يُحدّد عمقُ الجرحِ طبيعةَ تدخّل الجرّاح، ويتحكّمُ المرضُ في خطّة العلاج. يقوم العلماء والأطباء بمقاربات لا تعدو أن تكون تجريبية في النهاية، لكنها ليست تجريب العابث، بل هي مما يتمّ استنادًا إلى دراسات ومعايير ومقاييس محددة سلفًا، وإلى تجارب سابقة أثبتت نسبة مقبولة من النجاعة من قبل. في المجتمع، وفي السياسة، تكون المقاربات مختلفة نوعًا ما. يسترشد البشر بتجارب بعضهم البعض، يدرسها البحّاثة ويستخلصون منها النتائج، ينمّطونها في قوالب ويصنعون منها القواعد والقوانين، ثم يستعملونها مقاييس لفهم الحوادث والتجارب المشابهة، وكلّما صادفهم متحوّل جديد، أضافوا له حُكمًا مختلفًا.
في تجارب الربيع العربي المختلفة، ظهرت لنا جليًّا صحّة إحدى هذه القواعد، فالثورة التونسيّة التي كانت بجدارة الأقلّ عنفًا، أنتجت واقعًا مغايرًا تمامًا عمّا نتج في مصر وليبيا واليمن وسورية. التحوّل السريع والهادئ في السودان، التدرّج الحذر في الجزائر، مثالان قريبان أيضًا يؤكّدان هذا الطرح. العنفُ يولّدُ العنفَ، والحربُ تجرّ الدمار والقتل والتشريد. قالها بعضُ السورييّنَ بعيدي النظر في الأشهر الأولى للثورة السورية، لا للعسكرة. وقالها بعضُ المفكرين العرب أيضًا، لا نرجو قيام ثورات في البلدان التي لم تحسم أمر هُويّتها الوطنية، تلك التي لا يمكن فيها فصل النظام عن الدولة، لأنّ من شأن ذلك أن يودي بها إلى التفتت والتشرذم، سورية واليمن مثالان صارخان لا يبرحان ساحة البرهان.
هل تنطبق القواعد والقوانين على كلّ حالة مجتمعية، كما قوانين الرياضيات والفيزياء؟ الجواب لا، بكل تأكيد، فالخصوصيات الثقافية والمجتمعية والتاريخية تلعب دورها في ذلك. لكنّ الخصوصيات هذه يجب ألّا تُخرج الحالةَ عن القواعد الأساسية المفترضة، إلّا إذا كنّا أمام حالة تأسيس جديدة -بناءً على الخصوصية- مغايرة جذريًا لما سبق، بحيث تحمل في خصوصياتها أركان تنميط وقولبة جديدين يصلحان لأن يصبحا قواعد أو قوانين مختلفة. فهل كانت الحالة السورية أو الليبية أو اليمنية خارج مجموعة قوانين المجتمع والسياسة المعروفة حتى الآن؟ الجواب الموضوعي يقول: لا، هي ليست استثناءً مما عاصرته غيرُ شعوب سبقتها في الانتفاض على الدكتاتورية أو في الاحتراب الأهلي.
لماذا لم نستفد من هذه التجارب إذن؟ ولماذا لم نستمع للعقلاء منّا؟ لماذا لم نتفكّر بالنتائج المحتملة قبل أن نبحث عن المسبب لها والمسؤول عنها في حال حصولها؟ هل كان لنا رفاهية التفكير أصلًا على وقع التسارع الرهيب للأحداث؟ وهل كان هذا التسارع كلّه طبيعيًا من فعل الضرورة والقدر؟ هل كان هناك مؤامراتٌ فعلًا حِيكت ضدّنا وعلينا، أم هي مجرّد مصالح دول وتقاطعات صُدف؟ هل يقع اللوم فقط على الأنظمة المستبدّة التي ثرنا عليها، أم كان لنا -نحن الثائرين والمعارضين للدكتاتوريات المذكورة- يدٌ فيه؟
لقد ارتكبنا العديد من الأخطاء، وأفدحها كان الانجرار وراء العسكرة. لا شكّ في أننا أُجبرنا على قبول حمل السلاح، ومن قام بذلك إنّما قام به من أجل الدفاع عن النفس أوّل الأمر. حصل هذا في ليبيا وفي سورية، أمّا اليمن فكان الوضع أقلّ حدة في البداية، وحصلَ أن توصّل السياسيون إلى تفاهمات كان من شأنها وضع اليمن على سكّة الحوار، لكنّ ضيق أفق الدكتاتور، وتدخّل بعض دول الجوار، أطاح بتلك الجهود الوطنية، وأعاد الكُرة إلى ملعب العنف المحبّذ من أصحاب المصالح، من الفاسدين والطامحين والمغامرين وأصحاب الأجندات القبلية والطائفية.
