مقدمة

  • لمحة تاريخية عن نشوء الأنظمة الشمولية وتنظيمات الإسلام السياسي
  • نشوء المملكة العربية السعودية والحركة الوهابية
  • نشوء جمهورية مصر العربية وجماعة الإخوان المسلمين
  • سر العلاقة بين الأنظمة الشمولية وتنظيمات الإسلام السياسي
  • خاتمة

مقدمة:

تمرّ منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الوطن العربي، بمرحلة حرجة تمثلت في العديد من الأحداث الجسام، على رأسها ثورات الربيع العربي التي أدت إلى تدخلات عسكرية لدول إقليمية ودولية في أغلب دول الربيع العربي، ومن ثم إلى صدامات مسلحة قد تؤدي بالنتيجة إلى حرب شاملة يُعاد ترتيب المنطقة، جيوسياسيًا، من خلالها لقرن من الزمن، ولعل اللافت للنظر تحويل ثورات الشعوب العربية إلى حروب بين الأنظمة الشمولية، والإرهاب المتمثل بالتنظيمات الراديكالية، على الرغم من وجود دلائل كثيرة على أن هذه الصدامات صورية، هدفها وأد هذه الثورات وإعادة إنتاج الأنظمة الشمولية الوظيفية باسم الدين، خاصة إذا دققنا في مرجعيات التنظيمات المقاتلة، على أرض المعركة في دول ثورات الربيع العربي، التي انقسمت بين تنظيمات جهادية سلفية متمثلة في تنظيم القاعدة (داعش) (النصرة)، وتنظيم الإخوان المسلمين المتمثل في الفصائل المقاتلة التي أنشئت، في أثناء ثورات الربيع العربي في سورية واليمن وليبيا والعراق، ومن هنا، لا بد من التعمق أكثر في تاريخ نشوء هذه التنظيمات وتكوينها، والتطرق إلى المهام التي نفذتها منذ تأسيسها، ولعل أبرز هذه التنظيمات وأكبرها حجمًا وأكثرها تأثيرًا في الأحداث هي التنظيمات التي وُلدت من رحم الحركة الوهابية، والتنظيمات التي وُلدت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، ولهذا ستتطرق هذه الدراسة البحثية إلى تاريخ نشوء أنظمة الحكم في المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية، وهما الدولتان العربيتان اللتان نشأ هذان التنظيمان في كنفهما، كما ستبحث في تاريخ نشوء الحركة الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين، ثم في الدور الذي لعبه هذان التنظيمان في الأحداث التي عصفت في المنطقة منذ قرن مضى، وتناغم تحركاتهما مع مصالح أنظمة الحكم في هاتين الدولتين ودول أخرى، وأخيرًا نوضّح العلاقة بين نظام الأسد الأب والابن من جهة، والتنظيمات الراديكالية من جهة أخرى، والخدمات المجانية التي قدمتها هذه التنظيمات لنظام حكم الأسد، منذ توليه السلطة، وفي أثناء الثورة السورية.

لمحة تاريخية عن نشوء الأنظمة الشمولية والتنظيمات الراديكالية:

في البداية، لا بد من معرفة طرفي المعادلة وتاريخ كل منهما؛ فالطرف الأقوى في هذه المعادلة هو الأنظمة الشمولية التي تمثلها الأنظمة العربية، والطرف الآخر ما سمي “التنظيمات الراديكالية” ويمثلها حركة الإخوان المسلمين والحركة الوهابية، ولا شك أن اتفاقية سايكس-بيكو في بداية القرن العشرين ولدت من رحمها دولًا حَكَم أغلبها العسكر، والدول الأخرى حكمتها عائلات من عشائر عربية تقطن في الجزيرة العربية، وبالعودة إلى تاريخ نشوء هذين الطرفين؛ نجد أن الأنظمة الشمولية أُسس لها دول لتحكمها كي تقوم بمهام تخدم مصالح دول المستعمر القديم، ولتكون هذه الأنظمة أدوات للاستعمار الجديد في البلاد العربية، وقد بدأ العمل على هذا المخطط قُبيل سقوط الخلافة العثمانية في الوطن العربي، ويمكن أن نقول إن بداية تكوين الأنظمة الشمولية ترافقت مع نشوء حركات إسلامية متشددة، في أكبر دولتين عربيتين هما جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية، وانتشرت هذه التنظيمات أُفقيًا في باقي البلاد العربية، ولعل التاريخ سيساعدنا كثيرًا في ما سنستخلصه من هذه الدراسة، حول العلاقة بين هذين الخصمين الذي يعتقد كثيرون أنهما على طرفي نقيض.

