على الرغم من الاختلاف الشكلي، بين بنيتَي المؤسستين العسكرية والدينية في سورية ما بعد 2011، وصراعهما الدامي على السلطة، فإن طريقة عملهما والمبادئ التي تنطلقان منها، في التعاطي مع الشأن السوري العام، تكاد تتشابه إلى حد التطابق. ولعل هذا ما يفسر سهولة انزلاق التنظيمات والحركات والأحزاب الإسلامية في سورية إلى العمل العسكري المنظم، مثلما يفسر اعتماد النظام الأسدي اللافت للانتباه على رجال الدين، في مواجهته للسوريين المنتفضين عليه. ولكن لماذا استفاد النظام الأسدي من التنظيمات الإسلامية المسلحة في تكوين ثورة مضادة؟ وكيف خدم كل طرف الآخر، من حيث يدري أو لا يدري؟
سرعان ما أدرك السوريون هذا التشابه، بين طريقة عمل النظام الأسدي وطريقة عمل الحركات الإسلامية التي تمكنت من السيطرة على مناطق واسعة من سورية منذ عام 2012، وصلت إلى ثلثي الأراضي السورية عام 2013. حيث تقاسمت “هيئة تحرير الشام” و”تنظيم الدولة الإسلامية” و”جيش الإسلام” و”حركة أحرار الشام الإسلامية” و”أحفاد الرسول” وغيرها، تلك المناطق.
التشابه كان في العقلية التي تقف وراء التعامل مع السوري، من حيث هو مواطن عادي، حيث النظرة الاستعلائية والتهميش الذي وصل إلى حد التعمد بانتهاك الخصوصيات والأملاك والحقوق، فضلًا عن التخويف وضرب عرض الحائط بأمانه والخدمات التي تقدم له، وتحويله إلى طرف مدان ومرفوض ومشكوك فيه، إذا كانت له ملاحظات على عمل تلك التنظيمات، في محاولة واضحة من قبل تلك التنظيمات باستنساخ تجربة فروع مخابرات النظام الأسدي.
أول المشتركات، بين النظام الأسدي وتلك التنظيمات الإسلامية المسلحة، الموقف من الديمقراطية والحريات عمومًا، وهو أحد المطالب الأساسية للمنتفضين السوريين. وعلى الرغم من أن النظام الأسدي تعوّد الالتفاف على مطلب الديمقراطية، عبر إفراغه هذا المفهوم من محتواه عن طرق قوانين الطوارئ والإرهاب والتلاعب بالدستور، وتغول الفروع الأمنية، فإن التنظيمات الإسلامية المسلحة تتقدم عليه في هذه النقطة، بإعلانها صراحة بأنها ترفض الديمقراطية رفضًا قاطعًا، حتى إن معظم شرعيي تلك التنظيمات ومنظريها يحرصون على تأكيد هذا النقطة، في معظم خطبهم وفتاواهم، عندما يتعلق الأمر بشكل الحكم الذي يسعون لإقامته.
ثاني تلك المشتركات البنيوية بين النظام الأسدي وتلك التنظيمات هو مفهوم «الطاعة». حيث “التراتبية الصارمة” و “الكاريزما” و “الولاء المطلق” و “الغياب الكامل للنقد”. إذ تعدّ هذه المفاهيم مفاهيم مفتاحية في الثقافتين الدينية والعسكرية، فمركزية القواد العسكريين شبيهة بمركزية رجال الدين، وهامشية العساكر شبيهة بهامشية الموالين. ومثلما يأخذ المتديّن شكل تدينه من تعاليم شيخه، ليتعلم على يديه أصول الدين وقواعده الشرعية، كذلك لا يأخذ العسكري أوامره إلا من قائده. ومثلما يستغل القائد العسكري مكانته للحصول على مكاسب مادية أو اجتماعية أو سياسية، كذلك يسعى رجال الدين إلى استغلال معرفتهم الدينية واحترام المجتمع للدّين، لتحقيق مكاسب سياسية واجتماعية.
