حدث انفجار سورية في ربيع 2011، بعد 47 عامًا من حكم العسكر، حيث تم منع السياسة ومنع قيام تنظيمات سياسية أو مجتمعية عدا تلك التي تقيمها السلطة لخدمتها، وجرى تذرير المجتمع وتحويله إلى أفراد يهتم كلٌّ منهم بعمله وبيته وأسرته وينفر من السياسة، ولا يهتم بالشأن العام لأنه مؤمّم من قبل السلطة الحاكمة. وقد كان نظام البعث – الأسد ينظر إلى أيّ شكل من أشكال التنظيم والتجمّع كخطر مستقبلي على سلطته.
وفق نهجه السابق، بنى نظام البعث – الأسد استراتيجيته، منذ اللحظة الأولى لخروج التظاهرات يدءً من آذار 2011، على إعاقة تشكيل جسم معارض موحد يوحّد قوى الحراك وينظّمها، ويكون له هيكل تنظيمي وقيادة تمثّله، ويعمل على نحو مؤسسي يضاعف قوة المعارضة، ةيجعل منها قوة سياسية بديلة قادرة على الإمساك بإدارة سورية، في حال سقوط نظام البعث الأسد، وتكسب ثقة اللاعبين الإقليميين والدوليين، وتقدّم جوابًا على سؤال طالما طُرح وهو: من هو البديل؟ وعدم وجود جواب يُقنع القوى الكبرى بوجود قوة بديلة منظمة تستطيع الإمساك بسورية وتمنع تحولها الى فوضى في حال سقوط النظام، كان سببًا رئيسًا في فشل المعارضة أو إفشالها، وفي استدامة الصراع لعقد ونيف ودمار سورية بشريًا وماديًا ومجتمعيًا واقتصاديًا. وقد كانت إعاقة قيام تنظيم موحد وقيادة للاحتجاجات أحدَ ثلاثة أعمدة شكلت استراتيجية النظام لمواجهة الحراك الشعبي: 1) الشرذمة ومنع تشكل جسمقيادي واحد سياسي وعسكري، 2) التحول إلى حمل السلاح ليغدو الحراك الشعبي بصورة تمرد يرفع السلاح في وجه السلطة، 3) دفع الحراك ليأخذ طابعًا دينيًا ومذهبيًا بدلًا من الطابع السياسي الديمقراطي.
من أجل منع تكوين أي جسم منظم للحراك، ومنع انبثاق أي تنظيم جديد من قوى الشارع التي تتظاهر، سلط الملاحقات الأمنية، ليس ضد المتظاهرين في الشوارع وحسب، بل لاحق اجتماعات البيوت، وحرص على اعتقال القيادات التي تبرز في التظاهرات وتصفيتها في السجون، لحرمان الشارع المتظاهر من القيادات. وعلى الرغم من نجاح المساعي المستعجلة للمتظاهرين، في تشكيل لجان التنسيق المحلية أواخر نيسان 2011 ثم اتحاد التنسيقيات أواسط ايار 2011 لعبت دورًا بارزًا في الشهور الأولى في تنسّق التظاهرات ورفع الشعارات الأولى، غير انها لم تكن قائدة فعلية للشارع بعد انتشار التظاهرات في عموم سورية، وقد بدأ الشارع يُفرز قيادات من شخصيات محلية كانت تبرز بحكم النشاط اليومي، من دون أن يكون ثمة تنظيم يجمعها أو مركز قيادي يخضع له الجميع، فأصبح الوضع مجموعات كثيرة من الشابات والشباب المندفع الذي عوضت حماسته في الفترة الأولى عن فقدان التنظيم القيادي الموحد، كما عوضت عن ضعف التجربة، ولكنها لم تكن كافية على الأمد البعيد.
عقد مؤتمر حلبون في 25 حزيران/ يونيو 2011، وأطلق هيئة التنسيق التي ضمّت مجموعات من أحزاب معارضة وغير معارضة، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي (صالح مسلم) ، ولكنها كانت جميعها أحزابًا صغيرة ليس لها تأثير كبير على الشارع، إضافة إلى أنها تشكلت من قوى لها توجهات متباينة تجاه الحراك وطبيعته ومآلاته، وبالتالي لم تشكل قيادة للشارع، ثم انعقد مؤتمر (سميراميس) المعارض، في 27 حزيران/ يونيو 2011، الذي ضمّ نحو 200 شخصية معارضة، غير أنه انتهى إلى لا شيء سوى بيان يتيم، بينما منع النظام انعقاد مؤتمر “المبادرة الوطنية”، بعد بضعة أيام من مؤتمر (سميراميس)، وقادها وزير الإعلام السابق محمد سلمان.