لمحة تاريخية عن نشوء المملكة العربية السعودية والحركة الوهابية:

1. المملكة العربية السعودية:

يعود تأسيس الدولة السعودية إلى عام 1744، على يد الإمام محمد بن سعود الذي استلم الحكم عام 1725، بعد وفاة والده بعامين، حيث باشر في تأسس الدولة السعودية الأولى في منطقة الدرعية في قلب الجزيرة العربية، وقاد البلاد إلى مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة، حيث أسس دولة قوية واسعة النفوذ تتمتع بمكانة سياسية مميزة، إلى أن تعرضت المنطقة لحملة من الدولة العثمانية ممثلة بواليها في مصر محمد علي، وقاد هذه الحملة إبراهيم باشا عام 1818م (1)، وتمكّن من هدم الدرعية وتدمير العديد من بلدان الدولة السعودية في الجزيرة العربية، وعلى الرغم من الدمار الهائل والخوف الشديد الذي خلفته حملة إبراهيم باشا؛ فإنها لم تتمكن من القضاء على مقومات الدولة السعودية الأولى، حيث بقي أهالي المنطقة على ولائهم لأسرة آل سعود، ولم يمض عامان على نهاية الدولة السعودية الأولى، حتى عاد قادة آل سعود إلى الظهور من جديد، في محاولة لإعادة تأسيس الدولة السعودية، حيث قام الإمام مشاري بن سعود الكبير عام 1820 بمحاولة إعادة الحكم السعودي في الدرعية، لكن هذه المحاولة لم تدم إلا مدة قصيرة لم تتجاوز بضعة أشهر، ثم تلتها محاولة ناجحة قادها الإمام تركي بن عبد الله بن محمد آل سعود عام 1824، أدت إلى تأسيس الدولة السعودية الثانية، وعاصمتها الرياض، استمرت هذه الدولة حتى عام 1891، حيث غادر الإمام عبد الرحمن بن فيصل بن تركي آل سعود، الرياضَ، على إثر خلاف بين أبناء الإمام فيصل بن تركي آل سعود، وسيطر محمد بن رشيد (حاكم حائل) عليها، وبهذا انتهت الدولة السعودية الثانية(2)، وفي عام 1902، تمكّن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، من استرداد الرياض والعودة بأسرته إليها، وبدأ بتوحيد معظم أجزاء شبه الجزيرة العربية، حتى أعلن تأسيس المملكة العربية السعودية عام 1932(3).

2. الحركة الوهابية:

