انتهت معارك بلدة الباغوز في محافظة دير الزور شرقيّ سورية، وتمكنت (قوات سوريا الديمقراطية/ قسد) بدعم من التحالف الدولي، من السيطرة عليها كآخر معقل لتنظيم (داعش) في سورية، وأُعلن في آذار 2019، القضاء على التنظيم المتطرف بنسبة 100% في سورية[1]. وعلى الرغم من القضاء على مشروع التنظيم، بنهاية دولته وزوال سيطرته على الأرض، فإنه ما يزال يمثل قوة قاتلة نشطة للغاية في الشرق الأوسط، ويبدو أنه أكثر نشاطًا في وسط الصحراء السورية التي تسيطر عليها قوات الحكومة السورية، وفي شمال شرق سورية الذي تسيطر عليه قوات (قسد)، حيث البيئة الأمنية والسياسية المعقدة، وما ينجم عنها من خلافات بين الأطراف السياسية، وعوامل شكلت بيئة خصبة لزيادة نشاط التنظيم في سورية[2].

تمكّن التنظيم في ضوء ظروف البيئة الجديدة، إضافة إلى معرفته بالجغرافية السكانية والطبيعية للمنطقة التي يعدّها مسرحًا لعملياته وهدفًا يحلم بإعادة السيطرة عليها والتحكّم فيها، من توظيف تلك الظروف ووضعها في خدمة عملياته العسكرية: “هجمات عسكرية مباشرة (كما حدث في سجن غويران)، اغتيالات، اعتماد لامركزية القيادة، حرب العصابات”. ووفّر أسلوب العمل الجديد على التنظيم كثيرًا من المصاريف اللوجستية، في ظل بروز موارد تمويل تتناسب مع الحال التي وصل إليها: “التهريب، ابتزاز الشركات والتجار، دفع الزكاة [3]، الكلفة السلطانية[4]“.

تحتاج نهاية الأشكال العسكرية والأمنية للتنظيم إلى جهدٍ استخباري وعسكري واجتماعي، الأمر الذي لم تعمل القوى المتداخلة في الشأن السوري، والقوى المحلية، على وضع برامج عمل لمعالجته، لكونها ركزت على تمكين سيطرتها على المناطق التي توجد فيها، من خلال ملاحقات المدنيين والتضييق عليهم، وهو ما دفع المدنيين إلى التعامل مع خلايا (داعش)، وتقديم الخدمات اللوجستية والمعلوماتية عن تحركات تلك القوى (الميليشيات الإيرانية، قوات قسد) للانتقام منها.

دورة حياة التنظيم بعد إعلان القضاء عليه

مرَّ التنظيم بمراحل مترابطة فيما بينها، منذ نشأته حتى الوقت الراهن. وتعدّ مرحلة التحضير والتجهيز أولى هذه المراحل، وأعد فيها المغاور والأنفاق والمستودعات المخفية في صحراء العراق (وبخاصة الأنبار)، والبادية السورية، وما يدلل على هذا الأمر استمرار العمليات التي يقوم بتنفيذها، بالرغم من انهياره في العام 2019. كما عمل على إنشاء شبكة أمنية، بين عامي 2017 و2019، داخل المناطق التي سيطر عليها في دير الزور والرقة، واعتقلت قوات (قسد) كثيرًا من أفراد تلك الشبكة، واعتمدت عليهم بعد اعتقالهم والإفراج عنهم، من خلال توظيفهم ضمن هياكلها الأمنية، مع استمرار السماح لهم بالتعامل مع خلايا (داعش) التي يعرفونها[5].

وتعلن قوات (قسد)، بين الحين والآخر، تنفيذها عمليات أمنية بمساندة التحالف الدولي، وكان آخرها مداهمة محال تجارية في بلدة (الكشمة) قرب قرية الشعفة شرقي دير الزور، واعتقال شخصين كانوا يسكنون في “قبو” بالقرب من المحال، أحدهم يعمل في ورشة لصيانة السيارات ويقيم في القبو بالقرب من مكان عمله. وأعلنت أنها ألقت القبض على قيادي محليّ من “تنظيم الدولة”، كان يُخطط لتنفيذ عمليات أمنية ضد موظفيها وعناصرها، وصادرت أسلحة ووثائق كانت بحوزته.