حين تشكل المجلس الوطني، في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2011 في الخارج، من ممثلي تنظيمات صغيرة قديمة ومن تنظيمات تجمعت على عجل ومن بعض الشخصيات، نال اعترافًا شعبيًا ودوليًا على أنه يمثل المعارضة، ولكنه لم يكن قيادة فعلية لها، فلم يكن المجلس من يقود الشارع المتظاهر، إذ لم تكن قيادات الداخل السوري للتظاهرات تحت قيادة المجلس، كما لم تكن الفصائل المسلحة المعارضة، التي بدأت تتشكل على نحو مستقل تحت اسم الجيش الحر، تحت قيادة المجلس، كما كانت فصائل الجيش الحر مشرذمة ولا تخضع لقيادة واحدة ولا تتبع لمركز قيادي واحد، بل كانت فصائل كثيرة لا يجمعها جامع ولا رؤية ولا استراتيجية موحدة أبعد من شعار “إسقاط النظام”.
وعلى الرّغم من عدم وجود قيادة موحدة سياسية وعسكرية، فقد أبهر الحراك السوري السلميّ العالمَ، خلال الأشهر الستة الأولى، قبل التحوّل مجبرًا إلى حمل السلاح، كما أن عنف النظام المفرط تجاه تظاهرات مدنيين قد أفزع العالم، فتشكلت مجموعة أصدقاء الشعب السوري التي ضمّت في ذروتها أكثر من 120 دولة من دول العالموعقدت عدة مؤتمرات لنصرة الشعب السوري، وهذه سابقة لم تحصل من قبل، وضمن هذا المخاض صدر بيان جنيف 30 حزيران/ يونيو 2012 الذي كان بمنزلة اعتراف دولي بوجوج معارضة سورية ممثلة بالمجلس الوطني ثم بالائتلاف الوطني، واعتراف بحقّ الشعب السوري بإقامة نظام سياسي يمثّل إرادته، على أعقاب نظام البعث الأسد الذي عليه أن يذهب، وقد جاءت دعوات الأسد للتنحي على لسان عدد من قيادات العالم، وعلى رأسهم أوباما. لكن المعارضة المشرذمة الضعيفة أضاعت الفرصة، ولم يساعدها أصدقاء الشعب السوري في استغلالها.
ولكن الاعتراف بالمجلس والائتلاف لأغراض وجود عنوان سياسي يمثل المعارضة شيءٌ، والاعتراف بقوة قادرة على الإمساك بإدارة البلاد شيء آخر. وقد كان اعتراف أصدقاء الشعب السوري اعترافًا من النوع الأول، إذ لم تكن ثمة قناعة لدى المجتمع الدولي بأن لا المجلس الوطني ولا الائتلاف يشكلان أجسامًا سياسية كبيرة قيادية قادرة ولديها سيطرة على الشارع وعلى الفصائل المسلحة المعارضة، بل لقد تم تشكيل هيئة الأركان بعيدًا عن الائتلاف. وكان هذا تهميشًا للمعارضة السياسية قام به أصدقاء الشعب السوري وداعموه، وحتى هيئة الأركان ذاتها كان دورها هامشيًا، إذ لم يكن لها سلطة على الفصائل الكثيرة المشرذمة التي كان لكل منها استقلاليته، وكانت تتنافس فيما بينها وتتصارع أحيانًا، ومَن منا لا يذكر الاقتتال بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” في غوطة دمشق، بينما كان النظام يحاصر الغوطة!
ليس النظام وحده المسؤول عن فشل المعارضة في تشكيل جسم معارض موحد سياسي وعسكري قوي، وعن بقاء المعارضة مشرذمة سياسيًا وعسكريًا. هنا، لا يمكن تعليق فشل المعارضة على مشجب النظام. كما لا يمكن الاحتجاج بأن ظروف الصراع الذي انفجر فجأة دون تحضير لا تتيح تشكيل قيادات في الداخل في مناطق سيطرة النظام، لأن هذه الظروف انتفت في المناطق التي خرجت من تحت سيطرة النظام، وهي منفية أيضًا في بلدان اللجوء، وعلى الرغم من ذلك فإن القيادة الموحدة لم تتشكل، وما زالت الشرذمة السياسية والعسكرية هي سيدة الموقف، وكل هذا يشكل الآن صورة أمام أعين كبار اللاعبين بأن بقاء الأسد هو البديل الوحيد المتاح، ولا بد من قبوله وإعادة تأهيله.