الوهابية أو السلفية مصطلح أُطلق على حركة إسلامية سنّية، قامت في منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية، في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب 1703 – 1792. عاد ابن عبد الوهاب إلى حريملاء بعد نهاية رحلته العلمية، وبدأ الجهر بدعوته وإنكار الممارسات الصوفية التي كانت سائدة وقتئذ، كالتبرك بقبور الأولياء والصالحين، إلا أن والده منعه من ذلك خوفًا عليه، وبعد وفاة والده في عام 1740، بدأ ابن عبد الوهاب الجهر بدعوته من جديد، لكنه لم يلبث أن انتقل من حريملاء إلى العيينة (مسقط رأسه) بعد ردة فعل أهل حريملاء تجاه دعوته، وهناك وجد دعمًا من حاكم البلدة في ذلك الوقت، وهنا المنعطف الذي تحولت خلاله الدعوة الوهابية، من القول والدعوة والأمر المعروف والنهي عن المنكر، باللسان، إلى الفعل، وتعرض حاكم العيينة لضغوط من حاكم الأحساء، على إثر تلك الممارسات وهدده بقطع راتبه السنوي، إن لم يُخرج ابن عبد الوهاب من بلده، فأمر حاكم العيينة ابن عبد الوهاب بالخروج إلى أي بلد يختاره، فاختار الأخير الدرعية التي كانت في ذلك الوقت تحت حكم الإمام محمد بن سعود، وتمّ الاتفاق بين الأمير والشيخ، على غرار ما كان قد تمّ بينه وبين ابن معمر في العيينة، فقد وهب الشيخ نجدًا وعربانها لابن سعود، كما وهبهما من قبل لابن معمر، ووعده أن تكثر الغنائم عليه والأسلاب الحربية الّتي تفوق ما يتقاضاه من الضرائب، على أن يدع الأمير للشيخ ما يشاء من وضع الخطط لتنفيذ دعوته، كما بايع الأمير محمد بن سعود الشيخ محمد بن عبد الوهاب على القتال في سبيل اللّه، ومعلوم أنهما لم يفتحا بلدًا غير مسلم في الشرق أو في الغرب، وإنما كانا يغزوان ويحاربان المسلمين الذين لم يدخلوا في طاعة ابن سعود، ولأجل ذلك، قال الأمير محمد لابن عبدالوهاب: “أبشر بالنصر لك ولِما أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد، لكن أُريد أن اشترط عليك، إذا قمنا بنصرتك وفتح اللّه لنا ولك، أخشى أن ترحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا”، فعاهده الشيخ أن لا يفعل(4)، حيث تحالفا لنشر الدعوة السلفية التي قامت على إثرها الدولة السعودية الأولى، وسيطرت على شبه الجزيرة العربية وأجزاء من العراق والشام واليمن، وقد كانت بدايتهما في الدرعية، وبعد سقوط الدولة السعودية الأولى، عاد محمد عبد الوهاب والأمير تركي بن عبد الله بن محمد، وأسسا الدولة السعودية الثانية(5)، وبعد قيام الدولة السعودية الثالثة المملكة العربية السعودية، استمرت العلاقة بين الحركة الوهابية وآل سعود على النهج الذي رسمه محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، والقاضي بتولي الوهابية أمور الدعوة، ويقوم آل سعود بإدارة الدولة، حيث يرى دعاة الوهابية أن تأسيس المملكة العربية السعودية جاءت لتصحيح الأوضاع الدينية الفاسدة والأحوال الاجتماعية المنحرفة في وسط الجزيرة العربية برأيهم، وأنها تنقية لعقائد المسلمين، والتخلص من العادات والممارسات التي انتشرت في بلاد الإسلام وتراها الوهابية مخالفة لجوهر الإسلام التوحيدي، ويصفها أتباعها الأصوليون بأنها دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والرجوع إلى الإسلام الصافي، ويصفون محمد بن عبد الوهاب بمجدد الدين في القرن الثاني عشر، ويرون أن منهجها هو طريقة السلف الصالح في اتباع القرآن والسنة(6)، ولا يزال العهد بين آل سعود وعائلة عبد الوهاب مستمرًا إلى يومنا هذا، وإن اختلف مضمونه مع استمرار التزاوج على نطاق واسع بين الطرفين.

