واحد، لكنّ تبرير الخلافات على المصالح، بإلباسها لبوسًا أيديولوجيًا، هو الأسهل من ناحية التسويق والتحشيد، كما يبدو.
أيًا كانت خلفيات الناظر إلى هذا الحدث، فإنّه، بلا شك، سيرى مجموعة من التناقضات التي تعبّر -بشكل أو بآخر- عن سوريالية المشهد السوري، بعد سنوات الحرب التسع التي أحرقت الأخضر واليابس. وأوّل ما يمكن التأكيد عليه هو سقوط جدار الرعب والخوف نهائيًا وإلى غير رجعة، فشتيمة رأس النظام التي أصبحت أسهل من شرب الماء عند السوريين عمومًا، لم يكن يخطر على بال أحد أن تتمّ بهذا الشكل العلني الكبير الصارخ، وبحضور “الضامن الروسي” -وهو الحليف الأول والأقوى لنظام الأسد- وفي منطقة من مناطق التسويات التي استعادها النظام بموافقة المجتمع الدولي، وبقوّة السلاح الروسي التي لا يمكن مواجهتها، هي أمر خارق للمألوف بكلّ تأكيد، وخارج عن منطق دولة الأسد المرعبة.
رمزيّة رفع علم الدولة السورية وعلم الجيش العربي السوري، ورمزيّة عزف الأناشيد الوطنية الأكثر استخدامًا من قبل نظام الأسد الابن والأب طوال خمسين عامًا، ورمزيّة ارتداء لباس الجيش العربي السوري ذاته، وفي الوقت نفسه تُرفع شعارات الثورة ويهتف بإسقاط بشار الأسد، ليست من الأمور التي يسهل جمعها في بوتقة واحدة. من الواضح، بما لا يدع مجالًا للشك، أنّ هذه التركيبة لم توجد إلا في حوران، ففي المناطق السوريّة التي أُجبرت على إجراء التسويات، لم يتمكّن الأهالي أو مناصرو الثورة، من القيام باحتجاجات ذات حجم أو تأثير ملحوظين، بل تكاد تنعدم أبسط أوجه الاعتراض بالمطلق.
أدّت هذه العمليّة التي يقول بعضُ مناصريها “إنّها تمت بتمويل ذاتي” إلى منع أو الحدّ كثيرًا من عمليات تجنيد شباب حوران في صفوف قوات الأسد الأمنية والعسكرية، فبحسب زعمهم، إنّ عدد المتطوعين للانضمام إلى دورات التدريب المعلن عنها، تجاوز عشرين ألف شاب، ممن هم في سنّ التجنيد الإجباري والخدمة الاحتياطية، ويضيف هؤلاء أنّ عددًا لا بأس به من أبناء محافظة السويداء أبدى رغبته في التطوّع في هذه الدورات، ويشكّل هؤلاء، بلا شك، مع أقرانهم من أبناء محافظة السويداء الذين امتنعوا عن الالتحاق بجيش الأسد منذ اندلاع الثورة، خزانًا بشريًا هائلًا يمكن أن يرمّم جيشه المتهالك. من هنا يمكن القول: إنّ الذهاب إلى التطوّع تحت راية الفيلق الخامس أهون الشرور التي تنتظر شباب المنطقة.
لا أحد يستطيع التكهّن بمآلات تطوّر الأحداث في الجنوب بعد ما حدث في بصرى الشام، وقد يكون للشعار الذي كُتب على إحدى اللافتات: “لا مساومة على وحدة واستقلال سورية”، ولإبرازه في هذا الاستعراض، معانٍ كثيرة، لعلّ أهمّها الردّ الواضح والصريح على اتهامات وإشاعات أُطلقت خلال الفترة الماضية، عن مشاريع انفصالية أو فدرالية برعاية روسية، يتمّ التخطيط لها أو العمل عليها في هذه المنطقة. وإلى أن تتضح الصورة بجلاء كامل، يبدو أننا سنرى ونسمع كثيرًا شتيمة الأسد على لسان أبناء الجنوب وجيش الجنوب.