ما الخطأ الذي ارتكبناه بعد قبول اللجوء إلى العنف وسيلة للتغيير؟ وهل هو خطأ واحدٌ أم تفرّع إلى أخطاء كثيرة متعددة؟
الحقيقة أنّه لا يمكن حصر ما جرى بعاملٍ واحد، فقد تبيّن لنا جميعًا، فيما بعد، أنّ دفعنا للعسكرة وحمل السلاح كان فعلًا مقصودًا ومنهجيًا قامت به الأنظمة بمشورةٍ ودعمٍ من حلفائهم من جهة، وبتواطؤ بعضِ من ادّعوا أنهم أصدقاء الشعوب العربية من جهة ثانية. ثبت لنا في سورية، مثلًا، بالدليل العياني المباشر، أنّ حمل السلاح كان وبالًا على أهالي المدن والقرى الثائرة، وعلى هذه المناطق جميعها، لأنّ طبيعة سورية الجغرافية دفعت الثوار ومقاتلي الجيش الحر إلى الاحتماء بالمدن، وهذا ما كان يريده النظام وحلفاؤه حرفيًا، حيث استغلوا ذلك لتهديم المدن والقرى على رؤوس المواطنين لدفعهم للهرب. كان هذا المطلوب من حيث النتيجة، أي تفريغ هذه المناطق من السكان، من أجل التغيير الديموغرافي. المثال الصارخ على ذلك مدينة داريّا، حيث هي الآن معقل لعائلات الميليشيات الطائفية المُستقدمة من خارج سورية ومن داخلها، وهناك أمثلة كثيرة، مثل القصير وحيّ الوعر وبابا عمرو وقرى مثلث الموت، وغيرها من مناطق القنيطرة… إلخ
ثمّة مشكلة رئيسة في الخطاب السياسي، عند من تسلّم قيادة هذه الثورات، من أفراد وجماعات وأحزاب. إذ لم نستطع تجاوز الخطاب العاطفي الذي قادنا إلى خطاب ديني بداية، تحوّل إلى خطاب طائفي عند بعض الأطراف تاليًا، ثم إلى خطاب إرهابي عند الدواعش وأتباع النصرة وغيرهم من أتباع التنظيمات المتطرفة أخيرًا، والذين تمّ حسابهم على صفوف الثورة، من منظور جميع الأطراف غيرنا، وسواءٌ أعجبنا ذلك أم لا، وسواءٌ أكان حقيقة أم لا، فإنّه واقع حصل، ولم نعرف منه مخرجًا. في ليبيا واليمن، كان الخطاب القبلي المناطقي أكثر وضوحًا، وإن لم يغب الخطاب الديني بالمطلق أيضًا.
في سورية، لم يكن الخطاب الديني الذي تحوّل إلى خطاب طائفي ثم إرهابي سوى هدفٍ سعى إليه النظام وحلفاؤه من جهة أولى، وبعض أطياف المعارضة التقليدية التي شدّت عضدها بالأكثرية السكانية، فحوّلت الثورة عن مسارها الوطني، من جهة ثانية. الهدف كان تحقيق مصالح الجميع بلا استثناء، بالقضاء على ثورات الربيع العربي، بوصفها ثورات وطنية للتحرر من الاستبداد، ومن ثم القضاء على أي إمكانية لبناء الدولة المدنية الديمقراطية القائمة على حقوق المواطنة المتساوية، على أسس العدل واحترام كرامة الإنسان وحقوقه. هذا بالتأكيد لم يكن في مصلحة إسرائيل ولا الأنظمة العربية المجاورة لبلدان الربيع العربي، ولا حتى في مصلحة بعض القوى الدينية السلفية والمنغلقة التي لم ترَ في الثورة سوى وسيلة للوصول إلى الحكم. لقد عملنا جميعًا -بشكل أو بآخر- نحن وأعداؤنا أو خصومنا، على الوصول إلى النتيجة الراهنة، ولا براءة لأحد منّا في ذلك، بالرغم من اختلاف مستويات المسؤولية.
أمّا الآن، فقد آن لنا أن نتجرّأ على فتح الجراح حتى نهاياتها، أن نبدأ عمليّة التنظيف عبر الاعتراف بأسباب الفشل ومواضعه، أن نطهّر أنفسنا من الأنا المتضخّمة، وأن نرفع صوت العقل على صوت العاطفة. هي فرصة متاحة للمراجعة، فهل نبدأ العمل الحقيقي أم نُبقي على الجراح الغائرة حتى تتقيّح أكثر وتقضي علينا تمامًا؟