لمحة تاريخية عن نشوء جمهورية مصر العربية وجماعة الإخوان المسلمين:

1. جمهورية مصر العربية:

بعد انتهاء الخلافة العثمانية واحتلال بريطانيا لمصر، وإعلان المملكة المصرية عام 1923؛ قام الضباط الأحرار بثورة 23 تموز/ يوليو 1932، وفي حزيران/ يونيو 1953 ألغيت الملكية، وأعلنت مصر جمهورية عربية، وتولى محمد نجيب رئاسة الجمهورية، ومن بعده جمال عبد الناصر حتى وفاته عام 1970، وفي 18 تموز/ يوليو 1956، رحل آخر جندي بريطاني عن مصر، وفي هذا العام، نشب العدوان الثلاثي على مصر بقيادة فرنسا وبريطانيا و”إسرائيل”، وفي عام 1958، قامت أول وحدة عربية بين دولتي مصر وسورية، وسميت “الجمهورية العربية المتحدة”، وأصبح جمال عبد الناصر رئيسًا عليها، لكن سرعان ما انفكت بعد انقلاب الضباط السوريين على عبد الناصر(7)، وتعرّض جمال عبد الناصر للعديد من محاولات الاغتيال، كان أهمها حادثة المنشية عام 1954، وكان وراء هذه المحاولة جماعة الإخوان المسلمين، وكررت الجماعة محاولة اغتيال ناصر، فكان هناك عملية ثانية لم تتم، وفي ذلك يقول علي عشماوي (القيادي بالجماعة الذي سُجن في قضية سيد قطب، وقرر السادات الإفراج عنه) في مذكراته: “إن الإخوان حاولوا قتل عبدالناصر عام 1954، وكرروا ذلك عام 1965، وذلك بعمل مجموعة سميت مجموعة البحث العلمي، وكانت تضم خريجي الإخوان من كليات العلوم قسم الكيمياء والفيزياء والأحياء، وخريجي كليات الهندسة، وباحثين في المركز القومي للبحوث والطاقة الذرية، وكانت مهمة هذه المجموعة إجراء البحوث والتجارب على صنع المتفجرات والأحزمة والمواد الناسفة والقنابل والسموم، وكانت إحدى خطط اغتيال جمال عبدالناصر تشتمل على قتله بالسم”(8)، وبعد وفاة عبد الناصر عام 1970 تولى محمد أنور السادات الحكم في مصر، وأبرم معاهدة سلام مع “إسرائيل”، ثم اغتالته جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1981، وتولى محمد حسني مبارك رئاسة جمهورية مصر العربية، إلى أن اضطرّ إلى التنحي عن السلطة، على إثر ثورة الشعب المصري عام 2011، وتولى المجلس العسكري الأعلى في مصر قيادة البلاد، وأجريت انتخابات فاز فيها محمد مرسي، أحد قياديي جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وكان بذلك الرئيس السادس لجمهورية مصر العربية، لكن سرعان ما قامت تظاهرات في ميادين القاهرة والمحافظات المصرية، نتيجة ممارسات الجماعة ومحاولاتهم إقصاء مكونات الشعب المصري عن الحكم، فقام الجيش، في 3 تموز/ يوليو عام 2013 بالانقلاب على محمد مرسي، وتم اعتقاله، وتوفي في سجنه، وعاد العسكر لحكم مصر، إذ تولى وزير دفاع الجيش المصري عبد الفتاح السيسي رئاسة مصر، بعد انتخابات صورية في 8 حزيران/ يونيو 2014(9).  

2. جماعة الإخوان المسلمين:

ولد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن أحمد عبد الرحمن البنا عام 1906، في المحمودية بمحافظة البحيرة بمصر، لأسرة ريفية بسيطة، وعمل بإصلاح الساعات ولذلك لقب بالساعاتي، وفي عام 1923 انتقل إلى القاهرة للدراسة في معهد دار العلوم، وتخرج فيها مدرسًا، وانتقل في عام 1927 إلى الإسماعيلية للعمل في إحدى مدارسها الابتدائية المدينة التي كانت مركزًا للنفوذ الأجنبي، وفي هذه الفترة، بدأ انهيار الدولة العثمانية في تركيا، وفي آذار/ مارس عام 1928، قام مع ستة من العاملين في معسكر العمل البريطاني بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين، بهدف “تجديد الإسلام”، بحسب دائرة المعارف البريطانية، وافتتحت الجماعة أفرعًا لها في جميع المحافظات المصرية(10)، وفي بداية ثلاثينيات القرن العشرين، انتقل البنا إلى القاهرة، بناء على طلبه، حيث توسع نشاط الجماعة إبان الحرب العالمية الثانية، وأصبح لها تأثير في المشهد المصري، وكان أغلب أعضائها من الموظفين والطلبة والعمال، وكان جُلّ هؤلاء يعدّ الحكومةَ المصرية في تلك الفترة خائنةً للقضية الوطنية.