وفي مرحلة ما بعد الانهيار وانتهاء الخلافة، حتى تاريخ مقتل البغدادي، بدت عمليات التنظيم قليلة وخافتة، وتصاعدت عملياته قبل مقتل زعيمه البغدادي بشهور. ويعود السبب في ذلك إلى تصاعد نشاطه وعملياته في العراق، ومن ثم فإن آلية عمل التنظيم تضعنا أمام قاعدة مطّردة، مفادها “عندما تتصاعد عمليات داعش في العراق، فهناك انعكاس على تصاعدها في سورية، وعندما تنخفض عمليات داعش في سورية، فهناك انخفاض لعملياته في سورية والعراق”، ذلك لأن طرق التهريب بين العراق وسورية ما زالت مفتوحة، وتتقن (داعش) عملية التعامل مع المهرّبين، كما تتقن عملية التهريب الذاتي، بدليل قدرة التنظيم على إخراج أشخاص يتبعون له من مخيم الهول إلى العراق، ثم إلى إيران، ومنها إلى تركيا. أو إخراجهم من مخيم الهول إلى مدينة إدلب في شمال غرب سورية، ومنها يعمل على إدخالهم إلى تركيا. ويضعنا هذا الأمر “المهارة في عمليات التهريب” أمام احتمالين: أما أنهم يتعاملون مع شبكة من المهربين بإغراءات مالية كبيرة، وإما أن التنظيم أنشأ شبكة تهريب خاصة بخدماته وعملياته الأمنية والعسكرية واللوجستية. ويدلل على ذلك دفع كل التجار مبالغ مالية لـ (داعش)، في سبيل تأمين حماية لهم ولتجارتهم، ويشكلون جزءًا من هذه التجارة المزدهرة في دير الزور، وخاصة مافيات تهريب البشر والآثار. ويحاول التنظيم بذلك إثبات وجوده وفاعليته، وأن يشكل القوة الحقيقية على الأرض، وأن يُظهر أن بقية الأطراف ما هي إلا حالة عابرة وجودها مؤقت، وأن السيطرة النهائية ستكون له. كما يهدف إلى زرع الرعب والخوف في نفوس الأشخاص العاملين في صفوف “الميليشيات الإيرانية – قسد”، والعملاء والمتعاونين معهم استخباراتيًّا.

 سمكة الصحراء “تكتيك داعش الجديد”

كشف انهيار تنظيم (داعش) عن مرونةٍ يتمتّع بها في أساليب العمل، وقدرة على التكيف مع الظروف الطارئة التي تساعده في الاستمرار وإرسال الرسائل. وإن إنهاء حالته العسكرية يستدعي جهدًا أمنيًّا واستخباراتيًّا من شأنه أن يمنع تحويل معاداة المدنيين “السكان المحليين” إلى حالة عداء لأي قوة تَحكم.

يُجمِع عدد من المتابعين على وصف عمليات التنظيم (داعش) بالدقيقة والسريعة. ومردّ ذلك إلى اعتماد تنظيم (داعش) على جمع المعلومات، واختيار أهداف محددة من الذين يتبوؤون مناصب لدى “الإدارة الذاتية”، أو من المخبرين لقوات الحكومة السورية، مستفيدًا مما وفّرته له الصحاري كمرتع حتى ظهوره من جديد، ومن جعلها مقارّ انطلاق لعملياته، ومن اللجوء إلى استراتيجية عسكرية يُطلق عليها “سمكة الصحراء”، تتبع أسلوب حركة أحد أنواع الزواحف اسمه “سمكة الرمال أو الصحراء” أو ما تسمى محليًّا بـ “السحلية”، وهي تمتلك أربعة قوائم، وتُشبه إلى حد كبير “الوَرَل وهو حيوان زاحف من فئة الحرشفيات”، إلا أنها أصغر حجمًا منه بكثير، وتختبئ في الرمال عن طريق الغطس، شأنها شأن السمكة في البحر، وتعتمد في تنقلها على هذا الأسلوب بشكل عام. وتقوم عمليات التنظيم على قدرته على الاختباء، ومن ثم اصطياد الفريسة، والهجوم والعودة لوكر دائم في الصحراء، معتمدًا مبدأ “اضرب واهرب”، بعد الرصد والمتابعة. ويؤكد الاعتماد على تلك الاستراتيجية أن “العمليات الأمنية والعسكرية التي ينفذها التنظيم تتسم بالدقة والسرعة، كالاغتيالات وزرع العبوات الناسفة والاشتباكات المحدودة، والتي غالبًا ما تحصل في مناطق مفتوحة أو نائية، بحيث لا يستمر فيها الاشتباك لمدة طويلة، لأنه يهدف إلى ضرب مفاصل محددة، ثم الهرب”[6].

وتقوم تلك الاستراتيجية على مبدأ أن تكون لصاحبها علاقات مع جميع الأطراف “القوى المسيطرة” في المنطقة، وفق الحاجة، بدليل تسهيل الميليشيات الإيرانية لبعض العمليات التي نفذها التنظيم ضد أهداف لقوات (قسد). وهي استراتيجية يعتمدها في صحاري دير الزور، سواء غربي الفرات أو شرقه، وصحاري منطقة الروضة في الجزيرة، وبادية أبو خشب، ومنطقة الجزيرة الحدودية بين سورية والعراق، وبادية تدمر، ومناطق السخنة والطيبة، وآراك في البادية الشامية، ومنطقة الوعر، وفيضة ابن موينع في البادية الشامية، نظرًا لما تشكله هذه النقاط كمواقع استراتيجية له.