الأمر اللافت أن الدول الصديقة الراعية للمعارضة والداعمة لحراك الشعب السوري لم تفعل ما هو مطلوب منها، رغم أنه يخدم مصالحها أيضًا، وهو الدفع لتشكيل ذاك الجسم السياسي والعسكري المعارض الموحد والذي ينال الاحترام والاعتراف الدوليين، وينال الثقة الدولية بأنه جسم بديل قادر على الإمساك بإدارة سورية بالشراكة مع القوى الوطنية الأخرى، وعلى منع وقوع سورية في الفوضى، وله رؤية واضحة لسورية المستقبل، ويستطيع أن يقود سورية إلى بر الأمان بعد رحيل النظام. ولأن هذا لم يحدث، بقي دور المعارضة هامشيًا، وتكتسبه من خلال قرارات دول أخرى، وليس لأن لها قوة على الأرض تفرض ذاتها على الجميع. ولو تشكل هذا الجسم السياسي والعسكري الموحد المعارض، لحسم الصراع صيف 2012.
رفض النظام الاعتراف ببيان جنيف، ورفض التعاطي معه، وأصرّ على سياسته التي يوجهها شعاره الوحيد “كل شيء أو لا شيء”، و”الأسد أو نحرق البلد”. ولكنه بعد مجزرة الكيمياوي وقرار مجلس الأمن 2118، بنصيحة من الروس، اضطر إلى التظاهر بدخوله المفاوضات، ولكن بتصميم مسبق، وهو ألا يتحقق أي تقدّم.
بدأت موسكو العمل على تمييع دور الائتلاف؛ فشجعت مصر على تكوين منصة القاهرة، كجسم معارض آخر، كما شكلت منصة موسكو كجسم “معارض”ثالث”، وبدأت بالضغط من أجل الاعتراف بهاتين المنصتين “المعارضتين” إلى جانب الائتلاف، واستغلت روسيا الزعم، بأن المجلس الوطني والائتلاف منغلقان على لون معين، و يخضعان للمحور التركي القطري وأيّدتها في مساعيها دول عربية ، وتم الدفع لإنشاء الهيئة العليا للمفاوضات التي أوصى بها مؤتمر فينا 2015، بضغط من الروس وأطراف عربية، وعقدت الهيئة مؤتمرها التأسيسي في الرياض، في كانون الأول/ ديسمبر 2015، وجرى إدخال هيئة التنسيق ومنصتي القاهرة وموسكو فيها، وحلَّ وفدها المفاوض محلَّ وفد الائتلاف في مفاوضات جنيف، أي تم تقليص دور الائتلاف في العملية السياسية. وبعد تشكيل الهيئة، تراجع دور الائتلاف على الصعيد الدولي، وبرزت هيئة المفاوضات إلى الأضواء، بالرغم من أنها مجرد جهاز فني للتفاوض، وأعطيت حيزًا كبيرًا، وكأنها جسم سياسي مستقل! وفقد الائتلاف شيئًا من دوره وأهميته، بالرغم من أنه صُمّم ليكون قيادة سياسية لقوى الثورة والمعارضة.
ثم بعد تشكيل هيئة المفاوضات، تم اختراع اللجنة الدستورية من قبل روسيا، ووقعت هيئات المعارضة (الائتلاف وهيئة التفاوض) في هذا الفخ، وقبلت الدخول في مسار اللجنة الدستورية التي دفعت بقية الملفات الأخرى في بيان جنيف وفي قرار مجلس الأمن 2254 إلى الخلف، فأصبحت الأضواء تنصب على اللجنة الدستورية، وفقدت الهيئة العليا للمفاوضات عمليًا حضورها ودورها. ويتم التركيز الآن على أن اللجنة الدستورية، مع أنها مجرد لجنة تقنية، تتشكل من شخصيات معارضة وشخصيات موالية وأخرى رمادية، مهمتها وضع دستور، وعندما تنتهي مهمتها، وينفرط عقدها، ستكون كل الأجسام المعارضة من الائتلاف وهيئة المفاوضات والحكومة المؤقتة كلّها قد ذهبت إلى الظل، ولن يبقى لها أي دور.
برزت أخيرًا المبادرة الأردنية لتسويق الأسد، بعيدًا عن أيّ دور للمعارضة أو من يمثلها، وكذلك تسعى الإمارات في هذا الاتجاه، وتعمل موسكو على تعزيز هذه المبادرات، ليكون الحلّ بين أطراف دولية تتفق على مصير سورية وشعبها، ويكون النظام طرفًا رئيسًا فيها ممثلًا لسورية، بينما تغيب المعارضة كليًا عن المشهد في تهميش كامل لها.
وهنا يبرز السؤال: هل لدى المعارضة ما تفعله لمواجهة هذا الواقع؟! ولا نقصد هنا الائتلاف والهيئة العليا للمفاوضات وحسب، بل نشمل جميع التنظيمات السياسية والعسكرية المعارضة، ومجموعات النخب السورية المعارضة في اي مكان كانت، فالسؤال موجه لنا جميعًا!