امتد نشاط الجماعة إلى دول الوطن العربي في نهاية الأربعينيات، حيث بدأ البنّا تأسيس جناح شبه عسكري، وهو الجهاز السري الخاص بالجماعة، بهدف محاربة حكم الإنكليز، وشارك في كثير من عمليات التفجير والاغتيالات، وفي الأشهر الأولى من عام 1949، قامت الحكومة المصرية آنذاك بحل الجماعة، بعد أن أصبحت تشكل تهديدًا للمصالح البريطانية، بعد أن اتهمت باغتيال رئيس الوزراء المصري محمود باشا النقراشي، وتم اغتيال حسن البنا في 12شباط/ فبراير 1949 (11)، وعند انقلاب 23 تموز/ يوليو عام 1952 الذي قام به مجموعة من الضباط الأحرار، لعب الإخوان المسلمون دورًا داعمًا لهذه الثورة، بل تعاونوا سرًا مع المجموعة التي قامت بعملية الانقلاب، عبر أنور السادات الذي كان صلة الوصل بين الضباط الأحرار والجماعة، إلا أن العلاقة سرعان ما توترت بينهما، بعد فشل محاولة اغتيال جمال عبد الناصر عام 1954، حيث وجهت التهمة في محاولة الاغتيال إلى الجماعة، وحُظرت واعتُقل كثير من أعضائها، فاضطرت الجماعة إلى اتخاذ العمل السري طريقًا جديدًا لنشر الدعوة، وبدأ الصراع بين الجماعة ونظام حكم عبد الناصر، وأدى هذا الصراع إلى تحول خطير في فكر الإخوان، نحو الجهاد ضد المجتمعات التي يعتبرها جاهلة، وكان كتاب سيد قطب (معالم الطريق) مصدرًا ومرجعًا لمؤسسي الجماعات الأصولية، ومن ضمنها جماعة الجهاد الإسلامي وتنظيم القاعدة، وقد أدى هذا الانحراف إلى قيام الحكومة المصرية بإعدام سيد قطب عام 1966، وتشديد الرقابة على الجماعة وقياداتها بشكل غير مسبوق، وفي ثمانينيات القرن الماضي، جدد الإخوان محاولاتهم للمشاركة في الحياة السياسية في البلاد، وقامت قياداتها بتشكيل حلف مع حزب الوفد عام 1984، ليكونوا أكبر القوى المعارضة في مصر، وفي عام 2000، حصد الإخوان سبعة عشر مقعدًا في مجلس الشعب المصري، وفي عام 2005 حقق الإخوان نسبة 20% من مقاعد مجلس الشعب، مما دعا الرئيس حسني مبارك للقيام بحملات قمع جديدة للجماعة، حيث اعتقل المئات من قياداتها وأعضائها، وبعد تنحي مبارك عام 2011، فاز حزب “الحرية والعدالة” الذي أسسه الإخوان بما يقارب نصف مقاعد مجلس النواب، وفي عام 2012، حقق تنظيم الإخوان حلمهم بحكم مصر، وأصبح محمد مرسي (رئيس حزب الحرية والعدالة آنذاك) رئيسًا لجمهورية مصر العربية، ولم تطل فترة حكم مرسي؛ إذ بدأت المعارضة الشعبية لحكم الإخوان تتشكل في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، واستمرت التظاهرات إلى أن نشر الجيش في الثالث من تموز/ يوليو 2013 قواته في الشوارع، وأعلن الانقلاب العسكري على حكم الإخوان، وكُلّف رئيس المحكمة الدستورية بمهام رئيس الجمهورية، وعُزل مرسي وأودع السجن حتى وفاته في 17حزيران/ يونيو 2019(12).