الاستثمار في المكونات المجتمعية

عمل التنظيم من خلال التغلغل في النسيج الاجتماعي والعادات الاجتماعية، واللعب على الأوتار العشائرية، وإذكاء نار الثارات بينها، كأن تقتل خلاياه -على سبيل المثال- أحدَ أفراد قبيلة الشعيطات في الشحيل، ويقوم التنظيم بتبني العملية، لإذكاء الخلاف بينهما (قبيلة البوجامل في الشحيل من جهة والشعيطات من جهة أخرى)، ويؤدي تكرار العملية في المكان نفسه، إلى صناعة فكرة مفادها “أن الشحيل تحتوي خلايا للتنظيم، ووسم المكان بالداعشي”، موظفًا ما يحمله العقل الجمعي لأبناء المجتمع في خدمة عملياته، حيث حاربت قبيلة الشعيطات التنظيم منذ بداية ظهوره، نظرًا لما يثيره من مخاوف وشكوك لدى الطرفين، قد تتطور إلى قتال ومواجهات.

وينطبق الأمر نفسه على ما فعله التنظيم في قرية درنج في ريف دير الزور الشرقي، والتي تقطنها عشيرة البوحسن، وتتسلم مشيختها عائلة النجرس، وتبوأ نجم العبد الله النجرس مكانًا قياديًا في صفوف قوات (قسد)، وانتسب العديد منهم إليها، وخلال تلك الفترة، اعتقلوا العديد من أبناء قبيلتهم، وعند عودة الأهالي إلى البلدة، قام الجهاز الأمني لـ (قسد) باعتقال عدد من أبناء القبيلة ممن انتسبوا إلى (داعش)، وهم قلّة، وبعد خروجهم من السجن، بدأ الانتقام بدعم من التنظيم وخلاياه، ليصل عدد القتلى من عائلة نجم النجرس إلى 12 فردًا، ما دفعه إلى ترك البلدة والتوجه إلى مدينة الرقة والإقامة فيها.

ولم يكن اللعب على الوتر القومي بعيدًا عن متناول التنظيم، وبدأ أخيرًا بالترويج لفكرة أن من وصفوهم بـ “الملاحدة الأكراد” يأخذون حقّ العرب في منطقةٍ يشكلون فيها الأغلبية السكانية، وأنهم كانوا وراء محرقة الباغوز إلى جانب قوات التحالف الدولي “الصليبية”؛ معتمدًا على عدد من المبايعين له، أو المتعاطفين معه، إضافة إلى الإصدارات الدورية لمجلة (النبأ)، وخاصة الأخيرة منها، مستخدمين مصطلح “الملاحدة الأكراد وصحوات الردة”، واتهام الأكراد بالتبعية للنظام، وإعلان وجوب قتالهم، ويدعون لأن يكون للعرب دور في طردهم وإقامة ما يسمونه بـ “الخلافة”. ويستغلون في كل ذلك التمييز السلبي الذي تتبعه (قسد) مع أبناء المكون العربي، واحتكارها للسلاح والأمن والاقتصاد والسياسية، لخشيتهم من مشاركة العرب فيها، وتهديد نفوذهم، وما نجم عن ذلك من امتعاض شعبي ضد (قسد) تم التعبير عنه بالتظاهرات.

إن استغلال التنظيم للظروف العسكرية والأمنية والاجتماعية، بهدف تحقيق بقائه على قيد الحياة، وتوظيفها في تنفيذ عملياته، ويبدو أنه يمتلك القدرات التي تمكنه من ذلك، من دون إعادة السيطرة على المدن والبلدات، مع غياب الخطط والبرامج الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها تحقيق الاستقرار والتنمية والأمن، من شأنه أن يزيد التأثير سلبًا في النسيج الاجتماعي السوري، ويزيد ارتداد أفراده باتجاه الدوائر الأضيق، سواء كانت قومية أوعرقية أو دينية أو طائفية.


[1] 3 أعوام على الهزيمة…هل يتشبث داعش بحلم العودة في سورية – Skynewsarabia –
https://bit.ly/3Aa5ReH

[2] Explainer: The Islamic State in 2021 – Cole Bunzel on December 10, 2021 – Wilson center – https://www.wilsoncenter.org/article/explainer-islamic-state-2021

[3] “زكاة إجبارية”.. مجهولون يفرضون إتاوات على سكان في ريف دير الزور الشرقي – نورث برس- https://npasyria.com/79436/

[4] خلايا داعش تفرض كلفة سلطانية على أهل دير الزور.. ماهي وبما تختلف عن الزكاة؟ – زين العابدين العكيدي – أورينت نت – https://orient-news.net/ar/news_show/194992

[5] عرابي عرابي – باحث في الحركات الجهادية (مقابلة مع الكاتب بتاريخ 25 /5/ 2022)

[6] عمر خطاب – ناشط صحفي في مدينة البصيرة بدير الزور (مقابلة مع الكاتب بتاريخ 2/6/ 2022)