حسم الربع الأخير من القرن العشرين، على صعيد تعبيرات المجتمع المدني، ثلاث مسائل:
الأولى: لم تعد تعبيرات المجتمع المدني تعتمد بنشاطها على أيديولوجيتها/ عقيدتها، وهذا شأن خاص، بل على محاولتها الإجابة عن أسئلة الواقع، وعلى خطابها المدني، والتعبير عنه ببرنامجها السياسي، ومدى استرشاد فئات اجتماعية ومكونات الرأي العام به.
الثانية: لم تعد أيضًا تقوم على عدد أعضائها، بل على عدد من يرى أن برنامجها يلبّي تطلعاته، ويدافع عن مصالحه وقضاياه الحياتية، فيمنحها صوته الانتخابي.
الثالثة: ليس الرأي العام على صواب ويمتلك الحقيقة دائمًا، بل هو مرهونٌ بأمور أخرى، ومنها دور وسائل الإعلام في توجهاته.
لا شك في أن صعود الخط البياني لعدد أعضاء هذه التعبيرات مؤشرٌ إيجابي، وكذلك من يحضر اجتماعاتها من الأصدقاء، لكن تبقى جدلية العلاقة بينها وبين الرأي العام هي صاحبة الكلمة الفصل، لذا لا بدّ أن تعرِّف عن نفسها بأشخاصها، بالصورة والصوت والكلمة المكتوبة وبوسائل الإعلام، وعن بياناتها وحوارها في اجتماعاتها التي تدعو إليها وتُدعى إليها، فالسريّة مقتلُ كل نشاط اجتماعي وسياسي، بغض النظر عن أنها رد على العسف والقمع.
نسأل:
– ما طبيعة العلاقة بين تعبيرات المجتمع المدني والمؤسسات المدنية القائمة والرأي العام في الربيع العربي: تعشيق أم اشتباك، دعم وتعاون أم نفور وعداء؟
– هل تعمل المؤسسات القائمة بشكل عقلاني ومنطقي وتطفح بالتسامح، وتقبل النقد والمساءلة والمحاسبة، وتعتمد صندوق الانتخاب وتداول المسؤولية والسلطة؟ وما طبيعة علاقتها بالرأي العام، لتنتقل معه وبه، من حديث “القرايا” والهجرة والنزوح والسلل الغذائية و”بدي أعيش” وكيل الشتائم والاتهامات والبكاء على أطلال الاستبداد، مع الاحترام الفائق لكل فرد من هذه الشريحة من أهلنا وإخوتنا المواطنين، إلى حديث السرايا، المواطن الحر الكريم الذي يعيش بحمى القانون؟
– هل استطاعت تعبيرات المجتمع المدني والرأي العام في رحاب الربيع العربي فرضَ حق المشاركة في صوغ القرارات السياسية التي تتعلق بمصير المدنيين، وحماية الممتلكات الخاصة والعامة، ووقف كل انتهاك لها من أي جهة تطاولت على حقوق الآخرين وعلى القانون؟ أم انتكست إلى العسكرة والإسلام السياسي والمال السياسي؟
– هل اعتمد الدستور/ العقد الاجتماعي والمؤسسات القائمة “العهدة العمرية”، وأخذ برأي الإمام “أبي حنيفة”، بضرورة تجاوزها لتجاري بنية الدولة في هذا العصر الذي غدا كل مقيم في الدولة مواطنًا بمواطنة متساوية، بالحقوق والواجبات، أمام القانون، ومنع انتهاك إنسانية الانسان؟
إن إنصاف أي مواطن مظلوم ومعتدًى عليه، ليس قضية فردية فحسب، ولا مسؤولية القضاء وحسب، بل هي قضية حق عام، لأنها تتعلق بالحقوق وبمستقبل القضاء وببنية الدولة التي ثارت الشعوب العربية من أجلها، وقدّمت قوافل الشهداء والمعتقلين والمفقودين… على طريقها، دولة الحق والقانون…
إن تعبيرات المجتمع المدني، ولا سيّما “الهيئة المدنية العامة”، حاجة وضرورة، مصيرها مرهون بقدرتها على كسب معركتها بعلاقتها الجدلية مع الرأي العام، وعلى أبوابها أن تبقى مشرَّعةً لكل راغب في عضويتها، ولكل راغب في صداقتها، وللجميع حق حضور اجتماعاتها.
هناك مَنْ ينتظر القائد الكارزمي والحزب القائد للدولة والمجتمع والجبهة التقدمية والمستبد العادل، على الرغم من أن العصر لم يعد يحتمل القادة المؤبدين والمورثين للنظام الجمهوري، طالما حضرت الشعوب في ساحات ربيع براغ وباريس 1968، وبكين 1997، ودمشق 2000- 2003، وتونس وطرابلس وصنعاء والقاهرة ودمشق 2010-2011، وستحضر في ساحات بغداد وطهران وموسكو وتدقّ أبوابها… لقد تداعى الاتحاد السوفييتي ومنظومة دول شرق أوروبا النسخة الأصل… وقد شهدنا القادة العرب الديناصورات المنتفخة والمؤبدة والمورثة، وظهرت صورتهم عاريةً عندما رُفع الغطاء عنها. فالطغاة عبر التاريخ لا يمهّدون الطرق إلا للاحتلال وتشظي الشعوب (ليبيا والعراق واليمن نموذج).
سؤال وجيه يفرض نفسه:
– هل توجد “تعبيرات مجتمع مدني” في المنطقة العربية؟ “نقابات، اتحادات، منظمات، حماية البيئة، أندية رياضية، منتديات ثقافية وفكرية، وأحزاب سياسية…”.
– نعم توجد، وتقوم بمهامها، عدا التصدّي لتغول الحاكم ودولته وعسكره، وهي المهمة الأساس، فتعبيراتنا مجوفة، وتسَبّح بحمدِ الحاكم، وتشرف عليها وتديرها السلطة الأمنية.
تفسر هذه الحقيقة أن الربيع العربي حُمِلَ من فئات شعبية وطلابية، ولم تقده تعبيرات المجتمع المدني، لا سيّما النخب الثقافية والأحزاب!
لا بد من المراجعة والنقد، ولا بد من حوار الرأي العام، فمن لا يأتي إلينا نذهب إليه، نحاوره، ونقدّم ما عندنا، نتعلم منه ونعلّمه، ضمن مصلحة الشعب من أجل الانسان، الفرد، المواطن، من أجل وحدة الأرض والدولة والشعب، من أجل كرامة المواطن وحريته، وسيادة الوطن، حوارًا هادئًا، وقد يكون ساخنًا، لكن ضمن الوطن ومستقبل الشعب.