سر العلاقة بين الأنظمة الشمولية والتنظيمات الراديكالية:

من خلال نظرة على الأحداث التي رافقت نشوء المملكة العربية السعودية والحركة الوهابية، وتلازم مسيرة هذين الطرفين حتى يومنا هذا، يبدو أن ثمة علاقة وثيقة ومتكاملة بين الطرفين، ولعل الشيخ محمد عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود كانا يؤمنان بمقولة ابن خلدون في مقدمته، عن الطريقة المثلى لحكم العرب: (العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادًا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة فقلّما تجتمع أهواؤهم‏، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم)، ولهذا شكلت العلاقة بين الرجلين أغلب مسار مستقبل التاريخ السعودي، حيث تفتقت العبقرية السياسية للأمير محمد بن سعود السياسية بالتحالف مع حركة محمد عبد الوهاب للإصلاح الديني، عن إرساء دعائم سلطة واسعة على شبه الجزيرة العربية امتدت حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من الانتكاسات التي رافقت تحالفهما، فإن الجمع بين الوهابية والقوة السعودية استطاع أن يقيم حكمًا قويًا ودائمًا في شبه الجزيرة العربية، وتم تحويل هذا التحالف إلى علاقة مؤسساتية مستمرة، تكفلت العائلة الوهابية المتمثلة بآل الشيخ بإدارة المؤسسات الدينية، ولتصبح الحركة الوهابية القوة التي تضفي الشرعية للدولة السعودية الحديثة التي يديرها آل سعود، إلا أن هذا التحالف المتوازن انهار بعد اكتشاف النفط في السعودية، وأصبح آل سعود المتحكمين بكل مفاصل الدولة السعودية، ومنها المؤسسة الدينية، حيث أصبح مشايخ وعلماء السعودية أدوات بيد السلطة الحاكمة، يتحكمون بهم كما يشاؤون، ويصدرون لهم الأوامر بإصدار الفتاوى التي تخدم مصالح الأسرة الحاكمة، بل أصبحت السعودية تصدّر أعدادًا هائلة من الجهاديين المؤمنين بفكر محمد عبد الوهاب، وقد برز منهم كثيرٌ من قادة القاعدة والتنظيمات الجهادية الأخرى، أمثال أسامة بن لادن وغيره، حتى إن المملكة نفسها لم تسلم من أصحاب الفكر الوهابي، حيث تعرضت لكثير من الحوادث الأمنية داخل السعودية، كان ينفذها مجموعة من المنتسبين إلى الحركة الوهابية، وهذا يفسر السبب الحقيقي للسماح بإنشاء وتطور الفكر الوهابي في المملكة، وأعتقد أن من سمح بذلك كان يهدف إلى وجود فزاعة لآل سعود، يلوح بها متى خرج حكامهم عن الطريق المرسوم لهم، ولعل حنكة وذكاء حكام السعودية استطاعت أن تسخّر الحركة الوهابية، لتثبيت حكمهم إلى أن حانت الفرصة للسيطرة عليها بشكل كامل.