الركيزة المشتركة الثالثة بين الطرفين هي ” نظرية المؤامرة”؛ ذلك أن كلًا منهما يحرص على تقديم نفسه على أنه يريد التصدي لمؤامرات “الغرب” الذي يتآمر على القومية العربية والوجود العربي، بحسب رواية التنظيم الأسدي، أو يتآمر على الإسلام والمسلمين، من وجهة نظر التنظيمات الإسلامية المسلحة. النتيجة طبعًا واحدة، وهي أننا يجب أن نقودكم لكي نتصدى لهذه المؤامرات، وهذا يعني أن كل شيء يجب أن يكون بيد السلطة حتى تسخره في تلك المواجهات الوجودية. أما قضايا الحقوق والحريات ورفاه السوريين وخدماتهم ورزقهم، فهي أمور ثانوية، بل إنها مدعاة للفساد والترف لدى التنظيمات الإسلامية.
النقطة الرابعة تتعلق بمركزية موضوع السلطة. وهي تعني أن كلًا من الطرفين مستعد للقيام بأي شيء، حتى لو تعدى الأخلاق والمصالح الوطنية وتدمير المجتمع السوري بأكمله من أجل السلطة. هكذا لا يجد النظام الأسدي أي حرج من تنازله الرهيب عن السيادة الوطنية، وتدميره لأكثر من نصف سورية، وتهجيره لأكثر من نصف سكانها، في سبيل المحافظة على السلطة. مثلما لا يجد قواد التنظيمات الإسلامية المسلحة حرجًا من تحوّلهم إلى مجرد سماسرة للممولين يعملون لمن يدفع أكثر، هكذا بكل بساطة.
أما الفروق بين الطرفين، فتتعلق بمصادر القوة. فالعسكر يعتمدون على السلاح والقوة العسكرية التي يمتلكونها، بينما تعتمد التنظيمات الدينية المسلحة على إمكانية استغلال مكانة الدين في المجتمع السوري، وعلى قبول السوريين لإمكانية إقامة حكم سياسي يعتمد الشريعة الإسلامية. غير أن هذه الفروق لم تحُل دون تساهل النظام وإفساحه المجال لتلك التنظيمات لكي تشاركه السيطرة على الأراضي السورية، عندما ضاقت عليه الأوضاع في العام الثاني للثورة السورية.
هذا الانفتاح من جانب المؤسسة الدينية على العمل العسكري، وانفتاح المؤسسة العسكرية على التنظيمات الإسلامية المسلحة، يعكس لا شرعية المؤسستين، وعدم قدرتهما على تمثيل السوريين بشكل حقيقي. فالمؤسسة الدينية ترتكز في وجودها وشعبيتها على استغلال العاطفة الدينية لدى الناس، وحبهم الاجتماعي للخير والسلام والعدالة، فتمرر هيمنتها وتحقق تسلطها بطريقة ناعمة ولا عنفية، أو بطريقة “حيوية” كما يقول فوكو. وهذا يعني أنها لا تحتاج إلى قوة عسكرية كبيرة لفرض سيطرتها. وهذا ما يفسر عدم التناسب بين قوتها العسكرية “المحدودة” والمناطق الواسعة التي سيطرت عليها قبل عام 2017.
أما بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية، فإنها ترتكز على العنف والقوة في وجودها وشرعيتها، غير أن أساليب العنف تلك قد لا تكفي وحدها، الأمر الذي دفع النظامَ الأسدي، بطرق تتناسب مع كل مرحلة، إلى تدعيم سلطته عبر الانفتاح على رموز المؤسسات الدينية ذوي الشعبية العالية، (القانون رقم 30 الخاص بوزارة الأوقاف الصادر عام 2018 خير مثال). على ذلك فهدف المؤسستين هو دائمًا كسب مزيد من السلطة عبر تنويع مصادرها، والانفتاح على أي عمل يجلب المزيد من المنفعة للسلطة القائمة.
غير أن التجربة التاريخية للتحالفات بين المؤسستين الدينية والعسكري تؤكد أنها لا تدوم طويلًا، لأن ذلك التحالف سيسير بالمجتمع -كما هو واضح في كثير من الحالات الواقعية- إلى مزيد من الفساد والترهل والصراعات الداخلية والانقسامات الإقليمية والطائفية.
ولذلك؛ على السوريين -قبل غيرهم- أن يدركوا خطورة التعاون بين هاتين المؤسستين، وحجم المصائب التي يجلبها ذلك التعاون على مستقبل السوريين وحياتهم. وعلى من لا يصدق ذلك، أن يتابع أخبار ثروات قادة التنظيمات الإسلامية المسلحة الذين خرجوا من سورية قبل عامين أو يزيد.