أما في ما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين والدولة المصرية، فعند أفول الحكم العثماني عن مصر وتأسيس المملكة المصرية، ومن بعدها حركة الضباط الأحرار، وظهور جمهورية مصر العربية بشكلها الحالي؛ ظهرت جماعة الإخوان المسلمين من أحد معسكرات العمل البريطاني، بدعوى تجديد الإسلام، وانتشرت الجماعة كالنار في الهشيم في مختلف المحافظات المصرية، بزمن قياسي يدل على أن من خطط لهذه الجماعة يملك الإمكانات الفكرية والقدرات المالية والتجربة الكبيرة، لنشر هذا الفكر بهذه السرعة وهذه الدقة، في الوقت الذي كان مؤسسو هذه الجماعة عبارة عن موظفين في الدوائر البريطانية، وعلى رأسهم حسن البنا المعلم في أحد مدارس الإسماعيلية الخاضعة للنفوذ البريطاني، واللافت تطور هذه الجماعة مع تطور الدولة المصرية، حيث كان للجماعة في البداية رضًى عن حركة الضباط الأحرار، وكان بينهما تحالف سري إلا أن هذا التحالف سرعان ما انهار بعد محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في حادثة المنشية الشهيرة، التي أثبتت أن لهذه الجماعة أهدافًا باطنية لا تُظهرها للعلن تتمثل بالسيطرة على حكم البلاد، ولو عن طريق القوة، ولهذا استمرت في افتعال القلاقل في مصر إبان حكم عبد الناصر وأنور السادات الذي اغتالوه وخليفته حسني مبارك، وظهرت هذه الأهداف جلية بُعيد اندلاع ثورات الربيع العربي، حيث انخرط تنظيم الإخوان المسلمين في كل الثورات العربية، وحاول السيطرة بكل الطرق على هذه الثورات، واستطاع إبعاد النخب الثورية وشراء ولاءات كثيرين، وعقدوا تحالفات مع أعداء شعوب الثورات منها إيران، واستطاع الإخوان حكم مصر فترة وجيزة، لكن فكرهم الإقصائي وتحالفاتهم المشبوهة، خاصة مع ملالي طهران، كانت سببًا في سقوط حكمهم بمساعدة جنرالات الجيش المصري، ولعل هذا كله يؤكد أن هذه الجماعة وُجدت لتكون فزاعة لمن يحكم أي دولة عربية، يرفعها مشغلو قادة هذه الدول في وجههم، عندما يخرجون عن الطريق المرسوم لهم، أو ليثبتوا حكم قادة دول قاموا بتقديم خدمات جليلة لأصحاب القرار والمتحكمين في العالم، وهذا ما حدث إبان حكم حافظ الأسد لسورية في الثمانينيات، حيث لعب الإخوان دورًا مهمًا في ترسيخ حكم الأسد الأب، وتمّ القضاء على كل من يعارض نظام الأسد، بحجة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، وتكرر ذلك عندما سيطرت جماعة الإخوان المسلمين على مؤسسات الثورة السورية، وبدأت بإجراء بازارات سياسية على حساب دماء السوريين ومعاناتهم، لتحقيق حلمهم في حكم سورية أو جزء منها، أو حتى مشاركة بشار الأسد في حكم سورية، ولو صوريًا، وعلى الرغم من أن الإخوان يقولون إنهم يدعمون مبادئ الديمقراطية، فإن أحد أهداف الجماعة التي أعلنتها يتمثل في إقامة دولة تحكمها الشريعة الإسلامية، ويتمثل ذلك أيضًا في شعارها الشهير “الإسلام هو الحل”.

خاتمة:

خلاصة القول أن تلازم إنشاء الأنظمة الشمولية مع حركات الإسلام السياسي هدفٌ رئيسٌ لمن صنع الطرفين ورعاهما، وهذا الهدف يتمثل في بقاء المنطقة في حالة من عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، ولتبقى منطقة الشرق الأوسط، وخاصة الدول المحيطة بـ “إسرائيل”، في نزاعات داخلية دائمة، لصرف النظر عن الأدوار التي تقوم بها الأنظمة الشمولية، وللتحكم في مستوى محدد من الوعي السياسي والديني، من خلال إيجاد جهات تتحكم بدقة في “الترمومتر” الديني والسياسي لشعوب المنطقة، فالأنظمة الشمولية -من خلال بطشها واحتكارها للسلطة- استطاعت الحد من انتشار الوعي السياسي لدى شعوب دول العالم الثالث، ودجنت الأحزاب والنخب السياسية بشكل كبير، وفي الوقت نفسه تم استخدام تنظيمات الإسلام السياسي ورجال الدين للتحكم في مستوى الوعي الديني الذي يخدم مشغليهم، ليلعب الطرفان دورين متناقضين، لتحقيق هدف واحد هو السيطرة على المجتمعات العربية والتحكم في مصيرها.  

الهوامش